أثار موقف الأردن من تطورات الأزمة في الخليج قلقاً واهتماماً كبيرين في الأوساط الاسرائيلية الرسمية والعامة. وإذا كان الحكم في اسرائيل التزم طلب الادارة الأميركية عدم التورط في النزاع الدائر، وعدم الانجرار الى مواجهة عسكرية مع العراق، واتِّباع سياسة "البقاء في الظل"، فالموقف الاسرائيلي من التطورات في الأردن واضح وقاطع. فقد أعلن الاسرائيليون منذ بداية الأزمة ان دخول اية قوات عراقية الأردن معناه شن الحرب على اسرائيل. وإذا كان الاسرائيليون في موقفهم هذا لم يشذوا عن استراتيجية تقليدية معروفة لديهم منذ أيام بن - غوريون، فان الوضع الحالي للأردن يعطي هذا الكلام اهمية من نوع مختلف، وذلك لجملة معطيات أهمها:
أولا: شعور الأردن بأنه مستبعد عن مشاريع التسوية السياسية والحلول المقترحة لحل النزاع في المنطقة، وذلك عقب فك الارتباط بالضفة سنة 1988 بعد نشوب الانتفاضة. من هنا، فوقوف الأردن مع العراق لا يجعله يخسر شيئا على هذا الصعيد.
ثانيا: خوف المسؤولين الأردنيين من تزايد الكلام الاسرائيلي عن الأردن كدولة بديلة للفلسطينيين ومن تزايد الكلام عن "فلسطنة" الأردن، ولا سيما بعد تأليف حكومة يمينية ضمت وزراء دعوا الى هذه الفكرة، أمثال شمير وشارون، وهجرة كثيفة من الاتحاد السوفياتي ترافقت مع تصريحات عن الحاجة الى "اسرائيل كبرى"، لاستيعابها.
ثالثا: الضغوطات الداخلية التي يتعرض الأردن لها نتيجة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعانيها البلاد منذ عامين، بالإِضافة الى صعود نفوذ التيارات الأصولية الاسلامية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وعودة النشاط الفلسطيني الى الأردن في ظل مسار إعادة الديمقراطية وحرية العمل السياسي الذي أعلنه الحكم الأردني منذ عام.
رابعا: ازدياد التقارب العراقي - الأردني والتعاون العسكري بين البلدين.
في ضوء هذه المعطيات وغيرها، ارتسم موقف اسرائيلي رسمي ظاهري يحذر الأردن من مخاطر تأييده للعراق، لكنه يؤيد بقاء حكم الملك حسين واستمراره في هذا البلد؛ في حين عكست التعليقات والتحليلات الصحافية جدلا يدور في أوساط سياسية عدّة بشأن إمكان استغلال الأوضاع الحالية للمنطقة وحالة عدم الاستقرار التي يعيشها الأردن، لحل المشكلة الفلسطينية وتحويل الأردن الى وطن بديل للفلسطينيين.
الموقف الرسمي: تحذيرات و"خطوط حمر"
سعى الحكم في اسرائيل لتحديد موقفه من مسألتين أساسيتين: دخول قوات عراقية أراضي الأردن، وإمكان استخدام العراق ميناء العقبة الأردني وسيلة لفك الحصار البحري المفروض عليه. فاعتبر وزير الدفاع موشيه آرنس دخول الجيش العراقي الأردن بمثابة "تغيير جيو - استراتيجي ستتحرك اسرائيل مباشرة للحؤول دونه"، (1) او بمثابة خط احمر لا يجوز للأردن اختراقه. وما لبث رئيس الحكومة شمير ان وجّه تحذيرا واضحا حين قال في حفلة تخريج طلاب في كلية الأمن القومي: "نأمل بأن تتصرف حكومة الأردن بشكل حذر، وألا تنساق وراء مغامرات حاكم العراق." (2)
اما وزير الخارجية دافيد ليفي، فوصف تأييد الملك حسين للعراق بأنه "كالسير على حبل دقيق"، واتهم الملك بتضليل الولايات المتحدة والدول الغربية ومصر. وقال: "آمل بأن تتغلب الحكمة ويقتنع الملك بالسير على الطريق الذي تؤمن له ولشعبه السلام والتقدم والعيش في جوار طيب معنا." وعلق على كلام الملك بأنه لن يسمح بدخول جيوش غريبة أراضيه، بأن هذا الكلام يجب ان يترافق مع خط سياسي واضح معادٍ للعدوان العراقي. (3)
وعلى الرغم من هذه التحذيرات، فقد طرح الاسرائيليون تساؤلات بشأن مغزى الخط الأحمر الذي وضعه آرنس، والرد الاسرائيلي على خرقه. فتساءل المعلق العسكري في صحيفة "هآرتس" زئيف شيف: "ما هو الانتشار العسكري العراقي في الأردن الذي ستعتبره اسرائيل خرقا للخط الأحمر؟ وهل مثلا وجود ضباط عراقيين في محطات الرادار الأردنية معناه خرق للخط الأحمر؟ وهل إقامة شبكة اتصالات عراقية في المستقبل تفرض على اسرائيل ان تتحرك، ام ان دخول قوات كبيرة للجيش العراقي هو فقط الدافع الى هذا التحرك؟ وهل معنى الخط الأحمر ان القوات الاسرائيلية سترد مباشرة على دخول قوات عراقية الأردن؟" (4) لم يقدم المسؤولون اجوبة عن ذلك، وإنما ورد في تحذير جديد أطلقه آرنس أنه إذا سمح الأردن للجيش العراقي بدخول أراضيه، فاسرائيل "ستستخدم القوة فورا. ويبدو لي انهم في بغداد يعرفون ذلك جيدا." (5)
في إثر الحصار البحري الذي فرض على العراق، حذرت اسرائيل الأردن من انتهاك هذا الحصار وتسهيل نقل البضائع منه واليه عبر خليج العقبة. فجاء على لسان نائب رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست بنيامين بن - أليعيزر في مقابلة مع التلفزيون الاسرائيلي كلامه: "علينا ان ندرك أبعاد استمرار هذه الطريق مفتوحة. فاذا كانت للعراق اليد الطولى، فستكون المرحلة التالية مواجهة مباشرة مع اسرائيل." واعتبر بن - أليعيزر ان الأردن تحول بواسطة مرفئه الى المزوّد والعميل التجاري الوحيد للعراق، وصار بالتالي "فرعا عراقيا". وحذر من ان اسرائيل لا يمكن ان تتساهل في وضع كهذا. (6)
لكن وزير الدفاع آرنس ما لبث ان حدّد موقف بلده بصورة اوضح اذ قال: "ليس لاسرائيل علاقة، وهي لن تشارك في فرض الحصار البحري الذي أعلنته الولايات المتحدة على العراق. ليس لدينا اي سبب يدفعنا الى التدخل في هذه المرحلة، ونحن نأمل بألا نضطر الى القيام بذلك." (7) وكأنما أراد آرنس الحؤول دون انزلاق بلده الى مواجهة عسكرية لا يختارها هو ولا يتحكم في توقيعها وكيفيتها. وهو من ناحية اخرى يكشف ان دور اسرائيل في التحرك الذي تقوم الولايات المتحدة به في المنطقة لا يتعدى دور المراقب والمتتبع عن كثب لمجريات الأحداث من دون ان يكون لدولته مساهمة عملية في التحرك الدولي الجاري.
واستغل آرنس مناسبة الكلام عن ذلك ليشير الى ان اسرائيل تأمل بألا يفقد الملك حسين مملكته نتيجة القلاقل في الأردن: "فالوضع دقيق في المنطقة، وهناك شعور بعدم الاستقرار. وهناك دلائل عدة على هذه الحقيقة في الأردن بصورة خاصة." لكنه أضاف: "نأمل بألا يكون هناك تغيير للأنظمة، وثورات في المنطقة."(8)
ويلاحظ المتتبع للتصريحات الاسرائيلية الرسمية بشأن الأردن أنها بدأت، عقب زيارة الملك حسين الى واشنطن في 14 آب/أغسطس، تتطرق بصورة أكثر وضوحا الى المواقف تجاه ضرورة بقاء النظام الملكي في الأردن واستقرار العائلة الهاشمية في العرش. وليس مصادفة ان يصرح رئيس الحكومة، شمير، في لقاء عقده مع السيناتور الأميركي فرانك لوتبرغ ان "لإسرائيل مصلحة واضحة في استمرار استقرار حكم الملك حسين، وحتى الآن، ليست هناك دلائل تشير الى سقوط هذا الحكم." (9) وليس مصادفة، أيضا، ان يعود شمير بعد ذلك يوم واحد ليؤكد عبر التلفزيون الاسرائيلي ان اسرائيل "مهتمة بأن يبقى الأردن بلدا مستقرا وصلبا، وان يختفظ الملك حسين بعرشه وتبقى السيطرة له، وألا تصل الينا هذه الحرب عن طريق الأردن."(10)
ان هذا الاعلان بشأن الخوف الاسرائيلي الرسمي على النظام الهاشمي في الأردن يتناقض والنيات الاسرائيلية الطيبة تجاه استمرار هذا النظام واستقراره مع بعض ما تنقله الصحف عن مصادر حكومية رفيعة المستوى. إذ نقل أفنر راجيف عن مصادر رفيعة في الحكم لم يكشف النقاب عنها ان هناك رأيا في الحكومة يقول بأن على اسرائيل ألا تقدم على حماية الملك حسين وألا تساعده في الحفاظ على عرشه في حال قرر شعب الأردن، الذي هو في أغلبيته من الفلسطينيين، التحرك لتغيير نظام الحكم من دون مساعدة خارجية من العراق او منظمة التحرير. وذلك على عكس ما فعلته اسرائيل في أثناء أحداث أيلول/سبتمبر في الأردن سنة 1970، عندما وضعت قواتها في حالة تأهب لمواجهة غزو سوري للأردن من شأنه ان يعرض حكم العائلة الهاشمية للخطر. ويشير كاتب التقرير الى ان وزراء مهمين من مقرري سياسة الحكومة لا يزالون يفضلون بقاء الملك. (11)
وإنْ دل هذا الكلام على شيء فانه يدل بوضوح على ان ثمة جدلا يدور في المستوى الحكومي بشأن السياسة الاسرائيلية المفترض اتباعها إزاء اي تغيير قد يحدث في الأردن. وقبل الانتقال الى عرض جوانب هذا الجدل، هناك السؤال المطروح: ما الذي يجري على الجبهة العسكرية مع الأردن؟
موقف القيادة العسكرية: متابعة، وترقب، وتكتم
على الرغم من المخاوف الجدية التي أثارها التعاون العسكري بين العراق والأردن، فقد حافظت القيادة العسكرية الاسرائيلية على هدوئها الذي قارب الصمت أحيانا. ولقد تقيدت وسائل الاعلام الاسرائيلية بهذا الموقف. فعندما سئل وزير الدفاع عما إذا كانت اسرائيل قد استقدمت قوات إضافية الى الحدود مع الأردن، أجاب بأن الجيش الاسرائيلي يفعل ما من شأنه ضمان امن الدولة.(12) ونفى مصدر عسكري اسرائيلي رفيع المستوى التعليق على أنباء تناقلتها مصادر اجنبية بشأن قيام الجيش الاسرائيلي بنقل بطاريات صواريخ "هوك" الى الحدود مع الأردن لزيادة طاقة سلاحه الجوي. وذكرت المصادر نفسها ان قيادة الجيش منعت عددا من الضباط الكبار من السفر الى الخارج. (13)
وكانت الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية قد رفعت تقارير تحدثت فيها عن زيارات الى الحدود الفاصلة بين اسرائيل والأردن يقوم بها ضباط كبار في الجيش العراقي. ومع ذلك، فان هذه الزيارات لم تكن باعثا على القلق في أوساط القيادة العسكرية. فالأكثر مدعاة الى القلق هو الطلعات الجوية المشتركة للطيارين الأردنيين والعراقيين، وسماح الأردن للطيارين العراقيين بالتحليق فوق طول الحدود مع اسرائيل. (14)
ونقلت صحيفة The Washington Post الأميركية عن مصادر استخباراتية اسرائيلي ان هناك طلعات يومية لسلاح الجو الأردني على الحدود بين الأردن واسرائيل والسعودية، وأن الأردنيين ينقلون معلوماتهم الاستطلاعية الى العراقيين. كما ذكرت الصحيفة نقلا عن المصادر نفسها ان الجيش الأردني أقام شبكة دفاع جوي على حدوده مع اسرائيل، وأن الجيش الأردني وضع في حالة تأهب استعدادا لإمكان حدوث مواجهة عسكرية. (15)
ومهما تكن السياسة الاعلامية العسكرية المتبعة في اسرائيل حاليا، فالمؤكد ان خطر حدوث مواجهة عسكرية قد خلق وضعا جديدا داخل الجيش الاسرائيلي، الذي وُضع في حالة تأهب، على حد قول رئيس الأركان الجنرال دان شومرون، الذي قال في أثناء مؤتمر صحافي عقده مع المراسلين العسكريين بمناسبة رأس السنة العبرية ان حالة التعاون بين العراق والأردن "رفعت درجة التأهب في الجيش الاسرائيلي ولو بصورة شكلية - وذلك في ثلاثة مجالات أساسية: الاستخبارات، وسلاح الجو، والجبهة الخلفية." (16) وتطرق شومرون الى موضوع، "الخط الأحمر" الذي وضعته اسرائيل للأردن. وأوضح ان اختراق هذا الخط لا يؤدي تلقائيا الى تحرك عسكري اسرائيلي، وإنما سيُخضع الموضوع لفحص ودراسة متأنيين وستجري مناقشة الوضع انطلاقا من وجهات نظر مختلفة. لكن كل هذا لا يغير في الأساس، وهو أن الخط الأحمر حقيقة واقعة، وان ادخاله في الاعتبارات كافة امر ضروري.
وكل ما يمكن قوله على الصعيد ان القيادة العسكرية الاسرائيلية تتابع عن كثب ما يحدث على الجبهة الأردنية تحسبا لأية مواجهة عسكرية.
"الأردن هو فلسطين" فكرة ام "خطة" تنتظر التنفيذ؟
قد يكون من أخطر انعكاسات ازمة الخليج الانعكاسات المتعلقة بمصير الأردن ومستقبل الفلسطينيين من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة. فقلد احيت الأزمة الجدل من جديد بشأن "الأردن هو فلسطين". وعاد الشعار الذي تبناه اليمين الاسرائيلي من دعاة "ارض اسرائيل الكاملة" ليبرز على لسان المسؤولين الاسرائيليين، مثيرا مخاوف محقة في عمان.
مع بداية الكلام على التعاون العسكري الأردني العراقي، قبل نشوب ازمة الخليج ببضعة شهور، كتب زئيف شيف: "هناك بعض الأطراف الاسرائيلية التي تخطط لإِحداث تغيير في الأردن لحل المشكلة الفلسطينية. ويخشى الملك حسين وجود خطة اسرائيلية لتحويل الأردن الى دولة فلسطينية، كما يخشى وجود مخطط لإِبعاد الفلسطينيين من المناطق الى الأردن نتيجة فشل اسرائيل في قمع الانتفاضة. لكن ثمة خطا رفيعا إذا تجاوزه الملك، فسيُعتبر تجاوزه - من وجهة نظر اسرائيل - كمن ينتقل من حالة الدفاع الى حالة الهجوم. هذا الخط هو السماح لقوات عراقية، جوية او برية، بالانتشار في الأردن في مواجهة اسرائيل."(17)
في ضوء هذا الكلام، فان السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: هل تفكر اسرائيل في ان الوضع الحالي ملائم لتحقيق "فلسطنة" الأردن وحل المشكلة الفلسطينية حلا نهائيا عن طريق تغيير النظام الملكي وإقامة دولة فلسطينية في الأردن؟ والى اي حد يحظى شعار "فلسطين هو الأردن" بتأييد التيارات الاسرائيلية المختلفة، بحيث يمكن ان يتحول من مجرد "فكرة" للنقاش الى خطة "للتنفيذ"؟
اليمين الاسرائيلي و"فلسطنة" الأردن
ان تحويل الأردن الى دولة للفلسطينيين فكرة آمن زعماء حركة حيروت بها منذ فترة طويلة. (18) ومن كبار المتحمسين لها والداعين اليها أريئيل شارون وزير الاسكان، بالإِضافة الى شمير نفسه وآرنس، وعدد آخر من وزراء الحكومة الحالية. ففي سنة 1970 دعا شارون في أثناء أحداث أيلول/سبتمبر في الأردن الى مساعدة الفلسطينيين في إسقاط نظام الملك حسين والتفاوض معهم. ثم عاد سنة 1974 ليعلن من جديد ان ثمة مجالا لمساعدة الفلسطينيين في إزاحة الملك حسين وإقامة دولة فلسطينية في الأردن. وفي سنة 1976، رأى شارون ان في الامكان استغلال الحرب الأهلية في لبنان لبدء محادثات مع الفلسطينيين. وفي رأي الباحثين شاي فيلدمان وهيدا ريشنتز - كيجنر انه الى جانب الأهداف الأربعة المعلنة لحرب "سلامة الجليل" التي خاضها شارون في لبنان سنة 1982، كان هناك هدفان ضمنيان: "تسهيل إنشاء إدارة ذاتية في الضفة الغربية وقطاع غزة كما تخيلها رئيس الحكومة بيغن؛ وإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط السياسية من خلال المبادأة بعملية تؤدي الى إطاحة الملك حسين وإنشاء دولة فلسطينية في الأردن." (19)وكان شارون يرى ان اسرائيل أمام خطرين: خطر نشوء دولة فلسطينية في الأردن؛ وخطر إبقاء المشكلة الفلسطينية معلّقة من دون حل. وقال انه يفضل الخطر الأول على الثاني.
واليوم، إذا حاولنا تتبع مواقف شارون وكتاباته في هذا الشأن، نلحظ انه يلتزم كثيرا من التكتم والابهام. وفي آخر اشارة الى الموضوع، اكتفى شارون بصيغة مبهمة. إذ تحدث في احد بنود مشروع سياسي تقدم به عن: "هدم الأسوار بين اسرائيل والأردن، وفتح نقاط عبور جديدة على الحدود أمام حركة الزوار من الطرفين، مما يؤدي الى تغيير الأجواء وتخفيف الشكوك المتبادلة."(20)
على الرغم من ذلك فانه يمكننا القول ان فكرة "فلسطنة" الأردن قد حظيت لأول مرة بنوع من تكريس لها في حكومة شمير الحالية. إذ ورد في البند الثالث من الخطوط الأساسية للحكومة ما يلي: "تعارض اسرائيل إقامة دولة فلسطينية اخرى في قطاع غزة وفي المنطقة الواقعة بين اسرائيل ونهر الأردن." وعندما سئل يتسحاق شمير قبل اشهر عن رده على مخاوف الملك حسين من جعل ممكلته دولة فلسطينية قال: "هذه ليست تخطيطات عملية وإنما مجرد أفكار." ومنذ تأليف الحكومة حتى اليوم، وبخاصة بعد نشوب ازمة الخليج والموقف الأردني من الأزمة، بعث المسؤولون الاسرائيليون بأكثر من رسالة الى الملك حسين عن طريق الولايات المتحدة، يعلنون فيها عدم وجود اية نية عدوانية تجاه الأردن، ويبدون اهتمامهم باستقرار النظام هناك.
لكن هذا لا يخفي أن السياسة المعلنة شيء وما يدور الحديث بشأنه وراء الكواليس شيء آخر. وأوضح دليل على ذلك ما ورد في مقال عضو الكنيست غيئولا كوهين (من حركة هتحيا) التي رأت ان على حكومة اسرائيل ان تعرف اليوم كيف تنتهج سياسة ليس من شأنها تطمين الأردن فقط وإنما ردعه أيضا. وفي رأيها أنه في حال شُنت الحرب على اسرائيل بمبادرة من الأردن او من اية دولة اخرى، وعبرت قوات عربية الأردن الى الحدود مع اسرائيل، فسيحدث التالي:
"1 ـ ستنقل اسرائيل الى حدود الأردن -ـ وهذا ما يتخوف الملك حسين منه - عرب (المناطق)، الذين هم في أغلبيتهم سكان الأردن، اي سكان دولة معادية لم ينجحوا حالياً في إخفاء تأييدهم وتمائلهم مع أهداف صدام حسين في القضاء على اسرائيل.
2 ـ لن تضيع اسرائيل هذه المرة الفرصة السياسية التي فرضها عليها أعداؤها، وهي ستطبق حقها في السيادة على يهودا والسامرة وغزة.
3 ـ إذا ما عبر الجيش الاسرائيلي نهر الأردن في حرب دفاعية ضد الحرب الهجومية، فاننا لن نصل الى جلعاد وبيسان كأغراب. وفي الواقع، لن يخسر الأردن الحرب فقط - كما يخشى الملك حسين - وإنما سيفقد سيطرته على المملكة أيضا." (21)
موقف اليسار الاسرائيلي
من شعار "الأردن هو فلسطين"
تاريخيا، مال زعماء حزب العمل منذ أيام مباي الى ايجاد صيغة للتفاهم مع النظام الأردني منذ حكم الملك عبد الله. لكن فشل المعراخ في تأليف حكومة، وتعثّر مشروعه للسلام، واستمرار الانتفاضة، ووصول التسوية السلمية الى طريق مسدود، كل هذا ادى الى تطور مسارات جديدة داخل هذا المعسكر تجاه فكرة "فلسطنة" الأردن.
كتب يوسف ألفير، (22) نائب رئيس مركز الأبحاث الاستراتيجية، يقول: "منذ فترة تعتبر صيغة (الأردن هو فلسطين) بمثابة شعار شعائري خلاب لليمين الاسرائيلي... وفي الآونة الأخيرة، بدأت ـ أيضا ـ عناصر في اليسار الاسرائيلي (اي أولئك المنادون بحل وسط إقليمي) بتبني شعار (الأردن هو فلسطين). ويقوم احد مؤيدي حزب العمل، وهو شخص ذو ماض امني عظيم، بالدفاع عن وجهة النظر هذه منذ نحو عام. وقبل بضعة اشهر، انضم الى هذا التيار البروفيسور يحزقيئيل درور، المستشار الأسبق لشمعون بيرس في فترة توليه منصب وزير الدفاع. ومنذ فترة غير بعيدة - أيضا - عُقد في القدس اجتماع لمنظمة تُدعى (الأردن هو فلسطين). ويبدو ان الدافع الأساسي لتزايد انصار وجهة النظر هذه ومؤيديها هو الانتفاضة. ويُعتبر الاستعداد للتمسك بشعار (الأردن هو فلسطين) بمثابة (حل سحري لليائسين)"، على حد قول ألفير الذي أضاف قائلا: "ويجب ان نذكر هنا انه ليس كل الاسرائيليين الذين ينادون بهذا الشعار يقصد الهدف ذاته. فاليمين الاسرائيلي يريد، في إثر ظهور دولة فلسطينية بدلا من المملكة الأردنية، ضم يهودا والسامرة وغزة. وحينئذ، سيقترح جزء من اليمين ان تعطي الدولة الفلسطينية الجديدة حقوق مواطنة جزئية - او كاملة - للفلسطينيين (التابعين لنا) ]اي فلسطينيو الضفة والقطاع[ (وربما لعرب اسرائيل أيضا).وبذلك (يحل) لنا المأزق الديموغرافي المترتب على الضم البشري. لكن جزءا آخر من اليمين سيرى في ظهور دولة فلسطينية في الضفة الشرقية فرصة لتنفيذ (الترانسفير) ]الترحيل[ لعرب يهودا والسامرة وغزة. لكن أنصار (الأردن هو فلسطين) في اليسار الاسرائيلي لا يفكرون على هذا النحو. انهم مخلصون لاستعداد اليسار لمقايضة مناطق بالسلام؛ كما يتعهد اليساريون باجراء مفاوضات بشأن مستقبل يهودا والسامرة وغزة، مع السلطة الفلسطينية الجديدة عندما تستقر في عمان. وعلى حد قول مؤيد يساري آخر هو البروفسور شلومو أفنيري: (إذا سيطر الفلسطينيون على ما وراء نهر الأردن، ربما سيكون من الأسهل التوصل الى تفاهم فيما يتعلق بانسحاب اسرائيل من الصفة الغربية). وهم يؤكدون ان من الواجب ان تمتنع اسرائيل - حاليا - من القيام بأي عمل في المناطق، مثل إبرام اتفاق مع الفلسطينيين، وهو الأمر الذي من شأنه إرجاء او إفساد هذا الحل عندما يتحقق."
من جهة اخرى، كان يحزقيئيل درور قد تحدث في نقاشه عن الحلول الممكنة للمشكلة الفلسطينية (23) تحت عنوان "مخطط رقم 9" عن دولة فلسطينية في الأردن، وسيطرة اسرائيلية على كل يهودا والسامرة ومنطقة غزة: "من أجل القيام بمحاولة اخرى للتفكير في سياق تاريخي، يمكن ان نسأل عما كان سيحدث لو تدخلت اسرائيل، في أيلول/سبتمبر 1970، في ما حدث في الأردن، وأوقفت المذبحة...، وأسقطت نظام الحكم، وساعدت في إقامة دولة فلسطينية في الأردن، وطبقت القانون الاسرائيلي على كل يهودا والسامرة ومنطقة غزة، ودمجتها دمجا كاملا في اسرائيل، من خلال التوصل الى تسوية مع الدولة الفلسطينية في الأردن تنص على ان السكان العرب في أراضي يهودا والسامرة وغزة يعيشون في نظام أشبه بـ (تقسيم وظيفي)، وتكفل حقوق المواطن السياسية في الدولة الفلسطينية في الأردن لمن يرغبون في ذلك... ربما كان هذا كله سيتم أيضا عن طريق نقل جزء من السكان العرب في يهودا والسامرة وغزة الى الدولة الفلسطينية الجديدة في الأردن عن طريق الاقناع الشديد ومن خلال منح تعويض مالي ملائم* ... هناك شيء واضح: ما كان ممكنا ان يكون نافعا سنة 1970 لم يعد ممكنا سنة 1989... إلا في حالة استثنائية افتراضية واحدة، وهي نقل أعداد كبيرة من السكان العرب في يهودا والسامرة وغزة الى الدولة الفلسطينية - الأردنية. لكن هذا الحل لا تسمح الأوضاع المتوقعة به من الناحيتين العملية والمبدئية في آن واحد." وعلى الرغم من ان درور قد كتب ما كتبه قبل وقوع ازمة الخليج وأثرها في الوضع في الأردن، فهو لم يتردد في الاشارة الى إمكان تحقيق ما سبق، وذلك "بانتهاز فرصة من نوع تقويض النظام الأردني من الداخل، وتشجيع ومؤازرة مبادرة فلسطينية، وربما أيضا القيام بعمل اسرائيلي مباشر في أوضاع معينة - كل ذلك يجسد إمكان تحويل الأردن الى دولة فلسطينية. وينبغي ان تعتمد هذه الخطوات على اتفاق مسبق مع عنصر فلسطيني ذي قدرة على العمل، على ان ينص هذا الاتفاق على تسويات موقتة في يهودا والسامرة وغزة، وعلى شراكة مع هذا العنصر في التنفيذ." (24) وبكلام آخر، يقترح درور "مؤامرة اسرائيلية - فلسطينية" على نظام الملك حسين، يتعهد فيها الطرف الفلسطيني – مسبقا - بحلول وسط إقليمية تتطابق مع مفاهيم اليسار الاسرائيلي ووجهات نظرة في هذا المجال. والملاحظ ان البروفسور درور يقترح حرفيا ما سبق ان اقترحه شارون سنة 1970، مع تعديلات شكلية، وما تردد من ان اوساطا حالية في الحكم تبحث في إمكان حدوثه.
موقف الصحافة الاسرائيلية
من "الأردن هو فلسطين"
ان المعلقين الاسرائيليين يُجمعون في تحليلهم لموقف الأردن من ازمة الخليج على ان خوف الملك حسين من شعار "الأردن هو فلسطين"، الذي كرره زعماء الليكود في الفترة الأخيرة، كان بين الدوافع التي جعلته يؤيد العراق. وفي الوقت الذي يقف البعض موقف اللائم من اليكود الذي تسبب بقطع "الصلة" التاريخية بالأردن (25) ويحمله مغبة النتائج الخطرة المترتبة على ذلك، مثل سيطرة المنظمة على شرق الأردن وقيام تحالف عربي فلسطيني - عراقي في مواجهتها، فان هناك من يرى ان الملك حسين قد وضع نفسه في وضع حرج لا عودة عنه. فثمة إمكان كبير الآن، حتى لو لم يخرق الأردن الخط الأحمر الموضوع أمامه، لأن تقوم اسرائيل بشيء ما ضده. ففي رأي يورام بيري ان اسرائيل قد تقرر القيام بضربة أولى، وذلك في احدى حالتين: إما خوفا من ان ينتهي النزاع الأميركي - العراقي من دون حسم قاطع مع العراق، وهو ما يترك صدام على كرسيه مع جيش ضخم يشكل خطرا مستمرا على اسرائيل حتى بعد عودة الترسانة الدولية الى مرافئها، وإما استغلالا للوضع من أجل إغلاق الموضوع في القطاع الأردني من دون ان يكون لذلك صلة بالعراق، على سبيل المثال مع الفلسطينيين والمنظمة.
وذهب بعض المعلقين الى ابعد من ذلك ورأى في عرضه للتوقعات الممكنة للأزمة على صعيد الأردن ان هذا البلد، شأنه شأن لبنان، سيدفع الثمن من وجوده. ففي رأي أفنر راجيف (26) : "... ان اسرائيل على الرغم من مصلحتها في استقرار نظام الملك حسين قد تعطي موافقتها الصامتة على ]حل المشكلة الفلسطينية في الأردن[ مترافقة بضغط سياسي أميركي..."
وعلى الرغم من هذه التوقعات، فالمشكلة الاساسية بالنسبة الى اسرائيل ليست انهيار حكم الملك حسين، وإنما الزعامة الفلسطينية التي ستتولى حكم هذا البلد. فقد كتب راجيف (27) معلقا على ذلك: "عندما تنهار المملكة الأردنية ويفقد عرفات ضرورته، فالأرجح ان يكون هناك مجال للربط بين الإثنين، بحيث يصار الى درس إمكان إقامة زعامة فلسطينية مغايرة، تستولي على السلطة في الأردن وتعمل على تحقيق (الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني). وفي الامكان القول، وبشيء من السخرية، ان ثمة من يفضل اليوم في اسرائيل رؤية الملك حسين يحكم دولة فلسطينية في الأردن. هذه الثنائية المستحيلة هي المعضلة التي يواجهها قادة الدولة - فهم مستعدون لقبول دولة فلسطينية في الأردن، لكن لا بزعامة عرفات. والأميركيون عارفون بالفكرة، وسلوك الملك وعرفات يسرّع في تحضير الأميركيين لإمكان من هذا النوع..." ويخلص الكاتب الى القول: "ليس تحرير الكويت شأنا من شؤون اسرائيل، لكن حل المشكلة الفلسطينية نعم، ثم نعم، والأمران مرتبطان أحدهما بالآخر، ومن الأفضل الاعتراف بذلك منذ الآن."
وسواء اخذنا بهذه التوقعات او رفضناها، يبقى سؤال أساسي: ما هي الأخطار التي تواجه النظام الأردني الآن؟ في رأي البروفسور آشر ساسر، (28) الاختصاصي بشؤون الأردن في مركز الدراسات الاستراتيجية، ان "الوضع الحالي ينذر بخطر على النظام الأردني أكثر من سائر الأنظمة. وهذه ازمة حقيقية، لأن وضع الأردن الصعب سيزداد سوءا أكثر فأكثر بحيث يتحول الى ازمة. نعم فالخطر قائم." وفي رأي ساسر ان مصدر الخطر على الأردن ليس اسرائيل فحسب وإنما العراق أيضا، ففي رأبه "إذا فشل التحرك الحالي للأميركيين، وربح صدام، فان الأردن سيكون بالتأكيد بين خططه..."
(2) "يديعوت أحرونوت"، 10/8/1990.
(3) "هآرتس"، 14/8/1990.
(4) المصدر نفسه، 8/8/1990.
(5) "معاريف"، 16/8/1990.
(6) "النهار"، 14/8/1990.
(7) "دافار"، 15/8/1990.
(8) المصدرر نفسه.
(9) المصدر نفسه، 22/8/1990.
(10) نقلا عن "يديعوت أحرونوت"، 23/8/1990.
(11) "عال همشمار"، 27/8/1990.
(12) "هآرتس"، 13/8/1990.
(13) "دافار"، 12/8/1990.
(14) نقلا عن زئيف شيف، "هآرتس"، 8/8/1990.
(15) "دافار"، 29/8/1990.
(16) "هآرتس"، 17/9/1990.
(17) المصدر نفسه، 20/2/1990.
(18) توم سيغف، "الاسرائيليون الأوائل -ـ 1949" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1986)، ص 29.
(19) ورد ذلك في دراستهما التالية:
Shai Feldman & Heda Rechnitz-Kijner, Deception, Consensus and War: Israel in Lebanon (Tel Aviv: Tel Aviv University, Jaffee Center for Strategic Studies 1984).
(20) أريئيل شارون، "حالة طوارىء"، "يديعوت أحرونوت"، 25/5/1990.
(21) غيئولا كوهين، "حسين خائف؟ حسين على حق"، "يديعوت أحرونوت"، 7/9/1990.
(22) "(الأردن هو فلسطين) -ـ مقامرة خطرة وباهظة الثمن"، "دافار"، 29/6/1990.
(23) في كتابه بعنوان: "استراتيجيا شاملة لاسرائيل" (القدس: أكدمون، الجامعة العبرية، 1989).
* التشديد من عندنا.
(24) "استراتيجيا شاملة لاسرائيل"، مصدر سبق ذكره.
(25) أنظر في هذا العدد مقالة: أ. شفايتسر، "الأردن - الصلة التي انقطعت"، "هآرتس"، 17/8/1990.
(26) "موتجهة تتربص على الباب"، "عال همشمار"، 21/8/1990.
(27) "عال همشمار"، 3/9/1990.
(28) "دافار"، 15/8/1990.