Westernization of Palestine: From the Making of the History of Liberation to Dismantling the Structure of Settlement
Full text: 

  لماذا تتراجع قضية فلسطين عربياً، وتتقدم عالمياً وأميركياً؟   I   أعدتُ قراءة بعض نصوص اليسار العربي التي كُتبت عقب أحداث مفصلية خلال إعداد الرد على أسئلة الملف. وقد قمت بذلك من أجل مقارنة الأطر المعرفية ـ السياسية التي أدركتُ من خلالها قضية فلسطين والواقع السياسي الراهن من جهة، بالقوالب التي تُستخدم حالياً في النظرية النقدية الغربية وحركات التضامن من جهة أُخرى. كتب جوزف سماحة منذ ربع قرن في كتابه "سلام عابر: نحو حل عربي للمسألة اليهودية" (بيروت: دار النهار، 1993)، أنه بعد كل هزيمة "كان تراجع المطلب الفلسطيني يؤشر إلى تراجع المطلب القومي العام" (ص 44). المطلب القومي في لغة سماحة المقتضبة هو مشروع النهضة العربية بما هو محاولة الأمة الخروج من آثار التبعية والتخلف. فالموقف من فلسطين يشكل، وفق سماحة، "ميزان حرارة" التقدم الحضاري أو الانحطاط العربي (ص 109). أترك نقد سماحة لمفاوضات السلام، وأرجع نصف قرن إلى كتابات غسان كنفاني بُعيد هزيمة 1967. تكلم كنفاني في مداخلة في دار الندوة في بيروت، في آذار / مارس ١٩٦٨، وعنوانها "أفكار عن التغيير واللغة العمياء"، على الجسد العربي والإنسان العربي: أمّا "القارة العربية"، مثلما سمّاها، فحققت "خلال ربع القرن الذي سارت خلاله إلى العصر الحديث واحدة من معجزات التطور في التاريخ… فوق أرض من وحول التخلف المظلم امتدت في حياتها أكثر من خمسمائة سنة."   II   تنتمي تلك النصوص إلى منظومة معرفية ـ سياسية تضع فلسطين في قلب مشروع تحرري عربي يسعى لتصفية آثار ماضٍ من التجزئة والتبعية للاستعمار، وقد صاغت مفاهيم تلك المنظومة الوعي السياسي لأكثر من جيل. إن تصلّب الانقسامات ما دون القومية ـ الطائفية، المناطقية، العشائرية ـ في العقود الأخيرة، يجعل من الصعب الآن وهنا تخيل "الإنسان العربي" المجرد من جميع روابطه الأهلية. أمّا الثقل الجيوسياسي المتعاظم للقوى الإقليمية والدولية في المنطقة، والانقسام بشأن انزياح الصراع من عربي ـ إسرائيلي إلى إيراني ـ إسرائيلي، فيُحيلان الحديث عن "العدو المشترك" للأنظمة العربية، إلى التقاعد السياسي. إن انهيار مشاريع الأنظمة الوحدوية، ومن بعدها فشل اليسار الجديد، وهزيمة الثورة الفلسطينية، لم تزحزح قضية فلسطين من موقعها الرئيسي بعدما انتقل الصراع مع إسرائيل إلى فصائل الإسلام الحركي. فبغضّ النظر عن اختلاف لغاتها السياسية ورؤاها إلى العالم، فإن حبل "الأيديولوجيا الضمنية" الأنتي ـ إمبريالية، بحسب تعبير مكسيم رودنسون، ربط العروبة واليسار وفصائل الإسلام السياسي، بعضها ببعض، ولم تنجح الهزائم العسكرية العربية والفلسطينية في خلخلة سطوة تلك الأيديولوجيا الضمنية التي صمدت أيضاً في وجه معاهدات السلام. غير أن أيديولوجيا مركزية القضية الفلسطينية، وسطوة الأيديولوجيا الأنتي ـ إمبريالية، تلقّتا ضربة معنوية قوية من حيث لم يتوقع أحد، إذ إن الثورات العربية ساهمت في تآكل شرعية التناقض الرئيسي العربي ـ الإسرائيلي بعدما كان نقدها محصوراً بمثقفين (الليبراليين العرب). لقد تبلورت مع الثورات "بنية شعور" (وفق ريموند وليامز)، ساهمت في تحرير التفكير في آليات مواجهة استبداد الأنظمة العربية، وجَعْل التحرر منها أولوية. كما أطاحت الثورات بلغة السلطات الأبوية التي تنصح دائماً بالتروي؛ فالأولوية لحل التناقض الرئيسي، "ثم نتفرغ لمقارعات التناقضات الثانوية" التي لم يأتِ وقتها بعد… (ولن يأتي أبداً). وأحد عوارض بنية الشعور المستجدة تلك هي حسابات الألم المقارن المروعة التي انتقلت من مقارنة الهولوكوست ونكبة الفلسطينيين المستمرة إلى مقارنة الأخيرة بالمأساة السورية سعياً لانتخاب ضحية الضحايا العربية.   III   إن لانهيار المنظومة المعرفية ـ السياسية التي وضعت قضية فلسطين في قلبها، بُعداً يتخطى المتغيرات الجيو ـ سياسية والانقسامات الأهلية وتبعات الثورات العربية. لقد انهار أيضاً عالم معرفي كامل مبني على نظرة تقدمية للتاريخ قامت مشاريع النهضة وثورات التحرر الوطني على أسسه. فالانتقال من الظلمة إلى النور، ومن الخرافة إلى العلم، ومن البنى المفوتة إلى الحداثة، ومن التجزئة إلى الوحدة، أساسه الاقتناع بأن العمل السياسي في الحاضر يمحو ماضياً بغيضاً ويؤسس لمستقبل زاهر. لقد ساهم بؤس المعسكر الاشتراكي وانهياره، والأنظمة الاستبدادية، والحروب الأهلية التي مزقت المجتمعات المتحررة من الاستعمار، وصعود الشعبويات اليمينية في العالم، والارتداد على مكتسبات دولة الرعاية الاجتماعية، وربما العنصر الأهم وهو الكوارث البيئية المحدقة المترافقة مع خطابات أُخروية، في طيّ الإيمان بحتمية تقدم البشرية نحو مستقبل أفضل. ومن ارتدادات ذلك الانهيار الكبير، طُويت مفاهيم أساسية في العمل السياسي وأُسس التضامن العالمي: الطليعة المتقدمة، وتكثيف الزمن، والمراحل التاريخية وحرقها، والنموذج الثوري، والسير نحو الحداثة، والخروج من وحول التخلف، إلخ. فقدت مفاهيم المعجم التاريخاني التي تخطت قضية فلسطين تاريخ صلاحيتها، وانكسرت حركة التاريخ التقدمية آخذة معها بشارة الطليعة ورجاء المناضلين والمناضلات بأن تضحياتهم لن تذهب هدراً. التاريخ لن ينصف المستغلين والمقهورين بالضرورة، وطبعاً هذا لا يعني أن الناس بحاجة إلى نظرية تقدمية للقيام على الحكام ورفض الظلم، فالانتفاضات الفلسطينية والثورات العربية دليل ساطع على ذلك، غير أن التفتت العربي، وانكسار الزمن التقدمي، يجعلان من الصعوبة بمكان، إدراك قضية فلسطين داخل إطار معرفي ـ سياسي أوسع يربط الفعل التحرري الحاضر بالماضي والمستقبل. على أي أسس يعاد صوغ مشروع تحرري يُبرز شرعية قضية فلسطين اليوم بعدما طُويت صفحة حركات التحرر الوطنية؟   IV   بالتزامن مع خفوت فلسطين العربي، فإن الأعوام الأخيرة تشهد "ازدهاراً" نسبياً ومتعدد المستويات للقضية الفلسطينية في الغرب. فقد نجحت حملات المقاطعة في كسر الطوق المزمن حول القضية الفلسطينية، وخرقت تلك الحملات المتعددة هيمنة الروايات الرسمية والإعلامية المنحازة إلى إسرائيل، والتي ساهمت في تغييب الظلم اللاحق بالفلسطينيين وطمس روايات صمودهم: من عمليات خطف الطائرات المدنية التي قامت بها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إلى تنظيم الإعلام الموحد لمنظمة التحرير المعارضَ الفنية، وصولاً إلى كتابات إدوارد سعيد بعد هزيمة ١٩٦٧. وعلى سبيل المثال، بذل الفلسطينيون جهداً متواصلاً لفهم سبب إقصاء التضامن مع قضية فلسطين، ولمخاطبة الرأي العام العالمي، وتوسعت في الأعوام الأخيرة، مساحة التضامن خارج الهوامش اليسارية التقليدية، وباتت تستقطب الآن أيقونات من الثقافة الشعبية الغربية، وقطاعات طلابية نشطة في حرم الجامعات، وتيارات أفرو ـ أميركية، ومؤسسات يهودية مناهضة للاحتلال الإسرائيلي. لقد باتت فلسطين اليوم أكثر فأكثر تُكتب بأيادٍ غير عربية وبالإنجليزية: فكراً نقدياً في الجامعات، وفناً ونشاطات تضامنية، لكن بأي أحرف تُكتب؟   V   فلسطين المعولمة تُسبك في قوالب مناهضة الاستيطان الاستعماري والفصل العنصري والدولة السجّانة (carceral states)، كما أن تفكيك آليات الاستيطان والعنصرية الصهيونية ليس جديداً على أدبيات المقاومة الفلسطينية. فما كتبه فايز صايغ عقب تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عن الدولة ـ الاستيطانية الصهيونية (١٩٦٥)، كان جزءاً من العدّة المفهومية لخطاب الثورة الفلسطينية التي اشتغلت على صوغ مشروع وطني تحرري في عصر الثورات العالمثالثية. غير أن مواقع إنتاج خطاب مناهضة العنصرية الإسرائيلية اليوم، والجمهور الذي يتوجه إليه، والفضاءات الفكرية التي ينتمي إليها، مختلفة، فهذا الخطاب هو خطاب تضامن غربي وأميركي يمسّ وجدان شرائح من تلك المجتمعات من خلال ترجمة التجربة الفلسطينية عبر أدبيات الأقليات في مجتمعات مستعمرين بيض. لقد كوّن الفلسطيني صورة لنفسه في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته كثائر يقاوم الاستعمار جنباً إلى جنب مع شعوب العالم الثالث. أمّا صورة الفلسطيني اليوم، المتشكلة لدى حملات التضامن الغربية، فتتخذ من قتل واضطهاد السكان الأصليين والأفرو ـ أميركيين (بشكل أقل) بعض ملامحها، وهي صورة في مرآة الخطيئتين الأصليتين الأميركيتين: التطهير العرقي والعبودية، وتبعاتهما في الحاضر.   VI هنا تكمن قوة أمركة قضية فلسطين وضعفها: خطاب مناهضة العنصرية في زمن الاستيطان المتواصل للضفة الغربية وجدار الفصل وحصار غزة يحاكي حساسية ليبرالية تجاه انتهاك حقوق الإنسان، إلى جانب القوة الرمزية المتولدة من البناء على خطاب مقاطعة جنوب أفريقيا في زمن الأبارتهايد والهيمنة الراهنة لمقولات الاستثمار والاستهلاك الأخلاقي. لكن ما هي حدود القوالب الجديدة التي تُسبك فيها قضية فلسطين اليوم؟ إن خطابات مناهضة الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري، تفكك بنية السيطرة الإسرائيلية، وتندد بالانتهاكات التي ترتكبها، لكنها في المرتبة الأولى خطابات نقدية محورها الدولة، وهي في نهاية المطاف طفيلية على موضوع النقد، أي إسرائيل. إنها شرط ضروري، لكن غير كافٍ، لتأسيس مشروع سياسي تحرري يعيد صوغ معنى قضية فلسطين اليوم، كما أن إضافة مفاهيم الاستعمار الاستيطاني النقدية التي تقارن الفلسطينيين بالسكان الأصليين، تميل بحكم تركيزها على نقد أفعال الدولة إلى إبراز الضفة وغزة وفلسطينيي الداخل، فتجنح إلى وضع الشتات الفلسطيني، وخصوصاً العربي منه، في المقعد الخلفي. علاوة على ذلك، تحمل تلك النماذج النقدية في طياتها خطراً آخر هو فصل قضية فلسطين عن محيطها العربي، كما أن ضمور الصراع العربي ـ الإسرائيلي لا ينفي ما كان يردده جوزف سماحة من أن إسرائيل كيان ودور. لكن هل تتسع تلك النماذج لضرورة إعادة تعريف دور إسرائيل، كقوة نووية في المنطقة، بما يتعدى استيطان الأراضي الفلسطينية في زمن ما بعد بعد الحرب الباردة التي تبرز فيه قوى إقليمية (تركيا وإيران) ودولية (روسيا والصين) تكسر الاحتكار الغربي للهيمنة؟ يحملني هذا السؤال إلى ملاحظتي الأخيرة: لقد شكلت قضايا التحرر التي حملتها الثورات العربية كعب أخيل حملات المقاطعة، وأحدثت الثورة السورية التي لا يمكن إدراكها داخل المنظومة الأنتي ـ إمبريالية شرخاً داخل الأوساط الداعمة لقضية فلسطين في الولايات المتحدة. فقد بيّنت الثورة، ثم المأساة السورية، حدود الفعل التضامني الغربي مع فلسطين التي تشوب بعض أشكاله نرجسية تسعى لتبرئة النفس وتطهيرها من خطايا دولها المرتكَبة باسمها، إذ لا قدرة لخطاب مركزي غربي، أساسه معارضة السياسات الغربية والإسرائيلية، على معالجة حدث كالثورة السورية، لأن المعالجة تقتضي بلورة رؤية تربط تحرر فلسطين بتحرر شعوب المنطقة العربية، وتتخطى التضامن المبني على نقد إسرائيل ورعاتها الدوليين. وهنا، يمكر التاريخ مجدداً، ويعيد ربط حبل الأيديولوجيا الضمنية الأنتي ـ إمبريالية العروبية ـ اليسارية ـ الإسلامية ببعض وجوه التضامن مع فلسطين في الغرب، فيلتقي أكثر مَن ساهم في توسيع التضامن العالمي بشأن عدالة قضية فلسطين، بمَن يدور في فلك الممانعة العربية.   VII   العروبة؛ النهضة أو بالأحرى النهضات المتتالية؛ النماذج الثورية؛ التناقض الرئيسي؛ المطلب القومي العام؛ تصفية آثار الماضي وحكم التاريخ الآتي: كلها باتت بحكم التاريخ. إن لحملات المقاطعة المبنية على مناهضة الاستعمار الاستيطاني الفاعلة اليوم في الغرب، حدوداً تعولم قضية فلسطين وتُبعدها عن عمقها العربي؛ تفكك إسرائيل، لكنها لا تعيد تأسيس فلسطين. قضية فلسطين اليوم ليست فقط استثناء استمرار المسألة الوطنية بعد طوي زمنها، إنها أيضاً في صلب تناقضات عالمنا المتشابك ـ المتشظي.