كنا نحن، العرب الذين بقوا في إسرائيل، مثل شجرة اقتلعت من جذورها آنذاك. وكل من يجهل الأوضاع التي عادت هذه الجذور المقتلعة تطلق فيها الأغصان والأوراق من جديد لن يفهم أبداً ما يجري لنا اليوم.(1)
في غضون عام واحد دُمّر مجتمع قومي ونُفيت أكثرية سكانه ونُهبت ممتلكاتهم، وتحولت أغلبية شعب فلسطين العربية إلى أقلية خاضعة لنظام حكم أكثرية يهودية، ودُفعت إلى أطراف المجتمع الإسرائيلي، وفُرض عليها حكم عسكري كانت مهمته السهر على تفتيت هذه الأقلية وتشتيتها إلى جماعات بعضها معزول عن بعض، ومستسلمة لواقعها الجديد، وعلى ضمان عدم تبلورها في كتلة عربية موحدة ومستقلة، في الوقت الذي كان يجري تركيب الدولة اليهودية في ظل حالة حرب مستمرة مع الشعب الأم لهذه الأقلية، في بلاد الجوار العربي.
لكن العقود الأربعة التي مضت على الكارثة القومية في فلسطين، والتي شهدت تحولات رئيسية – فلسطينية وعربية – كان أولها تجربة حرب حزيران/يونيو 1967، شهدت أيضاً نمو هذه الأقلية العربية وصحوتها من صدمة الكارثة، ونهضة القطاع العربي في إسرائيل في ظل أوضاع عزلة وفصل وحرمان فريدة، تغيرت معها نظرة هذه الأقلية إلى واقعها، كما تغيرت تطلعاتها ومشكلاتها في مجتمع لم يحقق انصهارها فيه، بل حال أيضاً دون قيام تعايش حقيقي بينها وبين الأكثرية اليهودية الحاكمة.
الاقتلاع
عندما صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين في تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، كان عدد سكان البلد 1,970,000 نسمة ثلثاهم (1,300,000 نسمة) من العرب، والثلث الباقي (650,000 نسمة) من اليهود. وكانت أغلبية العرب الكبيرة من المسلمين (86%)، والباقي في معظمهم من المسيحيين. وبعد عام على قيام إسرائيل وإلحاق منطقة غزة بالإدارة المصرية والضفة الغربية لنهر الأردن بالمملكة الأردنية، بلغ عدد سكان إسرائيل 1,174,000 نسمة، بينهم 86% من اليهود. وبقي في إسرائيل 160,000 نسمة فقط من العرب (من مجموع 700,000 نسمة كانوا في ذلك الجزء من فلسطين)، بينهم 70% من المسلمين، و21% من المسيحيين، و9% من الدروز.(2)
وكانت فلسطين – الانتداب تضم 447 بلدة عربية وعربية – يهودية، بينها 434 قرية، بقي منها 88 قرية عربية سنة 1949، وبقي العرب المدينيون في 7 مدن فقط بعد أن كانوا منتشرين في 13 مدينة. وانخفضت نسبة سكان المدن العرب من 36% قبل الحرب إلى 26% سنة 1951. ويعود هذا الانخفاض الحاد في عدد العرب المدينيين. بالدرجة الأولى، إلى اختفاء السكان العرب في مدن طبريا وبيسان وصفد والقدس الغربية وبئر السبع خلال الحرب، واختفائهم التقريبي في مدن حيفا ويافا واللد والرملة، والانخفاض الحاد في عددهم في مدن أخرى (بقي في مدينة عكا سنة 1951 ثلث عددهم سنة 1946، وفي مدينة حيفا 15%)؛ هذا، بينما ارتفع عدد سكان القرى العربية خلال هذه الفترة نفسها. فكل المدن والقرى العربية التي كانت مسرحاً للمعارك خلت من سكانها إن بنزوحهم أو بطردهم.(3) فقد كانت قوات الهاغاناه تقصف المدن العربية وتنفذ أعمالاً إرهابية ضد سكانها لحملهم على النزوح عنها تمهيداً لاحتلالها. وقد احتلت مئات القرى ومدن حيفا ويافا وطبريا وبيسان وصفد وعكا خلال الأشهر الستة الواقعة بين صدور قرار التقسيم وقيام إسرائيل في 15 أيار/مايو 1948؛ وهكذا طُرد خلال هذه الفترة فقط نحو 400 ألف عربي من ديارهم. مع العلم بأن القوات الإسرائيلية ظلت تخرق قرارات وقف النار بعد إعلان قيام الدولة، وتحتل البلدات العربية وتهجّر سكانها بهدف احتلال فلسطين كلها. ومن هذه البلدات اللد والرملة وبئر السبع، التي كانت ضمن القسم المحدد في قرار التقسيم لإقامة دولة فلسطينية. وبذلك زادت إسرائيل في المساحة المخصصة لها من 56% من مساحة فلسطين إلى ما يقرب من 80%.(4)
وعلى الرغم من أن الوضع ظل غير مستقر لبضعة أعوام بعد الحرب بسبب اصطناعية خط الهدنة واستمرار سياسة الإجلاء القسري الإسرائيلية والنزوح، فقد ظهرت ثلاث مجموعات متميزة في وسط 1,400,000 لاجىء فلسطيني أوائل الخمسينات:(5)
(1) 400,000 نسمة من سكان الضفة الغربية التي حال الدفاع الناجح عنها دون احتلالها من قبل القوات الصهيونية. وقد أصبح هؤلاء (بعد دمجهم في المملكة الأردنية)، مواطنين أردنيين مع نحو 475,000 لاجئ فلسطيني كانوا قد استقروا في المملكة.
(2) نخبة مالية ومثقفة صغيرة من اللاجئين، استُوعبت في الدول العربية التي استقرت فيها بفضل ثرواتها ومهاراتها. وكان اللاجئون الذين يتعلمون ويكتسبون المهارات يغادرون، في معظمهم، المخيمات الأمر الذي زاد في عدد "اللاجئين المستوعبين". وقد أصبح نصف اللاجئين يسكن خارج المخيمات و180,000 منهم مستقلين عن مساعدات وكالة الأونروا.
(3) 875,998 لاجئاً فلسطينياً معدماً ومن دون مأوى كما أفادت وكالة الأونروا في سنة 1951، وقد انتشروا في بيروت ودمشق وعمان وقطاع غزة. وقد قامت الأمم المتحدة، سنة 1949، بتجميعهم في 64 مخيماً في لبنان وسوريا والأردن وإسرائيل، حيث عاشوا تحت وقع الصدمة، في مرارة ويأس، وبلغ مستوى تطورهم كجماعة قومية ذات وعي فلسطيني درجة متدنية، وظل كذلك إلى ما بعد حرب حزيران/يونيو 1967. وقد بلغت نسبة اللاجئين داخل إسرائيل 25% من مجمل السكان العرب فيها (أي ما يزيد على 40,000 نسمة)، منعهم الجيش من العودة إلى قراهم أو أنهم لم يعودوا إليها بسبب الدمار الذي حل فيها.
لكن على عكس ما هو شائع، لم يحاول الفلسطينيون دائماً الهرب عبر الحدود. فردة فعل الأكثرية العربية في أثناء الحرب كانت ردة فعل محلية في الأساس. أي أن سكان القرية كانوا ينزحون عن قريتهم عندما يقترب القتال منها ويلجأون، في كثير من الأحيان، إلى قرية أخرى حيث ينتظرون توقف القتال للعودة إلى بيوتهم. وهذا يعني أنه إلى جانب الذين نزحوا عن البلد، كان هناك لاجئون نزحوا داخل البلد، إما لتجنب أهوال الحرب وإما بسبب الذعر الذي أثارته فيهم أخبار المجازر الجماعية والفظائع الأخرى التي كانت القوات الصهيونية ترتكبها ضد العرب خلال القتال وبعده. وكان هناك من غُرر بهم فنزحوا عن قراهم مصدقين وعود الهاغاناه بإمكان عودتهم إليها بعد انتهاء القتال. كما كان هناك من لم يغادروا قراهم بإرادتهم بل طردوا منها بعد احتلالها، كما طُرد آخرون من القرى التي لجأوا إليها، ونقلوا إلى ما وراء الحدود، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من العرب الذين لازموا قراهم، قبل ترحيلهم على يد الجيش الإسرائيلي إلى حدود المنطقة العربية – كما حدث لسكان مدينتي الرملة واللد والقرى المجاورة لهما. وقد كانت هناك سياسة تقضي بمنع عودة اللاجئين إلى القرى التي شهدت نزوحاً جماعياً، وكانت الأوامر المعطاة للجش الإسرائيلي تقضي بـ"تشجيع" العرب على النزوح من خلال تدمير المدن والقرى.(6)
إن بنية المجتمع القومي التي كانت تتبلور في عهد الانتداب البريطاني قد دمرت تدميراً تاماً؛ إذ سُحق أساسها البشري بسبب النزوح، والطرد الجماعي، ورفض حكومة إسرائيل السماح سوى لعدد ضئيل بالعودة. فقد بقي في إسرائيل خُمس عدد العرب الذين كانوا يعيشون في ذلك الجزء الذي قامت هذه الدولة عليه، واختفى عن الخريطة أكثر من 400 قرية. إضافة إلى أن المدن العربية الرئيسية الثلاث في فلسطين – الانتداب لم تعد، في أغلبية سكانها، مدناً عربية. وقد قضى اختفاء السكان المدينيين العرب، بضربة واحدة، على أساس عرب إسرائيل الصناعي والتجاري. وأصبح اليهود الإسرائيليون، بعد قيام الدولة، المصدر الرئيسي الذي يزود العرب بحاجاتهم من السلع والبضائع، ويوفر الوظائف لهم. كما تلقى القطاع الزراعي ضربة شديدة من جراء القيود التي فرضت على الزراعة العربية عن طريق سياسة مصادرة أراضي القرى، وغيرها من القيود التي فرضها الحكم العسكري وسيطرة نظام الحكم اليهودي على الزراعة العربية من خلال التحكّم في الأسواق والأسعار.(7)
أثّرت هذه التغييرات الديموغرافية تأثيراً عميقاً في مكانة عرب إسرائيل السياسية. فقد تدهورت قوتهم السياسية الكامنة بسبب الانخفاض الحاد في عددهم، وضعفت – إلى حد كبير – قدرتهم على استرداد عافيتهم السياسية بسبب هجرة قياداتهم والانخفاض الحاد في الأساس العددي الذي يتيح نمو قيادة جديدة. أما سكان القرى الذين اعتادوا التعامل مع سلطات الانتداب من خلال وساطة العائلات العربية المدينية، فقد وجدوا أنفسهم فجأة عزلاً، من دون شبكة الصلات والعلاقات التي كانت قائمة.(8)
كان اقتصاد هذه الأقلية العربية – و 60% منها كانوا من الفلاحين – مقطع الأوصال وبنيتها الاجتماعية مفتتة، تفتقر إلى التنظيم السياسي وينهشها الخوف والأمية والصدمة. وقد بُترت عن المراكز الثقافية والسياسية في العالم العربي، وعن مراكز القيادة المحلية الجديدة التي كانت في طور النمو نتيجة ترحيل سكان مدن فلسطين، بؤر هذه الحركة الحديثة؛ "فالبورجوازية الوطنية التي كانت فطنتها في مجال الأعمال والتنظيم مهمة جداً لتمهيد أسس أي اندفاع نحو العصرنة، والبورجوازية الصغيرة التي كانت العمود الفقري وقوة هذا المجتمع – الأطباء والمحامون والمعلمون، وموظفو الدولة، وموظفو المكاتب والكتّاب والمفكرون – ذهبت كلها."(9) لكن "قصة هؤلاء الذين بقوا هي قصة تحوّل مستمر من المجتمع التقليدي إلى المجتمع العصري. فقد استمرت عملية تآكل أشكال التنظيم الاجتماعي التقليدي، التي حكمت حياتهم، ورافقها تحرك في اتجاه وعي وتنظيم سياسيين واجتماعيين قائمين على أساس أيديولوجي لا على أساس قبلي أو ديني – طائفي."(10)
سياسة العزل
إن أغلبية الإسرائيليين لم تطبّع علاقاتها بعرب 1948، كما أن أغلبية هؤلاء العرب لم تندمج في المجتمع الإسرائيلي. ويعيش الطرفان جنباً إلى جنب بصلة الحد الأدنى من مقومات العيش المشترك. وليس العداء وحده، ولا الاختلافات في أنماط الحياة والتربية، ما باعد بينهما فحسب بل أيضاً كان للسلطة دورها في ذلك، إذ تعمدت سياسة الفصل والتمييز. فقد كان عزل العرب عن النظام السياسي والإداري والاجتماعي هدفاً لسياسة باشرت السلطة ممارستها على القطاع العربي، وذلك بفرض الحكم العسكري الذي لجأ إلى تطبيق أنظمة الطوارئ. إذ ما لبث نظام الحكم العسكري أن أصبح "حجر الزاوية" في السياسة الإسرائيلية تجاههم، يحكم كل نواحي النشاط الإسرائيلي في هذا القطاع، "ويحدد أطر الوجود العربي في إسرائيل"، بصلاحيات تتيح له الاستبداد المطلق: مصادرة أراضي العرب؛ إعلان مناطق سكنهم مناطق مغلقة؛ تقييد حرية التنقل منها وإليها بواسطة نظام تصاريح تُعطى أو لا تُعطى بحجة "الاعتبارات الأمنية"؛ فرض الإقامة الجبرية؛ الاعتقال الإداري لفترات غير محددة من دون تعليلات، ومن دون محاكمات؛ المثول أمام المحاكم العسكرية من دون حق الاعتراض؛ فرض حظر التجول؛ عمليات التفتيش والتدقيق في الهويات، وكل ما هو خرق استبدادي للحياة اليومية.(11)
وقد تضمنت وثيقة إسرائيلية سرية وضعت في أيلول/ سبتمبر 1959، الأهداف السياسية للحكم العسكري في أعوامه الأولى، خلاصة ما جاء فيها أن سياسة الحكومة الإسرائيلية سعت لتقسيم السكان العرب إلى طوائف ومناطق، فسمحت لكل زعيم طائفة بتعاطي الشؤون الطائفية من دون الشؤون العربية العامة، وأضفت مكانة البلدية على القرى العربية لخلق أجواء تنافس في انتخابات السلطة البلدية، تعمّق الانقسام داخل القرى نفسها. وقد حالت سياسة التقسيم الطائفي، وزرع الخلافات العائلية في القرى، دون تكتل العرب في بوتقة واحدة. وكان الحكم العسكري هو المنطلق الوحيد لمختلف أعمال أجهزة الدولة في القطاع العربي، فسيطر سيطرة كاملة ومطلقة شعر المواطن العربي معها بأنه مرتبط بالحكم العسكري في كل ما يتعلق بشؤونه اليومية. وتمكن الحكم العسكري من حكم جمهور كامل بواسطة عدد ضئيل من الأشخاص – المخاتير والمشايخ وزعماء القبائل والعائلات – يمثل القطاع العربي لدى الحكم العسكري.
لقد استخدم حزب مباي الحاكم الوسائل التي أتاحت له تعويق تطور العرب السياسي، والمحافظة على البنية السياسية التقليدية الضعيفة، وإبقاء العرب مفتتين ومنقسمين. فشكّل تكتلات عربية لمقتضى الانتخابات، نصّب عليها أشخاصاً ينتمون إلى الزعامة التقليدية، لتكون جسراً ووسيطاً بين السلطات والسكان العرب، الأمر الذي أعفاه من ضرورة التوجه إلى الناخب العربي ومخاطبته ببرنامج انتخابي، وضمن عدم تبلور هذه الكتل في كتلة واحدة مستقلة. ونجحت سياسة التفرقة الطائفية في إقامة حواجز بين العرب – مثل أزمة الثقة بين الطائفة الدرزية وباقي الطوائف العربية – ضمنت بقاءهم متفرقين.(12) فقد استخدم مباي اللوائح العربية لعرض حملة انتخابية على العرب لا تلامس أية قضية، ودعمت القيادة الأبوية لتوليد الانقسام القبلي والتحكم فيه، من أجل منع نمو تنظيم قومي فلسطيني مستقل في أوساط العرب. وإذا كانت تلك السياسة قد نجحت إلى حد ما، إلا أنها لم تستطع منع نمو هذه الحركة الفلسطينية التي ما لبثت أن تلقت دفعة قوية بعد حرب 1967. وقد كان حزب "ماكي" الشيوعي الإسرائيلي آنذاك الطريق الوحيد المفتوح أمام العرب للنشاط السياسي، والذي يستطيعون من خلاله التعبير عن أنفسهم وعن مصالحهم. فقد كان القوة السياسية الوحيدة المناهضة للحكم وللصهيونية، والتي نبذت الارتباطات التقليدية القبلية والطائفية، فكانت مساهتمها كبيرة في التطور الأيديولوجي لعرب إسرائيل.(13)
وقد حرصت السلطة الإسرائيلية على بقاء هذه الأقلية العربية مشتتة في مناطق مختلفة من دون تواصل إقليمي فيما بينها، أو روابط اقتصادية تربط ما بين مجتمعاتها.(14) صحيح أن هذا التشتيت كان نتيجة أحداث سياسية، لكنه كان أيضاً نتيجة سياسة مرسومة. فبالإضافة إلى أحداث حرب 1948 ومضاعفاتها الديموغرافية، وتعديل الحدود في اتفاقية الهدنة مع الأردن لسنة 1949، ثم ضم القدس الشرقية سنة 1967، فقد تعمد الاستيطان اليهودي منذ فترة الانتداب غرس نفسه في المناطق بشكل يقطع التواصل الإقليمي بين القرى والمناطق العربية ليرسخ العزلة بين هذه المجتمعات العربية؛ فكان أن توزع السكان العرب في أربعة تجمعات سكانية رئيسية بعضها معزول عن بعض:(15)
1- الجليل الأوسط (47% من عرب إسرائيل)، ويضم نحو 60 قرية (وما يزيد على 10 قبائل من البدو)، ذات تواصل إقليمي، ولها مركزان مدينيان: الناصرة وشفاعمرو. لكن ليس لهذا التجمع السكاني العربي أية علاقات اقتصادية تقريباً بالتجمعات السكانية العربية الأخرى. فهو مفصول عن المثلث الصغير بمرج ابن عامر جنوباً، ومحاط بالمستعمرات الإسرائيلية في وادي الأردن ووادي الحولة وأصبع الجليل شرقاً، وبمستعمرات وادي زفولون ونهاريا غرباً، وبالحدود اللبنانية شمالاً.
2- قرى المثلث الصغير والقرى المعزولة (20% من عرب إسرائيل)، وتشكل قطاعاً ضيقاً على طول حدود إسرائيل الشرقية، ضمته إسرائيل بموجب اتفاقية الهدنة مع الأردن. وعلى الرغم من وجود درجة من التواصل الإقليمي بين هذه القرى، فإنها لا تشكل مجموعة إقليمية، إذ لا وجود لمركز مديني مشترك بينها، وهي عوضاً من ذلك متصلة بالمدن اليهودية الأقرب: بيتح تكفا، وكفار سابا، ونتانيا، وحيفا، والعفولة. وينطبق هذا الأمر عامة على القرى المعزولة أيضاً.
3- بدو النقب (8%) الذين لا صلات اقتصادية لهم بالتجمعات السكانية العربية الأخرى، ومركزهم المديني هو بئر السبع وسوق البدو فيها.
4- المدن العربية – اليهودية المختلطة (حيفا، وعكا، وتل أبيب – يافا والرملة، واللد)، ويشكل العرب فيها 7% من عدد السكان العرب في إسرائيل. وليس لهذه الأقلية العربية الموزعة في هذه المدن شبكة علاقات متبادلة أو روابط اقتصادية بالقرى العربية في في المنطقة.
أما القدس الشرقية، المشمولة في الإحصاءات الرسمية الإسرائيلية منذ احتلالها في حرب 1967 (ويشكل العرب فيها 18% من عرب 1948)، فليس لها أي تواصل إقليمي مع هذه التجمعات السكانية العربية الرئيسية في إسرائيل، ولا صلات اقتصادية لها بها. بل، وعلى الرغم من ضمّها فإنها عملياً – وفي كل ناحية من النواحي – لا تزال جزءاً لا يتجزأ من النظام الاقتصادي والاجتماعي للضفة الغربية، وتشكل المركز السياسي والديني لها.
وقد تبلورت سياسة فصل العرب وعزلهم، التي بدأت عملياً بسياسة الاستيطان اليهودي في فلسطين خلال عهد الانتداب البريطاني، بعد قيام دولة إسرائيل، وذلك عن طريق الحكم العسكري الذي فُرض على القطاع العربي فيها، ومن خلال القوانين الشرعية التي أناطت كل المسائل الشرعية المتعلقة بالأحوال الشخصية بالمحاكم الدينية الخاصة بكل طائفة وحصرتها فيها، ومن خلال قوانين أخرى أمنية وتربوية. فمن جهة، ساهم استثناء العرب من الخدمة العسكرية الإلزامية، لأسباب بديهية (عربية وإسرائيلية)، مساهمة أساسية في سياسة الفصل والعزل؛ فالجيش الإسرائيلي في المجتمع هو مركز التقاء وتفاعل يتحتم على الشباب الإسرائيلي عامة التخرج منه. وقد استخدم (ويستخدم) استثناء العرب حجة أساسية في التمييز ضدهم، وفي تبرير حرمانهم من المساواة في المواطنية وإغلاق أبواب فرص عمل وتقدم كثيرة في وجههم.(16)
ومن جهة أخرى، ساهمت الأنظمة المدرسية المنفصلة والبرامج التعليمية المختلفة في التطور المنفصل للقطاعين اليهودي والعربي. فكان منع تحول عرب إسرائيل إلى مجموعة واعية قومياً وثقافياً الهدف الأساسي الذي أملى السياسة التربوية الإسرائيلية الخاصة بالقطاع العربي – حيث يتم التعاقد مع معلمين على أساس مدى خنوعهم السياسي وتُرفض الكفاءات المشكوك فيها سياسياً. وقد بلغ تسييس دائرة التربية العربية الإسرائيلية مستوى من الجلافة إلى حد أنه يخترق وينفذ إلى كل المستويات، من الصفوف الابتدائية حتى معهد المعلمين، ويستخدم وسيلة للضغط والتحكّم و"المكافأة". فالمعايير السياسية لا التعليمية هي، في معظم الحالات، المعايير ذات الأهمية القصوى في التعاقد أو في الطرد، في الرضى عن مدرسة عربية أو في سحب الاعتراف بها. وتخضع قرارات هذه الدائرة، بالدرجة الأولى. لهذا العامل السياسي أو ذاك.(17)
فالسؤال الأساسي الذي طرحه المسؤولون عن تخطيط البرامج التعليمية العربية بعد قيام إسرائيل كان: كيف نشجع الولاء لإسرائيل بين العرب فيها من دون أن نطلب منهم التنكر لتطلعاتهم العربية من جهة، ومن دون أن نسمح بتطور قومية عربية معادية من جهة أخرى؟ أو: إلى أي حد ستكون هذه البرامج مساعدة للشاب العربي في إسرائيل كي يرى طريقه بوضوح ويقولب هويته الخاصة به بشكل يحافظ على توازن معقول بين قوميته العربية وولائه للدولة التي يعيش فيها؟ ومن الأمور التي نجمت عن ذلك التخطيط، عملية منهجية شاملة هدفها تعرية التلميذ العربي من أي شكل من أشكال التماثل والالتزام القومي، وتنمية التعاطف لديه مع تطلعات اليهود القومية وتحقيقها في دولة إسرائيل.(18)
الانفجار السكاني
استعاد يهوشواع بالمون، أول مستشار لرئيس الحكومة الإسرائيلية في شؤون العرب، ذاكرته في السبعينات فقال:
.... لم يدهشني فرار العرب؛ فقد كان ذلك ردة فعل طبيعية. كان النازحون أفضل القوم: القادة والمثقفون والنخبة الاقتصادية. وبقي المتخلفون فقط. لقد اجتهدت لأكون لهم ذئباً في ثوب حمل: يدا تبطش، لكنها نزيهة أمام الخارج. كنت ضد دمج العرب في حياة الدولة.... ومن الأفضل أن يكون هناك تطور منفصل. لقد حال الفصل دون انصهار العرب في الديمقراطية الإسرائيلية. وفي أية حال، لم تكن لديهم ديمقراطية لا في السابق ولا في أي وقت مضى. وهذا لم يكن نقصاً بالنسبة إليهم. فقد أتاح الفصل قيام نظام حكم ديمقراطي في القطاع اليهودي فقط.(19)
صحيح أن العرب وجدوا أنفسهم، في خريف سنة 1948، أقلية ضئيلة مشتتة داخل الدولة اليهودية، من دون قيادة بعد نزوح الناطقين باسمها من مثقفين ووجهاء، ومعزولة عن الجسم الفلسطيني الأساسي والعالم العربي بحاجز الصراع العربي – الإسرائيلي والمقاطعة العربية لإسرائيل، ومنعزلة بفعل سياسة الفصل والعزل والتمميز والحكم العسكري الذي فرض عليها بصورة موقتة لكنه استمر ثمانية عشر عاماً. غير أن هذه الأقلية المعزولة "المتخلفة" نمت عددياً مع الزمن وحققت مستويات تعليمية واقتصادية لافتة في ظل هذه السياسة الكابحة، وبات لها مطالب وتطلعات مختلفة.
فخلال السنوات الثلاثين، 1950 – 1980، شهد القطاع العربي انفجاراً سكانياً عائداً بالدرجة الأولى إلى انخفاض كبير في نسبة الوفيات فيه، وارتفاع وتيرة الإنجاب. وهذا ينطبق بصورة خاصة على السكان المسلمين الذين باتوا يشكلون ما يزيد على 85% من عرب إسرائيل. فمعدل الوفيات (بين كل ألف نسمة) عند المسلمين انخفض من 15,6 سنة 1946 إلى 4,2 سنة 1980؛ وهو معدل لا يجاريه تقريباً أي معدل في أكثر الدول تطوراً – مع العلم بأن معدل الوفيات (بين كل ألف نسمة) بين اليهود الإسرائيليين بلغ 7,2 سنة 1980. وازداد معدل الإنجاب عند المسلمين، سنة 1980، إلى ضعف معدل الإنجاب عند اليهود. وبذلك اتسعت الهوة بين معدل الأعمار عند كل من العرب واليهود، فكان متوسط العمر في وسط عرب إسرائيل 16 عاماً سنة 1980، في مقابل 27 عاماً في وسط اليهود.(20) وهذا يعني أن الأقلية العربية في إسرائيل هي أكثر شباباً من الأكثرية اليهودية. وتكتسب هذه الميزة مزيداً من الأهمية في ضوء واقع أن التكاثر في وسط عرب إسرائيل أعلى من وتيرته في وسط اليهود الإسرائيليين، بل إنه بين الأعلى في العالم.
في سنة 1961 كان عدد السكان العرب في إسرائيل نحواً من 247,100 نسمة، منهم 170,800 نسمة من المسلمين، و 50,000 نسمة من المسيحيين، و 25,800 نسمة من الدروز وغيرهم. وفي نهاية سنة 1988، بلغ مجمل عدد سكان إسرائيل 4,476,800 نسمة: 3,659,000 من اليهود، و 817,800 نسمة من العرب، بينهم 634,600 نسمة من المسلمين، و105,000 نسمة من المسيحيين، و 78,100 نسمة من الدروز وغيرهم.(21) ومن المتوقع أن يصل عدد عرب إسرائيل إلى مليون نسمة سنة 1993، فتصبح نسبتهم إلى الإسرائيليين 1 إلى 5.(22) ويعني هذا أن أقلية عرقية ذات تراث مختلف، إثنياً ودينياً وثقافياً وتاريخياً، يستحيل عليها التماثل مع الأكثرية اليهودية الحاكمة ومشاركتها قيمها وأهدافها، وخصوصاً في ضوء أوضاع تحولها إلى أقلية عندما خسرت موطنها لمصلحة هذه الأكثرية الطارئة عليه واستمرار الصراع العربي – الإسرائيلي.
أعوام الصدمة
لقد ثابرت حكومات إسرائيل، وبغض النظر عن الحزب الموجود في السلطة، على اعتبار هذه الأقلية العربية جماعة يجب إخضاعها وضبطها، ولا يُطلب منها سوى التزام القوانين والمحافظة على النظام العام. فقد كان واضحاً لها "أن عرب إسرائيل لن يستطيعوا أن يتماثلوا مع رموز الدولة وأهدافها الجماعية، أو أن يروا فيها إطاراً لتطلعاتهم الجماعية."(23)
فعندما قررت هذه الأقلية البقاء حيث هي في موطنها، كان عليها أن تعيش وضعاً فريداً: اقلية عربية في دولة أكثرية يهودية حاكمة ذات سمة صهيونية، استولت على فلسطين وتعيش حالة حرب مع شعبها الأم. فكان عليها بالتالي، وبفعل إرادة البقاء والاستمرار، أن تتصالح مع واقع مكانتها كأقلية إثنية غير مندمجة، عربية فلسطينية ذات جنسية إسرائيلية في آن، وأن تجد التوازن الدقيق بين هذه العناصر المتناقضة، لأنها "كانت وستبقى جزءاً من العالم العربي الذي تعتبره وطنها الروحي – مجتمعاً ذا قيم وعادات وتقاليد وتاريخ وثقافة."(24)
أما العنصر الإسرائيلي في هوية هذه الأقلية العربية فيكمن في واقع نموها في إطار المجتمع الإسرائيلي، مما أكسبها معرفة وثيقة يومية بهذا المجتمع، وما لبثت مع الوقت "أن نمت فيها تطلعات مماثلة أو موازية لتطلعات المواطنين اليهود"، وتطور لديها "وعي قومي وسياسي تأثر، طبعاً، تأثراً عميقاً باليقظة القومية الفلسطينية والتماس اليومي مع فلسطينيي المناطق المحتلة. [وكان] إلى حد ما ردة فعل على نمو الشوفينية اليهودية داخل دولة إسرائيل. (25)
أضف إلى ذلك أن هذه الأقلية، التي مرّت في مسار الفلسطنة، مرّت أيضاً في مسار اكتساب الطابع الإسرائيلي؛ فقد باتت من خلال ثنائية اللغة والثقافة "ترى مصيرها مرتبطاً إلى حد حاسم بما يجري في إسرائيل لا في الدول المجاورة" العربية، وأخذت تسلك خارج محيط بيوتها مسلك المحيط اليهودي.(26) وقد أصبح هذا المحيط يشكل مرجعاً لها في المجالات الحياتية كافة؛ بمعنى أن الأكثرية تمتلك ما تريد هي امتلاكه أيضاً، وما تعتبره حقاً لها في امتلاكه. فقد باتت هذه الأقلية تقوّم وضعها قياساً بدرجة تطور وإنجازات السكان اليهود ("أنا لا يهمني أن نعيش في وضع أفضل من العربي في العربية السعودية والأردن... بل أتطلع إلى ما أنجزه أفراد الكيبوتس القريب من قريتي."). وقد أصبح المثقف العربي "يعيش في عالم مفاهيمي مشابه كثيراً للعالم المفاهيمي الخاص باليهود – أي العصرنة. وكان معنى اندماج عرب إسرائيل في عملية العصرنة أنهم باتوا يشبهون أكثر فأكثر العالم اليهودي المحيط بهم."(27)
فبعد عام فقط من إنشاء إسرائيل طرح المستشرق الإسرائيلي ميخائيل أساف السؤال عما إذا كانت إسرائيل "ستستطيع أن تهضم ظاهرة وجود عربي"، وما إذا كان سيتم دمج العرب في المجتمع الإسرائيلي، محدداً الدمج بأنه "تحويل العرب إلى مواطنين بالحد الأدنى الضروري من الولاء لدولة إسرائيل." لكن، وبغض النظر عن هذا الاشتراط، ما لبثت الأقلية العربية التي أدركت المضاعفات الرهيبة لنتائج حرب 1948، أن أبدت ميلاً إلى التسليم بالواقع، وتبلورت لديها بصورة عامة نظرة براغماتية إلى الأمور، ورغبة بالتالي في أن تصبح جزءاً من هذا المجتمع، على عكس المجموعات القومية في وسطها – وقد غادر معظمها البلد – والمجموعات الشيوعية، وخصوصاً في حيفا والناصرة، التي ظلت فترة طويلة تنبذ فكرة الاندماج وتطالب بضم الناصرة ومحيطها إلى دولة عربية، وعلى عكس العمال والموظفين من الشمال خاصة، الذين كانوا يعملون في مصافي البترول والشركات الأجنبية في ظل حكومة الانتداب، ووجدوا صعوبة في إيجاد وظائف وأعمال بديلة. وكان أكثرهم براغماتيةً العمال المهرة وغير المهرة الذين ارتفعت أجورهم، والقرويون الذين كسبوا سوقاً يهودية واسعة لمحاصيلهم الزراعية.(28) فقد كان لسان حال البراغماتيين يقول: "إذا كنا قد علقنا هنا، وإذا كان مصيرنا أن نكون جزءاً من هذه الدولة، فإننا في هذه الحال نريد معاملة متساوية.(29) ولقد فُسر هذا المنحى البراغماتي العام في وسط الأقلية العربية بأنه تعبير عن رغبة أفراد هذه الأقلية في الاندماج في المجتمع الإسرائيلي، بينما فُسّر الحافز وراء تصميم المؤسسة الحاكمة الإسرائيلية المعلن على "سياسة موجهة نحو الدمج الكامل للأقليات"، بما فيه من تملق للمبادئ الديمقراطية، بأنه حافز سياسي بالدرجة الأولى، ويتلخص في رغبة الأحزاب اليهودية في الحصول على تأييد السكان العرب لقوائم مرشحيها إلى الكنيست خلال الانتخابات.(30)
لكن، كما أن الفصل الجغرافي وانعدام علاقات الجوار والفصل التعليمي الكامل تقريباً (باستثناء الجامعات) قد زادت في التوترات بين العرب واليهود ولم تنقصها، فإن اندماج العرب في عملية العصرنة في المجتمع دفع بدوره في هذا الاتجاه. فعملية العصرنة أدت إلى تراجع حاجة العربي إلى الرموز التقليدية للهوية، وإلى ارتقاء القيم الوطنية لديه؛ الأمر الذي كان من نتيجته أن الجيل العربي الشاب الذي راح يكتسب الطابع الإسرائيلي "ازدادت عنده درجة الرفض الذي يكنّه لإسرائيل كدولة يهودية."(31)
لقد تغير وجه المجتمع العربي في إسرائيل خلال الأعوام العشرين بين حرب 1948 وحرب حزيران/ يونيو 1967. إذ إنه بالإضافة إلى النمو العددي الكبير، حققت الأقلية العربية مستويات تعليمية واقتصادية أعلى، تغيرت معها العوامل الرئيسية التي أتاحت للنظام الإسرائيلي حكمها كأقلية مستسلمة لواقعها، مغلوبة على أمرها. وكان أن أصبح لدى عرب إسرائيل، عشية نشوب حرب الأيام الستة، "إحساس بالقوة ونظرة إلى الذات كقطاع واسع ومؤثر."(32) ورأى العرب، كأقلية قومية مضطهدة تغلق في وجهها آفاق التقدم، أن العلم هو طريقهم الحقيقي والوحيد للتحرر من وضع الدونية. فتحول تعليم الأبناء إلى هدف مهم للعائلة العربية التي راحت تبدي استعداداً للتضحية بالكثير من مستوى معيشتها في سبيل تأمين تعليم عال لأبنائها، وكان التعليم من أهم عوامل التغيير الذي جرى في هذا القطاع. وهناك، اليوم، طالب عربي واحد من هذا المستوى أو ذاك، من أصل كل ثلاثة من العرب. ويشكل الطلبة العرب 20% من مجموع طلبة إسرائيل، في الوقت الذي يشكل عرب إسرائيل 16% فقط من مجمل عدد سكان إسرائيل. فقد بلغ عدد الطلبة العرب في إسرائيل 220 ألف طالب سنة 1987 (في مقابل 11 ألف طالب فقط سنة 1949)، بالإضافة إلى وجود 14 ألف أكاديمي عربي (لا يشمل هذا الرقم الذين أنهوا الدراسات ما فوق المتوسطة، مثل معاهد المعلمين ومدارس التمريض، بل يشمل خريجي الجامعات ومعهد التخنيون فقط). ويوجد بين هؤلاء 3500 خريج عربي يحملون شهادات الماجستير والدكتوراه، مع العلم بأن 1200 خريج جامعي جديد ينضمون كل عام إلى فئة الأكاديميين العرب، وأن 25% من الذين ينهون دراساتهم الأكاديمية هم من النساء.(33)
وبالإضافة إلى دينامية مسار التعليم في القطاع العربي، فإن ما يجري في معهد إسرائيل للتكنولوجيا (التخنيون) منذ سنة 1968 يعطي صورة لميول العرب فيما يتعلق باختيار الاختصاصات: كان عدد الطلاب العرب في هذا المعهد 42 طالباً، ثم ارتفع عددهم إلى 222 سنة 1980، وإلى 246 سنة 1984(34) فإلى 338 سنة 1987.(35) لكن الوجه الآخر لهذه الظاهرة هو أن هؤلاء محرومون من فرص تحقيق الذات. فآلاف الأكاديميين العرب هؤلاء، الذين ينضم إليهم ما يزيد على ألف أكاديمي جديد كل عام، يواجهون سوق عمل تستوعب عدداً محدوداً جداً منهم. فأبواب المعامل ذات الصلة بالإنتاج الأمني مقفلة بإحكام في وجههم، والمؤسسات والمصانع الأخرى غالباً ما تشترط أن يكون عمالها وموظفوها من المسرحين من الجيش لإبقاء العرب خارج أبوابها. وكانت النتيجة أن 40% على الأقل من خريجي الكليات المختلفة تم استيعابهم مدرسين في المدارس العربية، بينهم عدد غير قليل من المهندسين والاقتصاديين وخبراء الحاسبات الآلية الذين لا يعقل أن يكونوا راضين عن مصيرهم. وهذه المشكلة آخذة في التفاقم منذ أواسط الثمانينات. فقد امتلأت المدارس العربية، وسوق العمل آخذة في الإقفال أمام هؤلاء الذين يزداد عددهم.(36)
من ناحية أخرى، تغير وجه المجتمع الريفي العربي الذي يضم أكثرية عرب إسرائيل. صحيح أن القرية العربية شهدت أعمال التطوير الأساسية، مثل مد شبكات المياه والكهرباء وتعبيد الطرق وبناء المدارس، لكن نسبة العاملين في القطاع الزراعي تدنت كثيراً، وازدادت نسبة العاملين في القطاعات الاقتصادية الأخرى، في القرى وفي المدن الكبرى، وبلغت نسبة العاملين خارج مناطق سكنهم 52,7% سنة 1984.
فقد اندمج عرب إسرائيل في اقتصاد الدولة، لكن الذي أعطى هذا التحول الدفعة الأقوى لم يكن التطور الطبيعي لاقتصاد السوق الأكثر تعقيداً، بل سياسة مصادرة الأراضي العربية التي انتهجتها الحكومة الإسرائيلية، والتي راحت تدفع أعداداً متزايدة من القرويين العرب إلى البحث عن مصدر رزق خارج قراهم، وتقلّص بصورة متزايدة نسبة العرب العاملين في الزراعة. وقد كانت الدولة تستثمر رؤوس أموال هائلة في التنمية الزراعية في القطاع اليهودي (أقل من 0,6% من الأراضي العربية كانت تُستغل أو تُروى سنة 1964، في مقابل 30% من الأراضي اليهودية). وبنتيجة ذلك، ونتيجة ممارسات تمييزية أخرى، تأثرت الزراعة العربية إلى حد أنها لم تعد قادرة على منافسة اليهود. وهكذا، أُخرج العرب قسراً من القطاع الزراعي إلى قطاعات عمل أخرى. صحيح أن هذا سحق الحياة القروية، لكنه أدى في الوقت نفسه إلى المحافظة على دور القرية "الحامية"؛ فالإحساس بانعدام الأمان في العيش في دولة معادية، والتمييز العنصري الذي كان يتعرّض العربي له خارج قريته، وسلاح حظر التجول الذي درج الحكم العسكري على استخدامه في القطاع العربي – هذا كله منح القرية دوراً متجدداً في حياة الفلسطيني في إسرائيل.(37)
ونرى هذا التحول في الإحصاءات التالية عن عمل العرب في القطاعات المختلفة، والتي تغطي فترة 1950 – 1984:(38) الزراعة: 50% سنة 1950، ثم 12,6% سنة 1978 (في مقابل 5,4% من اليهود)، ثم 9% سنة 1984؛ الصناعة: 10,0 سنة 1950، ثم 18,8% سنة 1978 (في مقابل 24,2% من اليهود)، ثم 21,5% سنة 1984؛ البناء: 6,0% سنة 1950، ثم 19,9% سنة 1978 (في مقابل 5,2% من اليهود)، ثم 21% سنة 1984؛ التجارة: 11,7% سنة 1978 (في مقابل 11,9% من اليهود)، ثم 13,4% سنة 1984؛ الخدمات العامة: 18,0% سنة 1978 (في مقابل 30,3 من اليهود)، ثم 17,5% سنة 1984؛ وسائل النقل والمواصلات: 6,0% سنة 1950، و 6,0% أيضاً سنة 1978 (في مقابل 7,0% من اليهود)، ثم 6,3% سنة 1984 – أضف إلى ذلك أن نسبة العرب العاملين خارج مناطق سكنهم، في المدن الكبرى، بلغت 52,7% سنة 1986.
لكن الإنجازات الاجتماعية والاقتصادية التي حققها عرب إسرائيل، على الرغم من قيود وكوابح سياسة التمييز والحرمان، لم تقلص مصادر المرارة بل عززتها؛ وذلك لأن راديكاليتهم المتزايدة "نشأت بسبب هذه الإنجازات لا على الرغم منها."(39) إن هذا القطاع العربي "يسعى للتعبير عن نفسه، ويبحث عن رموز هوية وآفاق نشاط، ويطمح إلى التعبير عن هوية جماعية لا إلى مجرد التقدم الفردي"؛ فقد تبلور فيه جيل جديد من الشباب المثقف الذي راح يتساءل ويشكك في الفرضيات التي حددت شكل العلاقات بينه وبين الدولة الإسرائيلية، واصطدم – باعتباره نفسه جيل المستقبل – بزعاماته التقليدية، وبالفجوة الاجتماعية بينه وبين القطاع اليهودي، وبالأبواب المغلقة لقنوات اندماجه الاقتصادي، وبمستوى التصنيع المتدني في قطاعه وموارده الشحيحة، فأعلن شكه في مصداقية شعار الدمج الذي ترفعه المؤسسة الإسرائيلية، وأصبح الوعي القومي بالنسبة إليه أهم من المواطنية الإسرائيلية؛ فهذا الجيل تحديداً، "المثقف والحضري، والأقرب إلى اليهود في طريقة تفكيره، هو الأكثر عرضة للتأثر بالأطر القومية الفلسطينية."(40)
صدمة ذات وجهين
لقد أثرت خمسة أحداث رئيسية تأثيراً سياسياً عميق الأثر في تفكير عرب إسرائيل في مسألة هويتهم: (1) حرب حزيران/ يونيو 1967 التي كان لها، من جهة، تأثير مدمر في النظرة إلى العربي في إسرائيل أيضاً، لكنها أدت من جهة أخرى إلى إعادة صلة عرب إسرائيل بشعبهم في المناطق التي احتلت، بعد انقطاع استمر 18 عاماً. (2) حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، التي أعادت إلى العرب بعض الاعتبار. (3) توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل سنة 1979، التي فتحت القطاع العربي في إسرائيل على تأثيرات ثقافية ودينية من مصر. (4) الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، والحرب ضد المقاومة الفلسطينية فيه التي أثرت تأثيراً عميقاً في مواقف عرب إسرائيل من إسرائيل والعالم العربي والقضية الفلسطينية. (5) الانتفاضة الفلسطينية المستمرة في الضفة الغربية وقطاع غزة التي نشبت أواخر سنة 1987، والتي لا يزال من المبكر قياس عمق تأثيرها فيهم وما ستتركه فيهم من بصمات.
فعشية حرب حزيران/يونيو 1967 كانت الآمال والتطلعات القومية لدى عرب إسرائيل قد خمدت، وكان الشعور بالخيبة والإحباط سائداً، وخصوصاً بعد فشل تجربة الوحدة بين مصر وسوريا سنة 1961:
كانت تلك الفترة فترة ثورية حقاً. قبل بضعة أشهر كانت الوحدة قد تمت بين سوريا ومصر (الجمهورية العربية المتحدة) بقيادة عبد الناصر. ولقد اعتقد كثيرون من العرب الإسرائيليين أن هذه الوحدة مثل قطار سريع سينضم إليه المزيد من العربات، بحيث لا يعود في إمكان أي شيء أن يقف في وجهه. لقد كنا سذّجاً لاعتقادنا أن مشكلتنا القومية، المشكلة الفلسطينية، ستجد بسرعة حلاً لها من خلال هذه الخطوات في اتجاه الوحدة...(41)
لكن عشية حرب حزيران/ يونيو أيضاً، كان عرب إسرائيل قد اكتسبوا إحساساً بالقوة والأمن الذاتي بفضل التحول الديموغرافي (تضاعف عددهم من 156,000 نسمة إلى 310,000 نسمة)، وتحقيق مستويات اجتماعية وتعليمية واقتصادية أعلى، وإلغاء الحكم العسكري (سنة 1966)، فتحولوا إلى أقلية كبيرة مفعمة بشعور القوة، وأكثر جرأة على التعبير عن مواقفها، وأكثر انفتاحاً على الجدل، وأكثر وعياً لحقوقها، وأشد عزيمة للنضال من أجلها.(42)
وعلى الرغم من صدمة العرب في إسرائيل بالهزيمة العربية في حرب الأيام الستة، فإن احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة كانت له تأثيرات مهمة فيهم؛ فاستعادة صلتهم بشعبهم الفلسطيني هناك وجهت ضربة قاصمة إلى العنصر الإسرائيلي المكتسب في هويتهم،(43) وعززت وعيهم وهويتهم العربيين وإحساسهم بالارتباط الفلسطيني وبالانتماء العربي:
كنا نعيش وضعاً من الإحساس بالعزلة والفراغ، لم نكن مندمجين في المجتمع الإسرائيلي، وكنا معزولين عن أشقائنا المشتتين في أنحاء العالم العربي. شعرنا بالاستلاب من العالم العربي ومن الشتات الفلسطيني الذي لم يعترف بوجودنا أو يظهر أي اهتمام بها. لكن الزمن نال ضريبته.
لقد صمدنا خلال تلك الفترة الصعبة والمحبطة. لكننا مستلبين في المجتمع الإسرائيلي، كانت هناك أيضاً درجة من التعاون والاندماج. بلغني أن عالم اجتماع إسرائيلياً كتب مرة يقول إن لكل عربي في إسرائيل روحين: واحدة قادرة على التكيف وأخرى ثائرة. ماذا أستطيع أن أقول لك سوى أن هذا صحيح. وبعد حرب 1967 اجتاحنا إحساس بالحرية. فجأة، جرى لقاء جديد مع شعبنا؛ مع الفلسطينيين في المناطق المحتلة. لقد حسدناهم. فقد نمت في وسطهم نخبة مثقفة ومسيّسة ذات صفات قيادية مثيرة للإعجاب. لكن كنا نحن أيضاً فخورين بأنفسنا – بالإبداع الثقافي الذي نما بين العرب الذين يعيشون في إسرائيل، بمثقفينا وشعرائنا وفنانينا، وفرادة التعبير عن هويتنا القومية الفلسطينية، وهي فرادة وليدة وجودنا الفريد تحديداً، كعرب في إسرائيل... لقد شعرنا فجأة بأن لا أساس لأي إحساس بالدونية تجاه القطاعات الأخرة من الشعب الفلسطيني. إنه إحساس معقد لكنه رائع أيضاً.(44)
في الواقع كان عرب إسرائيل مستعدين، إلى حد ما، لعودة الصلة هذه؛ فالانقطاع لم يكن تاماً بفضل أجهزة الإعلام المتطورة. ففي سنة 1967، وقبل أن تنشئ إسرائيل شبكة التلفزة الخاصة بها، كان عرب إسرائيل يملكون عدداً من أجهزة التلفاز أكبر مما كان يملكه اليهود الإسرائيليون آنذاك، لأنهم كانوا يستطيعون التقاط البث من لبنان والأردن.(45) لكن عودة الصلة أثارت من جديد مسألة الانتماء، وخصوصاً أن النشاط الوطني الفلسطيني في المناطق المحتلة منذ سنة 1967 كان يرافقه انتقاد لدرجة ولاء عرب 1948 للشعب الفلسطيني. فقوة إسرائيل العسكرية التي ألحقت بالعرب هزيمة نكراء في حرب 1967، وأظهرت عجزهم عن إحداث أي تغيير لمصلحتهم في مواجهتها، عززت وجهة النظر البراغماتية في وسط عرب 1948، في مواجهة القوميين،(46) وخصوصاً أن الخيبة من إخفاقات الدول العربية وجهت ضربة في الصميم إلى ذلك الأمل – الذي كان يراودهم – بتطورات عربية تنتشلهم من وضعهم؛ وهو الأمل الذي ساعدهم في الماضي على الاستقرار والانتظار.(47)
لكن مضاعفات التماس المتجدد مع فلسطينيي الضفة والقطاع ما لبثت أن بانت في وسط عرب 1948. صحيح أن هذا التماس أبرز مكانتهم الدونية في المجتمع الإسرائيلي أكثر، لكنه جعلهم عرضة لتأثيرات جمهور عربي فلسطيني وقومي متقدم، فشاهدوا مؤسسات عاملة مثل المجلس الإسلامي الأعلى في القدس ولجنة التوجيه الوطني، وكانوا شهوداً على نشاطات نضالية مدنية مثل التظاهرات والإضرابات. فكان أن راحت الهوة تتسع بين البراغماتيين والقوميين، الذين ازدادت قوتهم، لاختلاف وجهات نظرهم في شأن المسائل المتعلقة بمكانتهم كأقلية عربية في الدولة اليهودية: هل يقبلون بهذه المكانة ويسعون لتحسين أوضاعهم بالنضال السياسي، أم يتركون المجال السياسي ويهتمون بشؤون الفرد والعائلة؟ هل يعززون روابطهم بالعالم العربي وفلسطينيتهم، التي انتعشت مع عودة صلتهم بالضفة وإحساسهم بالخذلان من الدول العربية (على الرغم من حقيقة أن إحساسهم بالانتماء العربي نما في الوقت نفسه مع نمو إحساسهم المتجدد بالانتماء الفلسطيني. فبعد وفاة عبد الناصر سنة 1970، سار الآلاف منهم في جنائز رمزية في قرى المثلث والجليل وهم يهتفون: ناصر ناصر، ارقد بسلام سنواصل النضال.(48)
النهوض السياسي
أدت حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، التي كانت أول نكسة تتعرض إسرائيل "التي لا تقهر" لها، إلى انقلاب في الموقف الذي ساد القطاع العربي في أعقاب الهزيمة العربية سنة 1967. فاستعادة الاعتبار العربي أعطت هوية عرب 1948 الفلسطينية دفعة قوية إزاء تزعزع صورة إسرائيل "الأقوى"، فعمّ أوساطهم الإحساس بالرضى وبالأمن الذاتي، وتوثّق شعورهم بفلسطينيتهم نتيجة صعود م. ت. ف. السياسي في أعقاب تلك الحرب.(49)
شهدنا في الأعوام التي تلت حرب الأيام الستة تعزز الوعي الفلسطيني في وسط عرب إسرائيل. لكن هذا الوعي بلغ مرحلة النضج خلال الفترة التي أعقبت حرب يوم الغفران، عندما حددت م. ت. ف. أهدافها السياسية وحازت مزيداً من الحضور الدولي في العالم أجمع....(50)
إن النهوض العربي بعد حرب 1973، وصعود م. ت. ف. في الساحتين العربية والدولية، أثراً تأثيراً عميقاً في عرب 1948، لا بفعل روابطهم بباقي الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة وفي الشتات فحسب، بل أيضاً بفعل ارتباطهم التاريخي العربي العميق الذي يحول دون حصر عالمهم السياسي ضمن حدود إسرائيل ويجعلهم معرضين دائماً للتأثر بالتطورات في العالم العربي. وهكذا نشأ مسار ثنائي الاتجاه: ازدادت صلة عرب 1948 بـ م. ت. ف. كإطار تمثيلي للفلسطينيين، واتجهت م. ت. ف. نحو اهتمام أكبر بهم لربطهم بالنضال الوطني الفلسطيني العام.(51) وقد أدى هذا المسار إلى تطورات مهمة في القطاع العربي: توثقت من جهة روابط التضامن بينه وبين فلسطينيي المناطق المحتلة، وطرأ تغير جوهري على المواقف السياسية فيه. فمن جهة، ضعف المعسكر المعتدل بصعود المجموعات الراديكالية مثل "أبناء القرية" و"الحركة الوطنية التقدمية" وحركة الشبيبة الإسلامية المتأثرة باليقظة الإسلامية في العالمين الإسلامي والعربي. وسعى هذا المعسكر لتصليب مواقفه كي يلحق بالتيار الذي يشدد على الهوية الوطنية الفلسطينية ويرفع شعار حق عرب إسرائيل في تقرير مصيرهم ويؤيد م. ت. ف. بكل فصائلها – بما في ذلك جبهة الرفض – ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني.(52) أضف إلى ذلك أن الحزب الشيوعي "راكح" – وهو المعسكر السياسي الأساسي في القطاع العربي الذي يعتبر نفسه جزءاً من الدولة، ويؤيد التيار المركزي في م. ت. ف. (فتح)، ويطالب بإقامة دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل – وجد نفسه أيضاً في حالة دفاع عن النفس أمام هذه التيارات الراديكالية الصاعدة التي تعتبره كثير الاعتدال وتطالبه بتصليب مواقفه.(53)
ومن جهة أخرى، انتقل عرب إسرائيل إلى مرحلة النضال السياسي النشيط من أجل حقوقهم المدنية – تحقيق المساواة الكاملة، ووضع حد لسياسة مصادرة الأراضي. لكن حدث أن نشأ بالتدريج تداخل بين النضال من أجل الحقوق المدنية والنضال من أجل الحقوق الوطنية. وتحولت السلطات المحلية في القطاع العربي إلى بؤرة سياسية كمركز لملاحقة المصالح المحلية العربية، وكنقطة انطلاق للجماعات السياسية والسياسيين لكسب مواقع قوة ونفوذ على صعيد القطر. وقد انعكس ذلك في ارتفاع نسبة المشاركة في انتخابات المجالس المحلية العربية، التي وصلت إلى 80% و 90% من ذوي الحق في الاقتراع، في مطلع الثمانينات، وفي ازدياد تدرجي لنسبة الشباب المتعلم في هذه المجالس وإبعاد رموز الجيل القديم عن مواقع النفوذ. وعلى الرغم من أن قسماً بارزاً من القوائم الانتخابية لا يزال يحمل الطابع العائلي والعشائري، فإن حصة هذه القوائم المستقلة أو الحزبية قد ازدادت أيضاً.(54)
ففي سنة 1974 تم تأليف اللجنة القطرية لرؤساء المجالس المحلية العربية بهدف معلن هو العمل، على الصعيد المحلي، لتحقيق المساواة بين المخصصات التي تمنحها وزارة الداخلية الإسرائيلية لهذه المجالس وبين تلك التي تمنحها للمجالس المحلية اليهودية. وأعطت أحداث آذار/مارس 1976 – مصادرة الأراضي في الجليل وإضراب "يوم الأرض" – هذه اللجنة قوة كبيرة عززة مكانتها التمثيلية إلى حد أنه يطلق عليها أحياناً اسم "برلمان عرب إسرائيل". ثم أُلفت لجان عمل عربية أخرى على صعيد القطر، مثل اللجنة القطرية للطلاب العرب واللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي، بمعزل عن الأطر السياسية القائمة، علماً بأن حزب "راكح" كان عاملاً محركاً في هذا النشاط التنظيمي.(55)
وقد تشعب نشاط اللجنة القطرية للمجالس المحلية ليشمل المسائل الوطنية ذات الصلة بعرب إسرائيل، والمسائل الفلسطينية عامة، وليكرس أمرين اثنين: اهتمام هذه اللجنة بما يجري في الضفة الغربية وصلتها به من جهة، ووصايتها على مجمل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية لعرب إسرائيل كما تتجلى على صعيد القرية من جهة أخرى.(56)
أما اللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي العربية التي أُلفت سنة 1975، للاحتجاج على قرار الحكومة بمصادرة الآلاف من الدونمات في الجليل بهدف تهويده، فقد تداخل نشاطها الاحتجاجي مع نضال وطني صريح بلغ ذروته في تنظيم إضراب "يوم الأرض" في 30 آذار/ مارس 1976. إذ تشعّب نشاط هذه اللجنة منذ ذلك الوقت، ليشمل كل موضوع له صلة بالأرض. وهكذا أخذت اللجنة على عاتقها رعاية وتنظيم النضال ضد سياسة نسف البيوت والمباني غير القانونية في القطاع العربي، ورعاية نضال البدو في النقب ضد قرارات الإجلاء، ونشاطات الاحتجاج على إقامة نقاط مراقبة في الجليل وعلى سياسة "الدورية الخضراء" التي تعنى بشؤون البيئة. وقد حرصت اللجنة على تبني الأسلوب السلمي لتجنب ما يؤدي إلى ردات فعل إسرائيلية ضدها، ولتثبت قدرتها على القيادة والسيطرة. كما تبنت، سنة 1979، موقفاً سياسياً واضحاً في تأييد نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه الوطنية، وحقه في تقرير مصيره وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، والدعوة إلى انسحاب إسرائيل إلى حدود ما قبل حرب حزيران/ يونيو 1967.(57)
بلغ الصراع بشأن الأرض الذي كان قائماً بين عرب إسرائيل والدولة اليهودية منذ سنة 1948، ذروته في عقد مؤتمر الاحتجاج الوطني في السادس عشر من آذار/مارس 1976، الذي عين يوم الثلاثين من الشهر ذاته من كل سنة يوم إضراب عربي عام وتظاهرات شعبية للتعبير عن الرفض العربي للسياسة الإسرائيلية التي تهدف إلى اقتلاع العرب من أرضهم. وقد كانت مبادرة "يوم الأرض" النضالية آنذاك وليدة مسارين بلغا حد النضج في القطاع العربي: التطور الاجتماعي، واليقظة القومية. فتضاعُف عدد عرب إسرائيل، وارتفاع مستوى حياتهم، أديا إلى ارتفاع مستوى آمالهم وتطلعاتهم. غير أن فشل وتيرة التنمية في تلبية حاجاتهم المتزايدة بسبب سياسة التمييز والحرمان، أوجد مجموعة من المشكلات الضاغطة، وعمّق الفجوات بينهم وبين الأكثرية اليهودية الحاكمة، وفاقم مشاعر الإحباط والغبن لديهم؛ تلك المشاعر التي صبت كلها في المجرى الوطني. وكان من نتائج حرب 1973 تشجيع ميول التشكيك لدى عرب إسرائيل في قدرة إسرائيل على الصمود أمام العرب، والتي أنعشت ثقتهم بالنفس وأطلقتهم على طريق النضال السياسي النشيط، ودفعتهم إلى تجميع الصف والتعاون في إطار هيئات جبهوية على مستوى القطر، الأمر الذي أزال الحد الفاصل بين النضال من أجل الحقوق المدنية والنضال من أجل الحقوق الوطنية، في ضوء تصدع أنماط التعايش اليهودي – العربي في الدولة.(58)
اندماج أم تعايش؟
أسس الحكم العسكري، الذي فُرض على القطاع العربي طوال 18 عاماً، سياسة تمييز اجتماعي واقتصادي وثقافي ضد الأقلية العربية، أغلقت في وجهها الباب أمام تلك "المساواة" الكاملة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لكل مواطنيها، من دون تمييز في العقيدة والعرق والجنس.... والمشاركة في بناء الدولة على أساس المواطنية الكاملة والمتساوية والتمثيل الملائم...." التي تعهدت حكومة إسرائيل بها في "إعلان الاستقلال" في أيار/مايو 1948. فمنح حق الاقتراع في انتخابات الكنيست لم يكسب الأقلية العربية هذه المشاركة، وإلغاء الحكم العسكري سنة 1966 لم يؤد إلى المساواة. وظل معظم الأحزاب السياسية والمنظمات المهنية والثقافية مغلقاً في وجه العرب، لا بل أن الخطوات الصغيرة التي اتخذت عبر السنين في اتجاه الدمج تراجعت، في معظمها، بعد وصول "الليكود" اليميني الشوفيني إلى الحكم سنة 1977. كما أن النظرة الرافضة والمشككة في الأقلية العربية، والتي تعتبرها "طابوراً خامساً"، متغلغلة في القطاع اليهودي، حتى أن تلك الحركات الإسرائيلية النشيطة الداعية إلى السلام والمساواة، مثل حركة "السلام الآن" و"الحركة من أجل السلام والأمن"، لم تجرؤ على "القيام بنشاط تعبوي في وسط القطاع العربي خوفاً من أن تفقد شعبيتها ومصداقيتها في وسط اليهود"، مما ساهم في دفع الأقلية العربية إلى خوض "مسار استلاب، عوضاً من مسار اندماج، ولّد المزيد من العناصر القومية."(59)
لكن، إذا كان صحيحاً أن الأقلية العربية لا يمكنها، في التحليل النهائي، أن تنصهر في المجتمع الإسرائيلي لأنها من وجهة نظر التاريخ واللغة والدين، لا تستطيع أن تبتر نفسها عن المحيط العربي، فصحيح أيضاً أنه لا الأكثرية اليهودية ولا الحكومات الإسرائيلية تراودها تطلعات في هذا الاتجاه، وأن فكرة الانصهار "تتناقض مع جوهر الوجود اليهودي في إسرائيل."(60) يقول شموئيل طوليدانو، الذي عمل أحد عشر عاماً مستشاراً لرئيس الحكومة في شؤون العرب، أن دمج العرب ومنحهم المساواة الكاملة باليهود الإسرائيليين أمران غير ممكنين في ظل الأوضاع الراهنة، "وأن أقصى ما يمكن توقعه هو التعايش مع أقصى حد ممكن من الحقوق"، لأن العرب في إسرائيل "أقلية فريدة" تعيش في دولة هي في حالة حرب مع شعب هذه الأقلية، وهذا أمر يوجد ازدواجية في الولاء، كما يجعل من الصعب على اليهود التفريق بين عرب إسرائيل وعرب ما وراء الحدود.(61) ويزيد رئيس الأركان السابق موردخاي غور على ذلك، فيقول إن "أية مطالبة بتحقيق أقصى الحقوق مكتوب لها الفشل، لأن تحقيق المساواة الكاملة بين العرب واليهود في إسرائيل غير ممكن قبل حل المشكلة الفلسطينية في جوانبها كافة. وكي يتحقق هذا الحل يجب إقامة تعايش إيجابي قدر الإمكان."(62)
إذاً، فشعار دمج العرب ووضعه موضع التنفيذ لم يطويا فحسب، بل حتى وعود المساواة الكاملة لا تزال مجرد شعار ينتظر ما سينتهي الصراع العربي – الإسرائيلي إليه، كما ينتظر حل القضية الفلسطينية. أما شعار التعايش اليهودي – العربي الذي يجد من يتملقه في أوساط السياسيين الإسرائيليين، فإن كوابحه تكمن في الشوفينية اليهودية، وفي اللاتسامح السياسي النامي وسط الإسرائيليين تجاه المعارضة السياسية عامة وتجاه المعارضة العربية خاصة.
يُعتبر العرب في إسرائيل أقلية معارضة. وقد وصلت الشوفينية اليهودية النامية في إسرائيل، في لاتسامحها، إلىحد إسباغ صفة التخريب والخروج على الشرعية على الإسرائيليين الذين يخرجون على "الإجماع الوطني" في المسائل السياسية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، وهي لا يمكنها أن تكون أقل عداء تجاه عرب إسرائيل وهم، في معظمهم، معارضون للدولة كدولة يهودية – صهيونية.(63)
لقد تأثر الوعي القومي والسياسي لدى عرب إسرائيل تأثراً عميقاً بالنهضة الوطنية الفلسطينية، وبالتماس المتجدد مع فلسطينيي المناطق المحتلة، لكنه تأثر بالقدر نفسه بالشوفينية اليهودية. ففي سنة 1955 قال مستشار رئيس الحكومة في شؤون العرب، أوري لوبراني، إن العرب في إسرائيل يجب أن يظلا "سقاة وحطابين"، لكن أحداً في ذلك الوقت لم يقترح علناً طردهم من البلد. وبعد عقدين من الزمن، في أواخر السبعينات، وصف قائد المنطقة الشمالية في حينه، اللواء أفيغدور بن – غال، عرب إسرائيل بـ"السرطان في جسم الدولة". وبعده ببضعة أعوام بدأت شخصيات مسؤولة، من أمثال رئيس الأركان السابق رفائيل إيتان وعضو الكنيست غيئولا كوهين، المجاهرة بإمكان طرد العرب من إسرائيل في أوضاع معينة. وفي سنة 1984 أصبح هناك حزب سياسي يقوم برنامجه السياسي على فكرة طرد العرب ممثل في الكنيست.(64) لكن الكهانية (تيار حركة كاخ التي يتزعمها الحاخام مئير كهانا) لا تشكل، في الواقع، سوى الشكل الأكثر تطرفاً للعنصرية اليهودية تجاه العرب، المزدهرة في إسرائيل اليوم، مع ظاهرة اللاتسامح السياسي تجاه الآراء المغايرة، والتي تشجعها المؤسسة الإسرائيلية أيضاً.(65)
وقد أظهرت دراسة، أُجريت صيف سنة 1985 بين اليهود الإسرائيليين، أن 24% منهم يعارضون منح العرب حق التصويت في انتخابات الكنيست، و 57% لا يؤيدون منح هذا الحق للصهيونيين من الإسرائيليين إذا كانوا يؤيدون إنشاء دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة بزعامة م. ت. ف.، و 70% يعارضون منحه لكل اليهود غير الصهيونيين الذين يؤيدون إنشاء مثل هذه الدولة.(66) وهذا اللاتسامح شُرّع قانوناً في الكنيست الذي أقر، في 31 تموز/يوليو 1985، تعديلاً على قانون الانتخابات يقضي بمنع القوائم التي "تنكر وجود دولة الشعب اليهودي" من خوض الانتخابات.(67)
أصبح عرب إسرائيل أقلب استعداداً للتسليم بوضعهم، ويرفضون مواصلة العيش في ظل القمع والتمييز القومي مثلما كانوا في الخمسينات والستينات. كما أن الوعي الوطني والسياسي الذي اكتسبوه، وتأثرهم بالحدثين الفلسطيني والعربي، أكسباهم عزماً على النضال النشيط من أجل حقوقهم. وقد أثار هذا الواقع، وارتفاع صوت تلك الفئة من المثقفين العرب التي تطالب بـ"اندماج حقيقي في الحياة السياسية الإسرائيلية، بما في ذلك، شراكة حقيقية على مستوى صوغ القرارات وصناعتها وعلى المستوى التمثيلي أيضاً.... ليصبح عرب إسرائيل جزءاً أساسياً من العملية السياسية الإسرائيلية؛"(68) هذان الواقع وارتفاع الصوت أثارا مخاوف عامة اليهود الإسرائيليين. ويقول عالم الاجتماع الإسرائيلي سامي سموحا، الذي يعتقد أن عرب 1948 أصبح لديهم مع مرور الزمن "ميل واضح إلى مصالحة أنفسهم مع وجود الدولة... ككيان سياسي [لا كدولة صهيونية] ومع مكانتهم كأقلية فيها"، إن هذه المطالب والتطلعات والمنحى الراديكالي في الاحتجاج وفي النضال من أجلها باعتبارها حقوقاً لهم، هي التي تزيد في التوترات لأن عامة اليهود الإسرائيليين لا يستطيعون فهم واستيعاب التحول الراديكالي الذي يمر عرب 1948 به، فيماثلون هم والمستشرقون الإسرائيلييون أيضاً هذه الراديكالية العربية النامية بالتطرف، ويعتبرونها مؤشراً على تحول العرب في وسطهم إلى أقلية معادية، بل مخربة، تسير في طريق المواجهة مع الدولة.(69)
ولقد خلص سموحا في دراسة للعلاقات بين العرب واليهود في إسرائيل خلال عقد كامل، 1976 – 1985، ولمشكلات التعايش بينهم، إلى جملة استنتاجات أبرزها أن العنصرية اليهودية تجاه العرب واقع قائم في إسرائيل، وأن المشكلة تكمن في نظرة الحكم الإسرائيلي الذي يملي السياسة والممارسات على الأرض فيسبب ردات فعل راديكالية عند العرب تزيد، بدورها، في المواقف المعادية لهم وسط اليهود، ولا يمكن وقف هذا الدوران في الحلقة المفرغة إلا بتغيير سياسة المؤسسة الحاكمة، وأن مسألة مساواة العرب هي الأصعب والأكثر تعقيداً لأنها ترتبط برؤية كل طرف من الطرفين لإسرائيل كدولة يهودية.(70)
لقد استند البحث الذي قام سموحا به إلى نتائج استقصاءات أٌجريت في وسط العرب واليهود الإسرائيليين بشأن عدد من المسائل الأساسية، الاجتماعية والسياسية. وقد أظهرت هذه الاستقصاءات جملة حقائق مهمة عند الجانبين تحدد العلاقة بينهما:(71)
1- إن أكثرية عرب إسرائيل من متحفظين ومعارضين لوجود دولة إسرائيل لا تقبل طابع الدولة اليهودي – الصهيوني، لكنها تسلم بالواقع الذي نشأ بعد حرب 1948 (11% من العرب فقط متكيفون إزاء الواقع ويسعون لمكاسب لدى المؤسسة الحاكمة، و39% منهم متحفظون ينتقدون الواقع لكنهم مستعدون للتعاون مع المؤسسة الحاكمة لتحسين أوضاعهم بالتفاوض، و40% معارضون يقبلون بالدولة لكنهم يرفضون طابعها اليهودي – الصهيوني، و10% فقط ينكرون وجود الدولة). غير أن هذا النزوع إلى التكيف لا يتم على حسبا فلسطينية عرب إسرائيل؛ فأكثريتهم الساحقة تتماثل مع م. ت. ف.، تعريفاً وأهدافاً (82% منهم يؤيدون الاعتراف بـ م. ت. ف.، و 14% يؤيدون بشروط، و4% فقط يرفضون الفكرة. كما أن 82% منهم أيضاً يؤيدون إعادة لاجئي 1948، و14% يؤيدون بشروط، و4% فقط يعارضون).
2- إن التناقض حاد بين اليهود والعرب في مثل هذه المسائل ذات التأثير المباشر في مسألة التعايش (4% فقط من اليهود يؤيدون الاعتراف بـ م. ت. ف.، و21% منهم يؤيدون بشروط، و75% يعارضون. كما أن 3% منهم فقط يؤيدون إعادة لاجئي 1948، و26% يؤيدون بشروط، و71% يعارضون).
3- إن العرب هم أكثر تسامحاً على الرغم من الجفاء السائد بينهم وبين اليهود: 48% من العرب يوافقون على السكن في ضاحية مختلطة (في مقابل 25% فقط من اليهود)، و34% من العرب يوافقون لكنهم لا يفضلون ذلك (في مقابل 22% من اليهود)، و38% من العرب يرفضون (في مقابل 54% من اليهود).
4- إن أغلبية اليهود تؤيد تمييز اليهود من العرب: 54% مع تفضيل اليهود إلى حد كبير، و22% مع تفضيل اليهود إلى حد معين، و19% فقط تعارض التمييز. كما أن 66% منهم مع تفضيل اليهودي على العربي في مجال القبول في الجامعات، و66% أيضاً مع تفضيل اليهودي على العربي في مجال القبول في الوظائف العامة، و44% مع تفضيل اليهودي على العربي إلى حد كبير في مجال تقديمات الضمان الاجتماعي، و16,5% مع تفضيل اليهودي على العربي إلى حد معين.
إذاً، فحرمان العرب من المساواة الكاملة أرسى مع سياسة الفصل التي انتهجتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، علاقة محكومة بالجفاء بين العرب واليهود الإسرائيليين، على الرغم مما نُسح من علاقات بينهم على مر الأعوام؛ علاقات فرضتها ضرورات التكيف إزاء واقع جديد. وقد سببت التحولات التي جرت في المجتمع العربي، ونمو الشوفينية اليهودية في وسط الإسرائيليين، انقساماً متزايداً بين القطاعين. فالأقلية العربية ترى في طابع الدولة اليهودي – الصهيوني العقبة الأساسية أمام تطبيع حياتها بالمساواة الكاملة والحقيقية. أما اليهود الإسرائيليون فيرون في تطلع هذه الأقلية إلى المساواة الكاملة والحقيقية "تقويضاً للأساس اليهودي والصهيوني للدولة."(72) وهذا التناقض الأساسي، الذي يجعل ما هو جوهري في نظر اليهود العقبة الأساسية في وجه العرب، وما هو جوهري بالنسبة إلى العرب لتطبيع حياتهم العقبة الأساسية أمام اليهود، قد حال – وبعد أربعة عقود من الزمن – دون قيام تعايش حقيقي بل أنه يجعل حالة الانقسام القائمة أكثر استعصاء.
صحيح أن العرب، في نظر الدولة الإسرائيلية، كانوا دائماً متساوين (باستثناء الدروز الذين سعت الدولة لعزلهم عن باقي المجتمع العربي الفلسطيني)، وصحيح أيضاً أن نظام الحكم الإسرائيلي وضع بالتالي حداً لأشكال التقسيم الطائفي الشرقية التقليدية عندما أرسى تقسيماً جديداً قائماً على أساس الفوارق القومية، يهود وعرب، لكن السياسات الإسرائيلية التميزية المبنية على هذا التقسيم، ساهمت كلها – بالإضافة إلى عامل الاستلاب النفسي وعامل الفصل الجغرافي للعرب كجماعة منفصلة – في المحافظة على إمكان استمرار الحركة القومية العربية الفلسطينية داخل إسرائيل.(73)
وقد تعزز الحس القومي لدى الأقلية العربية بفعل سياسات إسرائيلية كان المقصود بها سحق العرب وإخضاعهم. فعندما أُخرج القروي من الزراعة قسراً لا طوعاً، وولج باب الحياة الاقتصادية في الدولة، وعندما كان يضطر دائماً إلى الانسحاب والرجوع إلى قريته الحامية، ملاذه إزاء المواقف العنصرية التي يواجهها خارجها، كان يعود إلى قومه؛ ولو استمرت العملية الأولى من دون أن تعترضها عملية الانسحاب القسري إلى القرية، "فلربما كان العرب قد أصبحوا مندمجين اندماجاً كاملاً كمواطنين إسرائيليين، ولما كان هناك أساس لتطور حركة قومية عربية مستقلة. لكن الأمر لم يكن كذلك لأنه، وبعد مرور 25 عاماً على وجود دولة إسرائيل، لم يندمج عرب الدولة فيها. فهم لا يزالون غرباء، مواطنين من الدرجة الثانية، يمارَس التمييز ضدهم في السكن والعمل والفنون."(74)
فالسياسات العنصرية تميزهم كعرب، واليهود الإسرائيليون يميزونهم كعرب، وحتى البطاقات التي كان عليهم أن يحملوها منذ البداية – كجزء من إجراءات الحكم العسكري – كانت تحدد هويتهم العربية. و"طوال ما يزيد على ربع قرن كان صانعو السياسة الإسرائيليون يعتبرون العرب في إسرائيل سكاناً من الهجين – مبتورين ثقافياً وسياسياً. إنهم فلسطينيون بالارتباط التاريخي والجغرافي، لكنهم ليسوا فلسطينيين عندما يتعلق الأمر بالصراع السياسي الحالي. إنهم عرب إسرائيليون؛ إنهم مع إسرائيل لكن ليس تماماً؛ إنهم مع العرب لكن ليس تماماً؛ مكانتهم ذات حدين؛ إنهم عبء على إسرائيل!"(75) وإذا كان قد نما في أوساط العرب، في مرحلة النهوض من الصدمة، تيار ارتضى صفة التحدر من سلالة "الهجين" وجنى فتات مكاسب سياسية واقتصادية، وثابر ويثابر بدعم من السلطات وبتشجيع من الموقف العربي عامة، الذي أصبح عرب 1948 بحكم المنسيين عنده، على المطالبة بمنح العرب مكانة سياسية خاصة في إسرائيل، فإن هذه المطالبة تنطوي على نفي كون هذه الأقلية جزءاً من الشعب الفلسطيني الأكبر في ظل الاحتلال أو في الشتات. وتعني هذه المطالبة عملياً، تجريدهم من هويتهم القومية وهويتهم الفلسطينية، ومن حقيقة كونهم مرتبطين – بالضرورة – بالقضية الفلسطينية، وتكريسهم "أقلية مدنية وثقافية تتميز فقط ببعض السمات الفريدة"،(76) غير مرتبطة مستقبلاً بأي حل للفلسطينيين في ظل الاحتلال وفي الشتات تتضمنه تسوية ما للصراع العربي – الإسرائيلي.
المصادر:
(1) حسن أمون (طبيب من بلدة دير الأسد) في:
Yossi Amitai, “A Question of Identity,” New Outlook, Oct.-Nov., 1984, p. 12.
(2) Charles Camen, "The Arab Population in Palestine and Israel, 1946-1951,” New Outlook, Oct.-Nov., 1984, p. 36.
يشير كاتب المقال، وهو عالم اجتماعي، إلى عدم توفر إحصاءات رسمية إسرائيلية منشورة أو حتى أية معلومات شاملة عن اللاجئين داخل إسرائيل، وإلى أن الإحصاءين السكانيين اللذين أُجريا سنة 1948 وسنة 1961 لم يتضمنا ما يمكّن من التمييز بين اللاجئين وغيرهم من السكان العرب لأن السلطات الإسرائيلية لا تريد طرح مسألة اللاجئين.
(3) Ibid., p. 37.
(4) يوسف هيكل، "فلسطين قبل وبعد" (بيروت: دار العلم للملايين، 1971)، ص 133 – 134، 136 – 138، 144 – 145، 149.
(5) James J. Zogby, “Arabs in the Promised Land” (Dissertation), (Ann Arbor, Michigan: U.M.I., 1988), pp. 129-131, 134.
(6) هيكل، مصدر سبق ذكره؛ وكذلك: توم سيغف، "الإسرائيليون الأوائل – 1949" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1968)، ص 36 – 37؛ وانظر أيضاً:
Kamen, op.cit., p. 38.
(7) Kamen, op.cit., p. 39.
(8) Ibid., pp. 39-40.
(9) Zogby, op.cit., pp. 134-136.
(10) Ibid., p. 133.
(11) صبري جريس، "العرب في إسرائيل"، سلسلة الدراسات رقم 35 (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1973)، ص 25 – 100. أنظر أيضاً: سيغف، مصدر سبق ذكره، ص 64 – 77.
(12) سيغف، مصدر سبق ذكره، ص 78.
(13) Zogby, op.cit., pp. 156-162.
(14) Avraham Cohen, “The Arab Population of Israel, 1950-1980,” New Outlook, Oct.-Nov., 1984, pp. 43-45.
(15) Ibid.
(16) William Brinner, “The Arabs of Israel: The Last Twenty Years,” Middle East Review, Vol. xx, No. 1, Fall 1987, pp. 13-23.
(17) Khalil Nakhleh, Palestinian Dilemma-Nationalist Consciousness and University Education in Israel (Shrewsbury, Ma.: AAUG, 1979), p. 14.
(18) Ibid., pp. 14-15, 18.
(19) سيغف, مصدر سبق ذكره, ص 79-80.
(20) Cohen, op.cit.
(21) "الكتاب السنوي لإسرائيل 1989" (القدس: المكتب المركزي للإحصاء، 1989)، ص 39 – 40 (بالعبرية).
(22) ألوف هار إيفين، "واحد من كل ستة إسرائيليين" (القدس: فان لير، 1981)، ص 4 (بالعبرية).
(23) Moshe Gabai, “Israeli Arabs: Problems of Identity and Integration,” New Outlook, Oct.-Nov., 1984, p. 22.
(24) Ibid., p. 18.
(25) Mohammad Watad, “Integration, A Call for Genuine Partnership,” New Outlook, Oct.-Nov.- 1984, p. 31.
(26) سامي سموحا في: ران كسليف، "هم ونحن: العرب في إسرائيل"، "هآرتس"، 21/8/1987.
(27) Gabai, op.cit., p. 18.
(28) Ibid., p. 19.
(29) Hillel Schenker, “Interview, Sammy Smooha: Israeli Arabs Want to Negotiate New Terms to the Contract,” New Outlook, Oct.-Nov., 1984, pp. 26-29.
(30) Gabai, op. cit., p. 19.
(31) Ibid., p. 18.
(32) Ibid., p. 22.
(33) ران كسليف، "يهود الشرق الأوسط"، "هآرتس"، 4/9/1987.
(34) Gabai, op. cit.
(35) كسليف، "يهود الشرق الأوسط" مصدر سبق ذكره.
(36) المصدر نفسه.
(37) Zogby, op. cit., pp. 145-147.
(38) أبراهام بورغ، "عرب إسرائيل بالأرقام: في: ها إيفين، مصدر سبق ذكره، ص 14 – 28؛ أوريئيل بن عامي، "معادلات وحل مجهول"، "دافار" 21/3/1986.
(39) Gabai, op. cit., p. 22.
(40) Ibid.
(41) حسن امون في:
Amitai, op. cit.
(42) إيلي ريخس، "هآرتس"، 26/3/1986؛ ران كسليف، "هآرتس" 21/8/1987.
(43) Gabai, op. cit., pp. 18, 20.
(44) يحيى الدباغ (عامل اجتماعي من بلدة دير الأسد) في:
Amitai, op.cit., p. 13.
(45) Brinner, op.cit.
(46) أنظر إيلي ريخس، "عرب إسرائيل – تطورات على صعيد النشاط السياسي"، في: ها إيفين، مصدر سبق ذكره، ص 142 – 143.
(47) Gabai, op.cit., p. 20.
(48) Ibid.
(49) إيلي ريخس، في: هار إيفين، مصدر سبق ذكره، ص 143.
(50) حسن أمون في:
Amitai, op. cit., p. 16.
(51) إيلي ريخس في: هار إيفين، مصدر سبق ذكره، ص 143.
(52) المصدر نفسه، ص 143 – 144.
(53) المصدر نفسه، ص 144.
(54) المصدر نفسه، ص 145.
(55) المصدر نفسه، ص 146.
(56) المصدر نفسه.
(57) المصدر نفسه، ص 147 – 148.
(58) إيلي ريخس، "عشرت أعوام على يوم الأرض: نظرة إلى الوراء"، "هآرتس"، 26/3/1986.
(59) Simha Flapan, “Integration of Alienation,” New Outlook, Oct.-Nov., 1984, pp. 33-34.
(60) Gabai, op. cit., p. 22.
(61) Hillel Schenker, “Jews and Arabs in Israel,” New Outlook, March 1982, p. 40.
(62) Ibid., pp. 40-41.
(63) أنظر:
Sammy Smooha, “Political Intolerance: Threatening Israel’s Democracy,” New Outlook, July 1986, pp. 27-29.
(64) Watad, op. cit., p. 31.
(65) Smooha, “Political Intolerance…,” op. cit., pp. 27, 29.
(66) Ibid., pp. 28-29.
(67) Ibid., p. 29.
(68) Watad, op. cit., pp. 31-32.
(69) Schenker, “Interview, Sammy Smooha…,” op. cit., pp. 26-29.
(70) ران كسليف، "هم ونحن: العرب في إسرائيل على جانبي المتراس"، "هآرتس"، 21/8/1987.
(71) المصدر نفسه.
(72) المصدر نفسه.
(73) Zogby, op. cit., p. 152.
(74) Ibid., pp. 152-153.
(75) Nakhleh, op. cit., p. 103.
(76) Ibid.