في سنة 1984، قدم إدوارد سعيد مداخلة في واشنطن بعنوان "فلسطين ومستقبل العرب"، طرح فيها للنقاش سؤالاً عمّا كان سيعنيه الحرف "و" في عبارة "فلسطين ومستقبل العرب" قبل حصار بيروت في سنة 1982، أو قبل الانقسام في الصف الفلسطيني في سنة 1983، أو العداوة العميقة بين سورية والفلسطينيين. وسأل سعيد: هل يمكن للـ "و" أن تعني أي شيء آخر غير "الوحدة وتلازم المصير والشراكة، والروابط الطبيعية؟" غير أنه بدلاً من ذلك، لاحظ أن الـ "و" تعني اليوم سلسلة كاملة من الإخفاقات في الربط بين فلسطين والعالم العربي. يقول سعيد إن هذا الوضع يدل على فشل الفلسطينيين والعرب على حد سواء، وإن الـ "و" تشير إلى عدم الثقة والتمزق والسخرية والإنكار، وهو وضع يدفعنا إلى التفكير، وربما إلى إعادة النظر في طبيعة هذا الرابط؛ وعوضاً عن ذلك، يكتسب الحرف "و" معنى جديداً يتطلب إنتاجاً وبناء لعلاقة جديدة بين فلسطين والفلسطينيين ومستقبل العرب. لا يمكن تناول هذا الموضوع وإيفاؤه حقه في مقالة قصيرة، بل إن الأمر في الواقع يتطلب كتابة، أو إعادة كتابة، تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية الحديثة، وهو ما يتعدى بشكل واضح نطاق هذه المقالة القصيرة. يمكننا أن نوجه إصبع الاتهام إلى أوسلو، لكن هذا ليس سوى جزء من المشكلة. بدلاً من ذلك، أقترح أن نستكشف العوامل التي أدت إلى فصل النضال الفلسطيني عن سياقه العربي ـ الإسرائيلي وارتباطه به، وهي عوامل تدخل في سياسات الدول العربية، وفي القرارات الفلسطينية أيضاً. العلاقة بين فلسطين والدول العربية كانت إشكالية دائماً. فعندما تأسست منظمة التحرير الفلسطينية في فندق فلسطين في الإسكندرية في سنة 1965، كان لذلك هدف مزدوج: الأول، دعم الحركة الجديدة، والثاني ـ مثلما هي الحال على الدوام ـ احتواء قدراتها الثورية الواعدة. لقد سعت منظمة التحرير الفلسطينية لامتلاك حرية العمل بعيداً عن هيمنة الدول العربية التي احتفلت بها، ولا سيما بعد سنة 1967، باعتبارها طائر الفينيق الخارج حياً من رماد الهزيمة. لكن الدول العربية كانت تخشى الإمكانات الثورية الفلسطينية، وعند الحاجة، كانت تقاتلها بشراسة. ولا شك في أن الفترة 1973 ـ 1974 كانت مفصلية في تتبّع تمركز حركة النضال العربي حول قضية فلسطين. وفتحت حرب تشرين الأول / أكتوبر 1973، الباب أمام نقاش فلسطيني ظهر لاحقاً على شاكلة خيار حل الدولتين. وفي ذاك السياق، سعت منظمة التحرير الفلسطينية للحصول على اعتراف حركة عدم الانحياز قبل ضمان الحصول على صفة "الممثل الشرعي الوحيد" للشعب الفلسطيني في قمة الرباط العربية في سنة 1974. وقد قادت هذه الخطوات إلى أن يُلقي الزعيم ياسر عرفات خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة في وقت لاحق من تلك السنة، كما أقرّت لجنة الأمم المتحدة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني حقوقه غير القابلة للتصرف، حقوق الفلسطينيين في تقرير المصير على أساس قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، بما في ذلك قرار مجلس الأمن 242 لسنة 1967، إلى جانب القرارين 181 (قرار التقسيم لسنة 1947)، و194 (بشأن حق العودة). غني عن القول أن الاندفاعة الدبلوماسية الجديدة لمنظمة التحرير الفلسطينية ساعدتها، غير أنه في الوقت نفسه، أثبطتها اتفاقات كامب ديفيد التي أبرمها الرئيس المصري أنور السادات، ثم معاهدة السلام مع إسرائيل، التي تركت فلسطين تخوض بمفردها معركة الدفاع عن مصالحها. هذا النهج اكتسب زخماً بعد حرب 1982، عندما طلبت منظمة التحرير الفلسطينية من الأمم المتحدة عقد مؤتمر دولي بشأن فلسطين، عُقد في جنيف في سنة 1983 (وعلى سبيل الذكر، كنت عضواً في أمانة مؤتمر الأمم المتحدة). وهذا التطور سمح بتركيز الخطاب الدولي على المفاوضات الثنائية بين إسرائيل وفلسطين، بل اقتصاره عليها، بينما الحديث عن الحاجة إلى حل شامل للنزاع العربي ـ الإسرائيلي، لم تتبعه خطوات ملموسة. وفي الوقت نفسه، تجاهل العرب فلسطين، وبدلاً من ذلك، وظفوا جهودهم كلها لدعم العراق في حربه ضد إيران. إن فصل فلسطين عن الصراع الأوسع، كان إحدى النتائج الرئيسية لهذه الفترة. بعد سنة 1982 تضاءلت مكانة فلسطين في السياسة العربية، وبقي الأمر هكذا حتى اندلاع الانتفاضة الأولى في كانون الأول / ديسمبر 1987، حين ألهب الفلسطينيون مخيلة العالم العربي (والرأي العام العالمي) بفضل أشكال نضالهم المبتكرة، ومقاومتهم الشجاعة ضد الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي. لكن، وعلى الرغم من ذلك، فإن الهاجس الإيراني دفع الدول العربية إلى تسويغ تطبيع العلاقات مع إسرائيل. أمّا فلسطينياً، فقد أفضت الانتفاضة الأولى إلى بروز توجه إلى إقامة دولة مستقلة على أي جزء من فلسطين، تجسد في إعلان المجلس الوطني الفلسطيني في سنة 1988 قيام دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة في الضفة الغربية وغزة، وعاصمتها القدس الشرقية. وأمام تراجع الاهتمام العربي بفلسطين، توجه الفلسطينيون نحو إطلاق مبادرة أسفرت عن اتفاق تم التفاوض عليه سراً مع إسرائيل، هو اتفاق أوسلو. لكن هذا الاتفاق لم يساهم فقط في زيادة انفصال العرب عن الالتزام بقضية فلسطين، بل أدى إلى حدوث شرخ تاريخي في أوساط الشعب الفلسطيني نفسه أيضاً. فقد تفاوضت منظمة التحرير الفلسطينية على هذا الاتفاق، وساعدت في إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية التي تسببت بتكريس تقسيم الفلسطينيين بين فلسطينيي "الداخل" و"الخارج". حتى إنجاز اتفاق أوسلو، كانت منظمة التحرير الفلسطينية تزعم أنها "الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني"؛ وفعلاً، فإنها عززت وحدة الفلسطينيين. لكن منظمة التحرير الفلسطينية الآن صارت أشبه بجثة، وبقاؤها يعود بشكل كبير إلى حقيقة أنها لم تُوارَ في الثرى بالشكل الملائم. في المقابل، ونظراً إلى صلاحياتها المحدودة، فإن السلطة الفلسطينية جزأت فلسطين إلى كيان جغرافي، وإلى شعب: فعندما نتحدث عن السياسة والسياسات الفلسطينية اليوم، نسأل عن مرجعيتنا الجغرافية، وبعد حصر فلسطين وتحجيمها بهذه الطريقة، نتساءل مَن هم الفلسطينيون اليوم؟ ألسنا الآن نعيد تعريف الفلسطينيين لنعني بذلك أولئك الذين يعيشون تحت سلطة السلطة الفلسطينية الإشكالية؟ هكذا، وبفضل الهندسة الجغرافية والسياسية، يقوم المجتمع الدولي والدول العربية والسلطة الفلسطينية بتضييق معالم رؤيتنا وخطابنا عن فلسطين والفلسطينيين. لتوضيح هذه الملاحظات، اسمحوا لي أن أعرض عليكم بعض القضايا التي أثرتها في كتابي عن التعليم الفلسطيني: في سنة 1998، طلبت السلطة الفلسطينية (وزارة التربية) كتابة كتب التربية المدنية للصفوف 8 ـ 10، وتبيّن أن الكتابة عن الجغرافيا الفلسطينية مسألة إشكالية إلى حد كبير. ففي الفصل المتعلق بالمدن والبلدات الفلسطينية، أُسقطت كلمة "فلسطينية" لدى الإشارة إلى مدن مثل عكا والناصرة، ذلك بأن إدراج كلمة "فلسطينية" كان من شأنه أن يثير ردة فعل إسرائيلية شديدة، علاوة على أن إسرائيل ستعتبر استخدام مثل هذه الصفة انتهاكاً لاتفاق أوسلو. وبالنتيجة، خرج فصل الكتاب بعنوان "مدن"، من دون الإشارة إلى فلسطين. ونشرت وزارة التعليم أيضاً كتباً في التربية المدنية للصفوف 1 ـ 6، يمكن دراستها بطرق متعددة، لكن في ضوء "عملية السلام"، كيف تعتزم هذه النصوص تعليم التاريخ والجغرافيا والسياسة؟ كيف ستؤثر الصيغ الجديدة في بناء هوية فلسطينية جديدة؟ فعلى سبيل المثال، في كتاب للصف السادس يتم التعريف بياسر عرفات بصفته رئيساً للسلطة الفلسطينية في غياب أي ذكر لحركة "فتح" ومنظمة التحرير الفلسطينية والمقاومة. فهل يجب الاستنتاج أن هذا التاريخ يجب أن يُمحى من الذاكرة الجماعية الفلسطينية لإعطاء "فرصة للسلام"؟ جميع النصوص تركز على الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية، فهل يعني هذا أن "السلام" يتطلب محو التاريخ الوطني واستبعاد الفلسطينيين الذين يعيشون خارج هذه المناطق الجغرافية؟ لا توجد في الطبعة الأولى لكتاب الصف السادس خريطة لفلسطين، بل بدلاً من ذلك، يوجد مستطيل فارغ حيث يجب وضع الخريطة، ويُطلب من التلميذ "رسم خريطة فلسطين". تبقى منظمة التحرير الفلسطينية (نظرياً) الجهة الرسمية التي تمثل جميع الفلسطينيين، غير أن السلطة الفلسطينية حلت محل المنظمة كركيزة جديدة للسلطة السياسية الفلسطينية، كما أن الدور المزدوج الذي تؤديه القيادة الفلسطينية في بناء الدولة والمقاومة، ينعكس في سعيها لبناء هويتها الشرعية وهوية المقاومة. هذه الأدوار يمكن أن تكون مكملة بعضها لبعض، لكنها في الغالب متناقضة. ففي معرض بناء السلطة الفلسطينية مؤسسات دولة وليدة، فإنه يُفترض بها نظرياً أن تكمل أيضاً مهمات التحرير وإنهاء الاحتلال. وهذا المسار المزدوج أدرج في الواقع مهمات المقاومة ضمن وظيفة بناء الدولة. وفي الواقع، تنتهج السلطة الفلسطينية / منظمة التحرير الفلسطينية سياسات لتشكيل وإعادة هيكلة وحتى بناء المجتمع المدني نفسه، ومن خلال مؤسسات المجتمع المدني، تسعى لإعادة إنتاج الهوية التي تسوّغ مصادر هيمنتها النظامية. تقترح هذه التساؤلات أنه على عكس المجتمعات الأُخرى التي خاضت تجربة تصفية الاستعمار، فإن إشكالية الهوية والوحدة الوطنية للفلسطينيين تختلف بشكل ملحوظ. فالدول المستقلة الخارجة من الاستعمار حديثاً، حاولت نسج الوحدة الوطنية من نسيج اجتماعي مقسم على خلفية الدين والقبيلة والإثنية وتعدد الأعراق؛ ومثلما هو واضح اليوم، فإن هذه التجربة ساهمت في اندلاع نزاعات داخلية وحرباً أهلية وانفصال وكمية مفرطة من العنف واكبت عملية بناء الدولة. وعلى النقيض من ذلك، فإن السلطة الفلسطينية، وبدلاً من محاولة خلق وحدة من واقع مجزأ، يُنتظر منها أن تبني الوحدة من خلال تجزئة هوية وطنية موحدة فعلاً. ماذا نعني بـ "فلسطين" و"الفلسطينيين" اليوم؟ هل ستُبنى الهوية الفلسطينية لخدمة "المصلحة الوطنية"، أم إن القوى الاجتماعية والسياسية العربية / الفلسطينية غير المتشكلة بعد ستكتشف مفردات جديدة تجد لها صدى منسجماً مع فلسطين والعرب؟ في سنة 1984، دعا إدوارد سعيد إلى بناء رابط جديد بين فلسطين والعالم العربي، غير أن هذا الأمر يتطلب في البداية إعادة تشكيل حركة وطنية فلسطينية جديدة وفاعلة. مقالة خاصة بالمجلة بعنوان: The Marginalization of Palestine in Arab Politics ترجمة: صفاء كنج.
The Marginalization of Palestine in Arab Politics
Digital Section:
Special Feature: