فلسطين سنة 2000!!
Keywords: 
الدولة الفلسطينية
القرن العشرون
القرن الحادي والعشرون
Full text: 

لو كان تراكم الأحداث وتأثيراتها النَّوعية في المسار العام لحياة الشعوب المعيار المعتمد لقياس الزمن، لاحتُسِبت سنوات القرن العشرين بمئات السنين لا بمائة واحدة.

فلقد شهد هذا القرن من الأحداث والمتغيِّرات، ولا يزال يشهد، وبوتيرة سريعة، ما فاق أحيانًا- نوعًا وكمًّا – ما شهده تاريخ هذه الدنيا بأسره. ومن المثير، فعلًا، أنَّ هذه الأحداث والمتغيِّرات طالت معظم ميادين الحياة، إنْ لم يكن كلها، وعلى مختلف الجبهات.

وعلى سبيل المثال، فلقد كان هذا القرن الأكثر دموية بين كل القرون التي  سبقته؛ إذ اشتعلت خلاله ١٣٠ حربًا، قُتِل فيها نحو ١٢٠ مليون إنسان، أي أكثر من مجموع من قُتلوا في كل الحروب التي سبقت سنة ١٩٠٠. لكنْ، ومن مفارقات هذا القرن، أنَّ التطور الذي شهده في ميدانَي الصحة والزراعة أنقذ، في الوقت نفسه، أعدادًا من الأرواح البشرية تفوق عدد تلك التي أزهقها الجوع والمرض طوال ما سبقه من تاريخ.

وعلى سبيل المثال، أيضًا، لقد كانت الرحلة حول العالم في بداية هذا القرن تستغرق ستين يومًا، وهي اليوم لا تستغرق أكثر من ٢٤ ساعة، كما أنَّها مرشحة للاحتساب بالدقائق قبل نهاية هذا القرن. وعندما نتذكَّر أنَّ الولايات المتحدة وحدها قد سجَّلت في هذا القرن أكثر من أربعة ملايين براءة اختراع، وأضفنا إلى ذلك ما تم تسجيله من براءات في الدول المتقدِّمة الأخرى، فقد نتمكَّن من استيعاب مدَّة القفزة العلمية والتكنولوجية التي شهدها هذا القرن، والمدى الجديد المتوقَّع لها قبل أنْ يولي ظهره لنا.

غير أنَّ ما يلفت الاهتمام أكثر من هذا كله، هو ما شهده هذا القرن من تحولات سياسية عارمة هزّت خرائط الدنيا السياسية والاجتماعية أكثر من مرَّة، وترشحها لمزيد من الاهتزاز والتغيُّر.

فالحرب العالمية الأولى، واندحار الدولة العثمانية، كرَّسا الهيمنة الأوروبية، ومدَّا عمر الاستعمار، وفرضا خرائط دولية تقسمت بموجبها مناطق النفوذ على الدول المنتصرة.

لكنْ، وبعد أقل من ربع قرن اشتعلت نيران الحرب العالمية الثانية، التي سجَّلت نهايتُها، بداية النهاية للاستعمار الأوروبي. وقبل أنْ يحتفل هذا القرن بعيد ميلاده الخمسيني، كانت المستعمرات البريطانية والفرنسية والهولندية والبلجيكية والأميركية قد انتزعت، في معظمها، استقلالها وباتت حرَّة طليقة. وهكذا تغيَّرت الخرائط الدولية، وانقسم العالم عالمين غربي وشرقي، أحدهما "حر" تتزعَّمه الولايات المتحدة وتقوده، وثانيهما "اشتراكي" يتزعَّمه الاتحاد السوفياتي. واتَّخذ الصراع الدولي منحى جديدًا عن صراعات الماضي، بسبب عاملين مهمين: الأول أيديولوجي، والثاني تكنولوجي.

إنَّ خروج الاتحاد السوفياتي منتصرًا في الحرب الثانية، وهو يحمل رايات الثورة الاشتراكية الهادفة إلى تغيير العالم، وفق قراءة محدَّدة للتاريخ والمستقبل معًا، ثم امتلاكه السريع للسلاح النووي، وَضَعَا سلفًا الخطوط العامَّة لعملية الصراع الجديد، وحدَّدَا بالتالي وسائله وحدوده.

ولم يكن لأحد أنْ يتوقَّع أي تغيير أو تبديل لعملية الصراع هذه، على المستوى الاستراتيجي على الأقل. إلَّا أنَّ هذا القرن المشحون بالأحداث الجذرية، أبى أنْ يمضي في عملية الصراع هذه بالأسلوب نفسه وبالوتيرة نفسها، ففاجأ الدنيا، وهي على عتبات العقد الأخير من عمره، بثورة جديدة هي ثورة "البيريسترويكا" التي وصفها صانعها، ميخائيل غورباتشوف، بعد خمسة أعوام على اندلاعها، بأنَّها أصبحت الشغل الشاغل لعواصم العالم كافَّة. ولا ريب أنَّه على حق؛ إذ بات من المستحيل على عالم ترتَّبت أوضاعه وفق مؤتمر يالطا لمدَّة تفوق الأربعين عامًا أنْ لا يتأثَّر ولا يهتز ولا تتغيَّر خرائطه بعد هذه الثورة.

إنَّ خرائط يالطا، وكل ما ترتَّب على يالطا، من اتِّفاقات وتحالفات وبُنى سياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة وحتَّى نفسيَّة، بات اليوم في حالة انعدام وزن بانتظار جديد لم تتحدَّد ملامحه بعد، ويثير من القلق أكثر مما يثير من الطمأنينة، على الرغم من كل ما يبدو على السطح من مؤشرات التوجه نحو السلام والأمن الدوليين، وبخاصة لدى دول العالم الثالث وشعوبه، أو ما يمكن تسميته "جنوب" الكرة الأرضية.

ومن شبه المؤكَّد، قياسًا بما نلحظه من زخم عملية التغيير الجديدة وديناميتها، أنْ يحفل هذا العقد الأخير من هذا القرن، بالكثير من الأحداث الدرامية التي لا بد منها توطئة لوضع الخرائط الملائمة لتثبيت هذه العملية وفق اتفاقات جديدة.

ومن هنا، ولمَّا كنَّا – نحن العرب – جزءًا من هذا "الجنوب" المهدَّد، فإنَّه يستحيل علينا أنْ نقنع بالخلود إلى انتظار ما ستؤول هذه العملية إليه من ترتيبات ونتائج، لنتقبَّلها كأنَّها قضاء الله وقدره.

ونحن – العرب – لسنا مجرَّد جزء جغرافي من هذا "الجنوب" المهدَّد، فنحن منه وفيه، محور من أهم محاوره، وربما الأكثر أهميَّة، لسببين رئيسيين: الأول، لأنَّنا نحن من نحن، وما نمثِّله من موقع استراتيجي هائل الأهميَّة في موارده الطبيعيَّة، وبخاصَّة النفطيَّة، وفي مكانته التاريخيَّة وموقعه الجغرافي؛ ولأنَّنا – وهذا هو الأهم – في موضع صراع مع إسرائيل ربيبة "الغرب" وحليفته الأثيرة (سابقًا) والمرشَّحة الأكثر ترجيحًا لتكون كذلك بالنسبة إلى "الشمال" الذي قد يتكوَّن (لاحقًا) وفق مخطَّطات العملية الجديدة.

ولذلك، هل نكون مغالين في طلب الاستشراف والمعرفة، لو تساءلنا أين ستكون فلسطين سنة ٢٠٠٠، أي بعد عشر سنوات من الآن، بعد غروب آخر شموس هذا القرن وبزوغ أوَّل شموس القرن الحادي والعشرين؟ أوليس من حق المواطن العربي، وبخاصة الفلسطيني، أنْ يستاءل، بل أنْ يسأل المسؤولين عن مصيره وإذا ما كانت فلسطين ستبقى بعد عشر سنوات "رهينة" القرن الماضي، أم ستصبح "حرَّة" مستضافة في رحاب القرن الذي سيتلوه؟ هل ستبقى "قضيَّة" أم ستصبح "دولة"؟

يتطلَّب الرد على هذا السؤال، أوَّلًا وقبل كل شيء، الإقرار بأنَّ عملية التغيير هذه حتمية الوقوع، لا بل هي قائمة فعلًا، ولا محالة من تصاعد وتيرتها تدرُّجًا أو إعصارًا. وبالتالي، فإنَّ الركون إلى السياسات والمعادلات والتحالفات القديمة ليس سوى هروب من مجابهة التحديات المفروضة، ودلالة عجز أو قصور في استيعاب ما يحدث.

كذلك، لا بدَّ من الإقرار بأنَّ العالم الثالث، أو هذا "الجنوب" الشاسع للكرة الأرضية، هو المرشح أكثر من غيره ساحة لصراعات التغيير الجديدة. إنَّ هذا العالم، على ما يعاني من تخلُّف وفقر وأمراض، يتمتَّع بموارد طبيعية وبشرية، ضخمة. وتكفي الإشارة إلى ما لديه من نفط يهدد، في حال انقطاعه، جميع الاقتصاد الصناعي بالانهيار. ولا شك في أنَّ هذه المفارقة في غنى هذا العالم وفقره في آن واحد، تشكل ثغرة مغرية لجميع القوى المتقدمة والطامحة إلى الدخول منها في عملية التغيير المرتقبة.

والعرب جزء من هذا العالم الثالث، وقد يكون من أهم أجزائه، وبينه وبين "الغرب علاقات مختلطة ومتناقضة. فبينما يطمح الغرب إلى احتكار ثروات المنطقة العربية وإبعاد السوفيات وغيرهم عنها، يجد نفسه في موقف مضار لطموحات شعوبها، ولا سيما فيما يتعلق بقضية الصراع العربي – الإسرائيلي.

ونعود ثانية إلى السؤال المطروح بشأن فلسطين وموقعها سنة ٢٠٠٠، فنمهِّد للردِّ عليه بتساؤل نطرحه على أنفسنا – كعرب – فيما يخصُّ دورنا في عملية التغيير هذه، وكيف سنؤدي هذا الدور في عالم ستتوسع فيه مراكز القوى المؤثِّرة لتشمل، مع الجبَّارين المعروفين، جبابرة جددًا على طريق التكون السريع، مثل الصين واليابان وأوروبا الغربية، مع ما يمتلكه كل واحد من هذه المراكز من أفلاك تدور حوله، ومع ما بين هذه المراكز من تواز وتقاطع في المصالح والتطلعات.

ومع أنَّ سؤالنا يتناول فلسطين بالذات، إلَّا أنَّه ليس موجَّهًا إلى الفلسطينيين وحدهم، بل إلى العرب جميعًا. فالتحدي الزاحف أكثر خطورة وشمولية من قدرات عرب فلسطين وحدهم على مجابهته. إنَّ الدول المتقدمة نفسها، على الرغم من قدراتها وإمكاناتها وثرائها، تبحث جادَّة في تجميع قواها على أسس وحدوية، كما هي الحال في أوروبا، وكما تبدو عليه ملامح الخرائط الجديدة في الشرق الأقصى وغيره.

إذًا، فإنَّ نقطة البداية تكمن في إدراك العرب استحالة مواجهة التحدي الجديد، بدول منفردة وسياسات قطرية، وأنَّه لا بد من وحدة في الموقف وتنسيق في الأداء للصمود في هذه المرحلة التي يقف فيها التطور العلمي والتقني أمام أبواب مشرَّعة على آفاق بلا حدود. فالعلم والمعرفة هما العنصران الأساسيان في هزِّ موازين القوى المتصارعة. وكما قال هـ. ج. ويلز، في نهاية الحرب العالمية الثانية: "إنَّ التاريخ البشري أصبح بصورة متزايدة سباقًا بين المعرفة والكوارث."

بعد ذلك، علينا ونحن نبحث عن دورنا، أنْ نحدث وندقق فيما لدينا من أرصدة ورؤوس أموال، طبيعية وبشرية، مادية وروحية، من دون أيَّة مغالاة تصيبنا بغرور خادع، ومن دون أي تهوين يودي بنا إلى اليأس. فما من شعب، مهما يكن فقيرًا أو صغيرًا، إلَّا ويملك القدرة على الدفاع عن ذاته وحماية مصيره وتطلعاته، إذا امتلك إرادته وعقد عزمه على أداء دوره بإتقان الواعي لتشعبات عملية الصراع وما تحمله من تناقضات بين أطرافها المتعددة.

ولا ريب أنَّ "الإنسان" عندنا، كما عند شعوب الأرض كلها، هو رأس المال الأول وسيد الأرصدة والموارد جميعًا. إنَّ "إنسانًا" غير حر في مجتمعه ووطنه، هو إنسان غير مؤهَّل للدفاع عن هذا المجتمع وهذا الوطن، لافتقاده أهم الحوافز على ذلك وهو الحرية. فالوطن، في عالم اليوم، لم يعد مجرَّد أرض يولد الإنسان عليها، أو مجرَّد راية ملونة ترنو العين إليها، أو نشيدًا يشنف الآذان، أو صورة لزعيم معلَّقة على الحدود، أو شعارات واعدة مكتوبة على الجدران.

الوطن أكثر من ذلك كثيرًا. هو تراث تحنو إليه، ومستقبل تتطلَّع صوبه بثقة. هو لقمة عيش شريفة، وعيش آمن ومحترم، وكلمة حرة لا تخاف قولها، وانتماء يدعو إلى الاعتزاز والزهو. إنَّ حرية الوطن من حرية المواطن، وتقدمه من تقدم المواطن، وكذلك أمنه واستقراره ومصيره.

 ومن البديهي أنَّ على من يريد الانتصار في مرحلة الصراع المقبلة أنْ يدرك أسباب هزائمه في المراحل السابقة. وكان في مقدِّمة هذه الأسباب، وعلى امتداد أكثر من نصف قرن، حرمان المواطن العربي من حقوقه الأساسية في التعبير عن رأيه، بل حتى في إشراكه الفعلي في عملية الصراع. ومع أنَّ العديد من القيادات المسؤولة عن هذه النكسات قد اعترف بتفوق القيادة الصهيونية، تخطيطًا وممارسات، على الجانب العربي والفلسطيني، فإنَّ أحدًا لم يحاول التدقيق في سر هذا التفوق، والذي هو – في رأينا – هذا الهامش الفسيح من الحرية السياسية الذي يتمتع به العاملون في الفريق المعادي. وهي حرية مسؤولة تعرف حدودها وتميز بين مصلحة الحزب ومصلحة القضية أو الوطن. وليس فيما شاهدناه في إسرائيل على امتداد الأشهر الثلاثة المنصرمة من خلافات في الرأي إلَّا الدليل على ذلك.

فلقد آن الأوان، بعد كل التجارب التي عشناها وتلك التي عاناها غيرنا، للأنظمة العربية أنْ تتوقف عن نهجها في عدم ائتمان المواطن على التمتع بحريته، وبالتالي على عدم ثقتها بقدرته على استعمال هذه الحرية في غير مصلحة الوطن. ويا ليت هذه الأنظمة تصبر على تجربة الحرية بقدر ما صبرت شعوبها على سياسة القمع واحتكار الرأي، ولعلَّها عندئذ تدرك إيجابيات مثل هذه التجربة. وإنَّه لمن المؤلم أشد الألم ما نشاهده هذه الأيام من ظاهرة الهجرة من الوطن، ورؤية الأمهات العربيات الحوامل يذهبن إلى خارج الوطن أملًا بكسب "جنسية" يَرَيْن فيها الضمانة لتمتع أولادهن بحقوقهم الأساسية.

وخلاصة القول، إنَّ هناك ثلاثة مبادىء لا بد من إقرارها وتثبيتها منطَلَقًا للدور العربي المطلوب من أجل مجابهة تحديات هذا العقد – المفصل بين القرنين. الأول وحدة الموقف وتنسيق الأداء، والثاني الارتقاء السريع في المستوى العلمي والتقني، بتثقيف المسؤول وتسييس العلماء والمثقفين. والثالث تأمين جو ديمقراطي يضمن حرية الرأي، وبخاصة الرأي الناقد البناء.

إنَّ تثبيت هذه المبادىء ميدانيًّا كفيل بأنْ يفجِّر طاقات هائلة تكون قادرة على رسم كل التفاصيل المطلوبة للدور العربي المرجو، وعلى تعبئة الجماهير بما يكفل صمودها في أداء كل ما هو مطلوب منها من عطاء وتضحيات.

ولمَّا كانت القيادة الفلسطينية جزءًا لا يتجزَّأ من القيادة القومية، وتتحمل مهمات المتابعة النضالية اليومية في الخندق المتقدم للصراع، سواء بالنسبة إلى الانتفاضة الباسلة في فلسطين المحتلَّة، أو بالنسبة إلى مبادرة السلام التي أطلقتها  سنة ١٩٨٨، فإنَّه يترتَّب عليها الكثير، وعلى الجبهتين: الوطنية الفلسطينية، والقومية العربية.

ولعل أول ما يترتب عليها هو تحقيق المزيد من التلاحم بين المستويين النضاليين الوطني والقومي. فمن الواضح حتى الآن، وللأسف، أنَّ المستوى القومي لم يرتقِ بمتطلبات الصراع الدائر حاليًّا، ولا بد من تصعيده وعلى مختلف الجبهات حتى تتمكن هذه الانتفاضة من الصمود تمهيدًا لتطورات نوعية جديدة كان من المفترض أنْ تكون قد خاضت غمارها أو على وشك فعل ذلك.

على القيادة الفلسطينية، بعد أنْ اتخذت قرارها التاريخي بالتحول من حركة تحرير وطنية إلى حركة استقلال وطني، وبعد اختيارها لـ "الدولة" بديلًا من "الثورة"، أنْ تدرك المعنى العميق لهذا التحول، وما يتطلبه بالتالي من آليات لإنجازه. فإذا استطاعت "الثورة" الفلسطينية أنْ تعيد الروح إلى الشخصية الوطنية الفلسطينية، فعلى "الدولة" أنْ تبني المؤسسات الكفيلة بالحفاظ على هذه الهوية.

ومن خلال الأداء الفلسطيني لعملية الصراع خلال العامين الماضيين، أي منذ اتخاذ القيادة قرارها بالتحول، لوحظ بكل الوضوح تركيز العدو في هجماته على المحور السياسي الفاصل بين نهج "الثورة" ونهج "الدولة". وتمامًا كما فعل الجيش الإسرائيلي في سيناء عندما تسلل عبر الخط العسكري الفاصل بين الجيشين الثاني والثالث المصريين فكانت "الدفرسوار"، تحاول الدبلوماسية الإسرائيلية بدعم أميركي رهيب النفاذ من الخط الفاصل بين "الثورة" و"الدولة". وليس الحديث الأميركي المكرر والمعاد عن "الإرهاب" و"الكفاح المسلح" إلَّا الدليل على ذلك.

وإذا لم تبادر القيادة الفلسطينية إلى تحديد صارم لموقفها بين أنْ تكون "دولة" أو "ثورة"، وبالتالي تحديد حقوقها المشروعة في أي من الخيارين، فإنَّ العدو ومعه الولايات المتحدة سيستمران هما في تحديدهما لهذه الحقوق وقضمها بالتدريج إلى أنْ يصبح تدخل المنظمة في تعيين "مختار" في قرية عملًا من أعمال "الإرهاب" وسببًا من أسباب التهديد بوقف الحوار معها وسد الأبواب في وجه المبادرة ككل. وقد يكون من الضروري هنا، ولدرء أية حساسيات أو مزايدات، أنْ نؤكد أنَّه ليس في هذه الدنيا من قانون أو شرع يمنع "الدولة"، أية دولة، من حقها في اللجوء إلى السلاح للدفاع عن أراضيها وحماية مواطنيها، ولنا في الدول والحكومات الأوروبية التي قامت في المنافي في أثناء الحرب العالمية الثانية أكثر من شاهد وأكثر من سابقة.

الفارق الوحيد بين "كفاح مسلح" تقوده ثورة، هو أنَّ الدولة تلتزم الشرعية الدولية وقوانيها التي تحكم هذا الكفاح. وإذا كان في استطاعة الثورة أنْ تتحمل مسؤوليات الجبهة الوطنية المكوِّنة لها من أجل تأمين الشمولية لتمثيلها، فإنَّ "الدولة" قد لا تستطيع ذلك، وبالتالي فهي ملزمة بأنْ تعيد النظر في هيكلها التنظيمي بشكل يسمح بتعدد الاجتهادات والممارسات، وبأنْ تبني مصداقيتها أمام هذا التحدي. فلقد نجحت الانتفاضة، وفي أقل من عام، في فرض الصورة الحقيقية والأصيلة للنضال الفلسطيني كحركة مقاومة شعبية مشروعة ومحقة، فمحت صورة "الإرهاب" المزيفة التي كادت دوائر الإعلام الاستعمارية والصهيونية تفرضها على الرأي العالمي. كما استطاعت أنْ تنقل الصراع إلى مسرحه الحقيقي، إلى الأرض المختلف بشأن مصيرها وهويتها، فأسقطت بذلك مزاعم إسرائيل أنَّ الصراع صراع في شأن الحدود، كما أسقطت مزاعمها فيما يخصُّ "الحدود الآمنة"، وفضحت حقيقة موقفها من القرار رقم ٢٤٢ الذي اعتمدته ذريعة لرفض أي حديث عن أي سلام.

إنَّ هذه الإنجازات الضخمة التي حققها "كفاح الحجارة"، هي أمانة بيد القيادة الفلسطينية في م. ت. ف.، التي ترفع الانتفاضة راياتها وتعتبرها الممثل الشرعي والوحيد لها والناطق السياسي الرسمي الأوحد لجماهير شعب فلسطين داخل الأرض المحتلة وخارجها.

إنَّ الحفاظ على هذه الأمانة من الإنجازات، بل إنَّ الحفاظ على استمرارية الانتفاضة نفسها، يتطلَّب تقويمًا في العمق للأداءين الفلسطيني والعربي خلال سنوات التحول الماضية، كمنطلق لرسم خطوط التحرك المقبلة من أجل مجابهة تحديات التغيير المرتقبة على المستوى الدولي وآثار ذلك في قضية فلسطين والوطن العربي.

فمن الواضح سلفًا أنَّ ثمة ارتباطات في طريقها إلى الانفكاك، وانفكاكات في طريقها إلى الارتباط. كما أنَّ سلالم الأولويات لدى العديد من الدول والتكتلات الدولية آخذة في التغيير والتبديل، هذا بالإضافة إلى ما بات واضحًا من ترجيحات لسياسة المصالح على سياسة العقائد ورواج سوق الصفقات مع خلط مريب للأوراق.

وليس من دليل أوضح على هذا كله، من مسألة الهجرة اليهودية الوافدة من الاتحاد السوفياتي، وهو ما يضعنا على أبواب نكبة ثانية، تفوق بآثارها التدميرية نكبة ١٩٤٨، وتتجاوز أخطارها فلسطين والفلسطينيين إلى مجمل الأمة العربية والوطن العربي كله.

ومن نافل القول إنَّ عقاقيرنا القديمة لن تحمينا من الأوبئة الحديثة، وسياسة الغضب الموسمي، وتكرار الأسطوانة عن حديث المؤامرة، ووضع اللوم، كل اللوم على الغير، لن تجدي فتيلًا.

لا مفر من أداء جديد، على مستوى التحديات الوافدة، ومن نقلات نوعية في نضالاتنا المختلفة تكون قادرة على ردع الهجمات المعادية. وستكون قدرتنا على رسم هذا الأداء ثم إنجاز مضامينه ميدانيًّا، هي الرد على سؤال عن مصير فلسطين سنة ٢٠٠٠، وإذا كانت ستبقى رهينة قرن مضى، أو ستكون أوَّل دولة جديدة يشهد ميلادها، ولو متأخِّرًا جدًّا، القرن الحادي والعشرون.