The Crime of Apartheid in International Court of Justice’s Advisory Opinion
Full text: 

أصدرت المحكمة فتواها بشأن الآثار القانونية الناشئة عن السياسات والممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة في 19 تموز / يوليو 2024، وتناولت في هذه الفتوى الآثار القانونية المترتبة على اعتماد إسرائيل تشريعات وإجراءات تمييزية، إذ رأت المحكمة أن نطاق استفسار الجمعية العامة لا يشمل طلب رأي المحكمة بشأن جميع انتهاكات حقوق الإنسان التي تقع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بل إن نطاق الاستفسار كان محدوداً بأربعة جوانب محددة، وهي:

أولاً، اقتصار التحليل على التشريعات والإجراءات الإسرائيلية التي ترتبط بالسياسات والممارسات التي تمت مناقشتها في الرأي الاستشاري، وهي انتهاك إسرائيل المستمر لحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير المصير واحتلالها الطويل الأمد للأراضي الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967 واستيطانها وضمّها إليها.

ثانياً، دراسة التشريعات والإجراءات الإسرائيلية فقط بقدر تطبيقها في أراضي 67، وبالتالي لن يتم النظر في أي سياسات تنطوي على طابع تمييزي في داخل "الأراضي الإسرائيلية".

ثالثاً، يقتصر السؤال على الطابع التمييزي المحتمل للتشريعات والتدابير الإسرائيلية، أي تتمثل مهمة المحكمة في فحص ما إذا كانت التشريعات التي اعتمدتها أو الإجراءات التي اتخذتها إسرائيل فيما يتعلق بالسياسات والممارسات التي تم تحديدها، تؤدي إلى التمييز.

رابعاً، فحص ما إذا قامت إسرائيل باعتماد تشريعات أو اتخذت إجراءات تمييزية ذات طابع منهجي.[1]

وللوصول إلى نتيجة بشأن الآثار القانونية المترتبة على اعتماد إسرائيل تشريعات وإجراءات تمييزية، درست المحكمة مفهوم "التمييز" قانونياً، استناداً إلى القانون الدولي العام وقانون حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، إذ كان على المحكمة أن تحدد ما إذا كانت التشريعات التي اعتمدتها إسرائيل والإجراءات التي اتخذتها تُعتبر "تمييزية" على أساس الإثنية أو الدين أو العرق بين الفلسطينيين وأعضاء مجموعات أُخرى فيما يتعلق بتمتعهم بحقوق الإنسان، ثم عليها أن تحدد ما إذا كان التمييز في المعاملة مبرراً على الرغم من أنه تمييزي، من حيث كونه معقولاً وموضوعياً ويخدم هدفاً عاماً مشروعاً.[2] لذلك، قامت المحكمة بفحص ثلاث ممارسات رئيسية تفرضها إسرائيل على الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهي: أولاً، سياسة تصاريح الإقامة التي تتّبعها إسرائيل في القدس الشرقية؛ ثانياً، القيود التي تفرضها إسرائيل على حركة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة؛ ثالثاً، هدم الأملاك الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية.

وخلصت المحكمة فعلاً إلى أن هذه الأفعال والتشريعات الإسرائيلية هي تمييزية ضد الفلسطينيين في المحاور الثلاثة المذكورة أعلاه من دون وجود مبرر لهذه التفرقة، فهذه السياسات التمييزية لا ترمي إلى تحقيق هدف عام مشروع؛ فعلى سبيل المثال، رأت المحكمة أن سياسة إسرائيل المتعلقة بتصاريح الإقامة في القدس الشرقية، تفضي إلى تفرقة في معاملة الفلسطينيين في حقّهم في الإقامة في القدس، وهذا يخالف المادة 5 (د) "1" من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، وكذلك المادة 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. كما تؤدي إلى تفرقة في معاملة الفلسطينيين فيما يتعلق بحقّهم في الحياة الأُسرية، وفقاً لما تنصّ عليه المادة 10 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والمادة 17 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.[3] بل أكثر من ذلك، رأت المحكمة أن نظام التصاريح التمييزي يأتي تعزيزاً لضمّ إسرائيل القدس الشرقية، والذي يُعتبر بحد ذاته فعلاً غير قانوني، وعليه، لا يمكن تبرير أي تفرقة في المعاملة استناداً إلى تعزيز سياسة إسرائيل الاستيطانية، أو سياسة الضم غير المشروع.[4]

ولعل واحدة من أهم النقاط التي أثارت خلافاً بين قضاة المحكمة، ثم بين الفقهاء القانونيين في محاولة تفسير فتوى المحكمة، هي إشارة المحكمة إلى المادة 3 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، والتي تنصّ على دور الدول الأطراف في منع وحظر العزل العنصري والفصل العنصري في الأقاليم الخاضعة لولايتها. فقد توصلت المحكمة إلى "أن التشريعات والتدابير الإسرائيلية تفرض فصلاً شبه كامل في الضفة الغربية والقدس الشرقية بين المجتمعات المحلية للمستوطنين والفلسطينيين، وتعمل على إدامة ذلك. ولهذا السبب ترى المحكمة أن التشريعات والتدابير الإسرائيلية تشكل انتهاكاً للمادة 3 من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري."[5]

وقد يكون السؤال الأبرز قانونياً فيما يتعلق بالاستنتاج القانوني أعلاه، هو ببساطة: هل خلصت المحكمة إلى أن ممارسات إسرائيل التمييزية ترقى إلى فصل عنصري (apartheid)، أم إلى عزل عنصري (segregation)؟ فعلى الرغم من أن كلا الفعلين يشكل انتهاكاً للقانون الدولي بشأن حقوق الإنسان وفقاً لاتفاقيات حقوق الإنسان، فإن الفصل العنصري يمثل أيضاً جريمة بموجب القانون الدولي الجنائي. ومن الجدير بالذكر، أن القانون الدولي بشأن حقوق الإنسان، في اتفاقية منع التمييز العنصري، لم يُعرّف "الفصل العنصري"، بينما قام القانون الجنائي الدولي بتعريف جريمة الفصل العنصري في كل من الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري، والمعاقبة عليها، لسنة 1973، وميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية لسنة 1998، باعتبارها جريمة ضد الإنسانية. ويرى جزء كبير من الفقهاء، وبينهم بعض قضاة المحكمة، مثل القاضي برانت في إعلانه الخاص بشأن فتوى المحكمة، أنه على الرغم من أن هذا التعريف وُضع في سياق المسؤولية الجنائية الفردية، فإنه يمكن الاستنتاج أن الفصل العنصري يُعرّف بالطريقة نفسها فيما يتعلق بالمسؤولية الدولية للدول.[6]

وهكذا يترتب على الحكم بوجود نظام فصل عنصري أن يُجرّم قانونياً، أي إمكان للمحاسبة القانونية للمعتدي، كما يرتب التزامات قانونية على الدول الأُخرى الأطراف في المعاهدة الدولية. وبتحليل الفقرة 223 من فتوى المحكمة، نلحظ أن المحكمة رأت أن التمييز الذي تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة يشكل "تمييزاً بُنيوياً".[7] ولعل استخدام هذا المصطلح يدل على وجود نظام ممأسس من القمع والهيمنة، وهو ما يتشابه مع تعريف الفصل العنصري قانونياً.[8] ومع ذلك، ومن خلال دراسة الآراء المنفردة لقضاة المحكمة، يمكن التوصل إلى نتيجة فحواها أنه كان هناك نقاش جاد بين قضاة المحكمة بشأن مدى ارتكاب إسرائيل جريمة الفصل العنصري أم العزل العنصري، وأن القضاة توصلوا إلى تسوية هي عدم ذكر جريمة الفصل العنصري بشكل واضح في الرأي، والاكتفاء بالإشارة إلى مخالفة إسرائيل للمادة الثالثة أعلاه، التي تذكر الفصل العنصري والعزل العنصري، من دون الخوض في عناصر الجريمة نفسها. ومع ذلك، فإن وصف التمييز الإسرائيلي بأنه "بُنيوي" يُعدّ دلالة على ترجيح المحكمة أن هذا التمييز البُنيوي يؤسس فعلاً لجريمة الفصل العنصري.[9]

وبتحليل الآراء المنفردة والإعلانات الخاصة بالقضاة في فتوى محكمة العدل الدولية بشأن الآثار القانونية الناشئة عن سياسات إسرائيل وممارساتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، نلحظ تطرق بعضهم إلى مسألة جريمة الفصل العنصري، ومدى ارتكاب إسرائيل لها. وبصورة عامة، تنقسم الآراء إلى مجموعتين: الأولى ترى أن الفتوى تشير إلى أن الممارسات والسياسات الإسرائيلية ترقى إلى جريمة الفصل العنصري، بينما لم تجد المجموعة الأُخرى معلومات كافية لدى المحكمة لاستنتاج توافر جميع العناصر الخاصة بجريمة الفصل العنصري في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

ذكر رئيس القضاة، القاضي نواف سلام، في رأيه المنفرد، أن حظر نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) يشكل قاعدة عُرفية في القانون الدولي، وهو معترف به كقاعدة آمرة (Jus Cogens) لا يجوز الخروج عنها بأي شكل من الأشكال، ويُعدّ انتهاكها جريمة ضد الإنسانية؛ لكنه أقرّ بأنه ليس ملائماً للمحكمة أن تسعى في هذا الرأي الاستشاري لتحديد العناصر المكونة لنظام الفصل العنصري في القانون الدولي العرفي كونه خارج نطاق سؤال الجمعية العامة.[10] وخلص القاضي سلام إلى نتيجة واضحة، من خلال تطبيق ما اعتبره العناصر التي تشكل جوهر جريمة الفصل العنصري،[11] وهي أن ارتكاب إسرائيل أعمالاً غير إنسانية ضد الفلسطينيين كجزء من نظام مؤسساتي قائم على القمع والسيطرة المنهجيَّين، ونيّتها الحفاظ على هذا النظام، يُعتبران بلا شك تعبيراً عن سياسة ترقى إلى الفصل العنصري.

وأكد القاضي تلادي، في إعلانه أن استنتاج المحكمة بشأن المادة 3 من اتفاقية الفصل العنصري، إنما يفسَّر على أن سياسات إسرائيل وممارساتها تشكل خرقاً لحظر الفصل العنصري، والذي هو في حد ذاته قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي. كما أيّد استنتاج رئيس القضاة سلام أن هناك عناصر مشتركة في التعريفات الخاصة بجريمة الفصل العنصري، وهي: "وجود مجموعة أو أكثر من المجموعات العرقية، وارتكاب فعل أو أكثر من الأفعال اللاإنسانية ضد مجموعة عرقية واحدة أو أكثر بشكل منهجي، وارتكاب تلك الأفعال بهدف فرض الهيمنة والحفاظ عليها." وأشار إلى أنه كان لدى المحكمة فرصة لاعتماد تعريف للفصل العنصري وفق القانون الدولي العرفي، وأن امتناعها من القيام بذلك يجب ألّا ينتقص من قوة استنتاجها.[12] وأكد القاضي برانت أيضاً، في إعلانه الخاص، تعريفَ الفصل العنصري بما يتعلق بمسؤولية الدول وفقاً للأركان ذاتها التي ذكرها القضاة السابقون، علاوة على دلالته على توفر أركان جريمة الفصل العنصري في الحالة الفلسطينية.[13]

وفي المقابل أكد القاضي الألماني نولتي في رأيه المنفرد أنه في ظل غياب أي مناقشة لعناصر جريمة الفصل العنصري، وخصوصاً العنصر المعنوي، لا يمكن فهم الرأي الاستشاري على أنه يخلُص إلى أن إسرائيل انتهكت حظر الفصل العنصري، ولا سيما أن انتهاك حظر الفصل العنصري هو قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي يستوجب "إثباتها بأدلة قاطعة تماماً."[14] فقد فسر نولتي فتوى المحكمة على أنها توصلت إلى نتيجة فحواها أن التشريعات والإجراءات الإسرائيلية تشكل خرقاً للمادة 3 من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، لكنها تركت مسألة ما إذا كانت سياسات إسرائيل وممارساتها تشكل شكلاً من أشكال الفصل العنصري أو العزل العنصري مفتوحة للنقاش.

وفي تحليله لمدى توافر أركان جريمة الفصل العنصري، أشار نولتي إلى رأيه بعدم وجود معلومات كافية لدى المحكمة لاستنتاج العنصر المعنوي لجريمة الفصل العنصري في حالة الأراضي الفلسطينية المحتلة. بل أكثر من ذلك، أوضح أنه لإثبات القصد الخاص في جريمة الفصل العنصري، فإن على المحكمة أن تجد ما إذا كان لدى الدولة نية الحفاظ على نظام مؤسساتي قائم على الاضطهاد والسيطرة المنهجيّين من جانب جماعة عرقية واحدة إزاء جماعة أو جماعات عرقية أُخرى، وأن يكون هذا "الاستنتاج هو المعقول الوحيد" من سلوكها؛ أي فسر القصد الخاص في جريمة الفصل العنصري بشكل مماثل للقصد الخاص في جريمة الإبادة الجماعية. وفي حالة فلسطين، أثار القاضي نولتي شكوكه في نية إسرائيل الإبقاء على نظام فصل عنصري، إذ أوضح أنه ربما يكون هناك قصد أخر تسعى إسرائيل لتحقيقه، مثل وجود دواعٍ أمنية، أو بهدف فرض السيادة على الضفة الغربية. وبالتالي، خلص إلى نتيجة هي أنه لا يمكن اعتبار هذه النية الخاصة موجودة إلّا عندما تكون التفسيرات البديلة غير محتملة.[15] وفي المقابل، رأى القاضي إيواساوا أن المحكمة من خلال رأيها الاستشاري أكدت أن إسرائيل تنفذ سياسة "عزل" في الضفة الغربية بين السكان الفلسطينيين والمستوطنين من دون أن تصفه بالفصل العنصري. كما أشار إلى أن جريمة الفصل العنصري مثل جريمة الإبادة الجماعية، تتطلب وجود قصد خاص (dolus specialis) تجاه مجموعة معينة،[16] من دون أن يشير بشكل واضح إلى ضرورة أن يكون "الاستنتاج المعقول الوحيد" من سلوك الدولة هو نية الحفاظ على نظام مؤسساتي قائم على الاضطهاد والسيطرة المنهجيّين لمجموعة عرقية، مثلما أشار القاضي نولتي.

وبفحص قراءة نولتي للقصد الخاص، يبدو كأنه يحاجج فيما إذا كان الهدف الإسرائيلي هو بسط السيادة على الضفة، وبالتالي، لا يمكن استنباط نية الفصل العنصري لوجود "قصد آخر ممكن ومنافس للفصل العنصري." غير أن هذه القراءة فيها إشكالية، وذلك لثلاثة أسباب رئيسية.

أولاً، لا يوجد أي دليل قانوني على ضرورة أن تكون نية الحفاظ على نظام مؤسساتي قائم على الاضطهاد والسيطرة المنهجيّين هي "الاستنتاج المعقول الوحيد" من سلوك الدولة؛ فقد أكد القاضي تلادي أنه ليس من الضروري من أجل إثبات غرض أو نية السيطرة والهيمنة، أن تكون السيطرة العرقية هي السبب الوحيد أو الأساسي للإجراءات التمييزية، وأوضح ذلك مستخدماً مثال جنوب أفريقيا، بلده الأم، قائلاً إن جنوب أفريقيا في عهد الفصل العنصري لم تروّج لسياساتها من أجل السيطرة العرقية فقط، بل أيضاً لضمان ما سمّته "التنمية المتساوية لكن المنفصلة."[17] وعليه، ربما يكون هناك أكثر من قصد نابع من الإجراءات التمييزية، وقد يكون أصعب شيء هو استنتاج قصد واحد وحيد في ظل النزاعات المسلحة التي قد تتلاقى خلالها إرادات متنوعة.

ثانياً، تحديد معيار القصد الخاص ذاته في جريمة الفصل العنصري، وبشكل شبيه بجريمة الإبادة، إنما يؤدي إلى إشكالية فحواها: ما احتمال إثبات هذا الجرم؟ فالمعيار اللازم للاستدلال على نية الإبادة الجماعية مرتفع جداً، إلى درجة تجعل إثبات وقوع جريمة الإبادة الجماعية شبه مستحيل، وهو أمر جرى انتقاده بشكل متكرر أمام محكمة العدل الدولية، ومن طرف حقوقيين مختلفين،[18] كما أن تحديد المعيار ذاته بما يتعلق بالقصد الخاص في جريمة الفصل العنصري يؤدي إلى تفريغ التجريم من محتواه، ويجعله بلا جدوى.

ثالثاً، تكمن هذه الإشكالية في أن العديد من القانونيين، وخصوصاً أولئك القادمين من الشمال العالمي، عندما يحللون فلسطين، يبدأون التحليل من سنة 1967، أو يتناولون فقط ما يحدث للفلسطينيين في أراضي 67. وبالتالي، فإن أي تحليل لنظام الفصل العنصري، أو أي جريمة تحمل تشكلات بُنيوية متعددة، بمعزل عن قراءة تاريخية للاستعمار الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية منذ سنة 1948، يؤديان إلى تحليل جزئي غير متكامل بنتائج مشوهة حقوقياً.

فمثلاً، محكمة العدل الدولية التي اقتصر اختصاصها على حدود سنة 1967 مثلما طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة في سؤالها بشكل واضح، لم تتمكن من تقديم فهم شامل يتعلق بفلسطين، لأن رؤيتها اعتمدت فقط على مقاربة تعتمد على مركزية فعل الاحتلال من دون النظر إلى الاستعمار الاستيطاني كمظلة أساسية لفهم الواقع الفلسطيني. وقد تناول العديد من الحقوقيين والأكاديميين العالميين والفلسطينيين إشكاليات حصر القضية الفلسطينية في فعل الاحتلال، أو الفصل العنصري، كأنها المركزية الأساسية في التعامل مع الحالة الفلسطينية؛ فمنهم مَن يجادل في أن القانون الدولي يتجاهل الاستعمار ويتغاضى عن تواطؤ القانون الدولي والمنظومة الدولية في دعم هذا النظام،[19] ومنهم مَن يرى ضرورة استخدام مجموعة من الجرائم القانونية مجتمعة للوصول إلى فهم قانوني شامل بشأن فلسطين،[20] وآخرون يدعون إلى خلق تصنيفات قانونية جديدة مثل تجريم "النكبة" كجريمة دولية.[21] ومع وجود هذه النظريات والنقاشات القانونية، تتأكد مقولة أن القانون الدولي هو أداة سياسية تُستخدم لتعزيز قيم معينة، أو اكتساب حقوق محددة،[22] من دون أن تسمح بتحدي النظام الدولي القائم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وبالتالي، فإننا، كحقوقيين فلسطينيين، كثيراً ما نجد أنفسنا نخوض محاولات جاهدة لجعل القانون الدولي يتسع لوصف الحالة الفلسطينية. فمثلاً، محاولاتنا قراءة فتوى محكمة العدل الدولية على أنها إقرار بأن ما يحدث في فلسطين (أراضي 1967) هو فصل عنصري، هي أيضاً من باب المحاولة لدفع حدود القانون الدولي إلى مدى أبعد في توصيف الحالة الفلسطينية، حتى إن كان ذلك بشكل جزئي.

إن الممارسات والتشريعات الإسرائيلية التي ترقى بطبيعة الحال إلى جرائم دولية، لا تعدو أن تكون وسائل أو أدوات لخلق واقع استعماري استيطاني إحلالي، وبالتالي، نصل إلى نتيجة هي أنه لا يمكن فصل ما يحدث في المستعمرة الأولى عمّا يحدث في المستعمرة الثانية (يقترح أباهر السقا استخدام تعبير "المستعمرة الأولى" لوصف المناطق الفلسطينية التي استعمرتها إسرائيل في سنة 1948، و"المستعمرة الثانية" لتوصيف المناطق التي استعمرتها إسرائيل في سنة 1967، وذلك من باب وحدة المصير).[23] إن خلق نظام استعماري استيطاني يتطلب بالضرورة استخدام جرائم متنوعة تجاه سكان المستعمرتين، مثلاً ممارسة الإبادة الجماعية في غزة، والفصل العنصري في أراضي 67 وفي أراضي 48، وضمّ أراضٍ وبسط السيادة في الضفة الغربية وضمّ القدس. إن عدم قراءة هذه الجرائم في ظل سطوة نظام استعماري متكامل، ومحاججة البعض، ومن ضمنهم بعض قضاة المحكمة، أن القصد الخاص في جرائم الإبادة والفصل العنصري، يتطلب عدم وجود "أي قصد آخر منافس للقصد الأساسي"، ربما يعني عدم إمكان إثبات الجرائم على إسرائيل، ولا سيما أن هذه الجرائم كلها ما هي إلّا أدوات للاستعمار، والتي لا بد من أن تتلاقى أو تتتابع في عدة فترات. بناء على ذلك، وعلى الرغم من أهمية فتوى محكمة العدل الدولية بشأن جريمة الفصل العنصري وعدم شرعية الاحتلال، فإن من الضروري تطوير القراءة القانونية للقانون الدولي ليكون أكثر شمولية وعدلاً تجاه الحالة الفلسطينية.

 

المصادر:

[1] International Court of Justice, Legal Consequences Arising from the Policies and Practices of Israel in the Occupied Palestinian Territory, Including East Jerusalem, Advisory Opinion, 19 July 2024, paragraphs 180-184.

[2] Ibid., paragraph 191.

[3] Ibid., paragraph 194.

[4] Ibid., paragraph 196.

[5] Ibid., paragraph 229.

[6] International Court of Justice, Declaration of Judge Brant, Legal Consequences Arising from the Policies and Practices of Israel in the Occupied Palestinian Territory, Including East Jerusalem, Advisory Opinion, July 19, 2024, paragraph 9.

[7] Ibid., paragraph 223.

[8] تعريف الفصل العنصري وفقاً لميثاق روما في المادة 7 / 2 / ح، هو: "أي أفعال لاإنسانية تماثل في طابعها الأفعال المشار إليها في الفقرة 1، وتُرتكب في سياق نظام مؤسساتي قوامه الاضطهاد المنهجي والسيطرة المنهجية من جانب جماعة عرقية واحدة إزاء جماعة أو جماعات عرقية أُخرى، وتُرتكب بنيّة الإبقاء على ذلك النظام."

[9] Victor Kattan, “Apartheid or Systemic Discrimination? A Connotative Reading of the ICJ’s Advisory Opinion”, Verfassungsblog, 17 October 2024.

[10] International Court of Justice, Declaration of President Salam, Legal Consequences Arising from the Policies and Practices of Israel in the Occupied Palestinian Territory, Including East Jerusalem, Advisory Opinion, 19 July 2024, paragraphs 17, 20.

[11]Ibid., paragraph 20.

استناداً إلى العناصر التي أبرزتها المحكمة في رأيها الاستشاري لسنة 1971، وأحكام المادة الثانية من اتفاقية الفصل العنصري والمادة 7 / 2 / ح من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، يمكن تحديد العناصر التي تشكل جوهر هذه الجريمة، وبالتالي تقييم ما إذا كانت إسرائيل قد طبقت مثل هذه السياسة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وبناء على ذلك، يمكن إثبات وجود نظام الفصل العنصري استناداً إلى العناصر التالية: وجود مجموعتين عرقيتين أو أكثر يجري التمييز بينها؛ ارتكاب أعمال غير إنسانية ضد إحدى أو أكثر من هذه المجموعات؛ نظام مؤسساتي من القمع المنهجي والسيطرة من قبل مجموعة عرقية واحدة على مجموعة أو أكثر من المجموعات العرقية الأُخرى، والإصرار على الحفاظ على هذا النظام. (ترجمة الكاتبة)

[12] International Court of Justice, Declaration of Judge Tladi, Legal Consequences Arising from the Policies and Practices of Israel in the Occupied Palestinian Territory, Including East Jerusalem, Advisory Opinion, 19 July 2024, 

[13] International Court of Justice, Declaration of Judge Brant, Legal Consequences Arising from the Policies and Practices of Israel in the Occupied Palestinian Territory, Including East Jerusalem, Advisory Opinion, 19 July 2024, paragraphs 7-11.

[14] International Court of Justice, Separate Opinion of Judge Nolte, Legal Consequences Arising from the Policies and Practices of Israel in the Occupied Palestinian Territory, Including East Jerusalem, Advisory Opinion, 19 July 2024, paragraph 12.

[15]Ibid., paragraphs 8-19.

[16] International Court of Justice, Separate Opinion of Judge Iwasawa, Legal Consequences Arising from the Policies and Practices of Israel in the Occupied Palestinian Territory, Including East Jerusalem, Advisory Opinion, 19 July 2024, paragraphs 12-13.

[17]International Court of Justice, Declaration of Judge Tladi…, op. cit., paragraph 40. 

[18] Jinan Bastaki, “Whose Reasonable Inference? The ICJ’s Advisory Opinion and the Threshold for Apartheid’s Mens Rea”, EJIL: Talk!”, 22 August 2024.

[19] يُنظر:

 Nimer Sultany, “The Question of Palestine as a Litmus Test: On Human Rights and Root Causes”, The Palestine Yearbook of International Law Online, vol. 23, no. 1 (2022), pp. 1-49; Carsten Stahn, “Reckoning with Colonial Injustice: International Law as Culprit and as Remedy?” Leiden Journal of International Law, vol. 33, no. 4 (2020), pp. 823-835; Ardi Imseis, The United Nations and the Question of Palestine: Rule by Law and the Structure of International Legal Subalternity (Cambridge: Cambridge University Press, 2023).

[20] يُنظر: سامرة إسمير، "إرشادات غزة: عن نهاية الحكم الاستعماري"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 137 (شتاء 2024)؛ "نحو الانتصار للحقوق الفلسطينية وفقاً للقانون الدولي: كرّاس إرشادي"، شباط/فبراير 2013، الائتلاف الأهلي للدفاع عن حقوق الفلسطينيين في القدس بالتعاون مع معهد الحقوق - جامعة بيرزيت.

[21] Rabea Eghbariah, “Toward Nakba as a Legal Concept”, Columbia Law Review, vol. 124, no. 4 (2024).

[22] يُنظر:

Noura Erakat, Justice for Some: Law and the Question of Palestine (Stanford, California: Stanford University Press, 2019).

[23] أباهر السقا، "كيف نقرأ الحالة الاستعمارية / المستعمرية 1948 و1967"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 140 (خريف 2024)، ص 31 - 43.

Author biography: 

هالة الشعيبي: أستاذة قانون دولي، ومديرة برنامج الدراسات الإسرائيلية في جامعة بيرزيت.