The Palestine Question and the Arab-Israeli Conflict
Full text: 

  منذ تلك الرسالة التي تضم 67 كلمة، والتي كتبها بلفور إلى اليهودي روتشيلد معلناً تأييد بريطانيا إقامة وطن لليهود في فلسطين، وحتى إعلان دونالد ترمب نقل سفارة بلده من تل أبيب إلى القدس، مرّت القضية الفلسطينية بعدد لا يُحصى من التحولات البطولية، بينما مرّت المواقف العربية بما لا يُحصى من التنازلات، وآخرها صورة نتنياهو محاطاً بالوزراء العرب في مؤتمر وارسو، وهم يعلنون بابتساماتهم العريضة دخولهم بيت الطاعة الصهيوني، في وقت تذهب دولة الكيان الصهيوني بعيداً في الإجرام والتوسع الاستيطاني. لكن ما يعطي اللوحة ألواناً زاهية، وما يمنحها بعداً أسطورياً، هو القرار الشعبي الفلسطيني اليوم بالخروج إلى الشارع ومواصلة المقاومة والتحدي. نعم هذا الشعب الذي لا يعرف اليأس، ولا يعرف الحلول الوسطى، ولا طريق الاستسلام، يلقّن العالم، وفي مقدّمه حكومات الخنوع العربي، معنى الدفاع عن الكرامة والأرض من دون حسابات مسبقة. لقد عوّدتنا الحكومات العربية على انقسام ثنائي بين ما يسمى جبهة الممانعة وجبهة المهادنة، وهو دليل أساسي على غياب أي موقف مبدئي من هذا الصراع الحيوي في المنطقة، وعلى ارتباط هذه المواقف بالمصالح الوطنية الضيقة بعيداً عن مدى ارتباطها بمصلحة القضية الفلسطينية والفلسطينيين، في الداخل والخارج. هذا الواقع قد يؤدي إلى أحد الاحتمالات التالية: ـ استمرار موازين القوى في المنطقة على حالها: عالم عربي منقسم ومشتت؛ استمرار الصراع على حاله مع إدارته بأنماط مباشرة في ظل حالة الخلل الهيكلي الراهن؛ تحقيق الحد الأدنى من التفاهم عبر صيغ للمفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية. ـ نجاح دول المواجهة في الخروج من الأزمات الداخلية المتصاعدة، وبناء مرحلي وجزئي للمؤسسات واستقرار الأوضاع السياسية، علاوة على تحقيق الحد الأدنى من المتطلبات الاقتصادية بما ينجح معه مسار التحول وعودة التوافق العربي على الأقل على مستوى المواجهة مع إسرائيل، والتنسيق في التعامل مع التهديدات الإقليمية الأُخرى. ـ إن التعامل العربي مع إسرائيل ليس ضرورة، وإنما هو قضية مرحلية لا تطمس الأولويات الراهنة، إذ إن المتطلبات الملحّة لا تبرر التعامل مع الصراع في ظل حالة الخلل الاستراتيجي والأمني الراهن، وفي ظل الاعتقاد أن إسرائيل لن تبادر إلى المواجهة، وأنها لن تتبنّى المواجهة على أساس أن أمن إسرائيل يتحقق من دون مواجهات. وقد أدى التصعيد الإسرائيلي القمعي في الفترة الأخيرة إلى تململ لدى الرأي العام العربي وتحرك في الشارع، الأمر الذي فرض على بعض الحكومات العربية إطلاق مواقف منددة بإسرائيل، وأُخرى سجلت تحركاً عملياً.   فلسطين والواقع العربي "النضال هو في فلسطين يا تجار الدين"، شعار كان بين الشعارات المركزية والجامعة لمختلف التيارات السياسية والاجتماعية في الأعوام التي تلت الثورة التونسية. وهذا المثال يدل على أن القضية الفلسطينية تبقى جزاً لا يتجزأ من قضايا الراهن العربي، على المستوى الشعبي أولاً، وعلى المستوى السياسي ثانياً. فعلى سبيل المثال: تحت ضغط القوى التقدمية، عقد البرلمان التونسي ثلاث جلسات خاصة بتجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، بعد رفض هذا المقترح منذ ثلاثة أعوام. وهذا ما يؤكد قولنا في البداية أن الموقف العربي الرسمي لا يتحرك من تلقاء نفسه، أي لا يتحرك إلاّ تحت ضغط المسار النضالي في الداخل، وضغط القوى الشعبية في البلاد العربية. كانت قضية فلسطين محوراً أساسياً في مبنى الثقافة العربية الحديثة: الفكر السياسي؛ الشعر؛ الرواية؛ المسرح؛ الفن التشكيلي؛ السينما. ولعل السؤال المطروح اليوم هو عن موقع فلسطين الراهن في العمل الثقافي والإبداعي، وآفاق علاقة الثقافة العربية بالقضية الفلسطينية. في هذا السياق، لا أعتقد أن موقع القضية الفلسطينية وصراعها مع الكيان الصهيوني الغاصب تغيّرا في المقاربة الإبداعية العربية، بل إنهما، في رأيي، ازدادا تجذراً وصرامة. فقد تحول الكيان الصهيوني إلى بؤرة كراهية يتجمع عندها كل ما يعوق طموحات شعوب العالم العربي، بينما توحدت فلسطين مع كل جرح عربي. ولا أدل على ذلك من تلك الشعارات التي تُرفع في ملاعب كرة القدم من طرف جمهور أقل ما يقال عنه إنه بعيد عن الثقافة: أغانٍ تلقائية بكلمات مدججة بروح المقاومة والثبات على المبدأ والأمل في التحرر والنصر. وقد انتقلنا من أدب المقاومة الخاص بالأدباء الفلسطينيين سواء في الداخل أو في الخارج، إلى أدب مقاومة عربي، إذ لا يخلو موسم أدبي من صدور رواية تحمل الهمّ الفلسطيني بين دفتيها، كما أن المهرجانات الأدبية التي تخصص محاور أعمالها للمقاومة وأدبها نثراً وشعراً، تُعدّ بالعشرات، أقلّه في المشهد الثقافي في تونس. علاوة على ذلك، لا يخلو معرض رسم تقريباً من لوحات تخلد قيم المقاومة وصمود الشعب الفلسطيني، فضلاً عن أن السينما أصبحت فن المقاومة بامتياز، فقد كرّس "المهرجان الدولي لفيلم الهواة بقليبية" دورته قبل الأخيرة لسينما المقاومة. غير أني أعتقد أن هذه الجهود كلها، وإن كانت تكفي لتظل جذوة المقاومة متقدة في أرواح الشعوب العربية ومثقفيها، إلاّ إن المطلوب هو عمل أكثر من أجل التصدي لجميع محاولات الكيان الصهيوني كسب تعاطف الشعوب الأُخرى والمثقفين الغربيين عبر عرض نفسه كضحية مستضعفة وسط إقليم جيو ـ سياسي معادٍ، أو كأقلية دينية في منطقة مسلمة. إن دور المثقفين والمفكرين العرب محوري في المعركة الحضارية ضد الصهيونية، وذلك عبر التشديد على أن ما تقوم به إسرائيل هو مركز التوتر الساخن الذي يعوق السلام العالمي، ويقوّض القيم والركائز التي تستند إليها المساعي الدولية لتوحيد الجهود لبناء حضارة كونية واحدة تنسجم مع التقدم الهائل للعلوم والمواصلات، وحوار الحضارات، والتبادل الثقافي والفكري بين الشعوب. كما يجب ترسيخ دور المثقفين العرب الفاعل على الساحة الدولية، لتوسيع رقعة الوعي بلاإنسانية عدونا الصهيوني الذي يعوق سعي البشرية نحو التوحد والتقدم.    

انظر