لم تكن رحلة النجاة عادية أبداً، فقد كانت مخاطرة فردية منذ البداية، وخلاصاً شخصياً للعائلة في ظل كل هذا الخوف الملتصق في الروح والجسد.
ولم يكن الجسد الذي يسير بك من مدينة إلى مدينة ومن مكان إلى مكان جسداً عادياً، إنما كان ماكينة تسير بوقود الخوف والبحث عن مأوى وطعام وشراب.
أمّا الروح، فقد انفصلت عن هذا الجسد الذي بدأ يتساءل عمّا يحدث له، ويدور في فلكه، فلم تكن الروح تقوى على احتمال كل ما يحدث، إذ التصقت في مكان ما تراقب هذا الجسد الذي صار تائهاً، وهو يركض بلا وعي منه، باحثاً عن النجاة بأي وسيلة تجعله حياً، حتى وإن كان ميتاً يسير على قدمين.
وكلما مر الوقت، كانت تزداد الأسئلة، تلك التي لم يعد أحد يعرف إجابة لها. بدأ السؤال كبيراً، ومتفرعاً وتائهاً، وكل التفرعات الأُخرى لا تفضي إلى شيء، إنما تبعث فيك بمزيد من الشك، بشأن كل ما كان في الماضي والحاضر، وما إذا كان لك مستقبل يمكنك أن تتخيله، أو حتى تجرؤ على التفكير فيه.
وكان الخروج من البيت هو السؤال الأول الذي يراودنا، ثم كبرت الأسئلة وصار الإصرار على البقاء إجابة موقتة لكل الأسئلة، بينما كان الانتظار رفيقاً دائماً للأيام التي صارت ملقاة في هوامشنا، لا نعرفها إلاّ من الأخبار، أو بالصدفة البحتة.
وإن الباب الذي فتحته الأسئلة صار كابوساً للغزّي الذي أضحى رحالة بلا هدف، يرجو النجاة بأي طريقة، ولا يهمه شكل جسده، ولا وجهه الشاحب، ولا ملامحه التي تغيرت.
فقد صرنا لاجئين ونازحين، نحمل أمتعتنا من مأوى إلى مأوى، ومعنا الأسئلة الكبيرة والصغيرة، وأسئلة العائلة والصغار، وأسئلة الفتيات والشباب. فما المعنى من بقاء هذا الجسد حياً؟
ذاكرتي اليومية حامضة، إذ نسيت فيها شكل بيتي ويومياتي، والأيام متكدسة في التقويم كالقنابل، إذ أكاد أنفجر فيها أو تنفجر فيَّ.
وفي القلب غصّة، وكابوس لا يحتمله عقل؛ فالبيوت التي تركناها وراءنا ليست جدراناً عادية، فهي من أجساد العائلة ومن لحمها، وذاكرتها، وغضبها، وفرحها. هذه البيوت هي رجل وامرأة وأولاد، وهي شكل العائلة في صورة جماعية على الحائط.
لقد نامت البيوت مؤخراً فوق بعضها، فلا أبواب ولا شبابيك، ولا أحضان ولا وداعات أمام البيت، ولا قوارير من الورد ولا أشجار، حتى الطريق المعبّد الذي يجعل البيت أكثر أناقة ضاعت ملامحه، والبيت الذي يسكن وسط حديقة دُفِن داخلها.
أغرق في الغضب حتى آخذ شكله، فيسمع الجيران صوت زمجرتي التي تتصاعد كالدخان على الرغم من أنني امرأة تكره الأصوات العالية، فقد صرت أنا صوتاً عالياً.
أرتب ذاكرتي المهاجرة في أدراجي الصغيرة، وفي علب المطبخ البلاستيكية، وفي علب الشامبو ومسحوق الغسيل. كيف يمكن أن أطوي ما تبقّى من تفاصيل حياتي في خزانة أطفالي؟ وكيف ألملمها سريعاً لأدسّها في حقيبة النزوح؟ كيف تركت ماكينة القهوة عرضةً للغبار والصوت؟ وكيف تركنا الشبابيك مغلقة؟!
تطاردني كلمة "نزوح" في كل مكان؛ فتأتيني من الشبابيك الباردة، ومن الليالي المخيفة، وتطلّ علينا من أصوات الأنين حين يمرض أحد الصغار، وتباغتني في لحظة أضحك فيها وأنسى نفسي، وتتكوّر في الحقائب وتنساب في زجاجات المياه الفارغة، وتلتصق بأحذيتنا التي قطَعت المسافات بحثاً عن مناديل وعلبة زيت، وتصعد معنا على الكارات والعربات التي نستقلّها، وتربض في سيارتنا التي تتحرك فقط لمشاوير النزوح من المدن حفاظاً على ما تبقّى من بنزينها.
إن الذاكرة الحامضة تلسعني، فالأيام تتمدد على أرض المشفى كالشهداء، وتقضي نحبَها أيضاً، وترحل معنا إلى الأبدية، وفي الوقت نفسه، هي عُدّتنا في الحرب، نطويها كالجرابات وندس بعضها في البعض الآخر كي لا تضيع، ونحسبها على أصابعنا ونحن نرى ضياع العمر.
كنتُ أتحسس أطراف صغاري طوال الوقت، وأمارس أمومتي الخائفة في مساكن الأصدقاء. إذ لم يعد لنا بيت نصرخ فيه على أولادنا حين تزعجنا فوضاهم، فأجدني أطالبهم طوال الوقت بخفض صوتهم وأنا أتآكل من الداخل، وأتذكر كيف كان صوتي يعلو في بيتي، فأتخيل أن جيراننا قد سمعوا كل الحكاية اليومية؛ وأنا أنادي على الأولاد: "يلا ناموا، يلا فرشوا سنانكم، يلا ادرسوا!"
كنّا في البيت نمارس حياتنا العادية، لا يهمنا رأي الجيران، ولا المارّة في الشارع، فنحن في بلادنا، لكننا الآن بتنا نقول: "عيب إحنا مش في مكاننا، وطّوا صوتكم، إيش يقولوا عنّا المصريين."
هذا هو الطريق الذي سلكناه في الخروج، لقد وصلنا إلى أبعد من الحدود، فبعد انعدام الإجابات، بدأنا نقرر مصيرنا المكبّل بالخوف والموت إلى مصير مكبّل بالحزن والغربة، فالانتقال من مدينة إلى مدينة داخل البلد الذي تعرفه كان هيّناً، لكنك الآن تنتقل إلى مدينة جديدة بكل التفاصيل، في بلد جديد، ربما تميل إليه، أو يميل إليك، لكنه ليس بلدك.
عام مرّ سريعاً، والحرب تأكل ما تبقّى من وجوهنا وذاكرتنا، عام مرّ وكأننا كنا نعرج في الطريق. لا أحد يعرف استقامة ظهره إلاّ وهو يرفع عينيه للسماء كي يبكي. لا أحد يفهم أوجاع معدته التي لا تهدأ، أو فرط القلق الذي لا ينام فيه أبداً، ولم نعد نرى في الزوايا إلاّ أيامنا الماضية، فيشبهنا هذا البرواز، وتشبهنا هذه الصينية، ويشبهنا هذا المفرش، وهذا الكرسي، لكن لا شيء هنا كان يشبه البيت.
مررنا على أسنان الخوف ولضمنا شفاهنا، فصرنا لا نتكلم عمّا وجدناه من ضيق خارج البلد المنكوب، فما فيه اغتراب أشد، وموت أقسى، ومرارة العيش ومقتلة الأمل. كنّا نخاف من النجاة وكأننا ارتكبنا إثماً، ونعلل ذلك بأن ثمانية أشْهُر من الحرب علّمتنا الكثير، وذقنا فيها ما ذقناه، لكنها لم تكن كافية لنطمئن.
نحن خائفون طوال الوقت من صوت الطائرة المدنية التي تمر فوقنا، فنخفض رؤوسنا منتظرين الصاروخ، وخائفون من أن يمسكنا أحدهم متلبسين بعصير بارد، أو بقطعة حلوى، أو بوجبة شهية، ثم نعلل ذلك قائلين: "عشنا حرباً وحرماناً"، وخائفون من اللا-لقاء، واللاعودة، ومن أن نعيش كالذين فرّقتهم نكبة الـ 48، فيصبح التيه تيهَين، والنكبة صارت نكبة أُخرى.
وتصل إلينا الأخبار في القاهرة، بعد عودة النازحين إلى الشمال: "بيتكم بخير الحمد لله.
البيت الواقف أحسن مليون مرة."
فيفجعني سؤال جديد: لماذا لسنا هناك ولم نعد مع العائدين؟ كيف كان قرار الخروج من البلد مجازفة لكل حقوقنا المشروعة في العودة إلى البيت؟ وعلى الرغم من أن كوننا نموت ببطء أو بسرعة لا يهم، فإن حالنا لم يكن مناسباً في المقام الذي نختار فيه البقاء أو السفر.
وتأتيني فيديوهات للبيت: "المكان ناقصكم، البيت مش حلو من دونكم، لكن غزة لا ماء فيها ولا حياة، لا ترجعوا .."
ويعود السؤال مجدداً؛ ماذا فعل البيت في غيابنا؟
وكيف تبدو أشياؤنا هناك؟ ما قيمتها الآن ونحن بعيدون عنها كل هذه المسافات؟
كنت أنظر إلى البيت وتعتصرني حسرة الذكرى. هنا جلسنا آخر أيامنا، وهنا شاهدنا آخر فيلم، حتى الذين خسرناهم في الطريق جلسوا معنا هنا. كل شيء كان مغبراً مقلوباً على رأسه، ولم يعد يشبه البيت الذي كنت أضع فيه القواعد والقوانين، فلم تكن تمر نسمة إلاّ عن طريقي، أمّا الآن، فقد صار مكاناً مهجوراً مصاباً في نوافذه وأبوابه وجدرانه، ولا قيمة لشيء فيه ونحن بعيدون عنه كل هذا البعد.
لقد وجدوا الرصاص الكثيف يخترق غرفة نومي، ورصدوا رصاصة كسرت مرآتي من المنتصف؛ مرآتي التي كنت أمارس فيها ثقتي اليومية، وحمولات الخيبة وفقدان الطريق، وافتعالات الفرح، وأنوثتي المؤجلة بعد نوم الصغار، وسيلفي قصير. مرآتي الغريبة التي كانت تحمل فوق طاقتها من التمادي في المديح، لكنها في أي حال كانت مرآتي الأنانية، وقد ذهبت الآن كل الصور التي عرفتني بها، وسجلتها في ذاكرتها الزجاجية، ولم ترَ إلاّ آخر صورة لي؛ وأنا أحمل البيت معي وفي عينيّ آلاف الدمعات، وقلبي ينزف على بلاط البيت، وكان النزيف طويلاً، ولم يتوقف منذ ذلك الوقت، ليبقى السؤال الكبير المُلِحّ كل يوم:
"هل هناك عودة إلى البيت؟"
يلحّ هذا السؤال، بينما يلتهم صغاري شعوراً سريعاً بالخوف، وهم يتساءلون عن إمكان أن تعود الحرب لتعلّق وجه الحياة من جديد، وهل سيعود الجوع لكي يعلّقهم على بواباته من جديد؟ والشوق يغمز لنا في كل مرة، ويمد يديه، ويسحبنا إلى لحظة خالدة من العناق بعد غياب قسري مع الأحبة، لكنها عادت وتوحشت أكثر، وصار الخوف من المجهول والحياة التي تنزلق من بين أصابعنا تزداد توحشاً، ونحن فقط نراقب وننتظر ونتألم ونحزن ونبكي بصمت، أو حتى بصوت مختنق لا يسمعه أحد. نحن صوت أراد الحياة، لكن الحياة لم ترِدْه!
وقد عادت هذه الحرب وهي تحمل في مخالبها موتاً جديداً لنا، ولأحلامنا بالعودة. عادت وهي تلوّح لنا بغربة طويلة، وبجوع يفتك بالأصدقاء. الحرب غولة لا تشبع من الدم، ولا من القهر، أمّا نحن، فعدنا نلتصق بفكرة الموت والطائرات المدنية تحلّق فوقنا، لكننا نظنه الموت. إنه الموت ملتصقاً بقمصاننا حتى وإن استبدلنا غيره، مركوناً في حقائبنا حتى ونحن نخفيها تحت السرير، ويقضي معنا اليوم كله، ويأكل معنا وقتنا الحذِر متربصاً بنا وبكل محاولاتنا النجاة، أو التي ظنناها فعلاً نجاة.