The Burning of Rafah : When the Capital of Sport Fell from Championship to Rubble
Date: 
April 29 2025
Author: 
blog Series: 

في رفح، لم تكن الرياضة مجرد هواية ومنافسة، بل أيضاً كانت الحياة بكل تفاصيلها. فكانت أصوات الجماهير تتعالى مع كل فرصة وبطولة وهدف، وكانت الملاعب الخضراء المتواضعة تنبض بالشغف والحب، على الرغم من محدوديتها، وكأنها تنسى فقرها وحصارها أمام المدورة الصغيرة، التي شكلت جزءاً من ثقافة أجيالها المتعاقبة، وأضحت كرة القدم تعيش في تفاصيل حياتهم اليومية، حتى شقت المدينة طريقها نحو المجد والتفوق وحصد البطولات وتفريخ المواهب وسط الحجارة والدخان، فكانت عاصمة الرياضة الفلسطينية ومنارة الجنوب قولاً وفعلاً.

وفي أقصى الجنوب، كانت رفح تلاحق الكرة كما لو كانت تلاحق الحياة، وعاشت الجماهير هناك لحظات الانتصار والخيبة بين مدرجات صُنعت من الشغف، لا من الأسمنت. لكنها الحرب، العاصفة السوداء، التي باغتت الحجر والبشر، وجرفت الأخضر واليابس، فصمتت المدرجات، وغابت الهتافات، وتحولت الملاعب إلى تلال من الركام، وممرات لآليات الاحتلال.

لم تكن الخسارة فقط في الحجر، بل أيضاً في الوجوه التي اعتادت أن تبتسم في كل الأوضاع، فغابت الروح، وانطفأ الشغف والأمل، وتعثرت أقدام الرياضيين الذين اعتادوا الركض وراء المجد، لا النجاة من الموت. 

الجذور الفرعونية

تقع رفح في أقصى جنوب قطاع غزة، وتشكّل نقطة حدودية فاصلة بين فلسطين ومصر، إذ تعود أصولها التاريخية إلى العصور الفرعونية، وتبلغ مساحتها نحو 55 كيلومتراً، وتنقسم جغرافياً إلى قسمين: رفح الفلسطينية، ورفح المصرية؛ وذلك بعد توقيع اتفاقية الترسيم الرسمي للحدود سنة 1906، الأمر الذي أدى لاحقاً إلى فصل المدينة إلى قسمين: رفح المصرية: وتتبع لمحافظة شمال سيناء المصرية، ورفح الفلسطينية: وتتبع لقطاع غزة، تحت الإدارة المصرية، ثم الاحتلال الإسرائيلي، ثم السلطة الفلسطينية.

لقد تأثرت الرياضة الفلسطينية في قطاع غزة بصورة عامة، وفي رفح بصورة خاصة بالثقافة المصرية في فترة إشراف الإدارة المصرية، وضِمْنَ ذلك الجانب الرياضي، الذي أصبح تحت مسؤولية المجلس الأعلى للشباب والرياضة المصري، الذي ساهم في تطوير الحركة الرياضية الفلسطينية والمصرية، وخصوصاً بعد ثورة 1952، لتشمل تطوير الألعاب الجماعية والفردية، عبر إيفاد مدربين مصريين وعقد دورات تحكيمية وتدريبية للرياضيين الفلسطينيين، وحينها، تم إنشاء البنية التحتية، ومنها ملعب الجمهورية في رفح، وملعب ناصر في خان يونس، وملعب اليرموك في مدينة غزة.

واستفادت الأندية في مدينة رفح من هذه المنظومة، ومن الالتصاق الجغرافي المباشر بمصر رياضياً وثقافياً، وتألق حينها نادي رعاية شباب رفح في الألعاب الجماعية، ككرة القدم والسلة واليد، بينما تفوّق نادي خدمات رفح في كرة السلة والطائرة وتنس الطاولة وكمال الأجسام، ومثّلت هذه الأندية رافداً للشباب في كرة القدم، ومساحة للحركة الكشفية، التي كانت تمولها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين في ذلك الوقت. 

الحلم الذي لم يكتمل

كانت رفح قبل اندلاع الحرب، التي بدأت في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، تعيش أجمل فتراتها الرياضية المستقرة على مستوى قطاع غزة، فحققت أنديتها الأكثر بروزاً، شباب رفح وخدمات رفح، نجاحات ملفتة منحتها صفة التربع على عرش الكرة الفلسطينية عبر تتويجهما بعدد البطولات الأكبر، ولا سيما بطولات الدوري والكأس، بالإضافة إلى المنافسة الموسمية على الألقاب المحلية، مدعّمة بالقواعد الجماهيرية الكبيرة، والثقافة المتوارثة، التي تستند إلى أسس المنافسة على المراكز الأولى.

وإلى جانب ميدان المنافسة، فقد مثلت هذه الأندية رافداً كبيراً لتفريخ الناشئين واللاعبين الشباب في كرة القدم، عبر الاهتمام بقواعد الناشئين منذ الصغر، بالإضافة إلى توليها الاهتمام الكبير بمسابقات الساحات الشعبية - القاعدة الأساسية في تشجيع اللعبة وتطويرها شعبياً.

كما كانت هذه الأندية مساحة لتجمُّع النخب الأكاديمية والثقافية والاجتماعية والشبابية، وانطلقت في السنوات الأخيرة تجاه مسار التشبيك مع المؤسسات الأهلية والدولية، بهدف الانفتاح على الأهداف الاجتماعية والثقافية والتنموية وحتى الإغاثية في الآونة الأخيرة.

لقد سعت أندية رفح في السنوات الأخيرة إلى دق جدران خزّان غزة المحاصَر من كل الجهات، وبكل السبل، رغبةً في التمثيل الخارجي من بوابة البطولات العربية والآسيوية كاستحقاق، بعد التتويج بالمسابقات الرسمية المحلية، لكنها كانت تصطدم بإغلاق المعابر والحصار الرياضي وقلة الإمكانات المادية، فاقتصر حلمها الكبير داخل غزة الصغيرة. 

ضحية الحرب

في 6 أيار/مايو 2024، استكمل الجيش الإسرائيلي عملياته العسكرية التي وصلت إلى جنوب القطاع، فبدأ في تدمير المدينة وكل مفاصل الحياة فيها، وضمنها المنشآت والأندية الرياضية، والمراكز والمؤسسات التدريبية والتنموية في المدينة، على غرار الدمار الواسع الذي طال البنية التحتية العامة، والتي دُمرت قصفاً ونسفاً وحرقاً وتجريفاً.

وفي وسط المدينة، أحرق الجيش عمداً المبنى التاريخي لنادي خدمات رفح الرياضي الذي تأسس سنة 1951، والذي يُعد أكثر المتوجين بلقب الدوري الممتاز (7 مرات)، فطال الخراب والحرق والدمار المباني والقاعات الرياضية التي تخدم الرياضة والمجتمع، وعاث الجيش فساداً في الصالة الرياضية المغلقة الأكبر على مستوى القطاع، والتي تُعتبر مساحة للرياضيين في مختلف الألعاب والمسابقات الرسمية (كرة القدم الخماسية، وكرة السلة، والكرة الطائرة، وكرة اليد)، بالإضافة إلى صالات اللياقة البدنية وكمال الأجسام والكاراتيه والكونغ فو، والقاعات الثقافية والاجتماعية، ومباني المشاريع التنموية، ومبنى النادي الاستثماري الذي يضم الشقق المكتبية والمحلات التجارية والمقاهي الشبابية.

وفي جنوب المدينة، هدمت الآليات العسكرية نادي جماعي رفح الرياضي، الذي تأسس سنة 1981، والذي يضم ملعباً رياضياً خماسياً بالعشب الصناعي، بالإضافة إلى المباني الإدارية التي كانت تقدّم الخدمات الرياضية والثقافية والاجتماعية والإغاثية في بداية الحرب، كما دمّر الجيش صالة اللياقة البدنية وصالة الأفراح داخل النادي الذي كان يخدم منطقة حي البرازيل، والمناطق الحدودية الجنوبية مع الأراضي المصرية.

وفي غربها، لم يعد لأندية القادسية والاستقلال والوحدة أثر بعد التهام مباني وملاعب ومنشآت هذه الأندية داخل ما يسمى "المنطقة الأمنية العازلة" التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي إلى غاية اليوم. حالها كحال نادي الشوكة في المناطق الشرقية، والذي تعرض هو الآخَر لتدمير كامل.

كما داست آليات الجيش الإسرائيلي ملعب تل السلطان المغطى بالعشب، وهو الملعب الثاني في المدينة المخصص لمباريات دوري الدرجة الثالثة والثانية، وحولته إلى ساحة رملية، وممر لهذه الآليات التي أمعنت في التدمير واستكمال الإبادة.

ولم يقتصر حجم استهداف المنشآت والأندية الرياضية عند هذا الحد، بل أيضاً طالت يد الجيش الإسرائيلي كل صالات اللياقة البدنية وكمال الأجسام الخاصة في مدينة رفح، والتي تجاوزت 10 صالات مجهزة بكامل المعدات الحديثة، وكانت تمثل مشاريع واعدة لعشرات الرياضيين.

لم يتبقَّ في عاصمة الرياضة من إرثها الرياضي سوى ملعب رفح البلدي، وإلى جانبه نادي شباب رفح الرياضي، والذي لم يتعرض إلى غاية كتابة هذا التقرير لأي ضرر، بسبب تحويله إلى مقر للمستشفى الميداني الإماراتي، الذي يقدّم خدماته الطبية والإغاثية إلى آلاف المصابين والباحثين عن الخدمات الطبية والعمليات الجراحية. 

خسائر تفوق الملاعب

يقول رئيس نادي خدمات رفح السابق فتحي أبو العلا، الذي يُعتبر أحد أبرز الرموز الإدارية والرياضية: "أشعر بالحزن والقهر أمام مشاهد الدمار الواسع في مدينة رفح، والذي سحق معه كل الذكريات والأحلام الرياضية للمدينة البسيطة، وأقف عاجزاً أمام حجم الإنجاز الكبير الذي راكمته رفح في سجلات الرياضة، والذي داسته آليات الاحتلال. لقد عملت هذه المدينة طويلاً على بناء ملاعبها الصغيرة من التمويل الخارجي، وحافظت على إرثها وتاريخها الرياضي حتى أصبح جزءاً من ثقافتها العامة، لكنها الحرب بوجهها القبيح أضاعت كل شيء، وأعادت الرياضة في المدينة إلى نقطة الصفر."

وعن مكانة رفح الرياضية، يقول الإعلامي الرياضي خالد أبو زاهر:" من دواعي سروري أن بدايتي الإعلامية كانت مع بداية النهضة الكروية في محافظة رفح، وبالتالي، فقد شعرت بارتباط كبير بين هذه البداية، وما كان يحدث في المحافظة من نهضة كروية كبيرة تمثلت في السيطرة على البطولات الكروية في غزة بصورة خاصة، وعلى مستوى فلسطين بصورة عامة، هو ما شكّل مادة دسمة لأي إعلامي يتحدث عن كره القدم في غزة." 

ويضيف: "تميزت رفح كروياً لطبيعة العلاقات المصرية الفلسطينية، ولا سيما علاقات الجوار والترابط الجغرافي، بالإضافة إلى العلاقات الاجتماعية بين البلدين، وانعكس المستوى الكروي المصري في المستوى الكروي الفلسطيني عموماً، وفي غزة بصورة خاصة؛ إذ كانت الجماهير الفلسطينية تتابع الدوري المصري عبر القنوات التلفزيونية المصرية، وقد كان لسيطرة الأندية الرفحية على بطولات كره القدم في غزة دور كبير في إطلاق الإعلام الرياضي الفلسطيني على محافظة رفح لقب ’عاصمة كرة القدم الفلسطينية‘. وكان لي شرف إطلاق هذا اللقب على الكرة الرفحية، ليس من باب المجاملة، بقدر ما كانت تستحق هذا اللقب. كيف لا وقد حصل ناديا شباب وخدمات رفح على ما يتجاوز 50% من البطولات التي أقيمت في غزة بصورة خاصة، وفي فلسطين عموماً؟ فقد بلغ عدد البطولات في خزائن أندية محافظة رفح مجتمعة، سواء على مستوى الدوري الممتاز أو على مستوى كأس غزة أو كأس السوبر أو كأس فلسطين، 33 لقباً، وهو ما يفوق عدد جميع البطولات التي حصلت عليها جميع أندية غزة على مدار قرابة 40 عاماً. كما أن أندية رفح كانت من أوائل الأندية الفلسطينية بصورة عامة، والغزية بصورة خاصة، التي شاركت في البطولات العربية القارية منذ سنة 1994 وحتى سنة 2008 قبل أن تتوقف مشاركة الأندية الرفحية والأندية الغزية عموماً في البطولات العربية والقارية بفعل الظلم الواقع عليها من الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم. وكان نادي شباب رفح أول نادٍ فلسطيني وغزي يشارك في بطولات الأندية العربية سنة 1994، وكان نادي خدمات رفح أول نادٍ فلسطيني وغزي أيضاً يحصل على مركز متقدم في بطولة الأندية العربية الثانية عشرة التي أقيمت في القاهرة سنة 1996، عندما حصل على المركز الثالث والميدالية البرونزية، وهو ما شكّل فخراً لكرة القدم الفلسطينية، كونه أول فريق فلسطيني يحقق فوزاً في بطولات الأندية العربية، وهو الفوز الذي حققه على فريق اتحاد بليدة الجزائري بهدف اللاعب إياد الحجار."

وتابع أبو زاهر: "في الوقت التي كانت سعادتي فيه غامرة لأن بداياتي الإعلامية كانت مع بداية نهضة كرة القدم في رفح، كان حزني شديداً جداً لأن حرب الإبادة الجماعية التي شنها الاحتلال الإسرائيلي على غزة دمرت كل معالم بطولات كره القدم، ولا سيما في ناديَي شباب وخدمات رفح."

أمّا اللاعب سعيد السباخي (40 عاماً)، أحد أبرز نجوم الكرة الفلسطينية، والذي لعب لأندية شباب وخدمات رفح وغزة الرياضي ووادي النيص وأهلي الخليل والسموع ونماء، فيقول: "البطولات في مدينة رفح لها مذاق خاص، كون المدينة مقسومة بين قطبَي الكرة الرفحية. لعبت في الكثير من الملاعب والأندية، لكن التنافسية في الجنوب مختلفة تماماً، ولها طابع خاص، إلى درجة أن بعض العائلات المحلية تنقسم تشجيعاً وحباً إلى شباب وخدمات رفح."

ويضيف السباخي: "إن تدمير المنشآت الرياضية هو تدمير لأجيال رياضية كاملة كانت تحلم بمستقبل أفضل في ممارسة كرة القدم كباقي لاعبي العالم وأطفاله. أشعر بالمعاناة الكبيرة بعدما كنت نجماً كبيراً في كرة القدم، وأصبحت اليوم نازحاً من بيتي لأكثر من عام، أجلس في خيمة باحثاً عن مياه صالحة للشرب وأخشاب لإيقاد النار، في ظل معاناة يومية مرهقة أفقدتنا شغف الحياة الجميلة التي كنا نعيشها قبل الحرب، ولا سيما في ملاعبنا وبين جماهيرنا." 

أحلام مُعلقة

دُمرت رفح ورياضتها، وهُجر أهلها، ولم تعد تلك المدينة المُشعة بالأمل والبساطة، بعدما طمستها نيران الحرب، وألقت بظلالها على ملاعبها ومدرجاتها وأحلام مَن كانوا فيها. لكن وراء هذا الدمار، ما زالت الأرواح الرياضية تنبض، وما زالت الذاكرة تحفظ أسماء أبطال اللعبة وأهازيج جماهيرها وصوت الانتصارات، التي ستظل في الذاكرة ولن تموت.

Read more