كنت وما زلت أقول إننا لن نظفر بحقنا في استعادة فلسطين ما لم نستحق فلسطين، أي ما لم نرتفع إلى مستوى النضال الذي يفرضه هذا الاستحقاق. فلقد أمضينا أعواماً كثيرة، وأضعنا زمناً ثميناً، ونحن نطالب بهذا البلد العربي العريق استناداً إلى حقوقنا التاريخية والقومية فيه. ولا شك في أننا تأثرنا، في هذا المسعى، بما صرّح قادة الدول الكبرى به منذ أوائل هذا القرن – وخصوصاً خلال الحربين العالميتين وبعدهما – وبما ورد في المواثيق الدولية وفي مناقشات المنظمات العالمية وقراراتها، عن احترام حقوق الشعوب وتأييد حريتها وسيادتها؛ فبذلنا الكثير من جهودنا في تذكير الحكومات والشعوب الأخرى بحقوق الشعب الفلسطيني العربي في أرضه وفي تقرير مصيره، ولم نبذل ما فيه الكفاية في سبيل تجنيد قوانا الذاتية للدفاع عن هذه الحقوق وحمايتها من الهجوم الصهيوني الاغتصابي عليها.
ولا إنكار أن عالمنا قد شهد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وقيام منظمة الأمم المتحدة انحساراً بيّناً للاستعمار التقليدي، وتقدماً سريعاً في حصول الشعوب المستعبدة على استقلالها (على ما يعتري هذا الاستقلال من نواقص) وتبوئها مراكزها في منظمة الأمم المتحدة، باستثناء الشعب الفلسطيني. وما هذا الاستثناء الغريب إلاّ لأن هذا الشعب كان يواجه، بالإضافة إلى الاستعمار التقليدي، خحركة استعمارية خاصة مرتبطة به ومتصفة بدينامية خارقة، هي الحركة الصهيونية التي هدفت إلى استعمار فلسطيني، بأشد أنواع الاستعمار عرياً وفظاعة، أي بالاستيلاء الفعلي على ترابها الوطني وإجلاء سكانها عنها واستجلاب اليهود من مختلف أصقاع الدنيا وتحويلها إلى مجتمع عبري ودولة إسرائيلية.
هذه هي الحركة التي هاجمتنا ونحن بعد في دور خضوع وركود، حشدت لنفسها قوة سياسية – اقتصادية ت علمية قائمة على قواعد العصر الحديث، واستعانت بها خلال تكوّنها وتطورها: منذ ظهورها على المسرح العالمي في أوروبا أواخر القرن الماضي، إلى نجاحها في إدخال أعداد متنامية من اليهود إلى فلسطين وتجميع كثرة منهم في جوال مستعمر، إلى خطوتها التاريخية في إقامة دولة إسرائيل وحمل عدد كبير من الدول على الاعتراف بها، إلى التوسع الذي أحرزته هذه الدولة في الحرب والسلم، إلى قيامها في الوقت الحاضر على جزء كبير من أرض فلسطين، واحتلالها لما بقي من هذه الأرض مع أراض خارج فلسطين في سوريا ولبنان، وسومها الفلسطينيين في ظل حكمها شرّ أنواع القهر والتعذيب والتشريد والتدمير.
ومما يدل أيضاً على قدر ما حصلت، توسعها في إعلان أهدافها؛ فبينما كانت في المراحل الأولى تتستر وتتواضع، غذا برئيس حكومتها في الوقت الحاضر لا يتورع عن القول جهراً إنه لا يتنازل عن شبر من أرض فلسطين، ولا يقبل بقيام دولة فلسطينية مهما تكن صغيرة ومتواضعة على مجمل الأرض التي تبسط إسرائيل سلطتها عليها، وإذا بتنظيمات وأحزاب من الإسرائيليين تدعو علناً إلى إجلاء جميع الفلسطينيين عن أرض فلسطين بالقوة، حتى القتل والإفناء إذا لزم الأمر. وفي مقابل هذا، نرى القيادة الفلسطينية والقيادات العربية تتراجع في مطالبها من استعادة كامل الأرض العربية وتأمين استقلالها وعروبتها، إلى الدعوة إلى دولة ديمقراطية يشترك فيها العرب واليهود في الحكم، إلى القبول بالتقسيم (بعد أن رفضته سنة 1947) والمطالبة بدولة فلسطينية تقوم إلى جانب إسرائيل على رقعة صغيرة من أرض فلسطين الموروثة. لكن حتى هذا القليل لا تزال إسرائيل، مستندة إلى دعم الولايات المتحدة لها، ترفض التسليم به، منكرة حقوق العرب التاريخية والقومية، ومدعية حق الشعب اليهودي التاريخي، بل الإلهي المطلق الذي لا يقف في وجهه أي حق آخر. ولم تُفِد دعوات القيادات الفلسطينية والعربية إلى السلام، وإلى عرض هذه القضية للبحث والمناقشة والحل في إطار مؤتمر دولي، في تحويل إسرائيل عن متابعة مقاصدها بالقوة الضارية والعنف الطاغي، وهي التي تتهم الحركات التحريرية الفلسطينية باستخدام "العنف" و"الإرهاب"، وتقيم الدنيا عليها وعلى المنتسبين إليها.
وفي نظرنا، إن هذا الفارق بين النجاح النسبي الذي أصابته الحركة الصهيونية حتى الآن، وبين التعثر الذي اعترى الردود الفلسطينية والعربية، يرجع إلى الفارق في القدرة بين الجانبين: الجانب الصهيوني الذي تمكن من استخدام وسائل العصر الحديث لتجنيد قواه الداخلية واجتذاب الدعم الخارجي، والجانب العربي الذي تخلفه في هذا المجال. وفي مقدمة أسباب النهوض من هذا التخلف، إقدام الجانب العربي على تفحص هذا الفارق تفحصاً واعياً، وعلى السعي الجدي المستمر للتغلب عليه ولعكسه لمصلحة العرب. والقدرة التي نتحدث عنها هنا هي القدرة الفعلية، المحققة والعاملة في الميادين الوطنية والقومية والعالمية. إن للعرب تفوقاً بارزاً في سعة الأرض وعدد السكان وغنى الموارد الطبيعية وغيرها من الإمكانات، لكن لا يدخل في الواقع من هذه الإمكانات في الميزان أو الميدان إلاّ ما استغل استغلالاً محكماً. أما ما بقي غير مستغل أو مستغلاً استغلالاً ناقصاً أو رديئاً، فقد يعود عبئاً وعائقاً بدلاً من أن يكون عامل حفز وتقوية.
وليس معنى الاهتمام ببناء القدرة الذاتية وتحقيق إمكاناتها الانصراف عن التمسك بالحق، وعن غرس معانيه في القلوب والنفوس والدفاع عنه في شتى المجالات؛ فالحق هو الذي يذكي نار المقاومة ويبعث نشاطها، لكنه لا يكفي وحده، وخصوصاً في هذا العصر الذي توافرت فيه مصادر القدرة وتصاعد أثرها.
وإذا نحن وجهنا النظر إلى القدرة الذاتية وأكدنا أهميتها، فلما شاع ويشيع في مجتمعنا العربي عن تآمر الدول المستعمرة علينا، ولما تعودنا تضخيم هذا الدور تضخيماً يحجب في أذهاننا – بوعي أو لا وعي – مسؤوليتنا الخاص ودورنا المطلوب. ولا جدال في أن القوى الكبرى النافذة قد طغت علينا باستعمارها التقليدي واستعمارها الجديد، وأن ما أصابنا من تراجع وتردّ في فلسطين وغير فلسطين هو، إلى حد كبير، من صنع أيديها ظاهراً أو باطناً. لكن ما كان لهذه الدول أن تصنع ما صنعت أو أن تحدث هذا الأثر الخطر في ما ابتلينا به من خسائر متتابعة لولا أمران: (1) تراخينا نحن في توليد قدرتنا الذاتية التي هي ملاذنا الأمين، وتركنا الفساد يتفشى فينا ويبدد ما يتجمع لدينا من هذه القدرة ويضعف أثرها؛ (2) قدرة الصهيونية على اجتذاب هذه القوى إلى جانبها والحصول على تأييدها، وإفساد العلائق بينها وبين العرب، وجعلها تستهين بالحقوق العربية وتقف سداً منيعاً في وجهها.
من مزايا هذه القدرة الذاتية الفعلية أنها لا تنحصر في حيز واحد، بل تنتشر في المجتمع عامة بمظاهر مختلفة في الميادين العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولا يتسع مجالنا هنا لتناول هذه المظاهر المختلفة واقتراح ما يجب إعداده لكل منها، ولها جميهاً، من أجل تكوين المجتمع العربي المتحرر القادر. بل ليست هذه المهمة الجليلة من شأن فرد من الأفرد أو أفراد وجماعات متفرقين، وإنما هي من شأن القيادات العربية، تنصب على هذا المطلوب وتخصص له فرق عمل واعية ومنتظمة لتستخرج الواجب تحقيقه في كل من ميادين النضال، وفيها كافة، ليكون لنا المجتمع العربي المنشود. وبإبدائنا ملاحظاتنا في هذا المقال، إنما نتوجه إلى هذا المجتمع في وضعه الحاضر. فلقد أصبح واضحاً في نظرنا أنه ليس مهيأً لكسب المعركة الحاضرة، أو للإعداد الصحيح للمعارك المقبلة، وأنه لن يقوى على هذا وذاك إلا إذا جاز تغيراً جذرياً شاملاً في وجوه تكوينه وفي أساليب فكره وعمله – تغيراً يجدد قياداته ويزيل الكوابس الضاغطة على شعوبه، ويستبدل بالتركيبة الاجتماعية – السياسية – العقلية الحاضرة كياناً عضوياً يفيض بالحياة ويندفع إلى استجماع أسباب الحصانة والتقدم. ومن دون هذا التغير، لا يستطيع مجتمعنا أن يحمي ذاته حاضراً ومستقبلاً مهما يجند من جيوش ويجمع من أسلحة ويهيىء من أموال ويحشد من وسائل الكفاح المادية بوجه عام.
وينشأ نتيجة هذا التغير المجتمعي ويصاحبه ويؤثر فيه تغير عقلي نفسي، يماثله في جذريته وشموله، ويقلب الإنسان العربي من وضعه العاجز المنفعل إلى وضع يتميز بالقوة والعقل. ولعل من الخير أن نشير إلى بعض الصفات الأساسية التي يتميز هذا الوضع الإنساني المنشود بها. وهي صفات بسيطة في ظاهرها، وقلما يهتم المحللون والمخططون بها مع أنها جليلة في قيمتها وأثرها، وتكاد تكون أصعب تحقيقاً وأبعد منالاً من التعبئة المادية والتجهز العسكري أو الاقتصادي، بل أن هذا التجهز وتلك التعبئة لا يتمان إلا بقدر نموّ هذه الخصائص في الإنسان العربي، فرداً ومجموعاً. وغاية هذا المقال أن يوجه الاهتمام إلى بعض هذه المزايات الأساسية التي ما فتئنا نفقدها، والتي يؤدي فقدنا إياها إلى ما نحن عليه من تعثر وتردي.
ونبدأ بأقرب هذه المزايا إلى الغرائز الطبيعية وإلى دلائل الحياة. وهي مزية الغضب والتمرد على القهر الخارجي، وعلى الفساد والعجز الداخليين. من المؤلم حقاً أن هذا الدليل الأولي على الحيوية الفردية والجماعية هو اليوم في دور ركود وخمود. فإذا استثنينا ما يبدو منه في الثورة الفلسطينية وفي مظهرها الرائع الأخير، الانتفاضة – نجد أنه يكاد يكون معدوماً في بلادنا الواسعة. ومن المفارقات الغريبة أن شعوب هذه البلاد، عندما كانت في ظل الحكم الأجنبي، كانت تحتدم نقمة وغضباً كلما ألمّ ببعضها ألم أو انتابته محنة. كانت شعوب سوريا ولبنان واعراق ترافق أشقاءها في مصر والمغرب في ثوراتها، كما كانت هذه تتبع تلك وتشاركها في تحركها وتمردها. ومن عاش وعمل زمن الحكم الأجنبي يذكر كيف أن أصداء الغضب الثائر كانت ترتفع وتتعاضد بإحساس تلقائي مشترك، مخترقة الحواجز والسدود التي كان يقيمها المستعمر. أما اليوم فإن الحواجز والسدود قد ازدادت جسامة ومناعة، والانبعاث الغضبي قد تضاءل أو تبدد وجاء دليلاً على خمود الحيوية الشعبية والتمرد الوطني بسبب ما تعانيه الشعوب من كبث وإذلال على أيدي الأنظمة التي تحكمها. لقد انقلبت هذه الشعوب – بعد يقظتها في الحركات الوطنية الأولى – إلى "جماهير" يُدّعى أنها مصدر السلطة وليس لها من السلطة شيء، وإلى "رعايا" تخدم السلطان وتتحرك أو لا تتحرك بتلآليات النافذة التي يقوم حكمه عليها. فهل تستطيع هذه الجماهير أو الرعايا أن تغضب وتتمرد، أم أنها فقدت القدرة على ذلك، لقد اعتدت إسرائيل على لبنان في صيف سنة 1982، واجتاحت جزءاً كبيراً منه بما فيه عاصمته بيروت، وهي أول عاصمة عربية تنزل هذه المحنة الهائلة بها، فانحصر الغضب والتمرد البطولي في أهل هذه العاصمة الصامدة وفي المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، ول تثر الشعوب العربية كما كانت تثور في السابق لأسباب أبسط من هذا كثيراً، كاعتقال مقاتلين أو نفي زعيم. ولم تخرج في أي من البلاد اعربية تظاهرة تعلن غضب شعب ذلك البلد، بينما قامت تظاهرات احتجاجية في بعض البلاد الأجنبية. وكذلك الأمر في ما يجري يومياً في فلسطين المحتلة من قتل وسجن ونفي وتدمير وتهجير. فأين صدى هذه الفظائع في البلاد العربية؟ ما لم تستعد الشعوب العربية حيويتها المستلبة، وما لم تسترد قدرتها على الاستنكار والغضب، ستبقى عاجزة عن المساهمة المطلوبة في النضال من أجل فلسطين. وكما قلنا، يكاد هذا الغضب ينحصر اليوم في "انتفاضة" الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال، التي ما زالت منذ عامني تذكي شعلة المقاومة الفلسطينية في الداخل على الرغم مما تتعرض له، وما يتعرض الشعب الفلسطيني له، من قمع وتقتيل وتدمير لم يعد له ما يماثله أو يقاربه في هذا العصر إلا ما تقوم به الأقلية العنصرية في جنوب أفريقيا تجاه الأكثرية من السود.
وتتحدث الصحف، في هذا اليوم الذي أراجع فيه مسودة هذا المقال، عن الحملة الصهيونية التي تعرّض لها في الولايات المتحدة فيلم أميركي تسجيلي للانتفاضة الفلسطينية عنوانه "أيام الغضب، الشعب الفلسطيني"، مما اضطر شبكة التلفزة التي رعته إلى تعديل محتواه وعنوانه قبل التمكن من عرضه. وهذا دليل من الدلائل على أن غضب أبناء الانتفاضة بدأ يلفت الأنظار ويثير الإعجاب في الأوساط الشعبية الأجنبية، وأن الصهيونية واقفة لها بالمرصاد، لا بالتنكيل والقمع في الداخل فحسب، بل في مجالات الإعلام في الخارج، في الولايات المتحدة بخاصة حيث لها ما لها من تسلط في هذه المجالات وفي سواها من وجوه النشاط العام.
ولا بد من القول إن هذا الجانب من القدرة الذاتية، الدال على الحيوية الشعبية، يؤتي ثماره الصالحة بقدر ما يكون مصحوباً بانضباط داخلي يجعله سيد نفسه ويوجهه إلى هدفه من دون تحويل إو إفساد من قبل الطامعين أو المغرضين. وهذه المنعة الداخلية تتكون، بدورها، بقدر ما ينمو في المجتمع باعث آخر – لعله الباعث الأهم – من مباعث القدرة الذاتية، وهو العقلانية. ونعني بها الإقدام على معالجة الشؤون العامة والخاصة بالإدراك الواعي والتفكير النيّر والأساليب التي يقرّها العلم، لا بالتوهم أو التخيل أو النزعات البدائية المسيطرة على النفس. وهنا أيضاً لا يزال مجتمعنا العربي دون "العقلانية" أو "العلمية" المطلوبة لانتظام صحة المجتمع وسداد خطاه، وخصوصاً في هذا العصر حيث يبرز العلم دليلاً أولاً على القدرة ومعياراً راجحاً للتقدم. ولسنا نعني بالعلم هنا التقانة المتخصصة أو الأدوات المتطورة التي تجري وراءها اليوم الدول المتخلفة بإغراء من الدول المتقدمة، وإنما نعني ما هو أعمق جذوراً وأشد أصالة وما يكوّن في نهاية الأمر جوهر العقلانية وحقيقة العلم، أي الميزات والقدرات التي تسعى لإدراك حقائق الطبيعة وطبائع الإنسان والمجتمع بالملاحظة والتحري والنقد – الذاتي منه بخاصة – والاختبار والربط والتأليفغ. إنها قدرة ذاتية مكتسبة تشيع في شتى ميادين الحياة: في البيت، والمدرسة، والحقل، والمصنع، والمعبد، وفي أساليب الحكم والإدارة، وتسم النظر والسلوك الإنسانيين بسمات معيّنة ترفعهما عن البدائية إلى مراتب الحضارة.
تُرى، لو كان المجتمع اللبناني مجتمعاً عقلانياً، أكان ينطلق في الحرب القذرة التي ما زال يتمرغ فيها منذ خمسة عشر عاماً؟ لقد كشفت هذه الحرب أن وراء القشرة الرقيقة من الثقافة والإشعاع اللذين كانت تزهو الحياة اللبنانية بهما، كانت القوى الحقيقية المتحكمة في هذه الحياة العصبية الدينية أو الطائفية أو العسكرية، والتهافت على الجاه والمال والسلطة مهما يكن السبيل إليها. وكل من هذه العوامل، وسواها مما أشعل نار لبنان، لا يمتّ إلى العقلانية بصلة، بل هو عدو لدود لها يقف حائلاً دون اكتسابها ويضيّع ما اكتسب منها. وكذا الأمر في المجتمعات العربية الأخرى: فلو كانت هذه المجتمعات تتصف بقدر محسوس من العقلانية في نظرها إلى الأمور ومعالجتها لها، لكانت سارت سيراً حثيثاً في سبل الإنتاج والتنمية، وفيما يخص لبنان: لامتنعت من التدخل في صراعاته، ولصانته من شرور هذا التدخل وأسواء التدخل الدولي، ولأعطته بتصرفها القومي السليم مثالاً يحتذيه في الخيار الوحيد الذي ينقذه، وهو الخيار القومي العلماني المتميز بالوحدو الوطنية والرابطة العربية والتقدمية الصحيحة.
ولسنا بحاجة إلى هذا المثل الرهيب للتدليل على ضآلة العقلانية في تصرفاتنا العام والخاصة. إن هذا المثل يكشف جاهليتنا في حالتها التفجرية، لكنها هي فينا وبيننا حتى في الأحوال التي تبدو أوضاعنا فيها هادئة سليمة. وشرّ من هذه الجاهلية تسرّبها إلى الأجيال القادمة وتراكمها فيها. فإذا نحن نظرنا في أنظمتنا التعليمية ونتائجها في السنوات الأخيرة نرى أنها – على الرغم مما حققته من تعميم التعليم في مختلف مراحله، ومما أنشأته من وسائل تخصصية في المراحل العليا من الآداب والعلوم والفنون، ومما حققته من إنجازا أخرى يجدر الإقرار بها – لم تغير ناشئتنا تغيراً جذرياً ولم تحوّلها تحولاً كافياً من قوة منفعلة إلى قوة فاعلة، فبقيت تنظر إلى الأمور وتقوّمها وتعالجها بدوافع الغريزة والعاطفة البدائية، أكثر منها بمقتضيات العقل المدرك الفاعل الضابط. وما زلنا بالتالي بحاجة إلى إحداث تغيير جذري واسع النطاق في تربيتنا المدرسية والعامة. إن جميع معلومات الدنبا – إذا حشونا ذاكرتنا بها – تبقى عديمة الفائدة ما لم تكن مصحوبة، أو مسبوقة بذهن متفتح، يرى المشكلات بشموليتها وبترابط عناصرها، ويتقدم إلى معالجتها بالجرأة المطلوبة، جرأة الموضوعية، والنقد الذاتي، والحرص على الحقيقى. ولعلنا إذا نظرنا إلى مشكلاتنا كلها: التبعية للدول النافذة، وعجزنا عن التغلب على الخطر الصهيوني، وتسلّط أنظمة الحكم عندنا على المواطن والإنسان، وتعثر تقدمنا الاقتصادي، وتفشي الفساد الاجتماعي، وتردي أوضاعنا التعليمية – إذا نظرنا إلى هذه المشكلات الرئيسية وسواها، رأينا في رأس جذورها ضآلة العقلانية وضمورها، وتحركنا في مجابهة هذه المشكلات تحركاً أقرب إلى البدائية والتشتت منه إلى الوعي والتركز، وقاصراً عن مطاليب هذا العصر.
ويقودنا هذا إلى القول إن في مقدمة دلائل عقلانية المجتمع وتغلبه على الوهم والتخيّل والخطأ إدراكه أنه يعيش في العصر الحاضر لا في زمن زال ومضى، أو في مرحلة لم تبد بوادرها بعد، وأن من أول واجباته تفهم خصائص هذا العصر، والإعداد لتوفيه مطاليبه العسيرة. فقوى الحياة العصرية جبّارة في انطلاقتها وتسارع تغيّرها وتراكميتها، وقدرتها على نفي كل ما يناقضها أو يقصر عنها. ولسنا نقول إن هذه القوى هي كلها إيجابية وتقدمية في محتوياتها الإنسانية، لكننا نزعم أنه لا يستطيع الفصل بين إيجابياتها وسلبياتها، وبين الصحيح والفاسد من عناصر تقدميتها، والإقبال على اقتباس الإيجابي الصحيح وتجنب السلبي الفاسد، إلا من ارتفع إلى مستواها، ووقف على أسرارها، وكان حقاً من أهلها يشارك فيها إدراكاً وفعلاً. ومن هنا كانت العقلانية مكسباً مهماً، بل المكسب الأهم، من القدرة الذاتية المطلوبة في هذا العصر لمن يروم العزة، بل مجرد البقاء.
ومن بواعث القدرة الذاتية ومزاياها ممارسة الصدق واكتساب المصداقية. ونعني بالصدق هنا تطابق القول والفكر والعمل. فما أقل ما تأتي أفكارنا وأعمالنا مطابقة لأقوالنا، وما أكثر ما تختلف هذه وتلك وتتناقض. كم من تصريح بالتزام القومية العربية تردده الصحف والاذاعات هو في الواقع مخالف للأفكار المحرّكة وللسياسات المطبقة. وكذا الأمر في الأهداف والتوجهات الأخرى – التي لم تعد أكثر من شعارات – كالوحدة والتضامن والحرية والمساواة والعدالة والديمقراطية والأصالة والمعاصرة وسواها. إن ضراوة المعارك الإنسانية في هذا العصر وتلاحقها وتضاربها لا تسمح بأي زيف، مهما تعمل القوى الدعاوية الجبارة على إخفائه، بل تكشفه وتفضحه عاجلاً أو آجلاً. ومثلما تتطلب هذه المعارك العقل الدائم التنبه، كذلك تقتضي الأمانة الصادقة الثابتة، وعلى أبناء المجتمع العربي أن يتفحصوا دوماً ما يعلن باسمهم من أهداف ووسائل ليتأكدوا من صحته وصدقه، وأن يتبينوا ما لهم ولقياداتهم من مصداقية لدى المجتمعات الأخرى والرأي العام العالمي. فالخداع والانخداع لا يحميان أي مجتمع، بل يضعفانه ويجعلانه عرضة لنوازل الأحداث. وأما الصدق والمصداقية فهما، في نهاية الأمر، مصدر عون ودعم لأنهما يعبران عن جانب مهم من القدرة الذاتية التي يتمتع المجتمع بها.
لقد ذكرنا ثلاث مزاعا عقلية ونفسية تسعف في تكوين القدرة الذاتية الفعلية وترمز إليها، مؤكدين أصالة هذه المزايا وأثرها الإيجابي في ما نحن مدعوون إليه من نضال، ولا بد من أن نبدي ملاحظتين هنا:
الأولى هي تعرضنا لنقد القائلين بأولوية التجهز المادي، مثل: حشد الجيوش والمعدات، والتنمية الاقتصادية، والتنسيق الاجتماعي، والتوازن الاستراتيجي مع الصهيونية، وتحقيق الوحدة العربية – على الأقل في جبهة من جبهاتها – والحصول على الدعم الدولي، وما إلى ذلك، وأن التشديد على ما ذكرنا في هذا المقال إنما هو تحويل للأنظار والأذهاب عن الأهداف الصحيحة، ناشىء عن تحليل ساذج أو مغلوط فيه للأوضاع السائدة. والواقع أننا لا ننكر أيّاً من الأهداف المذكورة، بل ننادي بها ونؤيدها، وإنما نقول إنها لا يمكن أن تتحقق إلا باكتساب الصفات والمزايا العقلية والنفسية التي أوردنا أمثلة لها. فمن لم يتحرر في ذاته بالإيمان الصادق والعقل الراجح والغضب الطار، لا يقدر على تحرير سواه.
ولعل هؤلاء الناقدين أو سواهم قد يتهموننا أيضاً بالسذاجة، أو بما هو أخطر منها على أساس أن القوى العالمية النافذة وقوى الصهيونية المحيطة بنا لا تتميز بهذه المزايا، بل بقدرتها العسكرية – السياسية – الاقتصادية. والرد على ذلك أن هذه القوى قد جازت التطور الذي ندعو إليه، أي التغير الحضاري المصحوب بالتغير الذاتي (العقلاني منه بخاصة)، فكوّنت لنفسها من القدرة الذاتي ما أمّن الغلبة لها حتى مع فقدانها بعض هذه المزايا، وأهمها الخلقية كالولاء الإنساني واحترام حقوق الغير. أما نحن فلم نجز ما جاوزه من تغيّر حضاري وعقلاني، ولذا كان ضعفنا بالنسبة إليهم بارزاً واضحاً، وحاجتنا شديدة ملحة إلى التعويض من قصورنا هذا بتحصننا بالفضائل الإنساني التي تعزز قدرتنا الذاتية.
أما الملاحظة الثانية فهي تجاري الأولى، ومؤداها أن ما ندعى إليه – نحن وسوانا في العالم الثالث – في الآونة الأخيرة من شرورة التنمية إنما يتوجه كله أو أكثره إلى النواحي المادية، كزيادة الإنتاج بتحديث الزراعة والصناعة والتجارة، وتغليب التصدير على الاستيراد، وزيادة الدخل القومي، وما إليها من المقاييس الاقتصادية. وقلما تشير دعوات التنمية الحديثة إلى ضرورة إصلاح الإنسان ذاته إصلاحاً جذرياً وشاملاً؛ هذا الإصلاح الذي يجب أن يبقى نصب العين، والذي نحتاج إليه في كل جانب من جوانب كفاحنا، ومنها كفاحنا من أجل فلسطين.
قلنا: ومنها كفاحنا من أجل فلسطين. والواقع أن لفلسطين مطالب خاصة مستمدة من موقعها الجليل وعطائها الثمين في التاريخ الحضاري. فلقد ارتبطت بالديانات الموحدة الثلاث، وبدعوات هذه الديانات إلى التمسك بالفضائل الإنسانية والارتفاع في سلّم الرقي. فحري بالنضال في سبيلها أن يكون متسماً برمزها الحضاري هذا، ومطابقاً لموقعها في التراث الإنساني، وأنه لمن المفارقات التي تستدعي الانتباه أن البلد الذي كان مصدر الكثير من النوازع الروحية التي منها انبعثت المبادىء التحررية خلال التاريخ – أن هذا البلد يبقى وحده تقريباً محروماً من تطبيق هذه المبادىء. وعلى العالم دوماً أن يذكر أنه لا يصح أن تكون فلسطين، المتميزة بتراثها الروحي الفريد، ألعوبة في أيدي الطامعين المتجبرين. وفي كل حال، سواء اهتم العالم بمقام فلسطين هذا وبنوع التوجه الذي يفرضه، أو لم يهتم، يجدر بنا نحن العرب أن نستمد منه ما يلهمنا في تطهير نفوسنا وتجديدها لنغدو جديرين بها وبالنضال من أجلها.
كثيراً ما تطلع بعضنا إلى الثورة الفلسطينية أن تكون الجذوة التي تلهب الحياة العربية، وتنقيها من أدرانها، وتضيء طريقها إلى التغيّر الأساسي المطلوب. ولقد دلت الانتفاضة الرائعة التي عرفت كيف تجابه الحديد والنار بعمق الإيمان وجلال التضحية، على ما يكمن في الثورة الفلسطينية من قدرة ذاتية يرجى أن تفرض نفسها على المجتمع العربي الأوسع، وتساهم في تأهيله لتحقيق إمكاناته الثرية ومجابهة تحديات هذا العصر الرهيبة والتحديات الأشد رهبة الماثلة في أفق المستقبل.
القاهرة، أيلول/سبتمبر 1989