ها هو آدم دنون، يخرج من الرواية، ويتجسد صبيّاً فلسطينياً بلحم وعظم ودم، قاطعاً مسافة 70 عاماً، ليعود إلى اللّد، متفحصاً ما كان غيتو بعد احتلالها مباشرة، ومتتبعاً سيل الدم الذي جرى في شوارع المدينة بعد المجزرة، وسائراً، مع المطرودين، على درب آلام الجلجلة اللديّة نحو المجهول.
رواية الياس خوري "أولاد الغيتو: إسمي آدم" كانت محور لقاء في اللد، نظمته مجموعات شبابية في المدينة، وأُقيم في "نادي الجبهة" مساء الجمعة 13 تموز / يوليو 2018، في الذكرى السبعين لاحتلال اللد، وارتكاب واحدة من أكبر مجازر حرب النكبة سنة 1948، وتشريد الأكثرية الساحقة من سكانها، ووضع الباقين في غيتو مقفل بالأسلاك الشائكة؛ وخوري نفسه، كانت له كلمة عن المناسبة.
إحياء المناسبة، بدأ بجولة للمشاركين في غيتو اللد، ثم في المدينة القديمة. بعد الجولة هذه، قدمت فرقة رقص تراثي شعبي (الدبكة) رقصة في الساحة كإعلان عن إرادة الحياة التي لن تقهرها الغيتوات والمجازر و"الترانسفير".
ثم استمع المشاركون إلى كلمة الروائي ورئيس تحرير "مجلة الدراسات الفلسطينية" الياس خوري، عبر "السكايب"، التي حملت عنوان "إنها اللد.. إنها فلسطين"، وجاء فيها:
أريد بداية أن أعترف بأنني أشعر بالارتباك، كأنني كاتب مبتدئ يتعلم أن يتهجى إيقاع نص يعرف أنه عاجز عن كتابته. فالكلمات التي اختزنها الصمت طوال سبعين عاماً، تتشقق بين يديه وتستولي على روحه وخياله، بحيث صار يشعر أنه لا يكتب بل ينكتب، وأن النص الذي يتشكل أمامه يعيد تشكيل وعيه.
هذا ما فعلته مدينة الخضر بي، جئتها كي أتابع حكايات رواية "باب الشمس"، فرأيت نفسي وقد صرت أسيراً في الغيتو الذي سيّجه الاحتلال بالأسلاك الشائكة والعطش والدم. وفي هذا الغيتو الذي قادني إليه رجل صنعه الخيال اسمه آدم دنّون، تعلمت الحب والصبر ودخلت في معمودية الدموع والألم.
أقف وإلى جانبي يقف آدم دنون، أنظر فأراه وقد عاد إلى اللد، حاملاً على كتفيه سبعين عاماً من النكبة المستمرة، لا ليبحث عن خريطة الألم، كما فعل في روايته، بل ليستمد نبض الحياة من عيون من تبقى، ويعيد معكم وبكم رسم أفق الحرية الذي يصنعه صمود بقايا شعب لملم فتات الحياة من أشلاء جامع دهمش، ومن أزقة المدينة التي التهمها الذباب الذي أتى به الاحتلال.
هنا في غيتو اللد وفي غيتوات الرملة وحيفا ويافا، صار الفلسطيني وريث كل الضحايا، وصنع من المنفى وطناً، بعدما تحول وطنه إلى منفى.
عودة آدم دنون الرمزية هذه ليست استعادة للماضي، بل هي وقوف على أطلال الأزمنة، فنحن لا نقف على أطلال المكان حيث القرى والدساكر المهدمة إلا لنرثي هذا الزمن المتوحش، الذي جعل من شعب كامل وريثاً للتيه. نرثي الزمن ونبكي التاريخ الأعمى الذي سمح للصهيونية المدججة بالعنصرية الكولونيالية بأن تحاول محو شعب كامل وتسليمه للغياب.
يستطيع آدم دنون أن يعود إلى مدينته محمولاً على الكلمات، لا لكي يستعيد أسطورة دينية موروثة من الوهم، بل لأنكم بقيتم هنا، فكما صنعت إسرائيل لشعبكم نكبة دائمة فإن بقاءكم على أرضكم صنع لشعبكم عودة دائمة وممكنة.
أنتم الحاضرون، رغم أنهم أطلقوا عليكم صفة الحاضرين - الغائبين، غياب من طرد من مدينتكم في مسيرة الموت الرهيبة في تموز / يوليو 1948، يؤكد حضوركم وحضورهم، بكم يحضر الغائبون، ومن حنايا لغة حياتكم اليومية المصنوعة من الألم تولد الكلمات على أرض لا تعترف إلاّ باسمها الفلسطيني.
كتاب "أولاد الغيتو ـ اسمي آدم" هو رحلة في لجة العتمة والقهر برفقة آدم ومنال ومأمون. في هذه الرحلة المليئة بالأسى والنابضة بإرادة الحياة تعلمت أن أستمع إلى الصمت، وأقرأ الممحو، وألتقط همس الذاكرة.
في الغيتو وشارع صلاح الدين وشارع الملك فيصل والمدينة القديمة وحي المحطة، مشيت مع مراد العلمي في مسيرة عذاب من حُكم عليهم برفع الأنقاض وأجبروا على نهب بيوتهم لمصلحة جيش الاحتلال الذي سرق من الملك فيصل اسم شارعه، وقاموا بالتقاط جثث الضحايا التي غطت المدى كله في شارع صلاح الدين الذي استولى هرتسل على اسمه.
كانت مجزرة هذه المدينة هي أكبر مجازر حرب النكبة سنة 1948، كما كانت مسيرة الموت في اتجاه الوعر وصولاً إلى نعلين ورام الله، هي التجسيد الأكثر وحشية للمصير الذي فُرض على خمسين ألفًا من سكان المدينة واللاجئين إليها من القرى المجاورة.
فانقسمت اللد إلى مدينتين: مدينة صغيرة في الغيتو وحي المحطة، ومدينة كبيرة في التيه. هنا وُلد الفلسطيني التائه، وهنا أسس الاحتلال الإسرائيلي الغيتو الفلسطيني الذي جرى تعميمه في فلسطين كلها، وصار اليوم اسمًا جديدًا لمعازل الضفة الغربية وسجن غزة الكبير.
هنا في غيتو اللد بدأ نظام الأبارتهايد الصهيوني ومعه تحولت نكبة 1948 من حدث تاريخي إلى مسار مستمر منذ سبعين عاماً. بيوت تهدم وشوارع تتعرى من سكانها، وإذلال يومي.
جئتكم زائراً لا يحق له أن يزور، وعائداً لا يحق له أن يعود:
أزوركم كي أعاين ملامح من رسم مدينتكم في ذاكرتي: أرى إسماعيل شموط وهو يرسم مسيرة الموت بالعطش، وألتقي رجائي بصيلة شاعركم وكاتبكم الكفيف الذي رأى بعينيه المغمضتين ما لم يره أحد، وأستعيد نبض كلمات فوزي الأسمر، وأعيد قراءة اسبير منيّر الذي كان أول من كتب عن الغيتو، وأتحاور مع رجل لن أنسى ما حييت كيف بكى وأبكاني وهو يتحدث عن الخروج من اللد. التقيت الحكيم جورج حبش للمرة الأخيرة سنة 1998، وحين سألته كيف خرج من اللد روى عن موت شقيقته فوتين، وكيف اضطر إلى خلع معطف الطبيب الأبيض كي يواريها ويبقى إلى جانب عائلته في مسيرة الخروج القسرية.
وأعود من خلالكم إلى قريتي الصغيرة الجميلة التي تشرف على هضاب القدس، قرية بنتها الإرادة قبل أن يدمرها جيش الاحتلال بعد أيام معدودة على قيامها في كانون الثاني / يناير 2014، وكان اسمها باب الشمس. أطل من شرفة خرائب هذه القرية على الخان الأحمر، كي أشهد معكم جريمة التطهير العرقي في فلسطين المستمرة حتى يومنا هذا.
إحياؤكم هذا المساء في الذكرى السبعين لمأساة اللد ليس احتفالاً بالذاكرة ولا بالنكبة، فالنكبة تُقاوَم ولا يُحتفل بها، إنه احتفال بإرادة الصمود والبقاء والتحدي.
أنتن وأنتم الذين جبلتكم المآسي تعرفون أن زمن الموت الصهيوني الذي فُرض على بلادكم، هو جزء من زمن الاستبداد والقهر الذي فُرض على العالم العربي بأسره.
أنتم وأنتن وحدكم، لكنكم لستم وحدكم، لأن الألم يوحّد هذا المشرق ولأن صمودكم ومقاومتكم وتمسككم بالبقاء في أرضكم هو نقطة الضوء الوحيدة التي تتجلى وسط نفق العتمة العربي.
أقول لكم، والله لا أعرف ماذا علي أن أقول، لذا أستعير من شاعرنا محمود درويش حيرة الكلمات، "فمن أنا لأقول لكم/ ما أقول لكم/ وأنا لم أكن حجرًا صقلته المياه/ فأصبح وجهاً/ ولا قصباً ثقبته الرياح/ فأصبح ناياً…".
واليوم وأنا معكم، لا أجد ما أقوله سوى أنني رأيت كيف ولدت الكلمات في عيونكم وألمكم وصمتكم وشجاعتكم، وما على الكاتب سوى أن يفرش كلماته على الأرض كي تعبر عليها أقدام العائدين من ليل الغربة والتيه.