أصبح المشهد في قطاع غزة سريالياً، يمتزج فيه الضحك بالبكاء ضمن لوحة إنسانية معقدة؛ فالألوان التي كانت تزين شوارع المدينة غادرتها، واختفت، وحلّ محلها لون الرماد الذي زاد وضوحاً بعد إعلان الهدنة الموقتة. فكيف يمكن للمسرح أن يجد مساحة للغناء والتمثيل وسط أكوام الركام؟
عمل المسرح الفلسطيني تحت الانتداب البريطاني حتى تشتت شمله بعد استلاب أرض فلسطين من جانب الاحتلال الإسرائيلي، ومعه هُجر فنانو المسرح، ليبدأ نشاطهم المسرحي في الشتات، وكان الغرض من المسرحيات استنهاض همة الأمة العربية، ثم تكونت جمعية المسرح العربي الفلسطيني من أجل حماية التراث، والتوعية بالقضية الفلسطينية، فكانت مسرحية "شعب لن يموت" ومسرحية "قرقاش" للشاعر سميح القاسم التي تتحدث عن الديكتاتور البغيض الذي يقود قومه إلى السلب والنهب والقتل، ومسرحية معين بسيسو "ثورة الزنج" التي تجسد الثورة والنكبة الفلسطينية، وغيرها من المسرحيات الفلسطينية التي امتازت بازدحام الأحداث والرموز والمعاني والحيل الفنية.[1]
واستمر المسرح في شق طريقه مستخدماً الحيل والصيغ الفنية ليروي حكايات الناس وينقل مشاعرهم، ليصبح صوتاً يجسد معاناتهم وآمالهم. وكانت دائماً خشبة المسرح مساحة مفتوحة للهروب من الأوجاع، والتعبير عن أولويات البقاء.
واستمر المسرح في خضم حرب الإبادة الجماعية في تقديم العروض والنشاطات، على الرغم مما أصاب البنية التحتية الثقافية من دمار، مستخدماً طرقاً إبداعية متعددة تتحدى الأوضاع القاسية.
وقد أدى هذا دوراً محورياً في حرب الإبادة الجماعية كإحدى أدوات الدعم النفسي، وخصوصاً للأطفال الذين عانوا جرّاء الصدمات النفسية، إذ نظمت مؤسسة "أيام المسرح" نشاطات درامية في كل مدن القطاع، ونتج عنها مشهد مسرحي قدم فيه الأطفال تجاربهم الشخصية أمام الجمهور.
وكان هناك شوق كبير لدى الأهالي والأطفال لنشاطات من الممكن أن تخفف قليلاً من عبء الخوف، بسبب استمرار الحرب مدة طويلة لم يشهدها القطاع سابقاً، فاستمرت العروض المسرحية في المؤسسة، على الرغم من الدمار الجزئي الذي لحق بمقرها نتيجة القصف عند توغل قوات الاحتلال في شارع الجلاء في مدينة غزة، لتصبح بعدها ملجأ للنازحين.
ووفقاً لمحمد الهسي، فقد استمر الفنانون في تقديم العروض في الهواء الطلق، مستمدين الإلهام من المسرح الروماني، وبسبب صعوبة الحركة، يذهب الممثلون إلى الجمهور في أماكن تواجده، وهو ما سمّاه "مسرح الشارع"، حيث عمل الفنانون على تنفيذ نشاط الحكواتي الخاص بالسيدات والرجال للحديث المباشر عن حياتهم قبل الحرب وبعدها، وعن آمالهم بعد انتهائها بوقوفهم على خشبة المسرح لينقلوا حكايتهم، كما اعتمدت العروض المسرحية على تقديم تجارب الناس اليومية، ومحاولة إيجاد حلول لمشكلاتهم عبر "مسرح السؤال" عبر طرح التساؤلات وحث الجمهور على التفكير في الإجابات، كقصة استبدال الكهرباء لماكينة الخياطة بعجلة الدراجة، وهو ما ساهم في دفع عجلة الحياة وعدم توقفها.
واستمرت عروض أيام المسرح في المناطق الجنوبية بين الخيام وفي مراكز الإيواء، فأصبح الميدان خشبة المسرح، واستمرت العروض في شمال القطاع؛ في مدينة جباليا، وبلدة بيت حانون، حتى بدء الاجتياح، فاعتُقل أحد أعضاء الفريق، واستشهد الفنان أحمد الشوا في طريق عودته بعد أن قدّم عرضاً مسرحياً إلى الجمهور، وأصبحت التجمعات لفترة طويلة مخيفة، وخصوصاً في الفترة السابقة للهدنة، لأن قانون الاحتلال ينص على أن "العاصفة تسبق الهدوء".[2]
تحديات الاستمرار والبقاء
واجه المسرح الغزي تحديات جسيمة، إذ تعرض للدمار والخراب نتيجة القصف الإسرائيلي وحالة الفوضى المنتشرة، وتحدّث رئيس مجلس إدارة جمعية الشبان المسيحية إلياس الجلدة عن استهداف الاحتلال الثقافة بكل مكوناتها، فقد تم تدمير المركز الثقافي والاجتماعي الأورثوذكسي الذي كان إضافة نوعية إلى المسرح، إذ يُعتبر ثالث أكبر مسرح في مدينة غزة، بالإضافة إلى تدمير مسرح رشاد الشوا الثقافي المسرح الأول في المدينة، ومسرح الهلال الأحمر في غزة، والذي يُعتبر المسرح الوحيد المتوافق مع شروط المسارح العالمية من حيث تقنيات الصوت والإضاءة وخشبة المسرح، وقد شهد آلاف العروض والمسرحيات، منذ إنشائه قبل ما يزيد على 15 عاماً، بالإضافة إلى تدمير مسرح هولست التابع لبلدية غزة، وقد سبق أن دمر الاحتلال مسرح سعيد المسحال سنة 2018.
أمّا مسرح جمعية الشبان المسيحية، فتوقف عن العمل نتيجة تحول الجمعية إلى ملجأ لعشرات النازحين، لذا، فإن النشاط الثقافي والمسرحي مجمد داخل قاعات الجمعية التي لم تعد صالحة للاستخدام.[3]
يمكن للمسرح أن يحفظ بنية المجتمع كونه أحد الأدوات الثقافية المؤثرة، لكن المسرحيين كان عليهم مواجهة مخاوفهم أولاً، ثم مخاوف جمهورهم كي يستمروا في العمل، ففكرة التجمع الجماهيري في الفضاء العام مغامرة. وقد توقف العرض المسرحي أكثر من مرة نتيجة القصف العنيف القريب من المكان، كما حدث في مدينة دير البلح وخان يونس.
المسرح صوت لأوجاع الناس
واجه المسرح في غزة أوضاعاً طاحنة، لكنه لم يختف تماماً، إنما كان وسيلة للتعبير عن الألم، وصوتاً لأوجاع الناس. وعلى الرغم من الدمار الهائل ونقص الموارد، فقد حاول الفنانون والمسرحيون الاستمرار في تقديم أعمالٍ توثق الواقع القاسي، ومنح الناس مساحة للتنفيس عن معاناتهم، إذ قدّمت جمعية بسمة للثقافة والفنون ثلاثة عروض مسرحية تحاكي الواقع، ومنها مسرحية "فاتورة وطن" التي استهدفت تمكين النساء في مواجهة متاعبهن اليومية بحسب ما أوضح الفنان المسرحي ناهض حنونة رئيس مجلس إدارة الجمعية، كما قدمت مساحة للأطفال في غزة بالشراكة مع اليونسكو للتعبير عن مشاعرهم عبر مسرح الدمى للعمل على تهيئة بيئة آمنة تساعدهم في تجاوز الحزن والتعافي من الصدمة، وذلك في العام الأول من حرب الإبادة.
بدأ العمل المسرحي في غزة تطوعياً وحباً في الإبداع، وبرغبة داخلية من الفنانين في تقديم الفن من دون الاهتمام بوجود الدعم المالي. فلماذا تغيب هذه الروح في حرب الإبادة الجماعية. وهذا التساؤل يطرحه حنونة داخله، فعلى الرغم من الخوف والدمار، فإنه يوجد إيمان في أن الفن أداة قوية للتوثيق والمقاومة بطريقة تساهم في إيصال صوت غزة إلى العالم، ويكون منبراً قوياً لشهادات حية عن ألم الإبادة الجماعية.
وبعد انتهاء الحرب، سيصبح المسرح أداة محورية في عملية التعافي وإعادة الإعمار الثقافي في غزة، ليس فقط كمساحة للأداء الفني، بل أيضاً كمنصة للشفاء الجماعي وإعادة بناء النسيج الاجتماعي عبر الفنون.
على الرغم من إمكانات المسرح الغزي المحدودة، فإنه يملك قصصاً ومشكلات كثيرة لتجسيدها، وسيظل صوتاً للأوجاع والآمال في غزة.[4]
إن الفن المسرحي هو من الفنون التي تنتعش في فترة السلم لأنه في حاجة ماسة إلى الاستقرار، لذلك، لم يكن العمل من وجهة نظر الفنان محمد أبو كويك من فريق مؤسسة حكاوي للثقافة والفنون أمراً يسيراً، فالوقوف أمام الأطفال لتقديم الترفيه والدعم الكافي إليهم عبر التمثيل المسرحي الدرامي، علاوة على الألعاب الدرامية، مسؤولية كبيرة؛ إذ يُعتمد على توفير أدوات العمل من البيئة المحيطة وأرض الواقع والعمل ضمن الحدود الدنيا في كل التفاصيل. ويوضح أن مقر المؤسسة تضرر نتيجة إقامة قوات الاحتلال به، حيث وُجدت الكتابات باللغة العبرية على جدران المؤسسة، وتم تحطيم الأدوات الموجودة في قاعة مسرح المؤسسة الواقعة في مدينة غزة في مقابل مستشفى القدس.
تُعتبر العروض الدرامية المسرحية فرصة لكثير من الأطفال للهرب من طابور التكية والماء في ظل عدم الانتظام المدرسي وغياب أماكن الترفيه، لذلك، فسيحتاج المسرحيون إلى تكثيف جهودهم بعد انتهاء الحرب للتخفيف من آثارها، ولأن المسرح في غزة ليس مجرد وسيلة للترفيه، بل أيضاً وسيلة ناجعة للتخفيف من الأعباء النفسية عند الجمهور، كما أكد العديد من الأهالي حين قالوا إن السلوك العنيف لدى أطفالهم خفت وطأته بعد مشاركتهم في العروض المسرحية، فإن المسرح الفلسطيني له خصوصيته، على الرغم من إمكاناته المحدودة، ويملك قصصاً ومشكلات كثيرة لتجسيدها.[5]
بينما يعتقد مدير جمعية البيادر للمسرح والفنون الفنان علي ياسين أن تقديم العمل المسرحي صعب جداً خلال الحرب، فلم تقدّم الجمعية أي نوع من النشاط المسرحي خلال حرب الإبادة الجماعية، ورأى أن الصورة ستصبح أكثر وضوحاً عند الهدوء، فلا يمكن في هذه الأوضاع تقديم نص مسرحي أو إخراجه بالصورة المطلوبة.
والفنانون كغيرهم من النازحين، ليسوا بكامل تركيزهم ووعيهم لتنقّلهم المتكرر، والمسرح في حاجة إلى الثبات ليتمكن من رؤية التفاصيل، وغياب الاستقرار يجعل غياب المسرح أمراً طبيعياً.
ويرى ياسين أن العديد من المسرحيين لجأوا إلى الدراما، وهو أمر ممكن العمل عليه خلال الحرب، فالفنان المسرحي يقدّم عملاً إبداعياً يمنحه القدرة على التأثير، وهو ما سيُبرز دوره أكثر في الفترة القادمة ليوثق ما حدث من إبادة جماعية، وينقلها إلى العالم بأسلوب إنساني صادق.
وقد فَقَدَ المسرح كثيراً من الفنانين خلال الحرب، كما أن الناس في حالة بحث مستمرة عن المأوى والطعام، لذلك، ينتظر المسرح عودة الروح إلى غزة، وعودة غزة إلى نفسها كي يعود بأعمال إبداعية تحكي قصتها.[6]
لقد شكّل المسرح في قطاع غزة خلال الحرب انعكاساً للواقع، وتميّز ببساطة تكوينه ورموزه، واستطاع الوصول إلى الجمهور، وعلى الرغم من الخطر، فقد واصل المسرحيون العمل، لأن المسرح في غزة ليس مجرد فن، بل أيضاً مقاومة، وتوثيق، وأمل في مستقبل أفضل.
[1] د. على الراعي، "المسرح في الوطن العربي" (عالم المعرفة، ط 2، 1999)، ص234.
[2] محمد الهسي، نائب المدير الفني لمؤسسة أيام المسرح، مقابلة هاتفية، شباط/فبراير 2025.
[3] إلياس الجلدة، رئيس مجلس إدارة جمعية الشبان المسيحية في غزة، مقابلة هاتفية، شباط/فبراير 2025.
[4] ناهض حنونة، مدير جمعية بسمة للثقافة والفنون، مقابلة هاتفية، كانون الثاني/يناير 2025.
[5] محمد أبو كويك، المدير التنفيذي لجمعية حكاوي للثقافة والفنون، مقابلة هاتفية، كانون الثاني/يناير 2025.
[6] علي ياسين، مدير جمعية البيادر للمسرح والفنون، مقابلة هاتفية، شباط/فبراير 2025.