إن تصويت الكنيست الحادي والعشرين على حلّه بعد أقل من خمسين يوماً على انتخابه، والدعوة إلى انتخابات جديدة في أيلول / سبتمبر المقبل، هما أكبر دليل على عمق المأزق السياسي الذي تواجهه إسرائيل حالياً بقيادة بنيامين نتنياهو الذي، بعد احتفاله بانتصاره المدوي في الانتخابات التي جرت في نيسان / أبريل الماضي، يواجه اليوم أكبر فشل سياسي في حياته. للمرة الأولى في تاريخ الكنيست الإسرائيلي يتخذ أعضاؤه قراراً بحلّه والدعوة إلى انتخابات عامة جديدة. وسيسجل التاريخ أيضاً أن حزب أفيغدور ليبرمان الذي حصل على خمسة مقاعد فقط في الانتخابات الأخيرة استطاع أن يهدم الإنجاز الذي حققه نتنياهو عندما كلّفه رئيس الدولة بتشكيل حكومته الرابعة على التوالي، والخامسة في حياته. كما سيسجل التاريخ أن الخلاف على قانون تجنيد تلامذة المدارس الدينية، والذي هو موضع جدل منذ فترة طويلة بين الأحزاب الدينية الحريدية الرافضة له، وبين الأحزاب العلمانية المطالبة به، هو السبب في تصدّع صورة نتنياهو كرئيس حكومة لا يُقهر. ما حدث فجر 30 أيار / مايو 2019 هو قبل أي شيء دليل على التشوهات الكثيرة التي ألحقها حكم نتنياهو المتواصل منذ سنة 2009 بالحياة البرلمانية، وكيف كان في كل مرة يجد نفسه في مواجهة عقبة حقيقية، يلجأ إلى تقديم موعد الانتخابات للفرار منها. هكذا فعل عندما قدم موعد الانتخابات للكنيست الحادي والعشرين هرباً من توجيه لوائح اتهام ضده بالفساد، وهكذا يفعل الآن عندما شعر بأنه سيفشل في تشكيل ائتلافه الحكومي، فلجأ إلى طرح اقتراح قانون حل الكنيست، محاولاً قطع الطريق على رئيس الدولة رؤوفين ريفلين لتكليف عضو كنيست آخر بتشكيل الحكومة مثلما ينصّ القانون، وجرّ إسرائيل إلى انتخابات ثانية في غضون عام واحد من أجل هدف واحد هو الدفاع عن بقائه في الحكم ولو على حساب مصلحة ناخبيه وبلده. لكن إذا كان نتنياهو هو وراء فكرة حل الكنيست، فإنه على الأرجح سيدفع ثمن فشله المدوي في إقناع شركائه في معسكر اليمين بالتعاون معه، وثمن فشل جميع المناورات التي قام بها في اللحظات الأخيرة التي وصلت إلى حد الطلب من حزب العمل الانضمام إلى الحكومة. وطبعاً هناك أيضاً الإهانة التي ألحقتها الضربة الموجعة التي وجهها ليبرمان إليه من خلاله إصراره على تطبيق قانون التجنيد الإلزامي على تلامذة المدارس الدينية. تكشف الأزمة السياسية التي تعصف بإسرائيل حالياً عمق المأزق الذي تعيشه، والانقسامات التي تنهشها، وتفضح محاولات نتنياهو احتكار القرار السياسي، وتقديم مصلحته الشخصية على المصلحة العامة. كما أنها تعكس بصورة خاصة اختلال التوازنات وموازين القوى بين الأحزاب السياسية، وكيف نجحت الأحزاب الدينية الحريدية التي تمثل 11% من جمهور الناخبين في إسرائيل في فرض أجندتها على نتنياهو وابتزازه، وبالتالي فشله، وكيف استطاع حزب صغير مثل حزب إسرائيل بيتنا، تحدي نتنياهو وقلب الوقائع التي أفرزتها انتخابات الكنيست الحادي والعشرين، وجرّ إسرائيل إلى انتخابات جديدة معتقداً أنه سينجح في مضاعفة تمثيله. وتعكس الأزمة أيضاً شلل وضعف أحزاب المعارضة واليسار التي لم تتمكن من إيقاف العاصفة التي أطاحت بكل ما نتج من الانتخابات الأخيرة، وأعادت الأمور إلى نقطة الصفر. ما حدث أعاد خلط الأوارق، وفتح الباب من جديد على كثير من المفاجآت. لكن على الرغم من هذا كله، فإن من المفيد قراءة نتائج الانتخابات الأخيرة للكنيست الحادي والعشرين للتعرف أكثر إلى ما ستكون عليه الانتخابات الجديدة المقبلة. من المنتظر أن يكون لنتائج الانتخابات الإسرائيلية العامة الأخيرة انعكاسات كبيرة على وضع الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، ولا سيما في ضوء التسريبات بأن "صفقة القرن" لن تشمل دولة فلسطينية مستقلة، وفي أعقاب تردي العلاقة بين السلطة الفلسطينية وإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب واشتداد الحرب الاقتصادية التي تشنّها الولايات المتحدة ضد السلطة، وتجدد الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة ومحاولات التدجين التي تقوم بها إسرائيل لـ "حماس" من خلال وساطة مصرية هدفها التوصل إلى تهدئة بعيدة الأمد، والاستغلال الإسرائيلي لواقع الانقسام الفلسطيني، والكلام العلني على تطبيع وتعاون سري بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، وتباهي نتنياهو بأنه تلقى التنهئة بانتخابه من عدد من رؤساء الدول العربية والإسلامية. كيف يمكن قراءة التعادل بين حزب الليكود وتحالف أزرق - أبيض؟ وكيف نجح نتنياهو في التغلب على خصومه؟ وما هي نقاط ضعف تحالف أزرق - أبيض، ولماذا فشل تكتل الجنرالات في أن يشكل بديلاً من حكم نتنياهو؟ واستطراداً، كيف تحولت الأحزاب الدينية المتزمتة شاس ويهدوت هتواره (16 مقعداً) إلى القوة الحزبية الثالثة في الكنيست الإسرائيلي الحادي والعشرين؟ وما هو مستقبل اليسار الإسرائيلي في إسرائيل بعد التراجع الكبير لحزب العمل (من 24 مقعداً في الكنيست السابق إلى 6 مقاعد)، وما هي فرص الاندماج بينه وبين حركة ميرتس؟ وأخيراً ما هي ملامح الائتلاف الحكومي المقبل؟ أسئلة لا بد من الإجابة عنها لوضع قراءة هادئة وموضوعية لما آلت إليه نتائج انتخابات الكنيست الـ 21. الانقسام بشأن زعامة نتنياهو السياسية ليس التعادل بين حزب الليكود وتحالف أزرق - أبيض الذي حصل كل منهما على 35 مقعداً (من مجموع 4 ملايين ناخب، نحو مليون و124 ألف ناخب صوّت إلى جانب الليكود، ومثل هذا العدد صوّت إلى جانب أزرق - أبيض)، سوى مؤشر إلى عمق الانقسام بين الإسرائيليين بشأن زعامة نتنياهو السياسية، أكثر ممّا هو دليل على الاختلاف في وجهات النظر مع اليمين الإسرائيلي الحاكم ورؤيته السياسية. وباستثناء المعارضة الشديدة التي مثلها تحالف أزرق - أبيض لشخصية نتنياهو وأسلوبه في الحكم، لا توجد فوارق كبيرة بين الحزبين المتنافسين إزاء عدد من المسائل السياسية الأساسية. ففي الوقت الذي يؤيد نتنياهو ضم أراضي المنطقة "ج" والكتل الاستيطانية الإسرائيلية، فإن أزرق - أبيض يريد استمرار الوضع القائم، مع عدم المجازفة بخلق وضع يهدد الأغلبية اليهودية ونشوء دولة ثنائية القومية، ومع ذلك لا يعارض جنرالات الحزب ضمنياً مسألة الضم. أمّا بالنسبة إلى قطاع غزة، فإن نتنياهو مع سياسة احتواء "حماس" والعمل على تهدئة بعيدة الأمد، بينما أزرق - أبيض يدعو إلى سياسة أكثر تشدداً وعنفاً ضد "حماس"، وإلى العودة إلى أسلوب الاغتيالات؛ نتنياهو مع تكريس حال الانقسام بين الضفة وغزة والتعامل معهما ككيانين منفصلين، وأزرق - أبيض مع عدم تعزيز قوة "حماس" على حساب السلطة الفلسطينية؛ نتنياهو مع السياسة الإقصائية للعرب من سكان إسرائيل وتعزيز يهودية الدولة، وأزرق - أبيض مع إدخال تعديلات على قانون القومية لإنصاف المواطنين الدروز في إسرائيل (تجدر الإشارة هنا إلى أن حزب يوجد مستقبل بزعامة يائير لبيد صوّت ضد قانون القومية). كيف نجح نتنياهو في التغلب على خصومه؟ منذ البداية خاض نتنياهو معركته على مستوى الكتل وليس على مستوى حزب الليكود فقط. فقد سعى للتقرب من الأحزاب الحريدية مثل يهدوت هتوراه (8 مقاعد) الذي يمثل الحريديم من الطوائف الأشكينازية، وحزب شاس (8 مقاعد) الذي يمثل الحريديم من الطوائف الشرقية، وقام بتوحيد أحزاب اليمين القومي الديني المتطرف ضمن تحالف واحد جمع بين كل من حزب البيت اليهودي، الديني القومي، وحزب قوة يهودية ذي التوجهات الكهانية المتطرفة، وحزب الاتحاد القومي المتطرف المعادي للعرب (5 مقاعد)، ووقّع معهم اتفاقاً على تبادل الأصوات الفائضة. وحاول نتنياهو أيضاً أن يضمن سلفاً وقوف حزب كلنا بزعامة وزير المال موشيه كحلون (4 مقاعد)، وحزب إسرائيل بيتنا بزعامة أفيغدور ليبرمان (5 مقاعد) إلى جانبه، الأمر الذي ضمن له تكتلاً قوياً يساوي اليوم 65 عضو كنيست. اعتمدت حملة نتنياهو الانتخابية أمرين: التشكيك في أهلية الخصم وزعزعة صورته أمام الرأي العام، وذلك من خلال رسائل واضحة وبسيطة مثل: فوز زعيم أزرق - أبيض بني غانتس معناه فوز اليسار الانهزامي الذي كان وراء اتفاق أوسلو؛ غانتس سيتحالف مع الأحزاب العربية؛ نتنياهو وحده يفهم كيفية التعامل مع إيران وليس موشيه يعالون الشخصية الثالثة في أزرق - أبيض الذي كان مع الاتفاق النووي مع إيران؛ يائير لبيد لا يفقه شيئاً وطرده نتنياهو من وزارة المال؛ غانتس ضعيف وغير مستقر نفسياً ولا يتحمل الضغوط ومهمل ويعرّض للخطر مصالح الدولة، وأبرز دليل على ذلك اختراق الإيرانيين لهاتفه. الأمر الثاني الذي استخدمه نتنياهو في حملته هو أسلوب التخويف والتهويل على الناخبين. ففي الأيام التي سبقت موعد الانتخابات بدأ نتنياهو بحملة تخويف كبيرة هدفها تحذير الناخبين من مغبة عدم مشاركتهم في الانتخابات. ولهذه الغاية استخدم بكثافة وسائل التواصل الاجتماعي، وكان كل 10 دقائق ينشر فيديواً جديداً على الفايسبوك يحذّر فيه من أن الليكود في خطر، وأن على الناخبين التوجه إلى صناديق الاقتراع. وبرز أيضاً التحريض ضد الناخبين العرب والتحذير من خطر التزوير في صناديق الاقتراع العربية، واللجوء إلى تركيب كاميرات حملها سراً مندوبو الليكود في أقلام الاقتراع العربية. طرحت حملة نتنياهو أهدافاً سياسية واضحة مثل إعلانه قبل أيام من الانتخابات، نيّته ضم المنطقة "ج" في الضفة الغربية التي تشمل الكتل الاستيطانية الكبرى، ورفضه المطلق تفكيك أي مستوطنة أو إخراج مستوطن من الضفة الغربية، وتبنّيه وضع الانفصال بين السلطة الفلسطينية و"حماس". وكان قد قال في مقابلة مع "يسرائيل هيوم" (4 / 4 / 2019)، قبل أسبوع من الانتخابات: "لن أعطي غزة إلى أبو مازن. يجب فصل الضفة عن غزة. هما كيانان سياسيان منفصلان وسيبقيان كذلك لمدة طويلة. لن تقوم هنا دولة فلسطينية تحيط بنا من الجهتين." وبخلاف مواقف تحالف أزرق - أبيض الغامضة من "صفقة القرن"، وضع نتنياهو ثلاثة شروط مسبقة للموافقة على الصفقة: لا لاقتلاع أي مستوطن أو مستوطنة؛ الاحتفاظ بالسيطرة الأمنية الإسرائيلية على المنطقة الواقعة غربي نهر الأردن؛ عدم تقسيم القدس. ترافق هذا كله مع دعم واضح وغير مسبوق لنتنياهو من جانب الإدارة الأميركية بلغ الذروة مع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب اعتراف الولايات المتحدة بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان. كما برز أيضاً دور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي اختار موعد إعادة رفات زخاريا باومل، الجندي الإسرائيلي المفقود منذ 37 عاماً خلال معركة السلطان يعقوب في سنة 1982، قبل أيام معدودة من الانتخابات، وهو أمر ساهم في تلميع صورة نتنياهو الانتخابية. وقد استغل نتنياهو انتخابياً أيضاً الوساطة المصرية مع "حماس" لوقف التصعيد ووقف إطلاق الصواريخ من غزة على وسط إسرائيل، وكذلك تحويل المال القطري إلى غزة من أجل تحقيق تهدئة. نقاط ضعف تحالف أزرق - أبيض في مقابل عناصر القوة التي جمعها نتنياهو قبل عملية الاقتراع، ثمة كثير من نقاط الضعف التي شابت حملة أزرق - أبيض الانتخابية، منها: 1 - عدم وجود هوية سياسية واضحة للحزب بخلاف حزب الليكود المتجذر في البيئة السياسية الإسرائيلية، فإن هذا التحالف تشكل قبل أشهر من الانتخابات وضم حزب يوجد مستقبل برئاسة يائير لبيد، وهو الحزب الوحيد القديم نسبياً الذي تأسس في سنة 2013 وكان ممثلاً في الكنيست العشرين بـ 11 مقعداً، والحزبين الجديدين: مناعة لإسرائيل برئاسة رئيس الأركان السابق بني غانتس، والحركة القومية الرسمية، تيليم، برئاسة موشيه يعالون الذي كان وزيراً للدفاع في حكومة نتنياهو. وانضم إلى هذا التحالف أيضاً عدد من القادة العسكريين السابقين مثل غابي أشكينازي وشخصيات سياسية سبق أن عملت تحت إمرة نتنياهو، لكن على الرغم من خبراتهم السياسية والأمنية، فإنهم لم ينجحوا في تقديم رؤيا سياسية واضحة حيال المسائل الأساسية، كما اتضح أنهم لا يستطيعون إزاحة نتنياهو عن منصبه. 2 - اتجاهات التصويت التقليدي نحو المعسكر والعشيرة اعتقد زعماء التحالف الجديد أن وجود ليكوديين سابقين في صفوفهم وجنرالات سابقين سيؤدي إلى جذب أصوات من الليكود ومن اليمين القومي، إلاّ إن التصويت في الانتخابات الأخيرة كان تصويتاً للمعسكرات وللعشيرة، والأصوات التي حصل عليها التحالف جاءت في الأساس من أوساط حزب العمل واليسار الإسرائيلي عامة، ومن الناس الذي صدقوا أن التحالف الجديد سينجح أخيراً في الحلول محل نتنياهو الفاسد في نظرهم. بينما امتاز التصويت لأحزاب اليمين والأحزاب الدينية بأنه تصويت جماعي للمعسكر وللزعامة الدينية. هذا التوجه يوضحه الرسمان البيانيان 1 و2 أدناه، فالمدن المرتاحة اقتصادياً ذات الأكثرية السكانية العلمانية مثل تل أبيب، صوتت لمصلحة أزرق - أبيض، بينما صوتت المدن الفقيرة مثل مدن التطوير والضواحي لمصلحة الليكود. والمقاعد التي حصل عليها التحالف جاءت من حزب العمل بصورة خاصة (الذي تراجع تمثيله من 24 مقعداً إلى 6 مقاعد)، ومن حركة ميرتس (التي تراجع عدد الناخبين لها بنحو 9000 صوت)، أي من أصوات اليساريين الذين توهموا أن تحالف أزرق - أبيض يمكن أن يهزم نتنياهو. 3 - النزعة النخبوية للحزب الأهداف التي وضعها الحزب لنفسه مثل الدفاع عن القيم الديمقراطية ومؤسسات الدولة، وجهاز القضاء، ولا سيما محكمة العدل العليا، في وجه هجمة اليمين القومي، ومطالبته بالمحاسبة ومحاربة الفساد، أمور جعلته يبدو في نظر الجمهور الإسرائيلي حزباً يمثل النخبة الأشكينازية العلمانية في مواجهة اليمين القومي والخطاب الشعبوي الذي تبنّاه نتنياهو والأحزاب الدينية المتزمتة التي تحاول أن تفرض نمط حياتها على المجتمع الإسرائيلي. لكن على الرغم من نقاط الضعف هذه، فإن هناك مَن يرى في النتيجة التي حققها التحالف والتعادل في المقاعد بينه وبين الليكود إنجازاً سياسياً تحقق خلال وقت قصير نسبياً. غير أن مصير هذا الإنجاز سيبقى رهن أداء التحالف السياسي ضمن صفوف المعارضة، وقدرته على أداء دور حقيقي وكابح لسياسات اليمين الإسرائيلي المتطرف. فإسرائيل تعرف جيداً ظاهرة الأحزاب الجديدة مع كل دورة انتخابية، وكثيراً ما برزت أحزاب جديدة عشية الانتخابات، مثل حزب كاديما الذي أسسه شارون في سنة 2005 بعد خروجه من الليكود في إثر خلافه مع نتنياهو على الانسحاب الأحادي من غزة، والذي نجح في التغلب على الليكود، لكن هذا الحزب اختفى بعد دورتين انتخابيتين عن الخريطة الحزبية. ومستقبل تحالف أزرق - أبيض منوط إلى حد بعيد بقدرته على أن يشكل معارضة قوية في وجه تسلط الأحزاب الحريدية واليمين القومي. أسباب تقدم الأحزاب الدينية المتزمتة أبرزت الانتخابات أيضاً صعوداً مطرداً للأحزاب الحريدية، وربما من أسباب هذا الصعود: 1 - التشابك القوي بين العامل الإثني القومي والعامل الديني، والارتباط الوثيق بين مفهوم المواطنة ومفهوم الإثنية والدين، والالتباس في علمانية الدولة؛ 2 - ميل الأحزاب الدينية المتزمتة في الأعوام الأخيرة نحو أيديولوجيا اليمين القومي المسياني النزعة؛ 3 - الزيادة الديموغرافية للعائلات الحريدية المتعددة الأولاد. علاوة على ذلك هناك أسباب أُخرى أثّرت في المعركة الانتخابية الأخيرة مثل عودة إيلي يشاي إلى أحضان حزب يهدوت هتواره، بعد انشقاقه عن حزب شاس في الانتخابات السابقة، وخوضه الانتخابات في قائمة مستقلة، الأمر الذي أدى إلى تشتت الأصوات؛ والإقبال الكثيف للحريديم على التصويت الذي وصل في بعض المدن إلى 84%. ومن الأمور المثيرة للاهتمام أن التصويت للأحزاب الحريدية لم يقتصر على الجمهور المتدين المتزمت، بل تعداه إلى قطاعات أُخرى شملت أيضاً العرب في إسرائيل. ومن الأمثلة لذلك أن التصويت لحزب شاس لم يقتصر على جمهوره الحريدي، بل شمل أيضاً جمهور اليهود الشرقيين عامة الذين تقليدياً يشكلون القاعدة الشعبية لليكود، ووصل حتى إلى الجمهور العربي، ولا سيما البدو. فقد أولى زعيم الحزب آرييه درعي اهتماماً خاصاً بالجمهور العربي، وخصوصاً البدو، وحاول الحصول على دعمهم من خلال إغداق الوعود عليهم. واستغل علاقاته الشخصية مع زعماء العشائر البدوية، ومنصبه في وزارة تطوير الجليل والنقب والأموال التي حولها إلى البلدات البدوية (3 مليارات شيكل خلال 5 أعوام) للحصول على دعمهم. وأظهرت نتائج الانتخابات أن 8600 صوت من البلدات العربية ذهبت إلى حزب شاس، بينما حصل الليكود على 10,000 في البلدات العربية، و1110 أصوات حصل عليها اتحاد اليمين، و878 ليهدوت هتواره. في المقابل حصلت ميرتس على 35,000 صوت عربي، وأزرق - أبيض على 34,000 صوت، وحزب كلنا على 9000 صوت، وإسرائيل بيتنا على 6000 صوت، وحزب العمل على 5500 صوت. لقد خدمت زيادة مقاعد الأحزاب الحريدية مع تراجع التمثيل العربي نتنياهو بصورة كبيرة وقوى معسكر الأحزاب اليمينية عامة على الرغم من عدم تخطي حزب اليمين الجديد وحزب زِهوت نسبة الحسم. وحالياً أصبح للجمهور الحريدي الذي لا يشكل أكثر من 11% من سكان إسرائيل 16 عضو كنيست، بينما الجمهور العربي الذي يشكل 21% من سكان إسرائيل لديه 10 مقاعد فقط. هل هذه نهاية حزب العمل؟ وضعت نتائج الانتخابات الإسرائيلية حزب العمل أمام سؤال مصيري بشأن الجدوى من بقائه بعد أن أثبتت خسائرة المتتالية انه لم يعد يشكل بديلاً من حكم اليمين. لقد جرّب حزب العمل جميع الوسائل لاستعادة مكانته الانتخابية من دون أن ينجح، فحاول في انتخابات سنة 2015 التقرب من الطبقات الفقيرة وتبنّى أجندة اجتماعية – اقتصادية، لكن ذلك لم يساعده في التغلب على نتنياهو، وحاول كذلك التقرب من الجمهور الذي أصبحت أغلبيته تميل نحو اليمين، من خلال الابتعاد عن الأحزاب العربية والتشدد في الدفاع عن أهمية وجود أغلبية يهودية في دولة إسرائيل، لكن ذلك كله لم ينفع أيضاً. وفي ضوء التراجع الكبير في تمثيل حزب العمل، رأى عدد من المراقبين الإسرائيليين أن على الحزب أن يفكر جدياً في التنازل عن أحلامه في استعادة السلطة، والعمل على إعادة بناء هوية جديدة للحزب لا تتماهى مع اليمين المتطرف ولا مع الوسط المتطرف. كما بزرت أصوات تطالب بالاندماج مع حركة ميرتس اليسارية، لكن وجود تيار صقري في الحزب لا يوافق على شعارات ميرتس المؤيدة لحل الدولتين وقيام دولة فلسطينية مستقلة ورفض الاحتلال، يجعل من الصعب تحقق ذلك، وأي مسعى في هذا الاتجاه يمكن أن يؤدي إلى انشقاق الحزب. وفي الواقع، لا يزال حزب العمل يدفع ثمن فشل اتفاق أوسلو والعملية السياسية مع الفلسطينيين حتى اليوم. وهناك فريق من الإسرائيليين يرى أن السبيل الوحيد لحزب العمل لاستعادة تأثيره السياسي من جديد لن يكون إلاّ من خلال الانفتاح على الأحزاب العربية، وبناء شراكة حقيقية معها تقوم على رؤية سياسية واضحة إلى مستقبل إسرائيل، ومستقبل الأقلية العربية فيها. التحالف الحكومي المقبل خسارة حزب اليمين الجديد برئاسة نفتالي بينت وحزب زِهوت بزعامة موشيه فيغلين اللذين كانا على خلاف مع نتنياهو، سهّل كثيراً مهمة نتنياهو في تشكيل ائتلافه الحكومي المقبل، وجعله مع شركاء سياسيين مؤيدين له من دون حدود. وفي أي ائتلاف، فإن لأحزاب صغيرة، مثل حزب إسرائيل بيتنا وكلنا، دوراً كبيراً بسبب المناصب الحساسة والمهمة في الحكومة؛ كما ستواصل الأحزاب الحريدية مساعيها لفرض أجندتها الخاصة وحماية مصالح جمهورها المتدين على حساب مصلحة الجمهور الإسرائيلي العريض، مثل رفض الأحزاب الحريدية قانون تجنيد طلاب المدراس الدينية في الجيش، وزيادة مخصصات المدارس الدينية، وعدم دخول الحريديم في سوق العمل، وعدم مشاركة الجمهور الحريدي في تحمّل العبء الاجتماعي. ذلك كله سيجعل تشكيل الائتلاف الحكومي الجديد عملية شاقّة محفوفة بالمصاعب. هذا القسم الاخير من المقالة ملامح المعركة الانتخابية المقبلة على الرغم من الصدمة والذهول اللذين أحدثهما قرار حل الكنيست، فإن الساعات التي سبقت ذلك شهدت مجموعة تحركات واتصالات بين الأحزاب من شأنها أن ترسم ملامح المعركة الانتخابية المقبلة. ويأتي في طليعة هذه التحركات إعلان زعيم حزب كلنا موشيه كحلون، اندماجه مع حزب الليكود، الأمر الذي يتعارض مع وعوده الانتخابية كلها بشأن استقلالية حزبه. كما برزت مؤشرات أُخرى تدل على إمكان عودة الأحزاب العربية إلى القائمة الموحدة المشتركة، وبالتالي إصلاح الخلل الفادح الذي حدث في الانتخابات الأخيرة جرّاء انقسام الأحزاب العربية إلى لائحتين منفصلتين، والذي أدى إلى التراجع في نسبة المشاركة في الانتخابات وسط الجمهور العربي. وستكون الانتخابات الجديدة فرصة لحزب اليمين الجديد برئاسة نفتالي بينت وأييليت شاكيد، والذي فشل في تجاوز نسبة الحسم، للعودة مجدداً إلى الكنيست. أمّا التحدي الأكبر فهو الذي سيواجهه حزب إسرائيل بيتنا بزعامة ليبرمان، لأن الانتخابات المقبلة ستكون اختباراً حقيقياً لشعبيته وسط الجمهور العلماني في إسرائيل، فضلاً عن أن موقف ليبرمان الأخير من قانون التجنيد أخرجه نهائياً من معسكر الأحزاب اليمينية، وجعل نتنياهو يطلق عليه تهمة الانتماء إلى معسكر اليسار. إن الفشل في تجربة تشكيل ائتلاف مع الأحزاب الحريدية، والرفض المطلق لفكرة تشكيل حكومة وحدة وطنية تجمع بين الحزبين الكبيرين اللذين تعادلا في عدد الأصوات، من طرف كل من الليكود وتحالف أزرق – أبيض، لا بد من أن يكون لهما انعكاساتهما على الانتخابات المقبلة. والأهم من هذا كله أن المعركة الانتخابية الأخيرة التي تمحورت حول شخصية نتنياهو، سيخوضها نتنياهو هذه المرة مدمى ومثخناً بجروح عميقة، ومن دون إقرار القوانين التي كان يسعى لتشريعها، والتي كانت ستحميه من المحاسبة والمحاكمة، وتحصّن موقعه في رئاسة الحكومة. ولا بد من أن ينعكس ذلك كله بصورة أو بأُخرى على جمهور ناخبية. وفي الحقيقة، فإن ما فشلت أحزاب الوسط واليسار في تحقيقه اليوم في الانتخابات الأخيرة، قام به نتنياهو نفسه، الأمر الذي يدفعنا إلى القول إن اليمين هو الذي هزم نفسه. والسؤال الكبير هو: هل سينجح معسكر الوسط واليسار هذه المرة في تحقيق ما فشل فيه في الانتخابات الأخيرة، وأن يطرح نفسه كزعامة سياسية بديلة وحقيقية في ضوء فشل نتنياهو الذريع؟ يأتي حل الكنيست وتحديد موعد لانتخابات جديدة في أيلول / سبتمبر المقبل في وقت حساس للغاية مع إعلان الإدارة الأميركية قرب تقديمها خطة ترامب للسلام المعروفة بـ "صفقة القرن" خلال الشهر المقبل، فهل سيؤدي ما حدث إلى تأجيل طرح الخطة؟ لأن من الصعب في هذه المرحلة لإسرائيل الدخول في أي مفاوضات أو عملية سياسية تفاوضية، وهي في وسط عاصفة هوجاء من التحديات الداخلية التي يبدو واضحاً الآن أنها تشكل الخطر الأكبر على الاستقرار السياسي الداخلي في إسرائيل. تبدو إسرائيل اليوم أمام مرحلة مختلفة من حياتها البرلمانية، والسؤال المطروح الآن هو: هل ستشهد الانتخابات المقبلة نهاية زعامة نتنياهو السياسية؟