Palestine between Occupation and the Holy Kitsch
Full text: 

  هل يمكن أن تسقط فلسطين من الذاكرة العربية الجمعية؟ لا يبدو ذلك ممكناً. واللاحتمال هنا منوط بخصوصية فلسطين في الوعي الجمعي الميتافيزيقي، وباختلاف النمط الاحتلالي ارتباطاً بجذور دينية تاريخية عميقة. ولا يبدو ذلك محتملاً في السياق الانفعالي الجمعي، إذ ما تنفك فلسطين مستمرة كفضاء محتل يتجدد في قلوبنا وأذهاننا كضرورة تعيد دائماً إنتاج مفهومنا للانتماء، ولا نزال نحن نتأمل أزماتها المتواصلة في خضمّ الأزمات المفتعلة هنا وهناك لتحجبها أو تسرق منها الاهتمام. إلاّ إنها تعود من جديد إلى قلب الحدث الإعلامي باعتبارها أم القضايا الإنسانية، فلا عدل سيتحقق في الشرق الأوسط أو غيره قبل أن يوجد حل عادل وشامل لهذه القضية التي تنبت القضايا الأُخرى كتلوين لها، فلا يُفتح ملف من تلك القضايا إلاّ والقضية الفلسطينية ماثلة في الأذهان تنادي بأحقية وجودها. من هنا، يحضر نموذج فلسطين كحتمية واقعية، لا كخيار تأملي إمبيريقي داخل هذا الوعي، ليشكل الدينامو الفاعل في تحريك أي استعداد للتغيير، ومنه تنبثق الأحلام الإنسانوية والهوياتية العربية. لا يمكن، إذاً، أن تسقط فلسطين من أذهاننا فجأة، وهي التي استوطنت لا وعينا وطفولتنا، وكانت متن أشعارنا الأولى ونحن نجرب، كجميع الأطفال والمراهقين، صناعة المعنى وإعلان عواطفنا. ففلسطين، عاطفياً، هي أولى حبيباتنا التي عشقناها ونحن صغاراً، وهي جسد الحبيبة النضرة الفاتنة أبداً. على الرغم من إقلاعي عن نظم الشعر لإيماني بأن لا شيء أضيفه إلى الشعر جمالياً، فإنني أعود أحياناً إلى قراءة ذاك النظم القديم، فقط لأتباهى بذلك الفتى الغرّ الذي أراد لقلمه في حداثته أن يحمل هموم فلسطين ويحلم بتحريرها. تحضرني هنا ذاكرة دموية درامية تجمع التونسي بالفضاء المسمى فلسطين، فهي لا يمكن أن تسقط من ذاكرة التونسي التي مَسرحَت مشهد دماء التونسيين والفلسطينيين في حمام الشط كلما ذُكر المكان، في حادثة الغارة الإسرائيلية التي استهدفت المكان واستهدفت الفلسطينيين. فهنا تقبع الذاكرة التونسية ـ الفلسطينية التي ترغب في الحفاظ على خصوصية التجربة الأليمة ومعراجها إلى عوالم الإحساس بوحدة الدم بين الطرفين، وهو الألم الذي يولد في النهاية متعة الانغماس في شراكة مقاومة الاحتلال. ولا ننسى منظمة التحرير التي لم تفتح لها بلاد عربية أراضيها مثلما فعلت تونس، وما زال التونسيون يلوحون في حلق الوادي لباخرة الحبيب، للأبطال القادمين من بيروت. هنا، ذاكرة تسبح في عراء الجسد المحتل وتتوحد معه؛ ذاكرة محسوسة تُشعر بالسعادة المخلوطة بالألم. لم يشهد العالم العربي زلزالاً مثلما شهد منذ التسعينيات إلى اليوم، ومع ذلك، فجميع التحولات السياسية القُطرية تُرفع فيها الأعلام الفلسطينية مؤكدة أنها القضية الأم للقضايا كافة. لقد حافظت قضية فلسطين على بكارتها ونضارتها، وزادتنا ارتباطاً روحياً ميتافيزيقياً بها، مجسدة مفهوم البطولة اليونانية المأسوية، البطولة التي تأسرك حتى النهاية... ففي حرب الخليج الأولى كنا نحمل الأعلام الفلسطينية، وفي الثانية كذلك، وفي الانتفاضات العربية كانت الأعلام الفلسطينية مجاورة لعلم كل دولة تنتفض ـ وإن كانت تلك الانتفاضات قد سُرقت واحدة واحدة، فإن رافعي راية فلسطين ظلوا يمشون ولم يعودوا إلى بيوتهم. الربيع الذي تمخض أيضاً عن انتكاسات في الأنظمة العربية أشد بؤساً وأشد تخلّفاً من سابقاتها، يؤكد قول عبد الله القسيمي: إذا العربي ثار على نظام، فإنه سيأتي بنظام أشد بطشاً وتخلفاً من الذي ثار عليه. لقد ضربت الكونية العالم وجعلته أكثر براغماتية وزرعت في شعوبه الأنانية، ومع ذلك لم تنجح في إسقاط القضية الفلسطينية من أذهاننا، وإنما جعلت منها الحلقة السحرية التي تعيد ضم العقد، وتجعل لكل هوية خصوصية. فكل هوية صغرى لا تتشكل إلاّ بما تجمّع فيها من مواقف ورؤى للقضية الفلسطينية، ذلك بأن فلسطين لم تعد ماثلة في تلك الكلية التي تجمعنا، وإنما أصبحت مكوناً من الجزء نفسه، وهذا مؤشر إلى تأبّدها في الأذهان كهاجس دائم. لكن أليست فلسطين فعلاً في خطر؟ إن هذا الحضور الكبير لفلسطين في وجداننا لا يمكن أن يحجب عنا خطورة ما تمر به قضيتها من انسداد الآفاق، ووصول أنظمة راديكالية إلى الحكم في أميركا يدفعها حقد تاريخي وعنصري إلى القضاء عليها بشكل عنيف وخارج عن الأعراف، مستندة في هذا إلى واقع العنف الذي يعيشه العالم بأنظمته وشعوبه، وهو ما جعل العالم يبدو من بعيد كأنه يتمرغ في بركة وحل داخل معركة وحشية. إن حرب "الكل ضد الكل"، قضت على صورة بقايا "العالَم الشريف"، وهذا مشهد عبثي سوريالي، وجنون بشري، وشهوة لسفك الدم، تقودها كيانات اقتصادية دولية، ومصانع أسلحة، ومافيات عالمية. لكن الخطر الذي يتهدد فلسطين أكثر قادم منا ومن الكرنفالية التي نزجّ القضية فيها شيئاً فشيئاً، بتحويلها إلى مناسبات معزولة متمثلة في قراءة شيء من الشعر الرديء، واستعراض للباس التقليدي الفلسطيني، وبعض حمالات المفاتيح التي تحمل خريطة فلسطين وحنظلة العلي، وبعض الحلويات التي تروَّج في مراكز ثقافية فلسطينية أو سفاراتها هنا وهناك. هذا ما يجعل فلسطين تسقط من الذاكرة شيئاً فشيئاً عندما نحولها إلى كيتش واحتفال رسمي موسمي، وليس مادة ثقافية تمارَس يومياً. تسقط فلسطين عندما نشلّها ونصلبها ونبترها عن جدالنا الوجودي الماهوي مع أنفسنا فكرياً. تسقط فلسطين عندما نتأمل هذه المفارقة المضحكة للأنظمة العربية التي تحتفي في جميع الفصول بفلسطين، فتقول إنها قضيتنا وفلسطين نحن، ويظهر رسميّوها يرتدون الكوفية الفلسطينية، بينما تطارد تلك الأنظمة نفسها الفلسطيني في مطاراتها، وتُرجعهم من حيث أتوا خوفاً من أن ينتموا إليها. تسقط فلسطين حين نتسامح مع النصوص العربية الرديئة التي تتغنى بفلسطين، فنروّج لها ونُكسبها حصانة. إن نصاً عربياً جيداً يترجَم إلى العبرية لهوَ أكثر تأثيراً في الآخر الصهيوني من صاروخ، لأن ذلك يضرب الأكاذيب كلها التي يروجها الكيان الصهيوني ـ الاستعماري عن العرب بصفتهم متوحشين لا علاقة لهم بالتحضر والثقافة، وأنهم بضعة ملايين يقفون على حدود الدول المتقدمة بأحزمة ناسفة. وقديماً قال درويش منتقداً الاحتفاء بالكتابات الرديئة الفلسطينية: "ارحمونا من هذا الحب القاسي". فأي أدب فلسطيني نحتاج إليه اليوم؟ يحق للأدب العربي برمّته أن يتباهى بما كتبه جوزيه ساراماغو في محمود درويش الذي شبهه ببابلو نيرودا، فقد قال: "إن قراءة درويش، إضافة إلى كونها تجربة جمالية لا تُنسى، هي الركوب على متن (درب الآلام) (Via Dolorosa)، على امتداد طرق أرض فلسطين المنكسرة ظلماً وسلوكاً مخزياً عانى جرّاءهما الفلسطينيون بوحشية على أيدي الإسرائيليين." إن حاجتنا إلى أدب يدون مأساة الشعب الفلسطيني وتخليد نضاله ستظل حاجة ملحة إلى أن يجد العالم حلاً لهذه القضية الإنسانية والمظلمة التاريخية. أدب متجذر في الأشواق الأبدية للشعب الفلسطيني، ذلك الشعب الذي "خضع للاستشهاد على مدى الأعوام الستين المنصرمة" مثلما يصفه ساراماغو، لكننا في حاجة إلى أدب آخر مع تعقّد المشهد الفلسطيني يقول هذا الاختلاف ويعمّق الخصوصية؛ أدب ينتقد التفكير الفلسطيني ـ الفلسطيني، والعربي ـ الفلسطيني في القضية نفسها؛ نحتاج إلى أدب يقاوم بسخريته الداخل مثلما الخارج، فالقضايا الكبرى وُلد من صلبها طغاة أشد بطشاً أحياناً على شعوبها من الاستعمار نفسه، ولنا فيما آلت إليه دولة الاستقلال في الجزائر مثال. كم نحن في حاجة إلى أدب يسخر منا جميعاً، أدب شبيه في رؤاه بتلك اليوميات التي كان غسان كنفاني ينشرها في جريدة "المحرر" اللبنانية تحت عنوان: "بإيجاز"، موقّعة بـ "أ. ف." (أبو فايز)؛ تلك الكتابات التي كان يسخر فيها من الخطاب السياسي الفلسطيني والعربي والدولي في ستينيات القرن الماضي. والحق أن هذا الأدب بدأ يتشكل وإن كان لا يزال في بداياته مع أجيال جديدة تقول القضية في توليفات جديدة بعيداً عن المنبرية. فهل هذه بداية نتاج مرحلة ما سمّاه اللبناني الياس خوري مرحلة "ما بعد اليأس"، تلك المرحلة التي لم يعد فيها من معنى لانتظار الحلول القديمة واللغة القديمة، والمراهنة على الأسئلة القديمة التي اعتقدنا أنها أسئلة ورهانات أبدية، وعلينا في مرحلة ما بعد اليأس، تجديد خطابنا وتجديد طرحنا للقضية؟ فهل نخلص إلى أن القضية الفلسطينية تحتاج إلى أذكياء جدد يُصغى إليهم ولا يُرمون بالطماطم؟ وهل هذا يعني أن الوقت حان لتخليص فلسطين من "تحالف الأغبياء"؟ هل حان الوقت لنزع القداسة المضللة عن فلسطين كي يناقش الفلسطينيون قضيتهم من دون تابوهات، ويكفّوا عن التعامل مع فلسطين كضريح مقدس ومشهد ولائمي تعتاش منه بعض الجمعيات وبضعة آلاف من الأفراد هنا وهناك في العالم تحت مسميات كثيرة: مناضل قديم وصديق للقضية وسجين سابق ورئيس جمعية ضد التطبيع؟ كتب غسان كنفاني في 8 نيسان / أبريل 1965:   على ذمة راويين جاءا أمس من القاهرة ودمشق معاً، ذكرا معاً، أنهما شاهدا على أبواب المقاهي في القاهرة ودمشق الإعلان التالي (وقد شاهده راوٍ ثالث في بيروت): "المطلوب زبائن جدد لطاولات ثابتة ذات مواقع استراتيجية. خصم على الطلبات 20 في المئة. المؤهلات المطلوبة: قصص نضالية قديمة ذات تفصيلات دقيقة ومثيرة، يمكن أن تُروى مرة أو مرتين وعشر مرات على مسامع شخص واحد، وكذلك المطلوب أن يُلمّ الزبون بخطط نظرية للمستقبل يمكن شرحها بالتفصيل. الأوراق الثبوتية: شهادة بالسجن مدة شهر واحد على الأقل، قصاصة من جريدة قديمة تحمل مقالاً عنيفاً للزبون المشار إليه، شهادة شخصين على الأقل بأن الزبون مطارد، جواز سفر غير مجدد.. المراجعة في الداخل، وبالثياب الرسمية."   المؤكد أن فلسطين باقية، لكن أين حظها من البقاء في ظل تواصل هذا الخطاب الذي هجاه غسان كنفاني منذ الستينيات، هذا الخطاب الذي اهترأ وبات هناك حاجة مصيرية إلى تجديده لإنقاذ فلسطين ممّا يتهددها خارجياً وداخلياً: الاحتلال والكيتش المقدس.     الكيتش: كلمة ألمانية تحولت إلى مصطلح يشير إلى أسلوب سيئ الذوق أنتجته الثقافة الرأسمالية السائدة.