Palestine and the 'Deal of Century'
Full text: 

  I   أشكر أولاً "مجلة الدراسات الفلسطينية" على مبادرتها بدعوة نخبة من المثقفين العرب إلى المساهمة في تأمّل جماعي يتعلق بفلسطين اليوم. فكل مَن يرتبط بفلسطين والفلسطينيين يدرك مدى الضرورة المستعجلة لهذا التأمل، وما يستتبعه من حوار. بل إن غيابه يُبرز، بحد ذاته، التراجع المخيف للقضية الفلسطينية على صعيد الاهتمامات العربية. هذا يعني أن صورة فلسطين اليوم، تبدو لي ملبدة بسحب شديدة القتامة. وهي، إلى ذلك، صورة تفتقد الصوت، وسط ضجيج يتراكم يوماً بعد يوم، في وقت لا حديث سوى عمّا يسميه الأميركيون "صفقة القرن". هي صورة تتأكد لي من خلال ما ألاحظ من مواقف سياسية، ومن خلال وقائع تتوالى، سواء على أرض فلسطين، أو على الصعيدين العربي والدولي. لم تعد التضحيات اليومية للشعب الفلسطيني تحتل مركز المشهدين الإعلامي والسياسي؛ فمسيرات العودة التي يُحييها الشبان الفلسطينيون على مدى جُمعات متتالية، منذ ما يقرب من عام، لرفع الحصار عن غزة والتذكير بالحق في أرضهم المحتلة، على الرغم من القرارات الدولية، ومطالبتهم باستعادتها من المحتل، لم تفعل حتى الآن أكثر من مضاعفة أعداد الشهداء، بنفَس ملحمي أصبح شبه منسي. والانتصارات الرمزية التي حققتها القيادة الفلسطينية في محافل دولية لا تُخفي محدودية جدواها. وما يستبد بالمشهد العام هو سطوة إسرائيل التي تفرض سياستها بالتهديد والعنف المتواصلين، مثلما تفرضه بابتعاد العرب عن الوقوف الفعلي مع الفلسطينيين، وبالاستفادة المطردة من الأوضاع الدولية، في ضوء هيمنة العولمة وجبروت الرئيس الأميركي ترامب. من هنا، أرى أن صورة فلسطين، اليوم، هي نتيجة ما مرت به قضيتها. إذ يتضح لي، على نحو جلي، أن فلسطين عرفت، بعد النكبة وقيام دولة إسرائيل، لحظتين من الانكسارات المتتالية: هزيمة 1967 التي تفاقم في إثرها وضع الاحتلال وتمثل تجسيده الأقوى في احتلال القدس الشرقية؛ اتفاق أوسلو في سنة 1993، والذي وضع الفلسطينيين في سجن كبير. وها نحن، مع "صفقة القرن"، في اللحظة الثالثة التي هي الفصل المؤدي إلى التيه في برد عزلة عربية ودولية. "صفقة القرن" صيغة أميركية، وقحة ودنيئة، للتعامل المتغطرس مع شعب أهدرت الصهيونية حقه التاريخي في أرضه باسم حقها الطبيعي المتعالي على التاريخ. أصبحت هذه الصفقة الآن سارية المفعول، حتى قبل اكتمال فصلها الأخير. لن نتستر على الحقيقة، فقد دشّنها نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وثبّتها كل من إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وإلغاء أميركا دعمها المالي للأونروا. إنها إجراءات تفيد بنهاية فكرة حل الدولتين وحق العودة للاجئين الفلسطينيين، من دون حاجة إلى تنصيص القرار الأممي على حدود سنة 1967 في الحل النهائي. وما سيلي من المشهد هو إضافة الإهانة إلى الإهانة، والرعب إلى الرعب، والتشريد إلى التشريد، بترحيب أكثر من طرف عربي سيشهر بلا مواربة تطبيع علاقته مع إسرائيل. هللويا! لا مفر من الإقرار بأن أوضاعاً مركبة، من جهات متعددة، أدت إلى هذه الحالة. لكن غياب ثقافة الحوار بين الفلسطينيين، وعدم بلورة رؤية فلسطينية مبدعة للمقاومة، في مقابل ما تحققه إسرائيل من ترسيم الاستيطان وتهويد معالم فلسطين وإعلان يهودية الدولة العبرية، بدعم أميركي ونفاق دولي، وتبعية عربية مضاعفة للغرب، وسيادة منطق المصالح على العلاقات الدولية بدلاً من المبادىء، هما في طليعة العوامل التي أراها فاعلة في عزلة فلسطين. II   عاشت أغلبية الدول العربية ارتجاجاً قوياً ومفاجئاً تمثل في "الربيع العربي"، إلاّ إن نتائجه كانت بالإجمال ذات مفعول عكسي، لما حملته عاصفة الربيع من بشائر في أفق تغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية نحو ما يمثل الحلم الجماعي. نحن اليوم في ظرف عربي كسيح يتفاقم فيه انعدام الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية، وهذه الوضعية هي ذاتها في فلسطين. لم يخطىء اليسار العربي الذي رأى، في إثر نكسة 1967، أن تحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي يمر عبر تحرير العالم العربي من أنظمة الاستعباد والتبعية للغرب. لكن اندحار اليسار، وظهور الإسلاميين، حرفا المسار بأكمله عمّا كان اليساريون يعتقدون أنه الطريق الصحيح لتحرير فلسطين من الاحتلال. عندما وقّع الفلسطينيون اتفاق أوسلو ساد نوع من الأمل بأن فلسطين ستتجاوز معوقات الحرية في العالم العربي، وأنها بالتالي ستصبح نموذجاً للتعدد وتدبير الاختلافات بالوسائل الديمقراطية، مع إنصاف الشعب الفلسطيني بتحقيق العدالة الاجتماعية. ما حدث لاحقاً كان صادماً، لأن بنية السلطة الفلسطينية لم تختلف عن بنية السلطة العربية من حيث النظر، باستخفاف، إلى الممارسة الديمقراطية أو ممارسة الحريات. وأنا أعتبر كتابات إدوارد سعيد، بهذا الشأن، إضاءة بعيدة الأثر في فهم أسباب المعوقات التي أخفقت السلطة الفلسطينية في التخلص منها. وعليه، فإن الحديث عن المجتمع الفلسطيني ومؤسساته يتطابق مع الحديث عن العالم العربي عامة، من حيث الاختيارات الكبرى في العلاقات بين السلطة والمجتمع، وما يتطلبه الانتقال من فضاء مغلق إلى فضاء مفتوح يسمح لأي فرد بأن يتخيل حياة أساسها الحرية الفردية والجماعية. نعم، هي تحديات لا يمكن للتقنية أو المقاربة الأمنية أن تتولى إيجاد الحلول الملائمة لها، في مجتمع يعاني الاحتلال بقدر ما يعاني التخلف. كما أني أتصور أن فلسطين يجب أن تختار علاقة نقدية بمجمل الأسئلة المتعلقة ببناء مجتمع حديث يقوم على الحرية والعدل والمساواة. لا تتوقف إسرائيل عن الترويج لنفسها بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، بينما هي، بممارساتها ضد الفلسطينيين، نقيض ادعائها وأكاذيبها. ما يهم أكثر هو أن تبنّي العلاقة النقدية تجاه أسئلة الواقع، يمكن أن يخلق أملاً بمستقبل يتحرر فيه الفلسطينيون من الاحتلال الإسرائيلي ويؤسسون دولتهم المستقلة. وبرأيي، أول ما يجب فعله لتحقيق ذلك، هو الوحدة الوطنية ومناهضة الفساد، فهاتان علامتان بارزتان من علامات العلاقة النقدية بواقع الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، كما بواقع الحريات. وكلما تأجل البتّ فيهما، كان ذلك مدعاة إلى الريبة في القدرة على صيانة الأمل المطلوب.   III   ظلت فلسطين حاضرة، منذ يقظة وعيي السياسي في أثناء فترة الشباب حتى اليوم، في كتاباتي ومواقفي وأنشطتي الثقافية. وإذا كانت متغيرات الفترة الحالية غير مساعدة على تطوير بعض الأفعال الجماعية، فإن الكتابة الشخصية مستمرة في تحفيز الوعي بما تجتازه فلسطين، وبما يعيشه الفلسطينيون ويعانونه. إنه موقع الحضور المنتبه الذي يقدَّم بصيغ متنوعة، وهو ما يمكن أن أسميه الوفاء لفلسطين ولأصدقائي من الفلسطينيين، وفي مقدمهم فقيدنا الكبير محمود درويش. بهذه الشرارة أكتب نصوصاً بين فترة وأُخرى. فقبل مدة قصيرة، انتهيت من كتابة قصيدة تندرج ضمن مشروع شعري ـ فني مشترك مع فنان مغربي صديق، وأنا الآن بصدد الاشتغال على كتاب أتمنى أن أتوفق في إنجازه. وأفكر أيضاً في التعاون مع أصدقاء في عمل لا أستطيع الحديث عنه الآن، لأنه لم ينضج بعد. وباسم الوفاء ذاته أترجم نصوصاً لصديقي برنار نويل الذي لا يتخلى عن فلسطين كلما اقتضى الأمر كتابة أو فعلاً، وقد نشرتها في كتاب يحمل عنوان "الموجز في الإهانة". ثم إنني على حوار مستمر مع طلبة فلسطينيين يشتغلون في حقل الشعر الفلسطيني. وبالإرادة عينها، تعاونت مع أصدقاء مغاربة مناضلين على تأسيس جمعية المقاطعة الأكاديمية والثقافية والفنية والرياضية لإسرائيل. ماذا يعني هذا كله (وسواه)؟ لست أدري. أنظر إلى ما أحاول القيام به من حيث هو وفاء أتقاسمه مع نفسي ومع مَن يقبلون التقاسم، من دون بطولة أو مساحة ورود. أعرف مؤكداً أن صدى القصيدة يتضاءل شيئاً فشيئاً، وأنا لا أكترث لخفوت صداها في هذا الزمن، إلاّ في حدود ما يطرحه تهميش الثقافة في مجتمع العولمة. أمّا موقع الوفاء فهو الذي أحافظ عليه. إنه هنا، علني، منشور، لكنه يطمئن إلى الصمت ويسهر عليه. أن أكتب أو أقوم بعمل ما، هو ممارسة تلقائية تتجنب البحث عن مبرر، وتدرك، في الوقت نفسه، حدودها التي تقبل بها بحرّية، لا بإرغام. وعندما أنشر نصاً، أو أقرأ قصيدة (في هذا المكان أو ذاك، وفي مناسبة معينة أو غيرها) أتحاشى المناسبة، وأتحرك نحو ما ينعشني. لا أكثر. ذلك هو موقع فلسطين اليوم في حياتي الثقافية.   IV   ما حاولت الإشارة إليه بإيجاز عن كتاباتي ومواقفي وأنشطتي الثقافية يقودني باستمرار إلى أن أتساءل عن فاعلية ما أقوم به، وما أسعى له. مصدر التساؤل هو طبيعة الوضعية الحالية لغياب فلسطين عن الحقل الثقافي العربي. لا شيء يفاجئني في هذه الوضعية. لقد كان المثقفون النقديون هم المبادرون إلى مناصرة الفلسطينيين وإبراز القضية الفلسطينية، من خلال أعمالهم المتعددة ومواقفهم وأنشطتهم في الحياة الثقافية العربية، أو على الصعيد الدولي. علينا ألاّ ننسى ذلك، بل على الشبان أن ينتبهوا إلى هذه المكتسبات وإلى الكيفية التي نجحت بها نخبة من المثقفين النقديين في كتابة زمن كان عنوانه المقاومة المتعددة. ذلك العهد ولّى. فعهدنا اليوم هو عهد سيادة الإسلاميين الذين يناوئون الثقافة الحديثة، ومعظمهم يحرّمها ويكفّر أهلها من كبار الأدباء والكتّاب والمبدعين، بينما هم لا يملكون أي منظور ثقافي للوقوف إلى جانب فلسطين. رؤيتهم الدينية تحول دون الوعي بمعنى الثقافة. أمّا المؤسسات الثقافية، ومنها الجمعيات بشتى أسمائها، فلم يعد لها وجود في الشأن الثقافي؛ فهي إمّا تكشف عن وظيفتها الإدارية، وإمّا تفتقد الرؤية والإرادة. تلك أعطابها التي تجعل التفكير لديها غير ممكن في إبداع أنشطة تضيف إلى الفعل الثقافي بعداً له من الضوء بقدر ما له من الشمول. وما يبقى على مستوى الجامعات هو عمل من دون اجتهاد. هذه ملاحظة كافية لا تتطلب مزيداً. لكل هذا أخشى القول إن علاقة الثقافة العربية بالقضية الفلسطينية ستضيق مساحتها أكثر فأكثر. وما يدفعني إلى الخشية هو إمّا سيادة القوى الدينية، وإمّا هيمنة الاهتمامات المحلية وأسبقية المصالح الشخصية، في زمن تراجُع الفكرة العربية، والتحلل من فكرة التحرر. ومع ذلك، نحن بحاجة إلى إعادة بناء علاقة الثقافة العربية بالقضية الفلسطينية، وأنا أرى أن ذلك ممكن على أساس ترسيخ الثقة بالفلسطينيين، والوفاء لتضحيات الشعب الفلسطيني، والنقد المستمر لكل ما يشكل انحرافاً عن التشبث بالحقوق. إن إعادة البناء تفيد بالدرجة الأولى حماية المطالب المشروعة، والتخلص من اللغة المريضة بالكسل الفكري أو وهن الخيال أو المبالغة في التمجيد. هي دعوة مفتوحة إلى إحياء القضية الفلسطينية في مجالات الثقافة العربية وفي محيطها الاجتماعي. بل يمكن أن أتخيل الأصعب، فأقترح التفكير في إقامة مناظرة عربية من أجل فلسطين، برؤية ثقافية مبدعة ومنفتحة على العالم. فحماية روح المقاومة هي المسعى، كي لا نترك إسرائيل وأميركا وحدهما تفرضان القبول بصفقة القرن، ولا نسمح لأي طرف عربي بالهجوم الأخير على الشعب الفلسطيني.