ليس الأمل قناعة بأن الذي نريده سيتحقق يوماً، بل اليقين بأنه الحقيقة مهما يحدث. كان هناك صبي ينتظرني وفي يده حجر، يركض بحرّية في الشوارع؛ يسير بحرّية في ضوء الشمس؛ يقف على مسافة من دبابة ضخمة محاطة برجال بلا وجه تحت خوذاتهم: مقيدين في دروعهم، ومتشبثين بأسلحتهم الغليظة، وخائفين منه. بين الحجر والصبي وئام تام، يخفق الحجر في يده على إيقاع قلبه، يُلقي الولد الحجر في الهواء، جسمه ممدود مثل القوس (freeze) هذا الصبي حرّ كما لم أكن قط، حرر قطعة الأرض التي يقف عليها، نفخ في الحجر حُبّه للحرية، وجعلها تدوّن في الهواء توقيعاً لا يُمحى الحجر حجر فلسطيني، قطعة أرض فلسطينية منذ آلاف الأعوام، كانت على موعد منذ أجيال مع الصبي الفلسطيني، فبينهما انتماء إلى الأرض نفسها يربطهما ارتباطاً وثيقاً. أجداده هم الذين وهبوا الأرض اسمها وتاريخها وأمواتها. الأحياء لا يستطيعون أن يفعلوا أي شيء من أجل الموتى، لكن الموتى يعلّمون الأحياء أن يعيشوا. أن نعرف ذلك يفسر لماذا كان الجنود خائفين في مواجهة الصبي. مشاهدة الحرية تثير إمّا الفرح، وإمّا الرعب. خوفهم خوف سحيق لا يعرفون تماماً مدلوله. إنهم يغرقون في كراهية قد تبتلعهم ولن يخرجوا منها سالمين. سيأتي يوم تتجلى لهم أعمالهم الفظيعة ويستولي عليهم الهلع. امرأة مع طفل رضيع بين ذراعيها تمشي بسرعة في الشوارع. ترى رجلاً لا تعرفه محاطاً بالجنود الإسرائيليين. تهرع إليهم وتوبّخ الرجل المعتقل: لماذا تتسكع في الشوارع وتتركني وحدي في المنزل مع الطفل؟ توسعه شتماً : تنبل! كسلان! خسيس! ثم فجأة تعطيه الرضيع وتجبره على أخذه: أرجعه إلى المنزل، لديّ كثير من الأشياء للقيام بها، ثم تدير ظهرها وتذهب مستعجلة. يسخر الجنود من الرجل ويطردونه. يسير الرجل في الاتجاه الذي سلكته المرأة، ويجدها مختبئة في زاوية، مرتجفة ولاهثة، وهي تهمس أدعية. لا يعرف كيف يشكرها. من دون كلمة، تأخذ الطفل وتذهب. يواصل طريقه في اتجاه آخر. (fade out) لا شك في أن هذه الشابة الجريئة والذكية تنتمي إلى شعب لن يخضع أبداً. جعلت طفلها يشارك في مقاومة المحتل؛ طفل فلسطيني صائر إلى التشرد قبل أن يولد. فعلاً، لقد سمع كل شيء وهو في بطن أمه: الرصاص؛ القذائف؛ الصراخ ...عرف كل شيء قبل أن يولد: الاحتلال؛ الحرمان؛ الإذلال؛ الحظر؛ القمع... لن يكون لديه مملكة غير تلك التي ستحددها قدماه. لكن عندما سيقف في الساحة، سيحتضن نظره المساحة بأكملها إلى ما وراء جميع الحدود، بينما ستكون النظرات الضيقة لعشرين جندياً منكمشة على الحصاة الصغيرة التي يحملها في يده. هذا الفتى هو كابوس لأحد أقوى الجيوش في العالم. (cut) تذكّروا معي: في الماضي القريب، حصار بيروت، والانتفاضة؛ لم يكن ممكناً لأحد أن ينكر وجود وحدة عربية عميقة تترك في كل حركة شعبية، في كل قُطر عربي، أثراً يتفاعل معه الإنسان في الأقطار الأُخرى كافة. في الماضي القريب: أي قمع إسرائيلي وحشي في فلسطين، أو أي عمل مقاومة للاحتلال، كانا يثيران تعاطفاً شعبياً في كل قُطر عربي، يهز الإنسان في جميع الأقاليم. أمّا اليوم: حصار غزة أفظع كثيراً من حصار بيروت، ومقاومة شعبها الهائلة أعظم كثيراً من التصديات الأُخرى التي كبحت العدو في السابق، غير أن بطولاتهم لا تثير انفعالاً في الفئات الشعبية العربية، وآلامهم لا تُغضب الجماهير في الأقطار الأُخرى. أمّا نحن: نحن جماعة من مفكرين وكتّاب وفنانين مرصودين للتعبير عن الثقافة الديمقراطية والتحريرية العربية، مجموعة تعتز بطاقاتها الفنية والفكرية المنذورة لإنشاء وتطوير عقلية جماعية عاصية تتخطى الحواجز الإقليمية والقواطع السياسية. أين نحن اليوم من تفتيت المنطقة وتفكيك مجتمعنا، وإتلاف هويتنا الحضارية؟ بين الدواعش والكتلة الغربية، وبين الوحش المتخلف والغول المتحضر، فأحدهما يكمل دور الآخر! أين نحن من الكارثة التي تهدد مجتمعنا والتي تدكّ مدماكه الثقافي أكثر كثيراً من بنيته السياسية؟ لا أعتقد أن الإرهاب الإسلامي صنيعة أميركا، مثلما يحلو للبعض أن يشرح الأمور بشكل تبسيطي، وإنما هو نتاج لسياسات الإقصاء، وللطائفية والمذهبية، ولتغييب القضية المركزية (فلسطين) وانحراف الرؤية عن الآفة العصبية الرئيسية (إسرائيل). وإن أردنا الإفلات من واقعنا المرير، والتخلص من ثنائية الإرهاب والاستعمار، فإن ثمة خياراً أمامنا لا بديل منه، ينطلق من ضرورة المحافظة على فتات هويتنا الثقافية، وهذا يعني ادّخار الشظايا الوراثية من تاريخنا وحضارتنا ومقاومتنا؛ تاريخنا الفكري والفني والأخلاقي، وتأريخ المقاومة وتوثيق جميع ما يتعلق بدلالات الوحدة الحضارية العربية (فكر؛ فنّ؛ أدب)، وباغتصاب أرض وعِرض في فلسطين. يجب أن تكون القدس قِبلة نشاطاتنا الثقافية، مهما تكن مواقعها وأهدافها الخاصة، وذلك من أجل الحفاظ على حد أدنى من الانتماء الموحِّد للقوى الحية في مجتمعنا. علينا أن نؤمن بأن الأفكار تعمّر أكثر من الإنسان، وأن امتداد أجلها يتوقف على حيوية خلاياها الجذرية. يجب أن نؤمن بأن تحرير فلسطين هو الحقيقة مهما يحدث. ـ حصار قطاع غزة لا يُطاق. ولا يطاق السكوت عنه؛ ـ الاستيطان المستشري في الضفة الغربية لا يُحتمل. ولا يُحتمل السكوت عنه؛ ـ تهويد القدس جريمة ثقافية نكراء لا يُغتفر التسامح بها. هزيمتنا الثقاقية تكمن في الخور الإعلامي ضد الجهاز الصهيوني المتشعب الأطراف. علينا أن نتغلب على هذه "الميدوزا" (Méduse) الأسطورية المعاصرة التي لا تنفك الثعابين تتوالد من فروة رأسها فتصيبنا وتصيب كل مَن ينظر إليها بالرعب. علينا أن نتغلب عليها بواسطة مرآة تعكس صورتها فتموت من رؤيتها. فلسطين اغتُصبت... فلسطين تُغتصب كما جسد امرأة مغتصبة بلا نهاية مخترقة، مدنسة، مغتصبة باستمرار، بلا توقف يوماً بعد يوم بعد يوم بعد يوم بعد يوم ـ "فلسطين مغتصبة!" يجب أن تكون هذه الاستغاثة كصيحة الديك في كل فجر، كالدعوة إلى الصلاة، وينبغي لها أن تكون ترويسة جميع كتاباتنا، ومستهل نشاطاتنا كلها، وأن تتحول إلى كابوس هلوسي متكرر في ذهن الصهيونيين. ماذا تفعل الكلمات ضد الأسلحة؟ بمقدار الحصى ضد الدبابات! أو طفل رضيع في مواجهة العسكر! "كل جهود العنف لا يمكن أن تُضعف الحقيقة" (باسكال) ملاحظة: أرسل التلفزيون الفرنسي فريقاً لتصوير فيلم وثائقي عن الحياة اليومية في غزة، فطلبت السفارة الإسرائيلية في باريس حظر نشرها. وبعد إعلان موعد البثّ، سُحب الفيلم من البرمجة من دون لغط ولا تبرير.
Palestine - Hope
Digital Section:
Special Feature: