Reflections on the Frequent Raids on Ramallah
Full text: 

تكثفت في الفترة الأخيرة الاقتحامات الإسرائيلية لمدينة رام الله ـ عاصمة السلطة الوطنية الفلسطينية ـ وإن كانت لم تتوقف منذ اجتياح المدينة في عملية "السور الواقي" في سنة 2002، في عهد حكومة أريئيل شارون. وقد تصاعد تكثيفها أخيراً، وانتقل من حيّز الليل الذي يشي بمحدودية العملية كالقيام باعتقال أو تدمير منزل، إلى ضوء النهار، معلناً أن كل مَن هم في المكان باتوا هدفاً مشروعاً لعسكر الاحتلال.   تحيل الغرائبية بحسب سيغموند فرويد إلى حالة ملتبسة تنتج من تداخل غير المألوف بالمألوف، الأمر الذي يخلق واقعاً يترك وقعاً غريباً. الغرائبية. إذاً، هي شعور داخلي يباغتنا بأن هناك شيئاً مخيفاً، لكنه مألوف في الوقت نفسه؛ شيء يحمل ازدواجية متناقضة كحضور المخيف في الأمان، والمثير للاشمئزاز في الجميل، والهجران في بيت العائلة الحميمي. إنه حضور الشيء ونقيضه كحضور الحي في الميت، والميت في الحي. بهذا المعنى، كان اقتحام أحياء رام الله المتكرر في كانون الثاني/يناير من طرف قوات الاحتلال الإسرائيلية في وضح النهار، ووسط زحمة المدينة الاعتيادية والنابضة بالحياة بمثابة تسلل لـ "المفاجئ" والمهدد والعنيف إلى قلب المشهد الحميمي، وهدم متعمد لجدران الوهم الشفافة التي أحاطت بالمدينة التي تمترست في داخلها كي لا تراه. لنبدأ بتوضيح مهم قبل الاسترسال كي لا يساء فهم المقصود: جيش الاحتلال الإسرائيلي يدخل رام الله بشكل اعتيادي، وحين يخرج يتمترس في مواقعه المحصنة على بواباتها التي وضعها عند الجهات كلها؛ بوابات يوصدها ويفتحها وفق مزاجه. البوابات التي تسمى حواجز في اللغة الأمنية "النظيفة"، تقع على بعد عدة مئات من الأمتار من بنايات المدينة، وليس غريباً أن تكون النكتة المتداولة في رام الله أن السيارات لا يوجد فيها غيار ثالث لأن مَن سيستخدمها سيرتطم بجندي. إذاً، لم يكن اجتياح أحياء رام الله مشهداً استثنائياً ولا حدثاً مفارقاً قط، لكنه مع ذلك كان مربكاً لأنه جزء من معمارية "الأبارتهايد اللزج" في الضفة وغزة. الأبارتهايد اللزج على عكس الأبارتهايد الكلاسيكي في جنوب أفريقيا، يسلّم نفسه للناظر عبر تمظهراته على الأرض، وتجلياته المادية وممارساته المباشرة، وفي الوقت نفسه، سعيه المثابر للامتناع من إعلان نفسه حُكماً مؤسساً على العرق وقوانين العرق، بل إنه بدلاً من ذلك يسوق منظومته بلغة أمنية وسياسية نظيفة. ويتجلى الأبارتهايد فعلياً في شبكة الطرق المفصولة عرقياً بين اليهود والعرب، وفي اللافتات التي تحذّر الإسرائيليين من الدخول إلى المناطق الفلسطينية، وفي البوابات المنصوبة على مداخل المدن والقرى، وفي الأراضي المصادرة من سكان البلد لأغراض الدولة، وفي المستعمرات التي تسيطر على الأراضي الفلسطينية وتستغل مواردها، وفي وجود منظومتَي حكم للتعامل مع الفلسطينيين والمستعمرين. لكن تعبيرات وتمظهرات الأبارتهايد هذه، وعلى الرغم من فجاجتها ووضوحها، محاطة بشبكة خطابية تعمل بجد ومثابرة لا لتخفي تمظهرات الأبارتهايد المادية، فهي أسطع من أن تُخفى، وإنما كي تصور الفصل باعتباره حاجة أمنية إلى حفظ سلام المواطنين اليهود وملاحقة "الإرهاب الفلسطيني" سواء الكامن الذي يهدد بالانبعاث، أو المتفجر في حالة المواجهات. بين التمظهر الفج للأبارتهايد وخطاب الأمن الذي يحجبه، يتم إعادة تغليف حواجز الفصل وجدار الفصل والطرق المفصولة والقانون المزدوج بلغة نظيفة تثابر على نزع أي إشارة أو دلالة عنصرية، وتعمل على إلباسها لبوس الأمن والحاجة إلى حماية حياة المهددين من المواطنين الذين لم يعد يُشار إليهم بصفة مستوطنين (منعاً للتمييز ضدهم)، ومن أجل ضمان حقهم في الحياة. ضمن هذه الصيرورة تحول الأمن إلى ناظم عنصري متخفٍّ يمرَّر من خلاله أي ممارسة بلغة نظيفة. فالفصل لا يتم لأسباب عرقية، مثلما حدث في جنوب أفريقيا مثلاً، بل لأسباب أمنية محضة؛ غير أن هذه الأسباب لا تنتظم إلاّ وفق ناظم وحيد: يهودي أو عربي، فاليهودي لديه الحق كله في الأمان، بينما العربي هو مصدر التهديد، أمّا الأمن، فذات بلا سياق، وجوهر أنطولوجي مجرد، اذ لا يوجد احتلال ولا استعمار ولا حقوق وطنية مسلوبة من وجهة نظر إسرائيلية، فهذه الحقوق مجرد أقنعة للعنف الفلسطيني البدئي الذي لا حل له إلاّ في حصره خلف البوابات والجدار. ولأن الأمن هو قناع الأبارتهايد الذي يرتديه المستعمِر ويسوِّق ممارساته من خلاله، فإنه يهدف إلى إخضاع إدارة الحيّز والسكان والوقت وفق مبادىء تسعى للنجاعة لا للمشهدية، وللفصل لا للاحتكاك والاختلاط؛ فالقمع المباشر ليس هو الهدف، بل الإدارة البيروقراطية العقلانية التي يمثلها المنسق وموظف الإدارة المدنية والجنود الذين يحرسون الطرق خارج المدن والبوابات التي على أطرافها. غير أن هذا الفصل لا يعمل في اتجاه واحد، بل في اتجاهين تولدا من رغبات متضاربة، إلاّ إنهما انتظما على هديه، وتقاطعا في لحظة شكلت حاملته الارتكازية: اتجاه إسرائيلي محمول على الأمن، لكنه يسعى لتحقيق مشروع استيطاني مع تركيز الفلسطينيين في مجمعات (محميات)، وفلسطيني محمول على فكرة تصوير المحميات كجزر شبه محررة، يجب العمل على تطويرها والاستثمار فيها وتطبيعها إلى حدها الأقصى بين أسوار البوابات، مع السعي لفصل المدينة عن بوابتها رمزياً، والابتعاد عن الاحتكاك مع حرس البوابات. هكذا تورط الفلسطيني بشكل غير مقصود بتقاسم إدارة الفصل باعتباره موقتاً وآنياً، واجترح حيزاً متخيلاً طبيعياً من المدن وركز بصره عليها. على مستوى الماكرو العام تشكلت طبقة رقيقة للحيز المشطور، بل المشظى: فهو، فلسطينياً، مُدار بمنطق الطبيعي في بحر الاستثناء الموقت، وهو إسرائيلياً، محكوم بمنطق الاستثناء الأمني الموقت إلى حين إنهاء حسم الحل وشكله لمصلحة المستعمرة. وعلى الأرض ارتفع الحيّزان: الفلسطيني الذي يدار ذاتياً حتى استكمال التحرر المرجأ، والإسرائيلي المُدار أمنياً حتى ترسيخ المستعمرة وتحويلها من الاستثناء إلى القاعدة. المدن التي يحمل مفتاحها الجندي الإسرائيلي هي جزر لحكم ذاتي، يديرها داخلياً جهاز بيروقراطي فلسطيني منظم يعمل منذ أوسلو كإدارة وطنية موقتة إلى حين تحقيق الحل النهائي المرجأ. إلاّ إن المحتل، وإن انسحب من الانشغال بإدارة حياة الفلسطينيين اليومية المباشرة المرتبطة بالصحة والتعليم والنظافة والأمن الداخلي، فإنه نظم سيطرته أمنياً من خلال شبكة الحواجز والبوابات وآليات المراقبة والمعاقبة. وبما أنه يعمل بمنطق الأمن الناجع، فقد اكتفى بالوجود المحدود على البوابات، مسلّماً بعض الحواجز للشركات الأمنية الخاصة، ومحكماً قبضته على المساحات الواسعة الممتدة بين المدن ليعيد هندستها بما يخدم تسهيل الاستيطان، والاهتمام بحفظ سلامة المستوطنين وأمنهم، ومدّ الطرقات الخاصة بهم، وإغلاق الشوارع أمام الفلسطينيين الذين يجري حبسهم حرفياً في قراهم ومدنهم إن أساؤوا التصرف، وذلك عبر إغلاق البوابات. ولأن النجاعة هي المنطق الموجّه للأمن الذي يعني باختصار ضمان أمن المستوطنين الذين يحملون مشروعاً سياسياً يهدف إلى السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض المحتلة، فإن نظام الأبارتهايد ومنطق الفصل تعدّيا نظم الحيّز، وصارا مبدأ ناظماً لكل شيء بما في ذلك الوقت: فالليل هو مساحة الزمن المخصصة للاحتلال للقيام بمهماته المتنوعة من اعتقال واغتيال وتفقّد وهدم، أمّا النهار فمساحة الزمن المخصصة للفلسطيني لعمله وانشغالاته وقروضه ومطاعمه. ومنطق الفصل يقتضي ألاّ يلتقيا: الفجر برزخ فاصل بينهما، مع بزوغه تكون العساكر قد طوت ظلها وانسحبت نحو قواعدها المحصنة على أطراف المدينة، وتصحو المدينة على يوم عمل جديد. الليل هو حجاب فاصل بين وهم الجزر الحرة وحقيقة الاحتلال الواقف على تخوم التجمعات الفلسطينية وبينها. في ليالي سنة 2018، نُفذ تحت جنح العتمة نحو 6434 اقتحاماً في مدن وقرى الضفة، اعتُقل خلالها 5538 شخصاً، ودوهم 3361 منزلاً. وفي رام الله وحدها جرى خلال سنة 2018 تنفيذ 836 عملية اقتحام اعتُقل فيها 854 شخصاً، واحتُجز 156 شخصاً، كما تمت مداهمة 447 منزلاً.[1] أغلبية هذه الاقتحامات والاعتقالات نُفذت في ساعات الليل المتأخرة، غير أن الناس في المدينة اعتادوا أن يغسلوا وجوهم في الصباح، ويرموا بأخبار الاقتحامات إلى ساحة وعيهم الخلفية، ويتجاهلوها حتى صغرت وتقلصت إلى حجم خبر عادي لا يثير فضولاً إلاّ في حالات قليلة. لقد صارت الاقتحامات الليلية تخص الليل، وتذوب في طبقاته العميقة المظلمة، وتتلاشى مع ضوء الصباح. ومع بدء النهار ينصرف كل إلى عمله وانشغالاته، وينغمس في تفصيلات يومه. وإذا كان الليل يعمل بمنطق الحجب والستر والتخفي، فإن النهار يعمل وفق منطق الكشف والتصريح والعلانية. ولذلك فإن الاقتحام بانتقاله من حيز العتمة إلى حيز الضوء كان مربكاً وغرائبياً، لأنه أولاً، أخلّ بتقاسم الوقت وأربكه؛ ثانياً، خلط الحدود بين تخوم المدينة وقلبها؛ ثالثاً، خلخل وهم الجزر الموازية خارقاً حدودها الشفافة. على عكس الاقتحامات المتتالية للمدينة، والتي كانت تجري في الليل أغلب الأحيان، شهدت رام الله في كانون الأول/ديسمبر 2018 وكانون الثاني/يناير 2019 سلسلة اجتياحات متتالية شبه يومية في وضح النهار، طالت كل يوم حياً من أحياء المدينة، واستمرت كل مرة عدة ساعات تلاها انسحاب للجيش وهدوء في ساعات الليل. تقاسُم الوقت وتقاسُم الحيّز ارتبكا، فالعتمة لم تعد للعسكر، ولا النهار للمدينة. انتقل الجندي من الحاجز إلى المكاتب يفتشها والحوانيت يفكك كاميراتها؛ وقف وسط الشوارع في وضح النهار وأطلق سلاحه؛ الأبارتهايد تجمد بشكل سوريالي داخل المدينة حين انهار بشكل ساخر جدار الفصل بين الليل والنهار، وبين تخوم المدينة وقلبها، واشتبك الجندي مع ابن المدينة، لكن الجدار انهار إلى الداخل في مشهد بالغ الدلالة. يقال إن رام الله وهم يسطع ويعمي البصر عن رؤية الحال، والوهم ليس بالضرورة سطحاً بلا عمق أو مجرد صورة لقشرة، بل له معماره الخاص أيضاً، المبني على رغبة الإنسان الأساسية في الطمأنينة. وحين تقيم فقاعتك في وهم في ظل الاحتلال، فأنت تجد طريقتك الخاصة للالتفاف على ثقل الحياة اليومية وحالة الطوارىء اللذين تحولا مع الأجيال إلى موروثنا المستمر. الوهم الفلسطيني ليس وعياً كاذباً بمفهوم ماركسي، ولهذا فإنه غير قابل للكشف. الوهم منتَج واعٍ مصنوع عن سبق إصرار وترصّد لاجتراح زمكان موازٍ للحياة يمكن الانصراف فيه إلى الحب والكره والعمل والملل، وتجنب اللقاء مع عنف الاحتلال اليومي. هو جدار شفاف بين عنف باطون الحاجز والبوابات المغلقة الممتدة على أطراف المدينة، وبين ظلال البيت والشارع والمدرسة والمكتب والمقهى؛ بين الاعتيادي والاستثناء حتى لو كان الاعتيادي جزيرةً وسطَ هاويةٍ. تقاسُم الوقت أعطى المدينة حقها في ستر مهانتها الليلية، ذلك بأن العيون المغمضة تغلق باب وعيها عمّا لا تريد، كمشهد الشرطة المحلية وهي تنسحب من مناطق الاقتحام نحو مقارها، وصمت المباني الحكومية الكامل، في مقابل مشهد الجيبات الإسرائيلية وهي تجوب الشوارع بلا أي رادع. في 10 كانون الأول/ديسمبر 2018، في ساعات ما بعد الظهر، تتوارد الأنباء بأن قوات الجيش الإسرائيلي اقتحمت أحياء المصايف في المدينة: ارتباك وتخوف يخرج من صفحات التواصل الاجتماعي لسكان الحي، ونكات وروح فكاهة يبّثها آخرون؛ الأخبار تتتالى عن توغل الجيش في الحي والشوارع الرئيسية القريبة، ثم إعلان وبثّ مباشر عن اقتحام الجيش لمقر وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية ("وفا")[2] في رام الله؛ الصحافيون العاملون أُدخلوا إلى غرفة، بينما الجيش كما يبدو، كان يفكك بعض الكاميرات، وحول المقر اندلعت مواجهات بين الشبان والجيش الذي انسحب لاحقاً قرابة العاشرة مساء. في الحقيقة كان الاعتقاد أن هذا حدث استثنائي، وأن لا مجال للتفكير في أنه سيتكرر، فرام الله في النهاية، مدينة ذات مكانة خاصة سياسياً، إذ إنها تضم مباني الوزارات والمؤسسات الحكومية والدولية كافة. لكن الاقتحام تكرر في اليوم التالي في المنطقة نفسها، وتركّز في اليوم الذي تلاه، في محيط وزارة المالية، وبالقرب من مقرّ جهاز الاستخبارات.[3] وفي 15 كانون الأول/ديسمبر، اقتحمت قوات كبيرة من جيش الاحتلال مخيم الأمعري، فارضة حصاراً عليه، وتمركز هذا الجيش داخل المخيم، وفي أحياء رام الله والبيرة المتاخمة له. بدأ الاقتحام في ساعات الليل المتأخرة وامتد إلى الصباح؛ المواقع الإخبارية أفادت بأن الهدف هو هدم بيت أم ناصر أبو حميد، وهي أم لشهيد وأربعة سجناء محكومين مؤبد، وسبق أن هُدم بيتها مرتين في سنتَي 1994 و2003. تحدثت الأنباء عن أن قناصة الاحتلال اعتلوا أسطح عدد من المنازل في المخيم، وأن مئات الجنود انتشروا في أزقته، وسط إطلاق نار كثيف. كما نقلت الأنباء عن شهود عيان أن الجنود احتجزوا نحو 500 شخص من أطفال ونساء ومسنّين في ملعب البيرة، ثم نقلوا جزءاً منهم إلى مباني المدرسة، ولاحقاً جرى نقل ما يقارب 100 سيدة وطفل إلى مقر جمعية الهلال الأحمر.[4] صوت انفجارات وحالة توتر سادا المدينة، وكان على السكان المرتبكين أن يحسموا أمرهم: هل يرسلون أولادهم إلى المدارس؟ هل يذهبون إلى العمل؟ كيف يمكن؟ مر بعض الوقت من دون أن يتخذ أحد قراره حتى جاء قرار إلغاء المدارس، يبدو أن الواقع أقوى من محاولة تجاهله. قرابة العاشرة صباحاً هزّ صوت انفجار ضخم المدينة كلها؛ إنها محاولة أولى فاشلة لهدم بيت أم ناصر، وخبر هامشي في أحد المواقع عن امرأة يأتيها المخاض في المدرسة التي حُشر فيها النساء والأطفال، وأنها وضعت مولودها تحت حصار بنادق جنود يهوشوع بن نون!!! على صدى بيت يُهدم وصرخة وليد جديد كبرت المدينة يوماً! وما فشل في التفجير الأول أعيد ثانية، صوت انفجار آخر هز المدينة، البيت تهدم! أنهى العسكر مهمتهم وانسحبوا، المخيم لملم نهاره، المدينة عادت ترتب يومها، وفي المدينة سقط ثقل ملأ فضاء المكان! توقفت الاقتحامات بعد ذلك لبعض الوقت، فظنّ أهل المدينة أنهم سيعودون إلى تقاسم الوقت والمكان مع الاحتلال مثلما كان: للجيش الليل، ولأهل المدينة النهار. لكن الاقتحامات عادت وتجددت في 7 كانون الثاني/يناير 2019، وكانت مدينة البيرة مسرحاً لها هذه المرة. ففي الفجر، وعقب إطلاق الرصاص على سيارة مستوطن بالقرب من حاجز المحكمة "بيت إيل"،[5] عاد التوتر والارتباك يخيمان على الأجواء ويستوطنان أجساد السكان. يقع المركز البحثي الذي أعمل فيه في حي المصيون؛ قلت لن يصلنا الجند. في العاشر من كانون الثاني/يناير وصلت إلى عملي كعادتي مبكرة، قلت هذا حي محصن، ولن يجرؤ الجنود على الدخول إلى حي الوزارات حيث مقر الحكومة والمجلس التشريعي. طبعاً أخطأت. في تلك الأثناء، وصلت زميلتي إلى العمل متأخرة نصف ساعة. كانت ترتجف وتضحك في محاولة منها كما يبدو لاستيعاب صدمتها، قالت: "الجيش موجود في الشارع القريب، وعجقة السير خانقة. لقد ظننتهم شرطة فلسطينية، فقد أشاروا إليّ بيدهم وبأدب كي أخفف من سرعتي، وحين اقتربت منهم رأيت علم إسرائيل، ففهمت أنهم جيش إسرائيلي... صدمني المشهد، يا إلهي، الأمر لا يكاد يصدَّق." الساعة الثامنة والنصف صباحاً هي ساعة الذروة في حي المصيون، إذ يتوافد الموظفون إلى العمل في مكاتب الوزارات ورئاسة الحكومة والمكاتب الصحافية الأجنبية، فضلاً عن أن الحي يضم أهم الفنادق في رام الله. الجيش تمركز على بعد بضع مئات من الأمتار من المنطقة التي يطلَق عليها اسم "المربع الأمني الفلسطيني"، والأخبار المتتالية تفيد بأن الجيش يقوم باقتحام بعض المحال ومعاينة الكاميرات، ويبدو أنه أيضاً يسجل أرقامها ليستخدم تقنية المراقبة عن بعد لاحقاً. كل بضعة دقائق كنا نطل من الشباك لنرى هل وصلت قوات الجيش إلى شارعنا أم لا. بعض أصوات القنابل الصوتية يتناهى إلى آذاننا، ونحن كمَن خجلنا من إبداء قلق غير مضبوط انكببنا على العمل، نمارس عملنا باعتيادية كاذبة. أجسادنا متأهبة وآذاننا معلقة على الخارج تلتقط الأصوات، وتتصيد أصوات القنابل والرصاص. خرجنا من مكاتبنا في الرابعة؛ الجيش زاد في توغله وتمترس تماماً في الشارع المحاذي لمقر رئاسة الحكومة، على مقربة من المجلس التشريعي؛ الشارع تحول إلى ساحة مواجهة حقيقية، وقد استمرت المواجهات حتى الساعة الحادية عشرة تقريباً قبل منتصف الليل. مر يومان هادئان ونحن ننتظر الاقتحام المقبل الذي لم يخذلنا فجاء في 12 كانون الثاني/يناير 2019. هذه المرة وصلت قوات الاحتلال حتى دوّار المنارة في قلب رام الله؛ وصلت إلى الدوّار في ساعات المساء الأولى وهو لا يزال يعجّ بالحياة؛ اندلعت المواجهات بين الشبان وقوات الاحتلال التي أطلقت قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص المعدني المغلف بالمطاط. أصوات إطلاق الغاز والرصاص توزعت على البيوت كافة. قوات الاحتلال وسّعت اقتحامها إلى أحياء أُخرى في رام الله شملت حي عين منجد ورام الله التحتا، وتمترست بالقرب من مبنى البلدية، وحولت شارع المقاهي في المدينة إلى ما يشبه ساحة حرب. تحولت المدينة إلى ساحة ارتباك اختلط نهارها بليلها ووهمها بحقيقتها؛ الجنود المدججون بالسلاح صاروا يدخلون المدينة بشكل متواتر ومن دون موعد واضح، وسط النهار، حين تكون الموظفات والموظفون في مكاتبهم، والأطفال في مدارسهم. يقتحم العسكر المدينة ويبثّ الفوضى، وفي المساء، والمدينة تعج بالحركة، يتموضع في شوارعها الأساسية، مطلقاً نيران أسلحته لصدّ الشباب الذين تجمعوا في مواجهته. وإذا كان "أثر الفراشة لا يزول"، فإن أثر الرصاصة يخدش الروح والصمت ويستقر في قاع المكان؛ مدينة بأكملها وقفت على عتبة الانتفاضة الأولى؛ إحساس غريب لفّها، كأنها رام الله في سنة 1987. الزمن بدا كأنه ضل اتجاهه وعاد إلى الماضي من جديد، لكن المباني الحكومية السيادية كانت تقف وسط المشهد ترش الماء على الوجوه: نحن في سنة 2019. سبعون عاماً من النكبة والمعاناة والنضال وما زال الفلسطيني مكشوف الظهر بلا أي حماية، متروكاً لمواجهة مصيره وحيداً.   مشهدان على هامش الاقتحامات 1 ـ حياة عادية في ليلة العاشر من كانون الثاني/يناير، وأصوات المواجهات تهز المدينة والجيش يتمركز في الحي القريب من بيتنا، اتصل زوجي ليخبرني أن قريبنا أبو العبد في حالة صعبة، ويبدو أنه في حالة النزع الأخير. خرجت مسرعة من البيت لأكون مع العائلة التي يلاصق بيتها بيتنا. وأنا أنزل الدرج كانت أصوات قنابل الصوت والغاز والرصاص كثيفة، والتوتر يسود المدينة بأكملها. وقفت ثواني على عتبة البيت؛ أصابتني لحظة رعب حقيقية. أبو العبد خرج من قريته أبو شوشة حين كان في الخامسة من عمره،، لكن أطياف قريته لازمته في حياته كلها. قُذف طفلاً إلى الخيمة، وعاش لاجئاً يغمس يومه بألم فقدان البيت، وينتظر العودة إلى قريته التي سوّاها الاحتلال بالأرض. لم يحدث أن التقيت به من دون أن يذكر بلدته، ومن دون أن يستذكر أهلها وما حل بهم، وقبل عامين ذهبنا معه لزيارة أطلال القرية: هنا بيت فلان، وهنا التينة، وهناك المغارة، وهذا بيتنا؛ عدّد أسماء التلال المترامية والبئر، وتعرّف إلى بقايا المقبرة. الآن، وهو يعيش نزع حياته الأخير، وقف على باب النهاية يودع العالم، وترافقه دموع أحبته وأصوات القنابل والرصاص. كان المشهد تكثيفاً لزبدة التجربة الفلسطينية منذ النكبة حتى اليوم: طفولة في بيت جرفه الاحتلال، وموت على صدى سمفونية الرصاص. 2 ـ عن تحويل المعاناة إلى خزي قبل أن تبدأ سلسلة الاقتحامات لرام الله والبيرة بعدة أسابيع، جمعني لقاء عمل بدبلوماسي أجنبي من الصف الثاني لإحدى السفارات الأوروبية في فلسطين. تحدثنا عن الوضع الفلسطيني وفرص إنهاء الاحتلال. قال لي بصراحة مشوبة بالخجل، إن الناس في بلده ملّوا من الشكوى الفلسطينية، ولا يريدون أن يسمعوا أكثر عن معاناتهم، ووصف لي ردة فعل وزيرة من بلده زارت سلوان، وذلك بعد أن تم اصطحابها للاطلاع عن قرب على معاناة عشرات العائلات المهددة بالطرد من بيوتها من جانب السلطات الإسرائيلية. وكانت المحكمة الإسرائيلية قد حكمت لمصلحة جمعية إلعاد الاستيطانية التي تنوي هدم البيوت وإقامة حديقة مكانها تسمى حديقة داود، حيث "يُعتقد" أن داود ملك مملكة يهودا أقام هناك في غابر الزمان. الدبلوماسي نظر إليّ بثقة وبرودة وقال: "بكل صراحة، لم تتعاطف الوزيرة مع العائلات. أشاحت بوجهها بامتعاض وقالت هذا يكفي، نحن لا نريد مزيداً من قصص المعاناة والشكاوى." وأوضح الدبلوماسي كي لا يترك مجالاً لأي لبس: "لقد ملوا الإصغاء لكم ولبكائياتكم، عليكم أن تجدوا طرقاً جديدة لمخاطبة العالم."   مثل ماذا؟ سألت. لا أعرف، أجاب.   استذكرتُ بسرعة بيني وبين نفسي، الآليات التي استخدمها الفلسطينيون منذ مئة عام وأكثر، قلت ربما فاتني شيء: مناشدات ناعمة للعالم، وأُخرى يائسة لم يلتفت إليها أحد؛ تظاهرات جماهيرية ومواجهات عنيفة قُمعت بالحديد والنار؛ عمليات عسكرية وخطف طائرات وتفجيرات وُسمنا بعدها بأننا إرهابيون وقتلة ومجرمون؛ خطابات في الأمم المتحدة رُميت في سلة المهملات؛ انتفاضة شعبية انتهت بعملية سياسية أعادت تعريف المفاوضات بصفتها عملية لانهائية؛ انتفاضة مسلحة انتهت بتدمير البنى التحتية كلها، وتصفية الآلاف من خيرة أبنائنا، ثم إعلان دولة لم يغير على الأرض شيئاً؛ رفض لأي مقاومة عنيفة، وتنسيق أمني فاعل، انتهيا بأن تتحول مدننا إلى ساحة تجوال للجنود والاحتلال، وأن يتفجر البناء الاستيطاني وينتشر على ما تبقّى من شظايا البلد. لست ممّن يعتقدون أن الاحتلال لم يتغذّ على فعلنا وعلى تفاعلنا، فأنا أبعد من أن أبرّىء ذواتنا من هذا الانحدار، ذلك بأن الاستعمار على جبروته لا يتشكل بفعل المستعمِر وحده، بل بتفاعل المستعمَر أيضاً معه، وباختياره أدوات مقاومته، ونحن أخطأنا كثيراً؛ أحياناً كنا دوغمائيين حين كان علينا أن نكون مرنين، وأحياناً كنا مرنين حين كان علينا أن نتصلب كالصخر. لكن أن يقول لي الدبلوماسي الأوروبي مللنا من بكائكم! كان في الأمر أكثر من مهانة ما زلت غير قادرة على استيعابها، وإمعان في التنكيل إلى درجة تحويل المعاناة إلى مصدر خزي وعار، ومثار للامتعاض. هذا لا يعني أن المعاناة مفخرة أو أن التشكي هو رأس مال، لكنه عرض حال لواقع موضوعي تعس دُفع فيه الفلسطيني دفعاً من طرف المحتل أولاً، والدول الحليفة له، إلى حافة اليأس، وكاد آخر ذرات الأمل يسقط من يده إلى الهاوية. حدث هذا اللقاء قبل عدة أيام من موجة الاقتحامات المتلاحقة لرام الله، كل يوم حي، وكل يوم مواجهات، وكل اقتحام مصحوب برعب أمهات على أطفالهن في المدارس، وخوف من أن يمسهم سوء. اجتياحات إلى داخل الحارات التي ظن أهلها أن وجود الممثليات الأجنبية فيها إلى جانب المؤسسات الدولية والعالمية هو بمثابة سترة واقية أو تعويذة للحماية، لكن الممثليات الأجنبية والمؤسسات الدولية التي تملأ المدينة ملأت فمها بالماء، وأزاحت ظلها عن المدينة ومؤسساتها، ولم تصدر حتى بيان عتاب. هكذا يمكن أن نلخص المشهد إذاً: غرباء مدججون بالسلاح يجوبون شوارع المدينة التي عرف أهلها تماماً أنها فقاعة في بحر الأبارتهايد، لكنها اختارت أن تعيش وهمها واعية كي تقتنص حياة طبيعية إلى أبعد حد؛ أن تغمض عينها ليلاً كي لا ترى الاقتحامات، وأن تفتحها نهاراً وقد فقدت ذاكرتها مختارة، لتنصرف إلى الضجيج والازدحام والانشغالات الكثيرة. لكن الجنود خرجوا من جدار الليل إلى قلب النهار ومن تخوم المدينة إلى قلبها؛ إلى قلب الفقاعة التي تحصن فيها سكان المدينة كي لا يروا بشاعة الاحتلال. دخل العسكر الفقاعة وتمترس فيها مطلقاً الوهم على جدارها الشفاف.   * باحثة في علم الاجتماع السياسي، والمديرة العامة للمركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية/مدار. [1] "تقرير شامل: 32,252 انتهاكاً نفذه جيش الاحتلال خلال عام 2018" (القدس: مركز القدس لدراسات الشأن الإسرائيلي والفلسطيني، 2019). وقد نُشر إلكترونياً، في موقع المركز في الرابط التالي: https://bit.ly/2RH7siA [2] " 'الإعلام': استهداف الاحتلال لـ 'وفا' عدوان يستوجب المحاسبة"، الموقع الإلكتروني لـ "وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا)"، في الرابط التالي: http://www.wafa.ps/ar_page.aspx?id=VZoh30a843854665896aVZoh30 [3] "الاحتلال في رام الله لليوم الثاني"، موقع "أُلترا فلسطين" الإلكتروني، في الرابط التالي: https://goo.gl/ADcep1 [4] "مخيم الأمعري: هدم منزل عائلة أبو حميد وعشرات الإصابات في مواجهات"، موقع "عرب 48" الإلكتروني، في الرابط التالي: https://goo.gl/NQdP8i [5] "إصابة 13 فلسطينياً في مواجهات مع الاحتلال الإسرائيلي برام الله"، موقع "مصراوي" الإلكتروني، في الرابط التالي: https://goo.gl/31yx84