Elias Khoury... A Voyage of Love and Language
Full text: 

في سن الخامسة عشرة بدأ إلياس خوري تجربته في الكتابة على صفحات "مجلة الكلمة" الصادرة عن حركة الشبيبة الأرثوذكسية التي أسسها أبوه الروحي المطران جورج خضر.

في ذلك الوقت، كانت تجربته في الكتابة لا تزال نيئة، لكن متقدة بالإيمان والأسئلة الوجودية، وبالثورة والحب، الأمر الذي أثار إعجاب المطران الذي أتى إلى بيروت حيث طلب التعرف إلى الشاب إلياس خوري الذي يكتب في المجلة. تدرجت كتابة خوري من كونها كتابة دينية مغلفة بالحب إلى كتابة ثورية ممتلئة بالحب ذاته. واكتمل هذا الحب كأسلوب كتابة وحياة حين ذهب إلياس خوري في أواخر ستينيات القرن الفائت في مرحلة غليان بيروت والمنطقة إلى المطران خضر وقال له: "بعد ما إنتهي من البكالوريا سألتحق بالعمل الفدائي، وأنا مخجول منك يا سيدنا لأنو هيدا حرب." حينها أخذه المطران في حضنه وقال له: "متل بعضا. ما تخاف، المسيح كان أول فدائي"، مثلما روى خوري في الكلمة الافتتاحية لمئوية المطران جورج خضر في حزيران / يونيو 2024.

في تلك اللحظة تلاشى الفارق بين الحب والثورة والكتابة، وصار هذا الشاب الذي لم يبلغ العشرين من عمره فدائياً على نهج المطران خضر في طرقات "الجبل الصغير"، وبقيادة أبي جهاد الوزير في أزقة مدينة السلط الأردنية.

في جبهات القتال حمل خوري على كتفه عبء التحرير والأدب. من جهة الكلاشينكوف، ومن جهة أُخرى "متشائل" إميل حبيبي و"عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني وقصائد حب محمود درويش، إلى جانب كلاسيكيات الأدب الروسي ليقرأ لرفاقه المقاتلين كي يغدوا مأخوذين معه بسحر الأدب وحب "البلاد". وحين يعود إلى المنزل في الاستراحات كان يكتب عن ساحات القتال بحبر الحب المعمد بالدم، فكانت رائعته الأولى "الجبل الصغير". وكان لتلك الأعمال الصدى الأكبر في تشكيل تجربة إلياس خوري الإبداعية، ولهذا لم يكن غريباً أنه بعد 60 عاماً من احترافه الكتابة، استشهد في هذه المقابلة بروايته الأولى "الجبل الصغير"، معرّجاً على الأدب الروسي من لينين وتشيخوف لتأكيد طبيعة الأدب باعتباره مرآة للشعوب والمجتمعات.

استمر خوري على نهجه في أدواره الثقافية والاجتماعية كلها، إذ سعى دوماً لتكريس معاني الفداء والحب في كل ما يفعل ويكتب، فباتت نصوصه الأدبية والفكرية والنقدية مرايا لأرواحنا المتروكة ومدننا العربية المهملة. هكذا استطاع إلياس خوري خلق أوطان من الكلمات لجميع الغرباء والمشردين والمهملين والمنفيين، فكأنه أضاف ليلة إلى ليالي "ألف ليلة وليلة"، ليلة يختلط فيها النثر والشعر، وتتدوّر فيها الحكايا فتقترب ولا تتقاطع، أو تتقاطع ولا تقترب، لكنها حتما تدور في الفلك نفسه، فلك الحب.

في إحدى مراحل تعافيه في المستشفى، وكان حينها منغمساً في تصميم عدد جديد من أعداد "مجلة الدراسات الفلسطينية"، أخبرني أنه رشّح اسمي لأكون محاورته في مقابلة سيجريها مع مكتبة بلدية بيروت العامة بإدارة جمعية السبيل، وذلك ضمن سلسة من المقابلات التي تعقدها الجمعية مع مجموعة من الأديبات والأدباء بعنوان "مطبخ الكتابة"، والتي تسلط الضوء على عاداتهن وعاداتهم في الكتابة، وفي كل ما يتعلق بمرحلة تشكيل النص.

شعرت بالقلق الكبير إزاء هذه التجربة على الرغم من العدد الذي لا يستهان به من المقابلات التي أجريتها مع إلياس خوري خلال فترات دراستي لرواياته كإثنوغرافيات توثق قصص الأرض والناس. وكان قلقي نابعاً من وعيي بثلاثة تحديات كبرى للقاء شخصية مثل خوري في دعوة عامة.

التحدي الأول: أن هذه المقابلة كانت الأولى والوحيدة التي أطل فيها إلياس خوري على قرائه ومحبيه بعد نحو عام من المرض، ولهذا كان هذا التحدي نابعاً من خصوصية هذا اللقاء وحساسيته وأهميته، وكذلك من مدى قدرتي على تحمّل مسؤولية بهذا الحجم. ثم شُغلت بإعداد أسئلة توفق بين توقعات الناس ورؤية جمعية السبيل إلى مشروعها، وقبل ذلك كله كنت أتطلع إلى رضى إلياس خوري عن المقابلة.

التحدي الثاني: كان يتعلق بنوعية الأسئلة التي من شأنها مناقشة عادات فعل الكتابة لمثقف عضوي كإلياس خوري يكتب في الصحافة والسياسة والأدب والنقد، ويملأ فضاءات لبنان وفلسطين والعديد من دول العالم بشخصيته الاستثنائية. وكنت أعي أن لكل دور من هذه الأدوار أسلوبه وطريقته وعاداته التي يمكن أن تتشابه بالقدر نفسه الذي قد تختلف فيه.

التحدي الثالث: كان نفور إلياس خوري من كل ما هو جاهز ومعلّب، وخصوصاً عندما تتعلق الأمور بكل ما يحب في الحياة. فكان من الصعب عليّ سؤاله بشكل مباشر وتجريدي عن عاداته في الكتابة، مثلاً: متى يستيقظ ومتى ينام، وكيف يكتب، وأي قلم يستخدم، وكم سيجارة يدخن، ونوع قهوته، وشكل مكتبه، وكل ما يمكن أن يندرج تحت أسئلة ومقتربات من شأنها أن تعلّب وتؤطر تجربته الإبداعية.

والسؤال الأهم الذي سألته لنفسي عشرات المرات خلال تحضيري للقاء هو كيف أسال مَن قدّم 60 عاماً من عمره في سبيل الكتابة وحبها؟ وكيف أسال مَن أحب الكتابة حتى في قمة آلامه الجسدية والوطنية ووجد فيها ملاذه الآمن حين يتألم ويغضب ويحب ويتساءل ويصمت. فعند إجراء هذه المقابلة كان خوري قد كتب أسبوعياً نحو 36 مقالة في أثناء مرحلة مرضه، ليصل ما كتبه خلال "عام من الألم" إلى 60 مقالة ضمّنها جوانب شتى من الحياة: 56 مقالة أسبوعية في صحيفة "القدس العربي"، و4 افتتاحيات لأربعة أعداد من "مجلة الدراسات الفلسطينية"، عدا الكلمات التي ألقاها في احتفالات أو محاضرات أو مؤتمرات في عدة دول حول العالم. وفي علم الخرافة والأساطير، فإن الرقم 6 يحمل دائماً رمزية الحب، وليس هذا بمصادفة غريبة على رجل مفعم بالحب.

تكلم خوري كثيراً عن الكتابة كفعل حب، وصمت كثيراً وفعل كل ما فعل بحب. كان يمارس هذا الحب يومياً على مدار العمر بما حمله من حزن وفرح. سمعت إلياس خوري ورأيته وهو ينتشي حباً وروحانية في كل كلمة يكتبها أو يحكيها، وهذا تماماً ما وصفه في هذه المقابلة عن مكانه في تلك اللحظة الزمنية الدقيقة من عمره: 

الكتابة علمتني حب الحياة. في شغلتين بعلّموك حب الحياة، هن الكتابة والحب. وأنا قاعد بين الاثنين، لأنو ما في كتابة بلا حب، وما في حب بلا كتابة، هيدا بالنسبة إلي. وبالنسبة إلي ككاتب، الخلطة حاضرة، وهي الخلطة الحقيقية، بإنو ما في كتابة بلا حب، وما في حب بلا كتابة. وبالتالي أنا اليوم في مكان.. تا قلكم جميل! لأ مش جميل، تا قلكم ساحر! لأ مش ساحر. بس أنا في مكان روحي كتييير واسع وكتير جديد وكتير حلو. 

سار خوري في أدبه وفي حياته بعينين مفتوحتين وقامة منتصبة نحو الحياة التي كتبها وأحبها حتى في أحلك لحظاتها. سار نحوها على غرار الفدائي الأول متمثلاً فيما تحمله كلمة "الفداء" من معانٍ نبيلة، فكان كنشيد إبراهيم طوقان الذي أحبه وردده على الدوام: 

هو بالباب واقفُ

والردى منه خائفُ

 ***

فاهدئي يا عواصفُ

خجلاً من جراءتهْ

 ***

صامتٌ لو تكلما

لفظ النار والدِّما

 ***

قلْ لمَن عاب صمتَهُ

خُلِقِ الحزمُ أبكما

 ***

وأخو الحزم لم تزل

يدُهُ تسبِقُ الفما 

نقرأ كلمات إلياس خوري ونستطيع أن نسمع إيقاع صوته وكلماته كأنها أبواب مشرعة على معاني الحب كلها التي تمزج "المتخيل بالواقعي، والحقيقي بالمتخيل" فنصاب جميعاً بسحر أدبه وحمّى حبه الذي لا شفاء منه. 

بما أن مطبخ الكتابة يناقش فعل الكتابة، فأول سؤال لي هو عن فعل الكتابة في زمن الإبادة التي يتعرض لها شعبنا الفلسطيني منذ أكثر من نصف عام في غزة. وأيضاً في زمن المرض، لأننا كما نعرف جميعاً، مررتَ بوعكة صحية كانت صعبة، لكنك ثابرت على الكتابة ولم تنقطع، فقد كتبتَ أسبوعياً تقريباً منذ مرضك في (12 تموز / يوليو 2023) حتى الآن (19 نيسان / أبريل 2024) أكثر من 36 مقالة في صحيفة "القدس العربي". لذا نريد أن نعرف عن الكتابة مع المرض، وعن العلاقة التي تجمع الكتابة بالجسد الذي يعاني، والمكان الذي يعاني، والروح التي تخرج منها الكلمات والأدب. كلّمنا عن تجربتك.

أولاً شكراً لـ "السبيل" وشكراً بانة، شكراً شادي، شكراً طوني، شكراً لكم جميعاً. وأنا سعيد جداً بأن "السبيل" ما زالت تحافظ على منطلقاتها، عبر نوادي الكِتاب وتعليم الناس القراءة والنقاش. هذا مكان جميل جداً، وواحة حلوة للأدب والثقافة. حقيقة أنا أتشرف بأني معكم، وأتشرف بالإجابة عن أسئلتكم.

قبل أن أبدأ بالإجابة المباشرة، أود أن أذكّركم بـ "بوستر" اشتغلتُ عليه منذ 4 أو 5 أعوام تقريباً، وكان عنوانه "وطني يؤلمني"، وقد انتشر كثيراً. فعلاً كنت أحسّ وقتها بوجع فظيع، حينها لم يكن الوجع من جسمي، بل كان وجعاً من بلدي. لكن هذه المرة وجعي من بلدي ومن جسمي معاً. وجعان امتزج أحدهما بالآخر إلى درجة أني لا أستطيع أن أميز الفارق بينهما. وجع الجسم هو وجع مؤلم جداً، ووجع الوطن مؤلم جداً، فإذا امتزج الوجعان أحدهما مع الآخر، يمكنهما أن يعطيا أشياء جديدة جداً، لكن مخيفة للكاتب. تخيفه لأنها من جهة تغيّر أسلوبه، وتريه كيف أن الكتابة ليست مجرد فعل فهم وتدقيق، بل إنها أيضاً فعل عاطفي، وفعل ناجم عن اختلاجات الروح والقلب معاً. فأنا هنا، أنا في هذا المكان، وهو مكان صعب جداً. مرة تكون معنوياتي عالية، ومرة أُخرى تهبط. مرة أكون سعيداً، وفي أُخرى أحزن، لأن الوجع لم يغادرني، وإنما يأخذ أشكالاً متنوعة. لكن ها أنا بينكم عبر تقنية "زووم"، وهذا دليل أني لم أتعافَ بعد، وفي الحقيقة عندما اتفقنا على اللقاء، كنت أعتقد أنني سأستطيع الذهاب إلى القاعة وأكون معكم، لكني لم أستطع.

الكتابة فعل مؤلم بذاته، لأنها تعبير عميق عن الإنسان، وعن دواخله، وعن عواطفه، وعن العلاقات الإنسانية. فعندما تضع نفسك في هذا المكان مع الألم الجسدي الهائل، يصبح الوضع غير معقول وغرائبياً. لكن على الرغم من هذا الوضع، تصير أكثر تواضعاً، وأكثر حناناً، وأكثر لطفاً، وأكثر محبة. وأنا اليوم في هذه اللحظة أكثر محبة وضعفاً، وأكثر إبداعاً. أشعر بهذا الشيء، وأشعر به ليس فقط في كتابة المقالات، بل في مشروع رواية بدأتُ بها مؤخراً، وإن شاء الله تخرج قريباً، لأنها رواية أصلاً مختلفة وحلوة، وتجيب عن هذا السؤال الذي طرحتموه.

لكن الكتابة الإبداعية صعبة، وكتابة الروايات صعبة، لأنه لا يمكنك أن تكتب رواية من دون أن تقرأ دائماً، فهناك أشياء يجب أن تعرف تفصيلاتها، وتستعين بمراجع، وغير ذلك من أمور، وهذه التفصيلات باتت مرهقة لي مؤخراً، لكنها ما زالت تمتعني.

في الكتابة تتقاطع وتتجسد جميع رغباتنا، وحيويتنا الإنسانية كلها، وكذلك حبنا للحياة. فقد علمتني الكتابة حب الحياة. هناك أمران يعلمان حب الحياة: الكتابة والحب، وأنا جالس بينهما، لأنه ليس هناك كتابة بلا حب، وليس هناك حب بلا كتابة. وبالنسبة إليّ ككاتب، الخلطة حاضرة، وهي الخلطة الحقيقية، بأنه لا توجد كتابة من دون حب، ولا يوجد حب من دون كتابة. وبالتالي أنا اليوم في مكان، هل أقول لكم إنه جميل؟ لا ليس جميلاً. أقول لكم إنه ساحر؟ لا ليس ساحراً، لكن أنا في مكان روحي واسع جداً وجديد جداً وحلو جداً. 

شكراً أستاذ، إجابتك أيضاً جديدة، وربما لم نكن نتوقعها، ففي العادة نتوقع من المريض أن يكون أكثر تشاؤماً، وألّا ينظر إلى الحياة بهذا الحب وهذه الإيجابية. لكن هذا يعلمنا شيئاً إضافياً عن الكتابة، وكيف يمكن لفعل الكتابة أن يضيف إلى الإنسان. لا أعرف إن كنت تحب أن تتكلم عن فعل الكتابة في زمن الإبادة، أم عنهما مختلطَين؟

لا، ليسا مختلطَين. فعل الكتابة في زمن الإبادة فعل مؤلم جداً لأنك بعيد عن الناس الذين تحبهم، لكنك في الوقت نفسه تكتب عنهم. تكتب وأنت تريدهم أن يكونوا أفضل ناس، ويعيشوا أفضل حياة، فإذا بك تكتشف أن إسرائيل أخذت قراراً ليس فقط بإبادة غزة، بل بإبادة الشعب الفلسطيني أيضاً. وليست إسرائيل هي مَن اتخذت هذا القرار، بل إسرائيل والغرب. وهدفهما هو تحطيم هذا الشعب، وهو ما نراه من خلال اضطهاد المثقفين العرب والأجانب، وضرب روح الفلسطينيين المعنوية في الداخل والخارج، كما رأيناه في الحرب الأخيرة، وفي القصف الإيراني على إسرائيل.

القصف الإيراني على إسرائيل صار أمراً مضحكاً ومبكياً في لبنان، ويمكنني أن أسميه "مهركلاً". و"الهركلة" أن بعض الناس يظنون أن كل شيء هو مؤامرة، وأن كل ما يقوم به "حزب الله" هو خطأ، بينما كل ما ينطقون به منزّل من السماء، وهم لا يفهمون "كوعهم من بوعهم"، ولا يفهمون شيئاً عن الحروب الإنذارية الوقائية. وبالتالي عليهم أن يدرسوا قليلاً عن العلوم العسكرية، فهذا النوع من الحروب، هو بمثابة تحذيرات نوعية. فما فعلته إيران بإسرائيل هو تحذير نوعي، والدليل هو الرد الإسرائيلي الذي استهدف مكاناً فارغاً، ولم يؤدّ إلى إصابات، لأن إسرائيل أرادت تحاشي الحرب، وإيران قالت لهم، لم يعد في وسعكم تحاشي الحرب. هذا أولاً؛ ثانياً، لأن إسرائيل تريد الحرب والولايات المتحدة قالت لها: ممنوع الحرب، وهكذا أصبحت إسرائيل الآن مثلما كان بعض العرب في الماضي، دولة تابعة كلياً لأميركا. فمع أن إسرائيل كانت دوماً تابعة لأميركا، إلّا إنها هذه المرة أصبحت تابعة بأمنها، بمعنى أن إسرائيل لم يعد في إمكانها فتح حرب، إلّا إذا أرسلت أميركا أساطيلها لحمايتها من الصواريخ، وعسكرها لحمايتها من ردة الفعل. وهذا تحول نوعي. وبالتالي، فإن العيش في محل كهذا، فيه كثير من السذاجة، أو من التحزب الساذج، أو من الكراهية العمياء، ويجعلنا غير قادرين على الرؤية، ومن الخطر ألّا نرى. 

هناك شيء جميل في الإجابة، فقد تداخل الأديب في السياسي في الفدائي في السوسيولوجي. والسؤال الآن ممكن أكثر له علاقة بالسوسيولوجيا. ففي معظم كتاباتك، وليس الروائية فقط، تحدثت أو صنفت الأدب الفلسطيني، كأدب الصمت، ونحن نعرف أن كثيراً من كتاباتك تتناول القضية الفلسطينية، بل حتى لو لم يكن العمل عنها، فإنها تكون حاضرة في مكان ما من العمل، أو في خلفيته. وقد تحدثت في مقابلات وكتابات لك عن تجربة أنت واجهتها في المخيمات الفلسطينية حين كنت تجري مقابلات بحثية لرواياتك، وعمّا تعانيه الضحية، والفلسطينيون هم ضحايا النكبة، وهو نوع تسميه أنت "الخرس"، "خرس الضحية". أود منك أن تحدثنا عن أدب الصمت، كيف تكتب الصمت؟ أو كيف تكتب هذا الخرس؟

أولاً، أنا لا أكتب الصمت، أنا أكتب عن الصمت. لا أحد يستطيع أن يكتب الصمت إلّا الذي خلقه وعلّمنا إياه. ثانياً، أحد أهم أشكال الفن الفلسطيني، هو التطريز. والتطريز هو تعبئة الفراغات بالخيطان، وفي بعض المرات تكون التعبئة بلا فراغات. وبالتالي، فإن وظيفة الكاتب هي تفتيق التطريز، وإعادته إلى خيطان؛ هذا هو كسر الصمت. والفلسطيني عندما يريد أن يحكي يكون كأنه يفتق التطريز. الكلام مؤلم للفلسطيني مثل ألم المرأة التي تطرز وتضطر إلى فك التطريز من أجل إعادة استخدام الخيطان. ومن أجل أن نستطيع أن نكتب، علينا أن نكون شجعاناً بما يكفي لنفكّ الخيطان كي نتمكن من إعادة تركيبها من جديد. هذه هي اللعبة كلها.

لماذا الخرس، ولماذا الصمت؟ ليس عليّ أن أعيد أن الخرس والصمت هما نتاج "التروما"، فهما نتاجها طبعاً، وهما أيضاً نتاج القمع، ونتاج المنع، ونتاج حشر الفلسطيني في زاوية فظيعة هي قمع الأنظمة العربية من جهة، وقمع إسرائيل من جهة أُخرى. شعب موجود بين قمعين، كل قمع أشرس من الآخر، وكل قمع أقسى من الآخر. وبالتالي، لجأ الفلسطيني إلى سلاح تفتيق الخيطان ليقاوم هذا القمع. هكذا يستطيع الفلسطيني أن يحكي وأن يركّب وأن يعيد كتابة ما حدث بلغة جديدة.

لهذا السبب ذكرتُ سابقاً أن علاقة المرض الجسدي بالمرض الوطني تخلق كتابة جديدة، أي شكلاً جديداً من الكتابة، وإن شاء الله سترون هذا النموذج الجديد في روايتي. 

في هذا السياق، أريد أن أسألك: في رواية "أولاد الغيتو: اسمي آدم"، عبّر الراوي عن امتعاضه من فكرة ترقيم الضحايا الفلسطينيين، وكان ينادي أننا لسنا أرقاماً، نحن ضحايا. كل إنسان فينا لديه قصة، ولديه حلم، ولا يصح ولا يجوز أن يتحول إلى رقم. وفي أثناء حرب الإبادة على غزة لاحظنا في جميع تظاهرات العالم شعاراً انتشر بقوة، وهو: "نحن لسنا أرقاماً". ألا يدخلك هذا التشابه بنوع من الإحباط، أن تاريخنا مع الاحتلال وتاريخنا نحن كعرب يكرر نفسه؟ فكيف للأديب الذي يكتب هذا الشعب وعلاقته مع الاحتلال أن يمتلك القدرة على إنتاج شيء جديد ولا يكرر نفسه؟

الكتابة لا تتكرر، وإنما تأخذ في كل مرة شكلاً جديداً. أولاً، الأرقام كانت للموتى، وإسرائيل بدأت تستخدم الأرقام في موضوع الشهداء الفلسطينيين، ثم صارت تضعهم في البرادات وتتركهم هناك. بعد ذلك وضعتهم في مقابر مرقّمة، ثم مُحيت الأرقام وصار من الصعب إيجاد القبور. وتطورت الأرقام إلى أرقام للمساجين، ثم إلى أرقام الضحايا الذين رُقّموا كي يتسنى للإسرائيليين ردّهم إلى أهلهم من الثلاجات عند انتهاء محكومياتهم. أي أنهم أرقام في الثلاجات حتى إتمام محكومياتهم. يعني إذا كان هناك إنسان محكوم لعشرين عاماً، وصدر قرار بإخراجه من السجن، فإنهم لا يطلقون سراحه، بل يتركونه في الثلاجة لإكمال محكوميته. ممارسة وحشية لا سابق لها، وبالتالي ترقيم شامل على المستوى السياسي. لكن، أهم نقطة فيه هو البُعد الإنساني وليس السياسي، لأن هدفه تحطيم روح الإنسان. والأمر الذي نواجهه اليوم نسميه إبادة، لكن ما معنى إبادة؟ يعني قتل، والقتل أشكال، هناك قتل جسدي وقتل روحي، قتل مباشر وقتل غير مباشر. والإسرائيليون يريدون أن يقتلوا الروح عند الفلسطينيين، ولكن حتى هذه اللحظة، بعد أكثر من ستة أشهر، ماذا فعلوا بالروح الفلسطينية؟ هل تمكنوا منها؟ لم يقتربوا منها ولن يقدروا على الاقتراب منها. هؤلاء مجانين، هؤلاء حمقى، هل هناك مَن يلعب مع شعب كامل؟ شعب وأمة؟ الشعب الفلسطيني شعب كامل ولا يمكن إبادته، وإذا كانوا يظنون أننا في أيام الهنود الحمر، فنحن لسنا كذلك. هنودنا الحمر برشاش صغير يعطبون ويدمرون دبابات، بينما الهنود الحمر لم يعرفوا الرصاص. الإسرائيليون مجانين، وما تفعله إسرائيل ستدفع ثمنه غالياً. 

بما أننا نتكلم عن الأرقام والروح والإنسان، أريد أن أطرح عليك سؤالاً ينظر إلى الأدب من مقترب أنثروبولوجي: مَن يقرأ أدبك ولديه خلفية في علم الإنسان، يجد أنك تستخدم في رواياتك بعض الأدوات التي يستخدمها علماء الأنسنة في البحث. فأنت تجري مقابلات لتوثيق التراث المحكي والشفوي، وتذكر كثيراً من التفصيلات المرتبطة بالمجتمع والمكان بدءاً بأسماء الشوارع والبنايات، إلخ. هل كنتَ تعي فكرة أنك تستخدم أدوات أنثروبولوجية في نمط كتابتك، أم إن هذا الأمر كان يحدث من منطلق مختلف خلال الكتابة؟

لا، لم أكن أعي ذلك، وإنما كنت آتي من منطلق مختلف؛ منطلق ربط الواقع بالمتخيل. يعني أنا أكتب خيالاً. مثلاً، إذا طلبتِ مني أن أخبرك أكثر عن أم آدم، فسأقول لك: "ما أعرفه كتبته"، لأنني لا أعرف أكثر. ستقولين: "مش معقول! هالمرة مبيّنة حقيقية!" أقول: "هذا هو الأدب. هو أن يبدو المتخيل حقيقياً، والحقيقي يبدو متخيلاً." وفي رأيي، فإن هذه هي خلطة الأدب السحرية. هناك أناس لا يتفقون مع هذا الرأي، وأنا أفهمهم، وأقدر شعورهم، أمّا أنا فرأيي أنه لا يوجد خيال بلا واقع، ولا يوجد واقع بلا خيال. نحن نعيش في الخيال. نعيش أولاً في القصص، كيف؟ مثلاً تعودين إلى البيت، فيسألك أهلك: أين كنت؟ فتخبرينهم أنك كنت تجرين مقابلة مع فلان الفلاني، وتخبرينهم ماذا نفعل وتفصيلات الأحداث. بالتالي نحن نخبر القصص. حياتنا مركبة على أن نخبر بعضنا قصصنا. مثلاً اطلبي أن أخبرك ما يحدث معي، وأنا سأخبرك بدقة. لكن بعد عامَين لا أخبر القصة بالدقة ذاتها لأني أكون قد نسيت تفصيلات الموضوع، فأبدأ بخلط التفصيلات الدقيقة بغير الدقيقة. إذاً، الخيال مخلوط بالواقع منذ بداية الإنسان مثلما يقول علماء الأنثروبولوجيا. وأنا كتبت من منطلق إنساني، ولاحقاً اكتشفت مع القراء، أن الأمر ليس هذا فقط، لأن هناك قراء لم يقتنعوا، واستمروا يسألونني عن قصص بعض الشخصيات. مثلا: أخبرنا قصة فلانة! فأجيبهم أني لا أعرفها، ولو عرفتها لتزوجتها وكنت أنا بطل القصة.

بالتالي، دائماً هناك هذا الخليط وهذا المزيج بين المتخيل والواقعي. وربما وصل هذا الخليط إلى ذروته في حكاية "باب الشمس". والفكرة بدأت من "باب الشمس" في فلسطين المحتلة، حين اجتمع مجموعة من الشبان الفلسطينيين وأقاموا قرية في سنة 2013 أطلقوا عليها اسم "باب الشمس" في مواجهة الاستيطان. وضعوا خياماً ودافعوا عنها، واشتبكوا مع الجيش الإسرائيلي، وحينها اكتشفت أن هذا صحيح، هذا خيال، لكن الخيال تحول إلى واقع، مثلما تحول الواقع إلى خيال. وأنا أعيش في المنتصف. أعيش في الخيال وأعيش في الوقع. وهذا العيش بين الخيال والواقع هو الذي يعطي الأدب نكهة، ويحوله إلى نتاج إنساني جميل وممتع ولذيذ، وخصوصاً عندما يعيش الكاتب في النص، مثلما أنا أعيش، يعني أنا يختلط الخيال عندي بالواقع جداً جداً، إلى درجة أني أحيانا أخبر أموراً لم تحدث، وبالعكس. أنا لا أكذب، بل كل نواياي حسنة، لكن مثلما يقول العرب: "أعذب الشعر أكذبه". يعني أنا أعيش مثل كل الناس، مثلك، وأنا أكيد أن كل الناس هكذا، لكن لا أحد فككها وتجرّأ أن يراها كما هي. 

لكن أستاذ، في لقاءات سابقة لك، كان لديك وجهة نظر نقدية بما يتعلق بكتابة التاريخ في دولنا العربية، وكيف فشلنا في كتابة تاريخنا. وتعطي مثالاً: كيف لم يُكتب التاريخ في لبنان، علماً بأن مَن يقرأ رواياتك يلاحظ أنك تغيّر بعض الأماكن، تضع شارعاً قبل شارع مثلاً، لكنك في الوقت نفسه تستخدم أسماء الشوارع نفسها، وتستخدم كثيراً من الأحداث التاريخية، فيشعر القارىء كأنه يقرأ أحداثاً تاريخية، أو أن الكاتب يحاول تأريخ أشياء كالنكبة، الحرب الأهلية، أو الحزبية والطائفية أيام تلك الحرب.

كتب لينين مرة أن مَن يريد معرفة روسيا والمجتمع الروسي، يجب أن يقرأ تشيخوف. نحن نقرأ تشيخوف ليس بصفته المجتمع الروسي، يعني أنا لا أقرأ تشيخوف لأتعرّف إلى المجتمع الروسي، بل أقرأه لأنه أدب حلو وأدب جميل. وطبعاً إذا أردنا، فإننا سنجد في قلب أدبه المجتمع الروسي. وأنا في تجربتي، لا أجرب كتابة تاريخ لبنان، لكن يظهر تاريخ لبنان كاملاً، لأنني مجبول بهذا التاريخ، فهو تاريخي الشخصي وتاريخ عيلتي وجدي وأمي وأبي وعائلتي. وتاريخنا كلنا. 

كيف يمكن أن نفصل ما نكتبه عمّا كتبه المستشرقون؟ وهذا السؤال نابع من أننا تناقشنا قبل مدة أنا وأنت عن مستشرق كان في بيروت، وكتابته عن البيئة البيروتية والأطعمة والأزياء والناس والحج وتفصيلات أُخرى. ما هو الفرق من وجهة نظرك؟

المستشرقون أنواع، لكن النوع الغالب هو الاستشراق الفرنسي، وأنا قرأت تقريباً جميع روايات الاستشراق الفرنسي، وكلها تتكلم من الخارج، عن الطبيعة، وتمر بشكل سريع على العادات والتقاليد، لكنها لم تتمكن من الدخول إلينا. وبالتالي، فإن إحدى النقاط التي استفزتني للكتابة هي الاستشراق الفرنسي لأنها "زعبرة" فظيعة، ويمكن أفظعها هي "زعبرة" بودلير، حين ذهب إلى مصر وادعى أنه التقى بعاهر وألّف قصة لا يمكن أن تركب. وقتها تأكدت أن هؤلاء "فناصون"، بمعنى أنهم يبيعون الـ exotic لأوروبا وبلادهم، وهذا نابع أيضاً من معرفتهم لذائقة شعوبهم الـexotic . والحقيقة أن ما كتبوه لا يفيد كثيراً، وهو مفيد بعض الشيء، لكن ليس هو المرجع الصالح لنقرأ تاريخنا. أمّا أنا فكتبت عن تاريخنا، مثلاً كتبتُ عن أحداث سنة 1860 في روايتي "مجمع الأسرار". إذاً، الفرق نوعي، بمعنى أني جربت أن أشتغل على الحرب اللبنانية في سنة 1860، وكان ثمن هذه القصة غالياً. هذا المهم، وهذا ما لم يصل إليه المستشرقون. 

نلاحظ حين نقرأ رواياتك أن لديك أسلوباً معيناً، مثلاً تتعمد في الرواية تكرار مقطع من النص، أو حتى سطر، وهذا أكيد ليس من فراغ. فهل هذا الأسلوب في الكتابة له أساس مجتمعي أو سيكولوجي، أو هو فقط أسلوبك في الكتابة الذي تحب أن تتميز به؟

أنا لا أحب أن أتميز بشيء. أنا كتبت لأعبّر، لا لأتميز. أنا فقط جربت أن أعمل شيئاً وعملته، وهو أن أمزج مشروع الأسلوب بالمضمون، لأنه لا يوجد أسلوب بلا مضمون، ولا مضمون بلا أسلوب. أنا أسلوبي طالع من مضمون كتاباتي. مثلاً تشاهد لوحة لبيكاسو، تعرف أنها لبيكاسو من دون النظر إلى توقيع اللوحة، وذلك بسبب الأسلوب. وبالتالي، هذا أسلوبي، لكنه أسلوبي بمعنى أنه جزء من تمسّك بالمعنى، وعدم تركه يفلت منه، مثل مسامير أزرعها في قلب النص كي يثبّتوه فلا يفرط. هذه الفكرة الأساسية. 

ما تقوله يعود بنا إلى شيء يشبه ما قاله إدوارد سعيد في تقديمه للنسخة الإنجليزية من رواية "الجبل الصغير"، وما كتبه عن "ما بعد نجيب محفوظ"، إذ يعلق سعيد على أسلوبك في تكرار كتابة حدث معين تحديداً في الفصل الأول من رواية "الجبل الصغير"، كأنك تريد أن تبقى متذكراً أن هذا الحدث صار فعلاً في الاشرفية تحديداً عندما تصف قدوم ميليشيا معينة إلى منزلك في الأشرفية. وبالتالي من الممكن أن يكون هناك إسقاط سيكولوجي، كتأكيد وقوع أحداث معينة فعلاً.

إدوارد سعيد أستاذنا وهو أستاذي الشخصي، ومعلمي، وحبيبي، وخسارة لا تعوض. الله يرحمه. 

الله يرحمه، قلتَ أنك تلميذه، وأنت خير تلميذ. ونحن أيضاً تلاميذك، وسعداء بوجودك معنا ونتعلم من تجربتك. السؤال الذي أحب أن أسألك إياه وكثيراً ما فكرت فيه، هو أنك تكتب أدباً يبدو محلياً في ظاهره، لأنه يدخل إلى بيروت وتفصيلاتها، لكن صحيح أيضاً أنه أدب عربي يركز على بلاد الشام تحديداً. وفجأة نجد أن هذا الأدب وصل إلى العالم والعالمية. ما هو السر في رأيك الذي يجعل المحلي يصل إلى أناس لم يشاركونا تراثنا أو ذكرياتنا أو خلفياتنا الثقافية أو المجتمعية أو حتى المكان؟

قبل قليل أخبرتكم عن تشيخوف، وأن هذا الصوت الذي يقرأه ملايين البشر من جميع أنحاء العالم، قرأه لينين على أنه مرآة الشعب الروسي. تشيخوف كتب أدباً، والأدب لا يخرج من لامكان، لا بل يخرج معه المكان الذي يطلع منه إلى مستوى يصلح لكل العالم، لأن التجربة الإنسانية واحدة.

مرة درجت موضة بأن علينا أن نتّبع أسلوباً عربياً. وأنا فكرت ماذا عليّ أن أفعل؟ بعدها نسيت الموضوع. ثم خرج معي الأسلوب، وهو أسلوب "ألف ليلة وليلة" الذي هو أسلوب عربي جداً. فالأسلوب يأتي من عمق التجربة التي يخبرها الكاتب كقصة هي عميقة ومسلية، وتطرح علينا أسئلة عن معنى حياتنا بغضّ النظر أين كنا ومن أين جئنا. هذا هو الفرق بين الأدب الذي سمّيتِه محلياً، والأدب المحلي اللبناني قبله، لأنه يوجد أدب لبناني هائل كمارون عبود وفؤاد كنعان وكثر آخرين لكنهم لم يصلوا إلى العالم، لأنهم بقوا مطوقين و"مصونين"، مثلما نقول عادة: "وامرأته المصون"، أي أنها جالسة خلف "التصوينة"، كناية عن عدم خروجها من البيت. وبالتالي، فإن قصص هؤلاء الأدباء لم تخرج من المحلي لأنها هي بذاتها لا تستطيع الخروج، وليس لديها طاقة كي "تعربش"، ولا طاقة لتصل إلى الآخرين، لأنها "غرقانة" في المحلية، فالمطلوب أن تكون محلياً وغير غارق في المحلية. 

أحب أن أعرف رأيك في موضوع الكتابة الإبداعية، وخصوصاً أننا نسمع مؤخراً عن ورشات الكتابة الإبداعية، ودورات الكتابة الإبداعية، حتى إن بعض الجامعات فتحت برامج اختصاصات كاملة عن الكتابة الإبداعية.

هل يمكن أن نتعلم الكتابة؟ هل نقدر أن نتعلم أن نكون مبدعين؟ ومن هذا السؤال ننطلق لنأخذ منك نصيحة للكاتبات والكتّاب الجدد أو الشابات والشباب الجدد، الذين يريدون استخدام الكتابة وسيلة للتعبير عن الذات، ولا سيما أنه كان لديك تجربة في مؤسسة الدراسات الفلسطينية التي صدر عنها كتاب "حب في المخيم" الذي تضمّن سلسلة من القصص لشابات وشباب في المخيمات الفلسطينية في لبنان، كتبوا قصصهم في موضوع "الحب". وأحب أن أعرف ما الذي تعلمته من الشابات والشباب خلال هذه التجربة؟

كتاب "حب في المخيم" أحبه جداً، وأنا فخور به جداً، لكن للأسف كانت أسباب توزيعه وانتشاره معقدة في المؤسسة. في البداية، عندما عُرضت عليّ الفكرة رفضت، لأني ضد الكتابة الإبداعية في الجامعات، وعندما كنت أعلّم في نيويورك رفضت عروضاً كثيرة لتعليم الكتابة الإبداعية إلى جانب الأدب المقارن، وكنت أقول لهم: الكتابة لا تُعلَّم، هاي من "أبو عيسى"، يجب أن تقرأوا الكتب وتجربوا وتستمروا في التجريب مثلما فعلنا نحن من قبل. إلى أن أتت فكرة أن نكتب عن المخيم. وفكرت أنني إذا استطعت مساعدة عدد من الشابات والشباب على أن يكتبوا عن المخيم، سأكون قد فعلت شيئاً إيجابياً جداً، وفتحنا الباب، وأتوا الشباب، وكانوا شباباً ممتازين وصبايا رائعات، وكنا نذهب إلى المخيم، ونتعشى هناك أيضاً.

تجربة المخيم بالنسبة إليّ، كانت تجربة جديدة تماماً. فتجربتي السابقة في المخيم كانت في أثناء أيام "الفدائية"، في أوقات الحراسة وغيرها. أمّا تجربة المخيم الجديدة فكانت لنستمتع. لقد اكتشفت المخيم وجانباً آخر منه، وهذا الأمر كان مفيداً جداً، لكن ما زال رأيي كما هو بأن الكتابة الابداعية لا تُعلَّم. الأصل أن الشخص يريد أن يكتب، ومتحمس للكتابة وأصلاً يمارس الكتابة، وعندما يسمع عن ورشة يقدمها الكاتب الفلاني، يأتي ليتعلم منه، وليس ليتعلم الكتابة. لا يمكن أن تتعلم الكتابة من كاتب محدد. من هنا أنا ضد تعليم الكتابة الإبداعية. لكن في الأخير هناك جدوى، وحين تجد الجدوى، تتراجع، وأنا تراجعت عن رأيي، وأعطيت هذه الدورة التي كانت متعة. وتعلمت من الشباب كثيراً من الأشياء. أولاً: تعلمت اللهجة الفلسطينية، تعلمتها جداً. ثانياً: تعلمت من أناس يبحثون عن متعة الكتابة، إذ كانوا يكتبون النص ثم يأتون إلى الصف لنقرأ ونتناقش. ومرة من المرات حضرت معنا الأخت ليلى شهيد، وجاءت لتشاهد كيف يحدث هذا وكانت سعيدة جداً. 

*** 

هنا انتهى الحوار مع بانة، وطرح الحضور الأسئلة التالية:

متعة الكاتب بالكتابة، هل هي في أثناء الكتابة، أم عند صدور الكتاب، أم وقت نقده؟ ثانياً، بعد أن يتحرر النص من الكاتب، يصير كل قارىء كاتباً للنص، برأيك، هل يتوافق القارىء لنص إلياس خوري مع الكاتب إلياس خوري؟

عليكِ أن تسألي القارئ. أنا لا أعرف لأن القارىء لا يحكي. القراء يقرأون ويقدمون انطباعاتهم، لكن لديهم الحقّ المطلق في قراءة النص والتفاعل معه كيفما يريدوا.

أمّا أنا حين أقرأ نصي، فأقرأه مرة للتصحيح، ومرة للترجمة. وفي كل مرة يختلف لأن كل قراءة تعطي النص معنى وإيقاعات. لكن أنا أكون سعيداً جداً حين أقرأ نصي، أو أراقب مراحل طبعه. 

سؤال شبه شخصي، مَن من أبطالك، يبقى معك، وتفكر فيهم، وتدير معهم حوارات؟ مَن من هؤلاء الشخصيات التي كتبتها استمرت تكبر بعد أن انتهت الرواية، وبقيت معك تستشيرها وتستشيرك، وتشتاق إليها وتشتاق إليك، أم إن الرواية تنتهي وينتهي معها؟

لا، كيف ينتهي! ما بيعود يحل عني. البطل ما بيحل عني. يعني يونس ونهيلة معي من "باب الشمس"، غاندي ما زال معي من "رحلة غاندي الصغير". ميليا في "إنها نائمة" ما زالت معي. آدم "ثلاثية أولاد الغيتو" معي كل الوقت. نناقش و"نتخانق" وما زال يعاتبني على ما أقول وأعاتبه على ما يقول. أبطالي معي دائماً، ووداد بطلة "مملكة الغرباء"، تطلّ عليّ دائماً، كلهم معي ويأتون لزيارتي، يمكن لأني مرضت، يأتون ليطمئنوا عليّ ويحبوني، ويدلعوني، ونتناقش. 

هل التقوا؟ مثلاً هل التقى آدم بيونس، أو يونس بوداد؟

لا، أخاف أن يلتقوا. أمنعهم، لأني أخاف أن يُخرجوا رواية غير. 

موضوع أطروحتي هو عن قدرتنا على استخدام الأدب كطاقة للشفاء. أحب أن أسألك انطلاقاً من تجربتك الشخصية مع المرض، هل شعرت بأن الأدب تمكّن من شفائك في هذه الفترة؟ وكيف تأثرت سرعتك في الكتابة أو أسلوبك؟

في البداية، إذا الكتابة شفاء أم لا، لا أعرف. لكن ما أعرفه أن الكتابة تساعد على أن تفهم. والفهم هو قدرة على الصمود، وقدرة على الشفاء. ثانياً، الكتابة تحرق الذي يكتب، هذا إن لم يكن مريضاً، فكيف إن كان على مرض، فإنها تحرقه أكثر كثيراً، وهذا الذي يغيّر للكاتب قليلاً من نظرته وقليلاً من أسلوبه وقليلاً من طريقته، ويُدخله إلى أماكن جديدة. المرض صعب ومؤلم ويحتاج إلى طاقة كبرى كي يستطيع الإنسان تحمّله، وخصوصاً في الوقت الذي يحترق بلده. يعني أنا من لبنان، ولبنان يحترق، وقلبي من فلسطين، وفلسطين تحترق. 

هل تخبرنا عن تجربة "مهضومة" في الكتابة لننهي اللقاء بابتسامة على وجوه الجميع؟

رواية "الوجوه البيضاء" هي عن رجل فقير كان يعمل في البريد، واستشهد ولده الوحيد. مرّ هذا الرجل بلحظات عصيبة على المستوى النفسي ووُجد في النهاية "يطرش" حيطان بيروت بالأبيض، ويبدو أنه قُتل مثلما هو مكتوب في الرواية. فمرة كنت جالساً في مكتبي في جريدة "السفير"، إذ يأتيني شاب يخبرني أنهم رأوا خليل أحمد دياب. قلت:"شو!" قال: "نعم، قرب فندق الكارلتون." سألت: "ماذا يفعل؟" أجاب الشاب: "يطرش". ذهبنا بالسيارة، ووجدنا شخصاً مثله تماماً. اللباس ذاته، وله اللحية ذاتها، و"الكبوت" ذاته، و"يطرش". تقدمت منه لأتحدث إليه، لم يرد. رمى "البويا" وهرب. ربما خاف من أن أكون قد أتيت لمحاسبته على ما يفعل. شعرت آنذاك بأن هذه القصة هائلة عن علاقة الواقع بالخيال، من دون أن أقوم أنا بربطهما، فقد خُلقا مربوطين.

Author biography: 

بانة عبد الله ماضي: طالبة دكتوراه، وتلميذة إلياس خوري، ومساعدته الأكاديمية.