Aspects of Elias Khoury Personality
Full text: 

سأخبركم كيف تعرّفت إلى الياس، وأحكي لكم عن بعض جوانب شخصيته.

في نهاية الستينيات، عندما كنا طلاباً، بدأنا بتدريس محو الأمّية للعمال في منطقة النبعة في بيروت.

كنّا نذهب، شقيقتي جاكلين وابنة خالتي مارلين وأنا إلى مدرسة فتحت لنا أبوابها في ساعات العصر بعد دوام التلاميذ.

ثم سافرتُ إلى سويسرا حيث التقيت باولو فريري – المربي البرازيلي الذي عمل وكتب في مجال محو الأمّية النضالية كوسيلة لمحاربة الاضطهاد – وقد وجّه إليّ بعض الملاحظات المفيدة عن أسلوبنا وشجّعني.

في سنة 1972، هدّد المكتب الثاني بإغلاق المدرسة إذا واصلنا أنشطتنا التي اعتبرها "تخريبية"، فنصحتنا المديرة بمواصلة نشاطنا، على أن يكون معنا عنصر ذكر واحد على الأقل، فاقترحتُ أن ينضمّ إلينا الياس خوري.

كنت أعرف الياس من دون أن أتحدث إليه، لأنني كنت أتابعه، فهو الهتّاف المحمول على الأكتاف في أثناء التظاهرات التي كانت كثيرة في تلك الأيام: تظاهرات احتجاج؛ تظاهرات طلابية؛ تظاهرة 23 نيسان / أبريل 1969 الدامية؛ وغيرها.

وافق الياس بحماسة على الانضمام إلينا، وواصلنا "أنشطتنا التخريبية" معه بنجاح.

بعد ذلك حصل الياس على منحة للدراسة في فرنسا، وكنا قد أصبحنا قريبين جداً، فقررنا الزواج ومواصلة دراستنا معاً في باريس. زوّجنا صديقه المطران جورج خضر، وأقمنا الحفلة مع عمالنا في النبعة. 

الياس والكتابة

خلال إقامتنا في فرنسا كتبنا قصة قصيرة باللغة المبسّطة لتلاميذنا العمّال في بيروت، هي قصة "حكاية حامد السلطان". وقد خطّطها فؤاد طنب، ورسمت الرسوم ليلي بُلّاطة التي استلمت مهمات التدريس بعد سفرنا.

صوّرنا الكتاب نسخاً فوتوغرافية على ورق مقوّى: 30 صفحة، 100 نسخة، ولم نذكر أياً من أسمائنا سوى "سلسلة الثقافة للشعب -1-"، 1972، والمصدر: "مقتبسة بتصرّف عن قصة يوسف إدريس 'سرّه الباتع' من كتاب حادثة شرف." 

 

غلاف قصة "حكاية حامد السلطان"

المصدر: من تصوير المؤلفة.

في بيروت، درس الياس في مدرسة "الراعي الصالح" في الأشرفية، حيث تعلّم اللغة الإنجليزية، وعند وصولنا إلى باريس تابع دورات مكثفة في اللغة الفرنسية طوال أيلول / سبتمبر. قال لي: "الشمس مؤنث في العربية والقمر مذكر، لماذا يقلب الفرنسيون الجنسين؟" كان يمزجهما أحياناً عن غير قصد، وأحياناً كان يفعل ذلك قصداً، للمتعة.

قبل الكمبيوتر، أي قبل سنة 2010، كان الياس يكتب رواياته بخطّ يده، بقلم الحبر. وإذا دخلت إلى مكتبه في البيت، كنت بمجرد أن أرى الورقة أمامه أعرف من خطّ يده ما إذا كان يكتب رواية أم مقالة.

 

عيّنة من خطّ يده كروائي

 

عيّنة من كتاباته الصحافية الأُخرى

المصدر: من تصوير المؤلفة.

 

كان الياس يمتلك قدرة مذهلة على التركيز، ولم أكن أقاطعه قط عندما كان يكتب رواية:

مرة، في سنة 1989، بدأت عمليات القصف العشوائية، فلجأت مع عبلة وطلال، طفلينا، إلى الممر لنحتمي بين الحائطَين من الشظايا. ناديتُه وركضت إلى مكتبه. كان يتابع كتابته. لم يسمع صوتي ولا صوت القصف.

وبمجرد مغادرتنا الغرفة، انفجرت قذيفة أمام المبنى، وغطّت شظايا الزجاج طاولة المكتب.

حاول لاحقاً إنقاذ أوراقه، لكن من دون جدوى، وأخيراً قال لي: "لا يهمّ، لأنني سأعيد كتابتها كلها على أي حال."

وعندما كان ينتهي من كتابة روايته، يتركها "تنام" عدة أسابيع، ثم يعيد قراءتها من جديد، ويعيد كتابتها كاملة.

وتيمناً برواية "باب الشمس"، نصب نحو 250 شابة وشاب في سنة 2013، الخيام لإنشاء "قرية باب الشمس" شرقيّ القدس. وكان هذا الحدث مصدر فرح كبير لالياس"أهم من كل الجوائز!" وصورة هذا المخيم لا تزال على شاشة كمبيوتره. 

الياس الزوج

أمضينا 53 عاماً من الحياة معاً في علاقة وثيقة، من دون أن نعرف ما إذا كان ذلك بفضل حبّنا، أم بفضل الصداقة العميقة التي تربطنا.

أخبرته أنني ندمت على دراستي لعلم الاجتماع لأنني كنت أتمنى دائماً أن أصبح معلمة أطفال في صف الروضة. وعندما حان وقت التحاق طفلَينا بالمدرسة، قال لي: "لديك سنة واحدة لاستئناف أي دراسة تريدينها، وسأعتني أنا بكل شيء." وفعلاً اهتم بكل شيء عاماً كاملاً، فضلاً عن عمله في مجلة "شؤون فلسطينية"، ونضاله في الحيّ مع السريّة الطلابية.

أسستُ فرقة "صندوق الفرجة" للدمى، وعلى مدى عشرين عاماً، حوّلت شقتنا السكنية إلى ورشة عمل. لم يشجعني الياس فحسب، بل كان مهتماً حقاً بعملنا: يناقش معنا النص والموسيقى والتمثيل... وبما أن فرقتنا كانت متجولة، فقد كان يرافقنا، ويحمل المواد معنا، ويساعد في العروض التي كان يدعو أصدقاءه إليها.

لم تنتهِ صداقتنا عند هذا الحد، بل كان يقرأ لي كل سطر يكتبه. أمّا أنا فلم أنشر كتاباً واحداً إلّا وكان قد قرأه، وناقشه، وصحّح عيوبه اللغوية، وطبعاً مع تشجيعه الدائم لي على الاستمرار. 

الياس الأب

كانت حياتنا العائلية هي الأولوية بالنسبة إلينا، وفعلنا كل ما في وسعنا من أجل سعادة ولدَينا وسلامتهما ورفاهيتهما. وها هما قد كبرا، وأصبحا مصدر فخر وفرح له طوال حياته.

خلال حفل تكريم الياس في معهد العالم العربي في باريس، طُلب مني أن ألقي كلمة، فسألت الأولاد أن يلخّصوا رأيهم فيه بكلمة واحدة. فقالت عبلة إنه "أكبر من الحياة"، وطلال: "لقد كان دعماً لي في جميع مراحل حياتي"، وريّان ماجد، زوجة طلال، قالت إن "ميزته الكرم"، أمّا يامن الذي كان مصدر سعادة إضافيّة دائمة له، فهو حفيدنا و"حفيد امرىء القيس"، مثلما أقنعه جدّه الياس بذلك، فقال لي إن "الياس كريم، لطيف ومضحك، وأحبّه كتير كتير وأحبّ ان أقضي وقتاً برفقته. عندما أطلب منه أخذ شيء من بيتكم يقول لي إن بإمكاني أخذ الكنباية أيضاً!"

أضيف بدوري ميزة "النبل" إلى هذه الصفات، لأنه يتمتع بصفات أخلاقية عالية، فهو موضع ثقة، وإنسان شهم وشجاع وسموح.

وقد كتب الياس لحفيدنا يامن، في ذكرى عيد ميلاده الأول، قصة قصيرة خيالية عن ولادته وأصله وفصله، مُقنعاً إياه بأنه حفيد "امرىء القيس الذي لُقّب باليامن البارودي الأزرعي الكِندي". وهي قصة يتخلّلها الشعر والفكاهة، وتنتهي بهذه الفقرة: "يومها بدأتْ مسيرة الصبي الذي اكتشف أنه حين يمشي لا يمشي على الأرض فقط، بل يمشي على الكلمات والذكريات والأسماء، وأن في خطواته ذاكرة جديدة تبدأ." 

الياس في الحيّ

في منطقة "عائشة بكّار" في بيروت الغربية ذات الأغلبية المسلمة، عشنا الحرب الأهلية كلها، وأعدنا تكوين عائلة جديدة اختارتنا واخترناها من الجيران وسكان الحيّ الذي تبنّانا بكل صدق وثقة.

أول عامَين من الحرب كانا مليئين بالحماسة والتفاؤل والوهم، فقد كنا واثقين بأننا نبني مستقبلاً لا فقر فيه ولا ظلم، وبأننا سنغير العالم. كان الياس ناشطاً مع شباب الحيّ وانخرط معهم في فتح مستوصف، وإعادة فتح المدارس المغلقة آنذاك.

كنا نحتفل مع أهل الحي بعيد الميلاد، وكان كل طفل من أطفال الحيّ يجد هديّته الصغيرة معلّقة على الشجرة، واسمه عليها، وكنا نتفاجأ معه ونتساءل من أين أتت.

عيد الفطر كان العيد الأساسي: ملابس جديدة، ومراجيح، وإفطارات مع أهل الحي... وفي شهر رمضان، كان الطبال يأتي في وقت السحور أمام بناية "برج الأزهر" التي كنا نسكن فيها، ليوقظ الياس، وكانت كنيته في الحيّ "أبو خالد": "يا أبو خالد وحّد الله / قوموا على سحوركم / جايِ النبي يزوركم / يا صايم وحّد الدايم / ..."

تلك كانت أجمل الأيام. انتهت الحرب ورجعنا إلى الأشرفية. فكّرنا جدّياً في أن نعود إلى "عائشة بكّار"، واستوعبنا أن منهم مَن هاجر، مثل محمد منصور، ومنهم من توفّاه الله، مثل أصدقائنا من آل جلّول والمغربي وشهاب، لكننا لا نزال على صلة مع الباقين، مع الأولاد والأحفاد، ولا سيما عائلة كامل طبّارة التي دامت صداقتنا معها 50 عاماً متواصلة. 

الياس ورفاقه

يحبّ الياس الناس، ولدَيه كثير من الأصدقاء الذين لا يسعني أن أذكرهم جميعاً.

كنّا نذهب إلى كنيسة "مار الياس بطينا" بمناسبة عيد مار الياس وأحد الشعانين، مع أصدقائنا، ومنهم "محمد شبارو"، وكُنيته "طلال". وقد استشهد طلال في معركة صنين، وسمّينا ابننا "طلال" على اسمه، كما أن الياس أهدى كتابه "الجبل الصغير"، "إلى ذكرى محمد شبارو ورفاقه."

خلال الحرب الأهلية، سقط رفاقنا، إخواننا في عائلتنا الجديدة، وكنّا لا نزال كلنا في العشرينيات من أعمارنا. لقد ضحّوا بحياتهم من أجل تحقيق حلم بناء بلد من دون طائفية وعنصرية واستغلال.

بدّلنا لوحاتنا الفنية المعلقة على الحائط بملصقاتهم، وكان الياس يصرّ على أن يختار صورة جميلة للشاب الشهيد، وألواناً غير مألوفة في تلك الأيّام. جاء محمود درويش ذات يوم، وكنت أعلّق صورة "طوني النمس"، الشاب الصغير المرح الذي علا صوته "الله أكبر" قبل أن يصاب ويستشهد. دخل محمود إلى الصالون وصرخ "يكفي!" ونزع الملصقات كلها، قائلاً: "هم أحياء في قلبك وذاكرتك وليس بصورهم على الورق."

وأنا أكتب هذه السطور، تذكرت ما قاله يونس لخليل، عندما علّق غصن البرتقال في بيته، وممنوع أكله لأنه "من الوطن": "يا عيب الشوم!... بدل أن تعلق بلادك على الحائط، اكسر الحائط واذهب. يجب أن نأكل كل برتقال العالم ولا نخاف، فوطننا ليس حبات برتقال، وطننا نحن."*

هنا، أود أن أشكر جميع الأصدقاء على تعاطفهم معنا، وأود أيضاً أن أقول لهم إن كتابات الياس هي التي ستبقى وتُبقيه حاضراً بينكم وبيننا. 

الياس في السنة الأخيرة

53 عاماً من العيش معاً، 52 منها مليئة بالسعادة.

لقد كانت سنة 2023/2024 سنة المعاناة الجسدية والنفسية.

معاناة جسدية لأنه خضع لـ 6 عمليات جراحية، وكل الشكر والتقدير للأطباء والممرضات الذين تابعوا الياس بكل ضمير وتفهّم وإنسانية.

معاناة نفسية لأنه كان عاجزاً عن متابعة حياته الطبيعية: إنسان اجتماعي، يلتقي بأصحابه في المقاهي، يسهر معهم، يحبّ السباحة، يذهب إلى "جلال الترمس" في جون حيث بَنَت لنا أختي بيتاً مستقلاً وبركة للسباحة على شرَفه. غير أن المعاناة الحقيقية كانت عدم قدرته على كتابة "مشروع رواية الكوليرا" – مثلما كتب على الملف الذي يتضمن فقط ملاحظات عن بُنية الرواية، 5 فصول، الشخصيات ومواصفتها، الأمكنة... – وعدم قدرته على إكمال روايته "وصف الربيع" – مثلما كتب على الملفّ الآخر، وكان نشر الفصل الأول في مجلة "مواقف"، العدد 39 (1980) – بعنوان "الورقة البيضاء"، وفي الحاشية على الصفحة الأولى من الرواية "الفصل الأول من رواية 'الربيع'، التي تصدر قريباً." 

ما تبقّى لنا وعلينا

لقد كانت تلك السنة سنة من الحزن والتردد وخيبة الأمل بالنسبة إليّ:

الحزن، لأنني لم أتمكن من تخفيف معاناته، إذ كانت أولويتي المطلقة هي أن يتلهّى وينسى همومه وآلامه، مهما يكن الثمن.

والتردد، لأنني تساءلت عمّا إذا كان ينبغي لي أن نقوم معاً بترتيب جميع أوراقه. قال لي: "سنفعل ذلك لاحقاً، هناك أمور أكثر إلحاحاً: الوضع في غزة له أولوية، لا يمكن أن أسكت."

وخيبة الأمل، لعدم الإصرار عليه من أجل أن نفرز مخطوطاته المبعثرة، إذ لم أفهم آنذاك أن غداً، أو لاحقاً، لن يكونا هناك للقيام بذلك معاً.

بدأت أنا وابنتي عبلة بفرز مخطوطات الروايات والمسرحيات المكتوبة والمعاد كتابتها، وكذلك صفحات وصفحات من المحاضرات، والدورات الجامعية، والرسائل، والمقابلات، والنصوص غير المكتملة، والمسودات، والأوراق المتناثرة... بعضها بلا عنوان، أو بلا تاريخ، أو بلا ترقيم، أو بلا شيء تماماً، لكننا استطعنا التمييز بينها وفقاً لخطّه أو جودة الورق أو لون الحبر.

علاوة على الروايتين غير المكتملتين، هناك محاضرات لا ندري ما إذا نُشرت أم لا، ومقابلة مخطوطة مع المطران جورج خضر، أُجريت على مراحل في بيتنا في عائشة بكّار.

وهناك أيضاً 3 مسرحيات غير منشورة: 3 نسخ من "مذكرات أيوب"، وكان الممثل والمخرج روجيه عسّاف ترجمها إلى الفرنسية، ونشرها في سنة 2024؛ نسختان من مسرحية "حبس الرمل"؛ مسرحية ثالثة ذات فصلين: "أيوب في المرآة"، و"بيروت في المرآة".

لم يتضح لنا بعد، بالكامل، ما يجب أن نفعله بهذه الوثائق، ولهذا تركنا المخطوطات غير المنشورة "تنام" لنعيد قراءتها من دون انفعال، وربما نجد بعض المسودات الإضافية، كي نقارن نوعية الورق ولون الحبر، ونتخذ القرار السليم.

 

* الياس خوري، "باب الشمس" (بيروت: دار الآداب، 1998)، ص 29.

Author biography: 

نجلا جريصاتي خوري: زوجة الأستاذ الياس خوري، وهي باحثة وكاتبة في التراث الشفهي وأدب الأطفال.