عدت من زيارة للكويت في أواسط أيلول / سبتمبر، حيث امضيت فيها تسعة أيام؛ وهي أول زيارة لي منذ اجتاح الجيش العراقي الكويت في مطلع آب / أغسطس الماضي. وما شاهدته وعلمته وسمعت به يهز المعتقدات التي نشأ جيلنا عليها، بل يقوّضها من أساسها؛ اذ ليس في وسع العقل ان يتصور ان جيشا عربيا يجتاح بلدا عربيا آخر. وإنْ ارتكب مثل هذا الخطأ، فما كان من المأمول ان يتحوّل من خطأ الى خطيئة.
ان ما أصاب الكويت كبلد عربي من اجتياح وضمّ. وما أصاب الناس فيها من اقتلاع وتشتيت، لا يمكن تغطيته بأصوات الطبول التي تقرع صباح مساء عن التصادم مع قوى الامبريالية، واعادة توزيع الثروة، وتخلّف حكام دول الخليج، ونهب النفط العربي، وغير ذلك من الشعارات. فلم تكن هذه الشعارات أساس الاجتياح العسكري للكويت، والمذكرة العراقية الرسمية التي قدمت الى جامعة الدول العربية لم تأت الى ذكر اي من هذه الأسباب.
ان المآسي التي حلّت بالناس القاطنين ارض الكويت، من كويتيين وغير كويتيين، كانت شاملة ومتنوعة ومتدرجة. وبادئ ذي بدء، فقد تمّ تقويض حق تقرير المصير للشعب الكويتي وتدمير مؤسساته. ولا بدّ من تسجيل واقعة للتاريخ ستظلّ امثولة للشعوب الأخرى، وهي ان القوات العراقية لم تجد كويتيا واحدا راغبا في التعاون معها، وهذا استفتاء شامل واعلان صريح بشأن تمسك شعب الكويت بحق تقرير مصيره.
لقد تمّ اقتلاع مئات الآلاف من العاملين وتشتيت عائلاتهم، مما اضطر القسم الأكبر منهم الى العودة الى أوطانه. ومن دون الانتقاص من آلام هؤلاء ومآسيهم، أود التعرض هنا لما أصاب الفلسطينيين القاطنين في الكويت، وهم أكبر واقدم جالية موجودة هناك من غير الكويتيين. وما كان لهؤلاء الفلسطينيين ان يتميزوا في الوضع القائم في الكوتي إلّا لسببين اثنين: أولهما ان الأغلبية العظمى منهم لا تملك حق العودة الى الوطن الأصلي، وان لقسم منهم مشكلاته المضاعفة بحكم انه يملك وثائق سفر عربية ـ وسوف نرى سلبيات ذلك؛ وثانيهما ان هؤلاء يتعرضون لهجوم عنيف من بعض الرموز الكويتية والعربية.
وقبل الدخول في تفصيلات الوضع الفلسطيني، لا بدّ من تأكيد ان ما نجم عن غزو الكويت من وجود القوات الأميركية والقوات المتحالفة معها على الأراضي العربية في شبه الجزيرة العربية هو ردّة في غاية الخطورة على مستقبل الشعوب العربية. ولا بدّ من العمل على إنهاء هذا الوجود، كما لا بدّ من تأكيد ان الجيش العراقي يظل في النهاية جيشا عربيا، والواجب الوطني يقتضي الحفاظ عليه ومساعدته في التخلص من مأزق الكويت. وفوق هذه وتلك، فإن استعادة حق تقرير المصير للشعب الكويتي هي واجب عربي، بل هي فرض عين على كل عربي ولا سيما الفلسطينيين. فالفلسطيني بعد تجربة شتاته الطويلة والمريرة هو الأوْلى بين العرب لأن يقف في وجه تشتيت شعب آخر، وإلا صادر حقه القانوني والخلقي في المطالبة بحق تقرير مصيره على ترابه الفلسطيني.
ان وضع الفلسطيني في الكويت المحتلة هو الوضع ذاته الذي عاشه الفلسطيني في العالم العربي عبر أعوام شتاته. فما ان تقع أزمة داخلية في قطر عربي او تقع ازمة عربية بين قطرين عربيين حتى يجد الفلسطيني نفسه بين مطرقة الطرف الأول وسندان الطرف الثاني. ويُزجّ بالفلسطيني او يُستدرج في هذه النزاعات العربية التي، مثلها كمثل الصحراء العربية، لا تنتهي ولا تعرف حدودا او معايير او ضوابط. وهكذا يتم استنزاف الفلسطيني ماديا وخلقيا، ويحارب في معاشه، ويضطر الى الرحيل مرة تلو الأخرى.
وما ان اجتاحت القوات العراقية الأراضي الكويتية حتى وجد الفلسطيني نفسه في عين العاصفة فجأة. وقبل ان يهدأ غبار المعركة كان بعض الكويتيين يكيلون ابشع التهم الى الفلسطيني كما لو انه كان رأس الحربة في العدوان على وطنهم. وما ان بدأت سلطات الغزو تمارس صلاحياتها حتى جردت الفلسطيني ـ عمليا ـ من كل مستحقاته ومدخراته واستثماراته. وهكذا وقع الفلسطيني بين مطرقة الكويتيين وسندان العراقيين من حيث لا يحتسب. وما ان تمحور العرب حول قطبي الأزمة، حتى وجد الفلسطيني نفسه بين مطرقة المعارضين لغزو الكويت وسندان العرب الذين، وإنْ لم يؤيدوا الغزو، انغمسوا في نتاجه من دون أسبابه.
لقد أعلنت المقاومة الوطنية الكويتية مبدأ مقاطعة أجهزة الدولة ومؤسساتها كافة، ووجهت نداءات في هذا الشأن الى جميع موظفي الدولة والعاملين في القطاع الخاص. وردا على ذلك، أعلنت السلطة العراقية في الكويت ان على جميع العاملين في اجهزة الدولة ان يلتحقوا بأعمالهم اعتبارا من أول أيلول / سبتمبر، وإلا اعتبروا مفصولين، وتصادَر مستحقاتهم. وجرى اول اختبار قوة بين الطرفين حين عقدت دورة الامتحانات التكميلية لطلاب الثانوية في الكويت في أوائل أيلول / سبتمبر. وعلى الرغم من تهديدات المقاومة الكويتية فقد ذهب بعض المدرسين ـ ومعظمهم من الفلسطينيين ـ الى مدارسهم، وسقط منهم اربعة قتلى، بينهم مدرِّسة، على يد المقاومة.
ان الموظف الفلسطيني الذي امضى ثلاثين عاما تقريبا في الخدمة لا يستطيع ان يتحمل مصادرة مستحقاته بعد ان شارف على سن التقاعد. ولم يصدر عن حكومة المنفى الكويتية تعهد للعاملين في اجهزتها بضمان مستحقاتهم ان هم لم يلتحقوا بوظائفهم. وما يضاعف مأزق الفلسطيني حدّة انه إذا كان يحمل وثيقة سفر صادرة عن السلطات المصرية او السورية او اللبنانية، وأراد العودة الى مصر (او غزة عبر مصر) فانه لا يستطيع ذلك قبل الحصول على إذن من الأجهزة المصرية التي لا تستجيب لطلبه قبل مرور ثلاثة أشهر، حتى في الأحوال العادية. ومع اغلاق السفارات الأجنبية في الكويت يصبح تقديم الطلب ضربا من الاستحالة. وإنْ هو أراد العودة الى سوريا او لبنان، فسوف يواجه بتهمة الولاء لياسر عرفات. وهكذا تستمر المطرقة الكويتية في دق جسم الفلسطيني، ويتطاول عليه بعض العناصر الكويتية بالسب والشتم والتجريح.
اما السندان العراقي فهو لا يقل صرامة وخشونة؛ فما ان استتب الأمر لسلطة الغزو حتى اتخذت سلسلة من الاجراءات وقع عبؤها على كاهل الفلسطيني. فقد أعلنت هذه السلطة مساواة النقد الكويتي بالنقد العراقي، ثم أعلنت تجميد الحسابات في المصارف، ثم سمحت بسحب ما مقداره 225 دينارا كويتيا في الأسبوع، ثم امرت باستبدال النقد العراقي بالكويتي في فترة لا تتجاوز الأسبوع الأول من تشرين الأول / أكتوبر، ثمّ منعت من يخرج بعد 23 آب / أغسطس من العودة، ثم منعت إخراج الممتلكات الشخصية والعائلية من الكويت، وإذا سمح باخراجها، يواجه المغادرون عمليات الابتزاز على الحدود العراقية، بالاضافة الى اجراءات المصادرة العشوائية.
ان هذه الاجراءات شديدة العنت والاجحاف. فهي وإنْ طالت الكافة فإن عبأها الأكبر يقع على كاهل الفلسطيني. فحتى لو افترضنا ان الدينار العراقي مساو في قيمته السوقية للدينار الكويتي (وهناك فارق كبير، اذ ان الأول يساوي عُشر الثاني) فان الفلسطيني لن يتمكن من تحويل مدخراته ومستحقاته خارج العراق والكويت بسبب قوانين النقد العراقية. ويستطيع الفلسطيني ان يبيع أثاث منزله في الكويت والعراق لكنه لا يستطيع اخراج ثمنه، وإذا حاول فقد يصادر على الحدود العراقية وتوجه الى صاحبه تهمة التخريب والاخلال بالأمن الاقتصادي للثورة، وقد شاهدت بعض هذه الحالات في أثناء وجودي في نقطة الحدود العراقية.
وقد تسبب الاجراء العراقي، بعدم السماح لمن يخرج بعد 23 آب / أغسطس، بتشتيت عائلات فلسطينية عديدة. اذ في حين كانت الزوجة والأولاد يمضون اجازتهم الصيفية في عمان مثلا، كان الزوج في الكويت، فلا هو قادر على ترك بيته ومستحقاته كي يلحق بعائلته، ولا الأوضاع تسمح بالتحاق العائلة بمعيلها. وهكذا نشأت مشكلة "لمّ شمل العائلات"، على غرار مشكلة "لم شمل" عائلات الأراضي الفلسطينية المحتلة. واصبح الفلسطيني يجابه مشكلتي "لمّ شمل": إحداهما في الكويت، والأخرى في فلسطين. وقد خففت السلطات العراقية من وطأة هذا القرار وسمحت بلم شمل العائلات في غضون شهر واحد، إلا ان المشكلة تظل قائمة بكل مضاعفاتها.
وتتسع دائرة الألم الفلسطيني على امتداد العالم العربي بسبب ما اصبح يسمى ازمة الخليج تضليلا. فقد بدأ العرب الخليجيون بممارسة أعمال الطرد المعلن والتضييق غير المعلن على الفلسطينيين الموجودين على اراضيهم، وهو امر بات معروفا، وتنشر تفاصيله في الصحف اليومية. وهكذا تنفّذ بحق الفلسطيني عملية "ترانسفير" عربية.
وتلحق مصر بركب الحملة، ويطالب بعض اجهزة الاعلام المصرية بطرد الفلسطيني من مصر ومصادرة ممتلكاته، هكذا بصريح النص، وبالفم المملوء. ويعلن وزير الداخلية المصري ـ فجأة ـ انه ألقي القبض على فلسطينيين أرسلهم العراق الى مصر لارتكاب أعمال ارهابية. ولن يكون مستغربا ان يحمّل الفلسطيني ـ بعد حلول فصل الشتاء ـ عبء ارتفاع أسعار النفط.
وحين يصل حد السكين الى رقبة الفلسطيني على هذا النحو الأغشى، يغدو التزام الموضوعية والحياد ضربا من الترف الذي لا يُستساغ وسط هذا الركام من المظالم.
ان بعض الرموز الكويتية التي تعبىء جماهيرها ضد الفلسطيني يُخطىء في خدمة قضيته الوطنية. وفي اية حال، فان هذه الرموز ادرى بمصالحها الوطنية، لكن من المهم تذكيرها بأن الفلسطيني ـ بداية ـ لم يكن في الكويت بصفة لاجىء، ولم تكن الكويت من "الدول المضيفة" للاجئين الفلسطينيين. فقد ذهب الفلسطيني الى الكويت ـ ودول الخليج الأخرى ـ طلبا للعمل ككل الناس بمختلف أجناسهم ودولهم ومعتقداتهم. ويضاف الى ذلك، ان الكويت ـ شأنها شأن لبنان ـ لم تعامل الفلسطيني معاملة استثنائية، لا من حيث قوانين العمل او الاقامة ولا من حيث قوانين التعليم. بل يمكن القول ان الكثير من تلك القوانين والقرارات الوزارية قد فُصِّل على مقياس الفلسطيني. وقد تركت تلك السياسات آثارها النفسية والعائلية والمادية السيئة في الجالية الفلسطينية. وليس المجال هنا لعرض تلك القوانين والقرارت وآثارها السلبية، لكن يجب عدم اغفال هذه الجوانب حين التطرق الى فلسطينيي الكويت.
والحملة المصرية اشد مدعاة الى الاستهجان لأن مصر دولة مؤسسات، ولا سيما مؤسسة القضاء، والإِقرار بالحقوق المكتسبة. وعلى سبيل المثال، ما زال في مصر مكاتب محاماة اجنبية كانت تمارس المحاماة خلال فترة القضاء المختلط. وحين صدر القانون المدني الجديد وتمّ توحيد القضاء، اعترف المشرع المصري بالحقوق المكتسبة لتلك المكاتب، وهي مكاتب محاماة فرنسية وبلجيكية، وما زالت تمارس أعمالها وإنْ على نطاق ضيق. من هنا، فان التدهور الذي أصاب حقوق الفلسطينيين المكتسبة في مصر اصبح مثيرا للرعب. وقد بدأ التدهور في عهد الرئيس انور السادات، واخذ يتسارع في عهد الرئيس حسني مبارك. فقد كان الفلسطيني يعامل معاملة المصري في نظام العاملين المدنيين في الدولة طبقا للقانون رقم 46 لسنة 1964، وفي الأنظمة الخاصة بمزاولة مهنة الطب والطب البيطري والتمريض وطب الأسنان والصيدلية. واعتبارا من سنة 1971، بدأت مسيرة التراجع، فألغي كل نص يساوي بين الفلسطيني والمصري. وفي سنة 1985 سُحب الحق الممنوح للفلسطيني في تملك الأراضي الزراعية، وكان على أولئك الذين تملكوا مثل هذه الأراضي طبقا لقانون صدر سنة 1963 تصفية أملاكهم خلال فترة خمسة أعوام. ثم صدر قرارا وزير التربية والتعليم رقم 87 لسنة 1983 ورقم 75 لسنة 1984 بحسب امتياز معاملة الطلبة الفلسطينيين مثل معاملة الطلاب المصريين، فعوملوا منذ تلك الحين باعتبارهم طلبة أجانب. وهكذا وصلت الدعوة الآن صراحة ـ أو فجأة ـ الى طرد الفلسطيني ومصادرة ممتلكاته.
ان واجب الأمانة يقتضي الاقرار بما قدمته الكويت للقضية الفلسطينية وللفلسطينيين في الأراضي المحتلة. والتزام الكويت هذا الأمر ظل ثابتا سواء على المستوى الرسمي او على المستوى الشعبي. إلا ان ما يقوله بعض الكويتيين من ان الكويت هي التي اطعمت الفلسطيني وآمنته من خوف هو قول فيه الكثير من المنة. فالفلسطيني في الكويت كان يبيع عرقه وجهده وخبرته، وقد ساهم في بناء الكويت وتطويرها. وهو امر معترف به اعترافا صريحا ومعلنا من قِبل الجميع، ولا سيما الشيخ سعد العبد الله، ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء.
ويقتضي واجب الأمانة كذلك الإِقرار بفضل مصر ومساهمتها في خدمة الفلسطينيين وافساح المجال أمامهم للتعليم. لكن ما يقوله بعض الكتاب المصريين من ان مصر ضحت من أجل فلسطين وخسرت الآلاف من أبنائها من أجل فلسطين وتحملت الديون المرهقة في سبيل ذلك، انما هو قول يتناقض مع الاستراتيجية المصرية الثابتة، والتي تقوم، منذ عهد محمد علي باشا ـ على الأقل ـ على مبدأ ان الأمن الفلسطيني جزء لا يتجزأ من الأمن القومي المصري، وأن حماية فلسطين هي حماية لبوابة مصر. أقول قولي هذا من دون المساس او الانتقاص من المشاعر الوطنية الصادقة للمصريين وشهداء مصر ومثقفي مصر.
ويخلص المرء في نهاية المطاف الى ان أزمة الخليج ـ او قضية غزو الكويت ـ ما كان يجب ان تطحن الفلسطيني بهذا الشكل العنيف لو لم يكن هناك نيات غير النيات المعلنة، وأبعاد في الصحراء العربية المترامية لم تصل رحلة العذاب الفلسطينية اليها بعد.