The Histadrut Elections, in Light of External and Internal Interest
Keywords: 
الهستدروت
الاتحاد العام للعمال
حزب الليكود
حزب العمل الاسرائيلي
الانتخابات
Full text: 

جرت الانتخابات لمؤتمر الهستدروت ("الاتحاد العام للعمال في أرض – إسرائيل") ومجالس العمال في إسرائيل، في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وسط اهتمام خارجي وداخلي في أوساط المراقبين السياسيين لم يسبق أن حظي به مثل هذه الانتخابا في السابق.

ويرجع الاهتمام الخارجي، على الأرجح، إلى الاعتقاد أن هذه الانتخابات يمكن أن تشكل مؤشراً على حجم التأييد للتصورات، التي تطرحها القوى المختلفة داخل إسرائيل، لحل النزاع العربي – الإسرائيلي، أو ربما على حجم التأييد الذي يمكن أن تحصل هذه القوى عليه في الانتخابات المقبلة للكنيست، سواء جرت فيم وعدها المقرر أو قبل ذلك، وخصوصاً أنه تطفو على السطح بين حين وآخر إمكانات انفراط عقد الائتلاف الحكومي وإجراء انتخابات مبكرة لإخراج الجهود المبذولة من أجل حل للنزاع من الطريق المسدود الذي تقف فيه.

وقد ساهم في توليد هذا الاعتقاد تصريحات أدلى بها عدد من ساسة إسرائيل، وخصوصاً في أوساط الليكود، بشأن المغزى السياسي للانتخابات. فقد صرح رئيس الحكومة، زعيم الليكود يتسحاق شمير، قبل شهرين من الانتخابات، أن هناك "أهمية سياسية قصوى لنتائج انتخابات الهستدروت، وكل شخص في العالم وإسرائيل يرى في نتائج هذه الانتخابات اختباراً لموقف المواطنين الإسرائيليين من المسائل السياسية." ولم ينس شمير، عشية سفره إلى الولايات المتحدة (في الليلى السابقة ليوم الاقتراع)، أن يحث مواطنيه على التصويت لليكود في انتخابات الهستدروت لـ "تعزيز موقفه" أمام الرئيس الأميركي جورج بوش، في المحادثات التي تقرر عقدها بينهما في أثناء زيارته للولايات المتحدة. وفي الناحية الأخرى من المتراس، صرح وزير الدفاع يتسحاق رابين، أحد أبرز زعماء المعراخ، أن للانتخابات مغزى يتجاوز شؤون الهستدروت والعمال و"تنطوي نتائجها على رسالة فيما إذا كانت  إسرائيل مستعدة لإعطاء فرصة للسلام."

أما الاهتمام الداخلي فكان مصدره، إضافة إلى ما ذكر أعلاه، الإمكانات الناشئة عن الأوضاع التي جرت انتخابات الهستدروت فيها من جهة، والإمكانات التي انطوى عليها نجاح الأحزاب العربية في إسرائيل في تشكيل قائمة موحدة لخوض الانتخابات، من جهة أخرى.

فلأول مرة في تاريخ انتخابات الهستدروت، أشارت الاستقصاءات التي أُجريت قبل شهور من الانتخابات إلى إمكان أن يفقد حزب العمل أغلبيته المطلقة في مؤتمر الهستدروت، التي أتاحت له دوما تشكيل الهيئات القيادية وفق ما يشاء من دون الاعتماد على أحزاب أخرى، وإمكان أن يحصل الليكود على نسبة 33% من الأصوات، التي من شأنها أن تتيح له تعطيل أية قرارات جوهرية يتطلب إقرارها ثلثي الأصوات. وهما إمكانان يعنيان كسر سيطرة حزب العمل على مركز القوة الرئيسي الأخير، الذي بقي له بعد أن خسر سيطرته على مراكز القوة الرئيسية الثلاثة الأخرى في البلد: الحكم المركزي (الحكومة والكنيست)، والحكم المحلي (البلديات والمجالس المحلية)، والوكالة اليهودية.

وقد نشأ هذان الإمكانان عن تدهور مكانة قيادة الهستدروت نتيجة الأوضاع الاقتصادية المتردية السائدة في إسرائيل منذ سنوات، والتي نجمت عنها بطالة واسعة النطاق (150 ألف عاطل عن العمل عشية الانتخابات)، وانخفاض ملموس في المستوى الحقيقي للأجور؛ والأهم من ذلك، نتيجة للانهيارات الكبرة في اقتصاد الهستدروت (راجع "أدوار الهستدروت" أناه). وقد شملت هذه الانهيارات: الحركة التعاونية (الكيبوتسات والموشافيم) التي راكمت ديوناً تقدر بمليارات الدولارات؛ ومعظم مشاريع الهستدروت الاقتصادية بما في ذلك شركة "كور"، فخر الصناعة الهستدروتية وعملاقها الأقوى، التي راكمت ديوناً تقدر بمليار ومائتي ألف دولار؛ و"سوليل بونيه"، أكبر شركات المقاولة في إسرائيل، التي بلغت ديونها عشية الانتخابات 350 مليون دولار؛ وشركات هستدروتية عديدة أخرى تقف الآن على شفير الإفلاس. وقد أرغمت هذه الانهيارات زعامة الهستدروت على الموافقة على فصل أعداد كبيرة من العمال، وعلى خفض الأجور الحقيقية في كثير من المشاريع التابعة له. وكان من الطبيعي، في ظل هذه الأوضاع، أن تتجدد الاتهامات لزعامة الهستدروت بسوء الإدارة والمحسوبية وقلة الكفاءة، وأن يترقب الجميع الانعكاسات في نتائج انتخابات الهستدروت.

كما أن الأحزاب العربية في إسرائيل نجحت، أول مرة منذ تأسيسها، في تشكيل قائمة موحدة لخوض انتخابات الهستدروت. وقد أثارت هذه الخطوة قلقاً واسعاً في الأوساط السياسية، وتخوفاً من أن تكون سابقة تتكرر في انتخابات الكنيست، ومقدمة لتصعيد المطاليب القومية العربية. وقد عبر الوزير إيهود أولمرت عن تحفظه من القائمة الموحدة، وأعرب عن خشيته أن تكون "تمهيداً للمطالبة باستقلال ذاتي في الجليل." وقال المستشرق أفنير ريغف انها "من الممكن أن تطرح في المستقبل كهدف لها المطالبة بالاعتراف بعرب إسرائيل كأقلية قومية... وستجر خطوة كهذه في أعقابها توتراً كبيراً بين العرب واليهود في البلد" (يورام بيري، "كيف سيصوت العرب؟"، "دافار"، 27/10/1989).

كيف يمكن  قراءة نتائج انتخابات الهستدروت في ضوء الاهتمامات المشار إليها أعلاه؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه بعد عرض مجريات المعركة الانتخابية والنتائج.

القوائم

خاضت انتخابات الهستدروت هذه المرة خمس قوائم انتخابية في مقابل سبع قوائم خاضت الانتخابات الماضية التي جرت سنة 1985. وهذه القوائم هي: "إيمت"، التي تمثل حزب العمل، برئاسة يسرائيل كيسار أمين سر الهستدروت؛ "ماحل"، التي تمثل الليكود، برئاسة يعقوب شماي رئيس كتلة الليكود في الهستدروت؛ "مابام"، برئاسة زعيم حزب مابام البارز يائير تسبان؛ "راتس"، برئاسة عضو الكنيست ران كوهين؛ وأخيراً، "القائمة اليهودية – العربية المشتركة"، التي تمثل حداش والحركة التقدمية للسلام والمساواة (ميعاري) والحزب الديمقراطي العربي (دراوشة)، برئاسة بنيامين غونين رئيس كتلة حداش في الهستدروت.

ويرجع انخفاض عدد القوائم إلى عاملين: (1) رفع "نسبة الحسم" من 2,5% (في الانتخابات الماضية) إلى 3%، مما ردع القوائم الصغيرة، مثل "شينوي" و "هتحيا" اللتين فشلتا أصلاً في اجتياز نسبة الحسم في الانتخابات الماضية، عن التفكير في خوض الانتخابات الحالية، وساهم على الأرجح في دفع الحركة التقدمية للسلام (التي فشلت هي أيضاً في اجتياز نسبة الحسم) والحزب الديمقراطي العربي إلى خوض المعركة الانتخابية بقائمة مشتركة مع حداش؛ (2) امتناع الأحزاب الدينية، وخصوصاً "شاس" الذي لا يشك أحد ف قدرته على اجتياز "نسبة الحسم"، من خوض الانتخابات في قوائم مستقلة وتفضيلها جميعاً تأييد حزب العمل لقاء مكاسب معينة.

ويمكن إبداء الملاحظات التالية فيما يتعلق بالقوائم:

حزب العمل: خاض حزب العمل الانتخابات هذه المرة من دون مابام، الذي قرر الانسحاب من المعراخ في الهستدروت وخوض الانتخابات بقائمة مستقلة، بعد أن أقدم على ذلك في انتخابات الكنيست. وقد شكل انسحاب مابام ضربة قوية لحزب العمل، لكن كيسار استطاع تعويض الخسارة إلى حد كبير عن طريق استكمال تأييد الأحزاب الدينية بأسرها لقائمته، واستدراج عناصر "نقابة العمل الليبراليين" التي انشقت عن الليكود عشية الانتخابات، وأجزاء من حزب "هتحيا" اليميني المتطرف إلى قائمته.

وقد ساعد في تحقيق هذا "الإنجاز" شخصية كيسار، وسياسته العامة في الهستدروت، واستعداده لدفع الثمن المطلوب (مناصب، ومخصصات مالية، ووظائف) في مقابل التأييد. فمن المعروف عن كيسارأنه شخص متدين يقوم بكل الواجبات الدينية عن إيمان بها ويمتنع من العمل أيام السبت، ولا يقصّر في تقديم فروض الاحترام للزعامات الدينية (ويُظهر ذلك). ومن المعروف عنه أيضاً أنه، خلال فترة إدارته للهستدروت (منذ سنة 1984 عندما حل يروحام ميشل في أمانة السر بعد استقالة الأخير من المنصب)، ركز على القضايا الاجتماعية والاقتصادية، وعمل بحزم على إبعاد الهستدروت عن القضايا والخلافات السياسية. وربما الأهم من ذلك، من المعروف جيداً أنه أرضى الأحزاب الدينية (وجمهورها) بمناصب ومخصصات مالية وامتيازات جعلتها تحجم منذ فترة طويلة عن خوض الانتخابات بقوائم خاصة بها وتكتفي بتأييد حزب العمل. وما كان يقلقه قبل الانتخابات الحالية هو حزب "شاس" فقط، الذي يمثل جمهور اليهود المتدينين الشرقيين، ويتمتع بأوسع تأييد في القطاع الديني.

فقد أعلن هذا الحزب أنه يفكر في خوض المعركة الانتخابية، وتطلب ثنيه عن هذا التفكير، كما يبدو، مجهوداً كبيراً من كيسار و "ثمناً" غالياً. وقد أعلن "شاس" تخليه عن خوض المعركة الانتخابية وتأييده لقائمة حزب العمل قبل فترة وجيزة جداً فقط من الانتخابات، بعد أن ضمن مقعداً في اللجنة التنسيقية للهستدروت ومكاسب أثارت حنق الأحزاب اليسارية. أما شظايا اليمين فقد تطلب إقناعها وقتاً قليلاً وثمناً زهيداً، وساعد في ذلك نظرة كيسار إلى دور الهستدروت وإغلاقه الباب في وجه القضايا السياسية المثيرة للخلافات. (من أجل تفاصيل العلاقة بين كيسار والأحزاب الدينية، راجع مقالة حاييم بيئور، "طاقية في الجيب"، في "دافار"، 16/10/1989).

مابام: يشكل قرار مابام خوض انتخابات الهستدروت بقائمة مستقلة استمراراً لقراره بالاستقلال عن حزب العمل، الذي جسّده في انتخابات الكنيست الماضية. وقد كانت هذه أول مرة يخوض فيها حزب مابام انتخابات الهستدروت بقائمة مستقلة منذ 21 عاماً. وكان التحدي الذي واجهه البرهنة على أنه ما زال يتمتع بقاعدة جماهيرية، وأن نسبة الـ 12% في مؤتمر الهستدروت ومؤسساته التي كانت تكفلها له اتفاقيته مع حزب العمل في إطار المعراخ تعكس واقع الأمر في الساحة، أو ما هو قريب منه. وقد ظهر اهتمام مابام بإثبات وجوده في اختيرا يائير تسبان، الذي يعتبر من كبار زعماء الحزب، لرئاسة قائمته على الرغم من معرفة أن لا فرصة له في الفوز بأمانة سر الهستدروت، أو شغل منصب  تنفيذي رفيع فيه.

الليكود: تعرّض الليكود وهو في طريقه إلى الانتخابات لهزتين: أولاهما نجمت عن انسحاب "نقابة العمال الليبراليين" من صفوفه؛ وثانيتهما نجمت عن اختيار يعقوب شماي رئيس كتلته في الهستدروت رئيساً لقائمته في الانتخابات. وقد انخفض تمثيل الليكود في اللجنة التنفيذية السابقة للهستدروت، نتيجة انشقاق النقابة المذكورة، من 23,5% (وهي النسبة التي حصل عليها في الانتخابات  الماضية) إلى 8%. لكن معظم المراقبين شكك في أن يكون سعر المنشقين في "البورصة الانتخابية"، على حد تعبير أحد المعلقين، مسارياً أو حتى قريباً من النسبة التي منحتها لهم في حينه لجنة الانتخابات المركزية التابعة لليكود. ومهما يكن الأمر، فإن انسحاب "نقابة العمال الليبراليين" من الليكود وانضمامها إلى حزب العمل شكلا ضربة  معنوية لليكود، ورفعا معنويات حزب العمل. أما اختيار يعقوب شماي لرئاسة قائمة الليكود، فقد أثار استياء كبيراً في فروع الحزب بسبب شخصيته المثيرة للخصومات والجدل. وهناك إجمال بين المراقبين على أن اختيار شماي كان اختياراً سيئاً وتسبب باتخاذ كثيرين من نشيطي الليكود في الفروع موقفاً سلبياً في الحملة الانتخابية.

راتس: كان التحدي أمام راتس اجتياز "نسبة الحسم" الجديدة (3%)، إذ كانت قد حصلت في الانتخابات الماضية على 2,64% فقط من الأصوات. وظهر تصميمها على مواجهة هذا التحدي في اختيار عضو الكنيست ران كوهين، وهو من زعمائها اللامعين وذو كفاءة إعلامية من الدرجة الأولى، لرئاسة القائمة.

القائمة اليهودية العربية المشتركة: لم يكن تشكيل هذه القائمة، التي تمثل في الأساس الجمهور العربي خلافاً لما يوحي به اسمها، مهمة سهلة. فقط ثارت في أثناء المفاوضات للاتفاق عليها خلافات بين أطرافها بشأن نسب التمثيل وهوية رئيس القائمة. وقد أوشكت المفاوضات، في مرحلة معينة، على الفشل بسبب الخلافات في شأن هوية رئيس القائمة. فقد اتفق على مبدأ أن تترأس حداش القائمة، واختارت حداش رئيس كتلتها في الهستدروت بنيامين كوهين. لكن الحركة التقدمية للسلام والحزب الديمقراطي العربي طالباً بأن يترأس القائمة عربي لا يهودي، ووجّها إنذاراً نهائياً إلى حداش في شأن ذلك. واقترح الحزب الديمقراطي، كمخرج، وضع توفيق وعبد الوهاب دراوشة على رأس القائمة، على أن يتخلوا عن رئاستها بعد الانتخابات لممثل يهودي. لكن حداش أصرت على موقفها، وتراجع الحزبان عن الإنذار، وتم إنقاذ الوضع. وضمن الاتفاق النهائي نسبة 60% من المرشحين لحداش، و 40% للحزبين الآخرين.

وقد اعتبر نجاح الأطراف الثلاثة في تشكيل قائمة عربية موحدة إنجازاً مهماً للعرب في إسرائيل، وأثار كما ذكرنا أعلاه مخاوف كبيرة في الأوساط اليهودية. وقد ادعى بعض المعلقين أن منظمة التحرير الفلسطينية قامت بدور في تشكيل القائمة، وذلك بحثّها مختلف الأطراف العربية على توحيد الصفوف وإظهار قوة العرب كأقلية قومية. وقد أشار استقصاء أُجري في الوسط العربي قبل الانتخابات بأسبوع ("يديعوت أحرونوت"، 5/11/1989) إلى أن القائمة العربية ستحصل على 1% من الأصوات، وهي نسبة قريبة من نسبة الأعضاء العرب في الهستدروت (12%)، وأعلى كثيراً مما حصلت الأحزاب العربية عليه في انتخابات الهستدروت الماضية (6,5%).

لكن اتفاق الأحزاب الثلاثة على القائمة المشتركة لم يكن يعني توحيد الصف العربي في انتخابات  الهستدروت؛ إذ رفضت الحركة الإسلامية النداء الموجه إليها بالانضمام إلى القائمة المشتركة، وأعلنت أنها لن تخوض الانتخابات لمؤتمر الهستدروت، وستترك لأعضائها حرية التصويت، واكتفت بخوض انتخابات مجالس العمال في بعض الأماكن. وقد جرت المنافسة الرئيسية في الانتخابات لمجلس عمال الناصرة بين القائمة المشتركة وقائمة الحركة الإسلامية. كما ظل أيضاً خارج القائمة المشتركة، التنظيمات التي قامت على أساس "الحمولة"، والتي خاضت انتخابات مجالس العمال ضد القائمة المشتركة ف معظم الأماكن.

الحملة الانتخابية

بدأت الحملة الانتخابية في ظل أوضاع مؤاتية لليكود ومعاكسة لحزب العمل: بطالة واسعة؛ انخفاض في المستوى الحقيقي للأجور؛ خسائر كبيرة وإفلاسات وفصل عمال في مشاريع اقتصادية كثيرة، ومنها مشاريع الهستدروت؛ اتهامات لقيادة الهستدروت بزعامة يسرائيل كيسار. وقد انعكست هذه الأوضاع في استقصاءات الرأي العام التي أُجريت في بدايات الحملة الانتخابية. فقد أشار استقصاء نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" في عددها الصادر بتاريخ 11/8/1989، أي قبل ثلاثة أشهر من الانتخابات، إلى أن حزب العمل سيحصل على 49% فقط من الأصوات، ومابام على 8% (مجموع الاثنين: 56%، في مقابل 65,8% في الانتخابات الماضية، وأن الليكود سيحصل على 33% (في مقابل 22,37% في الانتخابات الماضية). وقد حكمت هذه الأوضاع والاستقصاءات طموحات الحزبين الكبيرين، وأثرت في برنامجيهما الانتخابيين وتكتيكاتهما.

وقد أعلن الليكود، بكثير من الثقة، أن هدفه هو الحصول على نسبة تتجاوز 30%، وربما 33%، والسيطرة على 16 مجلساً عمالياً من أصل  72 مجلساً، معظمها في مدن التطوير، وكلها في يد حزب العمل. وطرح برنامجاً انتخابياً يدعو إلى تصفية اقتصاد الهستدروت على مراحل، وبيع أسهمه إلى القطاع الخاص والجمهور والعمال: بنسبة 40% من الأسهم للقطاع الخاص، و 30% للجمهور، و 30% للعمال. وعمد إلى تأليف لجنة لإدارة الحملة الانتخابية برئاسة بنيامين بيغن، وحاول باستمرار تسخين المعركة الانتخابية بإضفاء صبغة سياسية على الانتخابات: من ناحية لإثارة حماسة الجمهور الذي تحتل القضايا السياسية – الأمنية مكانة علية في سلم اهتمامه ودفعه إلى المشاركة بقوة في الانتخابات؛ ومن ناحية أخرى للاستفادة من تعاطف أغلبية الجمهور مع وجهات نظر الليكود في القضايا السياسية العامة والأمنية.

أما حزب العمل، فقد أعلن أن هدفه هو الوصول إلى نسبة 50%، أي المحافظة على أغلبيته المطلقة في المؤتمر والهيئات القيادية. وهاجم برنامج الليكود الداعي إلى تصفية اقتصاد الهستدروت واعتبره محاولة لتحطيم قوة الهستدروت نفسه، وأعلن أن حال هذا الاقتصاد هو من حال الاقتصاد الإسرائيلي عامة في هذه الفترة، وأن المطلوب ليس الإجهاز عليه وإنما إصلاحه وإنعاشه. وطرح برنامجاً انتخابياً يتضمن إصلاحات تنظيمية وإدارية، ومشاركة فعالة للعمال في الموقع، وإدارة المشاريع الهستدروتية الاقتصادية المختلفة.

وعلى صعيد التكتيك، لجأ كيسار إلى جملة من الخطوات البارعة:

- استغل بنداً في دستور الهستدروت يسمح بتأجيل الانتخابات ستة أشهر، واستصدر قراراً بتأجيل الانتخابات من موعدها المقرر في أيار/ مايو الماضي إلى 13 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي. وكان هدفه من وراء ذلك مزدوجاً: (1) الابتعاد عن أجواء انتخابات الحكم المحلي التي جرت في آذار مارس الماضي، وحقق فيها الليكود انتصاراً كاسحاً، ولحقت بالعمل هزيمة نكراء زعزعت معنوياته؛ (2) إفساح المجال للاختفاء التدريجي بمرور الوقت، لأخبار انهيار شركات الهستدروت، التي احتلت عناوين الصحف الرئيسية.

- استصدر قراراً من مؤتمر الهستدروت برفع "نسبة الحسم" إلى 3% لردع القوائم الصغيرة عن خوض  المعركة الانتخابية ودفعها إلى الاحتماء بمظلة حزب العمل.

استكمل احتواء الأحزاب الدينية تحت مظلته، وحصل على تأييد الحاخامين الكبار وزعماء الأحزاب الدينية.

-  استوعب المنشقين الليبراليين عن الليطود وأجزاء من حركة هتحيا التي فضلت عدم خوض الانتخابات لارتفاع نسبة الحسم.

- استصدر قراراً بتصويت أعضاء الكيبوتسات (المضمون ولاؤهم لحركة العمل الصهيونية) في مجالس العمال في مدن التطوير (التي تؤيد الأغلبية فيها الليكود) المجاورة لكيبوتسات، للحؤول دون سيطرة الليكود على أي من هذه المجالس.

- أدار حملة انتخابية هادئة ركزت على القضايا الاقتصادية – الاجتماعية، واستبعدت تماماً القضايا السياسية والأمنية. ولقد رفض بحزم السماح بمناظرات بين قادة من الليكود وقادة من حزب العمل في الانتخابات، على الرغم من الدعوات المتعدد من جانب الليكود إلى إجرائها. كما استصدر قراراً بتحديد سقف ميزانيات الدعاية الانتخابية على نحو استبعد تماماً استخدام التفزة في الحملات الدعاوية. وكان هدفه من كل هذا الحؤول دون تسخين المعركة الانتخابية لإدراكه أن تسخينها سيصب، في المحصلة، في مصلحة الليكود.

وفعلاً، ظلت المعركة الانتخابية باردة، وفشلت في إثارة اهتمام الصحافة والجمهور. وكانت النتيجة، كما يبدو، تحولاً تدريجياً في مواقف الناخبين، انعكس في الاستقصاءات الأخيرة التي أُجريت قبل الانتخابات بفترة وجيزة، والتي أظهرت أن نتائج الانتخابات لن تكون مختلفة اختلافاً كثيراً عن نتائج الانتخابات الماضية.

النتائج وتفسيرها

صوّت في الانتخابات 818,756 ناخباً، أي ما نسبته 56,5% من مجموع أصحاب حق الاقتراع البالغ عددهم 1,446,838 مقترعاً، وهي تقريباً نسبة التصويت نفسها في الانتخابات الماضية. وكانت نسبة التصويت في القطاع العربي 58%، إذ صوّت 97,248 من مجموع 167,665 ناخباً.

وكانت نسبة التصويت في حركة الكيبوتس القطري التابعة لمابام 81,47%، وفي حركة الكيبوتسات التابعة لحزب العمل 72,69%، وفي حركة الموشافيم 55,72%.

وقد أسفرت الانتخابات عن النتائج التالية: حصل حزب العمل على 55,09% من الأصوات، ومابام على 8,97%، وكلاهما معاً على 64,06%، في مقابل 65,8% حصل المعراخ (العمل + مابام) عليها في الانتخابات الماضية. وهذا يعني خسارة طفيفة مقدارها 1,8%؛ كما حصل الليكود على 27,52% في مقابل 22,37%، وهذه زيادة في قوته بنسبة 5,15%؛ وحصلت راتس على 3,98% في مقابل 2,64%، أي زادت قوتها بنسبة 1,34%؛ وحصلت القائمة اليهودية – العربية المشتركة على 4,46% في مقابل 5,46% حصلت عليها حداش والقائمة التقدمية معاً، و 4,21% حصلت عليها حداش منفردة في الانتخابات الماضية.

ولم ينجح الليكود في انتزاع السيطرة من يد حزب العمل في أي من مجالس العمال في البلد.

وفي الواقع، لم تشكل النتائج في القطاع اليهودي مفاجأة للمراقبين؛ إذ كانت الاستقصاءات الأخيرة، كما أشرنا سابقاً، قد تنبأت بها. وما كان مفاجئاً فقط هو النتائج في القطاع العربي، إذ حصلت القائمة العربية على نسبة أقل كثييراً مما أمل به زعماؤها، أو توقعته الاستقصاءات.

كما أنه لم تكن هناك خلافات ذات شأن بين المحللين السياسيين في تفسير الأسباب التي أدت إلى هذه النتائج. ويمكن إجمال الأسباب فيما يلي:

- التكتيكات الناجحة التي لجأ كيسار إليها، سواء من ناحية موعد إجراء الانتخابات أو من ناحية التحالفات التي ضمنت لقائمته تشكيلة واسعة من الأصوات.

- الحملة الانتخابية الهادئة، والتركيز على قضايا الأجور وشروط العمل والضمانات الاجتماعية، والابتعاد عن القضايا الساخنة التي تثير حماسة الجمهور، وهما عاملان أديا إلى بقاء نسبة المشاركة في الانتخابات الحالية قريبة من نسبة المشاركة في الانتخابات الماضية. وكلما كانت نسبة المشاركة قليلة كانت إمكانات التغيير أقل.

- فشل الليكود في إقناع الناخبين بوجود صلة عضوية بين الإنجازات الانتخابية في الهستدروت وبين القضايا السياسية والأمنية التي تقف على رأس سلم الاهتمامات العامة. وهي صلة لو نجح الليكود في زرعها في ذهن الناخبين، لكان من شأنها أن تزيد في نسبة المشاركة العامة في الانتخابات، وفي نسبة التصويت لمصلحته. ويبدو أن ادعاءات الليكود بوجود مثل هذه الصلة لم تنجح في محو التساؤلات الوجيهة في ذهن الناخبين، والتي صاغتها "هآرتس" في افتتاحيتها ليوم 13/9/1989 على النحو التالي: "هل سيتخذ يعقوب شماي، إذا تعزز مركزه في الهستدروت) وامكتسب نفوذاً حقيقياً، القرارات في شأن سياسة الأجور بناء على مبدأ تكامل البلد؟ وهل ستستند نظرته فيما عنى حل المشكلات الفعلية لصناديق التقاعد، إلى مبدأ رفض أي اتصال بـ م. ت. ف.؟ وما هي الصلة بين الحكم الذاتي، الذي هو بند مهم في برنامج الليكود الانتخابي، وبين صلاحيات مجلس العمال إزاء اللجنة التنفيذية للهستدروت."

- برنامج الليكود المتطرف، الذي دعا إلى تصفية مشاريع الهستدروت الاقتصادية، أي إلى إلغاء الدور المتعدد للهستدروت وقصر دوره على التمثيل النقابي فقط، وهو موقف لا يتمتع بتأييد كبير في أوساط أغلبية الناخبين، كما أظهرت ذللك دراسة معمقة نشرت قبل الانتخابات. (أنظر: يورام بيري، "هل هناك ضرورة له أصلاً؟"، "دافار"، 20/10/1989).

- وأخيراً، شخصية يعقوب شماي، رئيس قائمة الليكود، الضعيفة والمثيرة للجدل، في مقابل قوة شخصية رؤساء القوائم الأخرى وشعبيتهم.

وبالنسبة إلى القطاع العربي، كان التفسير الذي طرحه معظم المحللين لفشل القائمة المشتركة هو قلة الاهتمام بانتخابات الهستدروت وما يجري فيه في الوسط العربي، وموقف الحركة الإسلامية المعادي بشدة للقائمة، وموقف التنظيمات القائمة على أساس "الحمولة"، التي ناصبت القائمة المشتركة العداء، ونافستها في انتخابات مجالس العمال في معظم الأماكن.

 الدلالات

استقبل حزب العمل النتائج بكثير من الرضى والسرور، وصرح زعيمه شمعون بيرس أن "ما جرى هو إنجاز من الدرجة الأولى" و"انتصار كبير"، بينما طغت في أوساط الليكود خيبة الأمل. وفي الواقع، إذا أُخذت النتائج بصورة مجردة، فإنه سيكون من الصعب تفسير ردات الفعل هذه. فحزب العمل قد انخفضت قوته إلى أدنى نسبة لها في تاريخ الهستدروت، والحركة العمالية (العمل + مابام) انخفضت قوتها بنسبة 1,8% قياساً بالانتخابات الماضية؛ وهذا يعني، مهما تكن النسبة ضئيلة، خسارة لا كسباً. وفي المقابل، ازدادت قوة الليكود بنسبة 5,15%، وهذا أمر كان من المفروض أن يجعله يشعر بالرضى.

لكن إذا أُخذت النتائج في سياق الأوضاع والتوقعات المبكرة، فإن الأمر يصبح مفهوماً. فقد حدد حزب العمل لنفسه هدفاً هو الحصول على 50%، أي ما يكفل له تشكيل المؤسسات القيادية من دون الاعتماد على أحزاب أخرى. واعتبر أية زيادة فوق هذه النسبة كسباً إضافياً. أما لليكود، فقد حدد نسبة 30% هدفاً له، وأحياناً 33%. وعندما فشل في تحقيق هذا الهدف، اعتبر الأمر هزيمة وأصيب بالإحباط والخيبة.

وقد لخص إيلان شاحوري ("هآرتس"، 15/11/1989) النظرة العامة لنتائج الانتخابات تلخيصاً جيداً إذ قال: "على الرغم من أهازيج السرور في المعراخ، فإنه يجب أن نتذكر أن الانتخابات جرت في الساحة المنزلية لحزب العمل، في مكان لم يكن لليكود فيه حتى فرصة نظرية لتحقيق انتصار أو تحقيق إنجاز كبير... والفشل الكبير لليكود هو الوهم الكبير الذي باعه للجمهور ومفاده أن في وسعه احتلال مقر اللجنة التنفيذية (للهستدروت). ولو أنه أدلى بتصريحات أقل صخباً، ول يبد ثقة مفرطة بالنفس، لكان قيس إنجازه بالمعيار السليم. إن ارتفاع 5% - 6% قياساً بالانتخابات الماضية هو نسبة لو تكررت في انتخابات الكنيست لآعطته 6 – 7 مقاعد إضافية، ووضعت حزب العمل في المعارضة." ومن ناحية حزب العمل: "إن إنجاز حزب العمل هو في النجاح التكتي الذي صوّر الأمر في المعركة الانتخابية وكأن العمل على وشك أن يفقد أغلبيته... إن أحداً لن يحاسب عملياً الحزب الآن لانخفاض قوته. وقد خلق هذا الأسلوب، الذي حدد كيسار من خلاله الهدف بالوصول إلى حاجز الـ 50% فقط، وَهْمَ انتصار كبيراً، واعتبرت الـ 5% الإضافية إنجازاً."

"وهم انتصار" هو التعبير الصحيح، لكن هذا الوهم كان كافياُ لإعادة الثقة إلى حزب العمل؛ وهذا أمر لا يخلو من أهمية سياسية في الساحة الداخلية. وقد صرح عدد من وزراء المعراخ، في أثر ظهور نتائج الانتخابات، أنهم يؤيدون إجراء انتخابات مبكرة إذا توقفت جهود السلام، وأنهم يعتقدون أن من الجدير اغتنام الفرصة لتحقيق انتصار في انتخابات مقبلة للكنيست.

وفي مستوى آخر، اعتبرت نتائج الانتخابات تعزيزاً لمكانة شمعون بيرس كزعيم لحزب العمل، في المنافسة الخفيّة بينه وبين يتسحاق رابين على زعامة الحزب؛ إذ أنه مهما يُقَل تظل إنجازاً بالنسبة إلى الإخفاق الكبير في انتخابات السلطات المحلية، وقبله الإخفاق في انتخابات الكنيست، كما اعتبرت إضعافاً لمركز شمير في مواجهة "وزراء الأطواق" (دافيد ليفي، وأريئيل شارون، ويتسحاق موداعي)، إذ أن يعقوب شماي رئيس قائمة الليكود في الانتخابات، وبنيامين بيغن رئيس لجنة الليكود الانتخابية، هما من كتلته، وفشلهما فشل له أيضاً.

وتبقى أخيراً مسألة دلالة انتخابات الهستدروت من زاوية كونها (أو عدم كونها) مؤشراً على حجم التأييد للتصورات المطروحة لحل النزاع العربي – الإسرائيلي، أو علة حجم التأييد للقوى المختلفة في انتخابات الكنيست المقبلة، وهي ما كان محط اهتمام المراقبين الخارجيين في الأساس.

من الواضح، من سياق كل ما ذكر، أن من الخطأ تحميل نتائج انتخابات الهستدروت دلائل بالنسبة إل مواقف الجمهور من القضايا السياسية العامن والأمنية. فالناخب، بحسب تعبير تيدي برويس ("دافار"، 16/11/1989) لم "يقبض" تصريحات رئيس الحكومة، يتسحاق شمير، بأن "كل شيء سياسة، وفضل رسم خط فاصل بين المسائل السياسية والمسائل الاجتماعية." وربما كان أوضح دليل على ذلك هو التحالفات التي ضمت تحت مظلة واحدة كلا من حزب العمل والمتدينين وقوى من الليكود، بل حتى من اليمين المتطرف.

كما أن من الخطأ الأشد استخلاص استنتاجات تتعلق بانتخابات الكنيست المقبلة من انتخابات الهستدروت. فأولاً، ستكون القوائم التي ستخوض انتخابات الكنيست مختلفة وأكثر تمايزاً وعدداً، وسينفرط عقد التحالفات الحالية؛ وثانياً، لن تكون القضايا المدرجة  في جدول الأعمال القضايا الاجتاعية، وإنما في الأساس القضايا السياسية والأمنية. ولن يعطي ناخبوا المتدينين والليبراليين المستقلين وليبراليي الليكود وأنصار اليمين المتطرف أصواتهم لحزب العمل، بل لأحزابه؛ وثالثاً، ستكون المشاركة في الانتخابات أوسع، والذين لم يصوتوا هذه المرة لعدم اشتراك أحزابهم ربما، مثل "هتحيا" و"تسومت" و"موليدت" وغيرها، سيصوتون في انتخابات الكنيست؛ وقد أشرنا أعلاه إلى مغزى ذلك.

وإنْ كان ثمة مغزى سياسي لانتخابات الهستدروت، فهو لا يعدو ما وصته صحيفة "هآرتس" (الافتتاحية، 15/11/1989) بالرسالة السياسية العامة للنتائج: "أن الانطباع الذي نجم عن نتائج انتخابات الكنيست والسلطات المحلية، كما لو أن الليكود هو القوة الصاعدة في الدولة – هذا الانطباع فقد شيئاً من قوته الإيحائية."

 

 

أدوار الهستدروت

وبنيته التنظيمية

تأسس الهستدروت ("الاتحاد العام للعمال العبريين في أرض – إسرائيل") سنة 1920 على يد الحركة الصهيونية العمالية، وقبل العرب كأعضاء كاملين فيه في سنة 1969، وأسقط كلمة العبريين من اسمه. والهستدروت، في الواقع، ليس اتحاداً عمالياً بالمعنى المألوف أو كما يوحي اسمه بذلك.

فهو يضم في صفوفه، بالإضافة إلى العمال، الأغلبية الساحقة من الموظفين والمستخدمين في الحكومة وفي نشاطات القطاعين العام والخاص، وكل أعضاء الحركة الزراعية التعاونية (الكيبوتسات والموشافيم) وشرائح مهنية واسعة تنتمي بوضوح إلى الطبقة الوسطى مثل: الأطباء والمهندسين، والمحامين، والأكاديميين، والمعلمين... إلخ. ومن هنا العد الكبير لأعضائه الذي بلغ عشية الانتخابات لمؤتمر الهستدروت هذه السنة، نحة 1,447 ألف عضو.

وهو يقوم، بصفته ممثلاً للعمال والمستخدمين والنقابات المهنية، بالتفاوض مع اتحاد الصناعيين والحكومة في شأن الأجور وما يتفرع عنها وشروط العمل. وهذا هو دوره الطبيعي. لكنه، بالإضافة إلى هذا الدور، يقوم بأدوار أخرى متعددة ليست من شأن النقابات العمالية في الدول الأخرى.

فهو يمتلك ويدير امبراطورية اقتصادية ضخمة، ويقدم خدمات صحية واجتماعية تشمل معظم السكان في إسرائيل، ويشكل مركزاً لنشاطات تعليمية وثقافية ورياضية على مستوى واسع النطاق في إسرائيل. ويرجع طابع الهستدرون الخاص هذا إلى أوضاع نشأته في مجتمع المستوطنين اليهود في فلسطين خلال عهد الانتداب. فقد أسسته حركة العمل الصهيونية ليس من أجل الدفاع عن حقوق العمال اليهود فقط، بل أيضاً من أجل أن يكون في حد ذاته نواة المجتمع الصهيوني الاشتراكي الذي سعت لإقامته.

ويقوم الهستدروت بدوره الاقتصادي من خلال "حفرات هعوفديم" ("شركة العمال") التي تنتج ما يقارب 25% من الناتج القومي الصافي في إسرائيل. وتمارس "حفرات هعوفديم" نشاطاتها من خلال ست مركبات صناعية عملاقة، أشهرها شركة "كور" التي تنتج أنواعاً مختلفة من الأسلحة والسلع المدنية، وتستخدم 34,000 عامل، وشركة "سوليل بونيه" التي تعتبر أكبر شركات البناء في إسرائيل وساهمت في مشاريع إنشائية كثيرة في آسيا وأفريقيا، ومن خلال مؤسسات مالية كبرى، مثل "بنك هبوعاليم" وهو ثاني أكبر مصرف في إسرائيل، وشركة "حسنه" (Hasneh) التي تعتبر أكبر شركة تأمين في البلد. وتمتلك "حفرات هعوفديم" التعاونيات الإنتاجية والاستهلاكية التي تتشكل منها حركتا الكيبوتسات والموشافي، والتي تنتج ما يقارب 75% من المنتوج الزراعي. كما أن لها مشاريع عديدة مشتركة مع كل من الحكومة، والوكالة اليهودية، والقطاع الخاص.

ويمارس الهستدروت دوره، في مجال الخدمات الاجتماعية، في الأساس، من خلال "كوبات حوليم" ("صندوق المرضى") التابع رسمياً لـ"حفرات هعوفديم" والذي يقدم، بواسطة شبكة واسعة من المستشفيات والمستوصفات، الخدمات الصحية لـ 83% من السكان في إسرائيل، وعبر صناديق التقاعد المسؤولة عن 93% من مخصصات التقاعد المدفوعة في إسرائيل.

ويقدم الهستدروت، فوق ذلك، برامج تعليمية للكبار والصغار، ويمتلك دار نشر لإصدار الكتب باللغتين العبرية والعربية ("عام عوفيد")، ويصدر صحيفة "دافار" اليومية، ويدير أهم النوادي الر ياضية في البلد، "هبوعيل" ، الذي يوجد له 600 فرع منتشرة في أنحاء إسرائيل كافة.

وقد كان هذا الطابع الخاص للهستدروت، الذي يجعله ممثلاً للعمال ورب عمل في آن، ومسؤولاً عن خدما هي من شأن الدولة في بلاد الرفاه الاجتماعي، موضع رفض وتساؤل خارج صفوف الحركة العمالية منذ البداية. فقد هاجمت أحزاب اليمين والوسط الهستدروت بسبب أدواره المتعددة، وطالبته بالاكتفاء بدوره النقابي فقط، وحاولت منافسته عن طريق إنشاء اتحاد عمالي ("هستدروت هعوفديم فلئومييم" / "اتحاد العمال القوميين")، وصندوق للمرضى ("كوبات حوليم  ليئوميت" / "صندوق المرضى القومي") مستقلين عنه. لكن هذه المنافسة لم تكن فعالة بسبب النجاحات المطردة التي حققها الهستدروت طوال السنين والتي اضطرت للاستفادة من نشاطاته وخدماته ومحاولة التأثير فيه من الداخل، من دون أن تغير آراءها فيما يتعلق بدوره.

وقد كان من أهم أسباب نجاح الهستدروت في ممارسة أدواره المتعددة سيطرة حركة العمل، كلياً حتى سنة 1977، وجزئياً بعد ذلك، على مقدرات الحكم والموارد المالية الهائلة للدولة، الأمر الذي أتاح لها مساندة اقتصاد الهستدروت وإقالته من عثراته كلما تطلب الأمر ذلك، وإخفاء إخفاقاته وعيوبه. وهو وضع بدأ يتغير منذ صعود الليكود إلى سدة الحكم سنة 1977. ويتوقع المراقبون أن يؤدي تغيره إلى انهيار اقتصاد الهستدروت وبالتالي إلغاء دوره الاقتصادي في المدى المنظور.

ومن ناحية البنية التنظيمية، فإن صورة الهستدروت هي التالية: السلطة العليا هي المؤتمر، الذي ينتخب مرة كل أربعة أعوام وفقاً لنظام التمثيل النسبي، وينتخب المؤتمر مجلس الهستدروت وفقاً لنسب القوى التي حصلت عليها الأحزاب المختلفة في المؤتمر، وينتخب هذا بدوره لجنة تنفيذية تتولى إدارة نشاطات الهستدروت من خلال الدوائر والأقسام المختلفة. وتختار اللجنة التنفيذية، من أعضائها، لجنة تنسيقية (مركزية) لإدارة العمل اليومي.

والعضوية في الهستدروت شخصية لا سياسية. لكن عملية الانتخابات وتشكيل الهيئات القيادية يتمان على أساس حزبي.