Legal-Political Dimensions of the ICJ’s Advisory Opinion on the Legality of the Israeli Occupation
Full text: 

خلفية اللجوء إلى محكمة العدل الدولية

من أجل معالجة دوافع لجوء الجمعية العامة إلى محكمة العدل، من الضروري التطرق أولاً إلى الموقف الفلسطيني الذي كان المحرك الأساسي لقرار الجمعية العامة في كانون الأول/ ديسمبر 2022. وفيما يلي المعالم البارزة للتوجه الفلسطيني نحو التدويل:

- في تشرين الأول/ أكتوبر 2010، بعد فشل جولات تفاوضية مع إسرائيل بوساطة جورج ميتشل، مبعوث الرئيس باراك أوباما الخاص، أجرت القيادة الفلسطينية مداولات داخلية لإيجاد بدائل من المفاوضات العقيمة، فقررت البدء بخطوات تتمثل في تدويل القضية الفلسطينية على أمل تسجيل مكاسب تُقوّي الموقف الدبلوماسي الفلسطيني.

- في الفترة بين بداية كانون الأول/ ديسمبر 2010 وتشرين الثاني/ نوفمبر 2011، أثمرت الحملة الدبلوماسية الفلسطينية الجديدة اعتراف 12 دولة إضافية (أكثرها من أميركا اللاتينية) بدولة فلسطين، وقيام 8 دول (كلها في أوروبا الغربية) بترقية التمثيل الفلسطيني فيها من مفوضية عامة إلى بعثة.

- في أيلول/ سبتمبر 2011، قدمت منظمة التحرير الفلسطينية طلب الانضمام إلى عضوية الأمم المتحدة، لكنها لم تواصل مسعاها بعد أن اتضح لها أنها لن تستطيع تأمين موافقة أكثرية أعضاء مجلس الأمن (تسعة أصوات) على طلبها، الأمر الذي كان يعني عدم حاجة الولايات المتحدة إلى اللجوء، معزولة، إلى حقّ النقض.

- في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، حصلت فلسطين على مكانة دولة غير عضو تتمتع بصفة مراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بموجب القرار رقم 19 / 67. ومن الآن فصاعداً، سأستعمل تعبير فلسطين، وليس منظمة التحرير الفلسطينية، للإشارة إلى هذه المكانة.

- في نيسان/ أبريل 2014، وبعد فشل جولات تفاوضية برعاية جون كيري، وزير الخارجية الأميركي، طلبت فلسطين الانضمام إلى 19 معاهدة دولية.

- في كانون الثاني/ يناير 2015، انضمت فلسطين إلى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وأعلنت قبولها باختصاص المحكمة فيما يتعلق بالجرائم المرتكبة "في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية، منذ 13 حزيران / يونيو، 2014." ويمكن اعتبار هذا التاريخ تحولاً في التوجه الفلسطيني نحو الهيئات الدولية، إذ مثّل بداية التوجه الفلسطيني نحو القضاء الدولي، وهو ما يمكن تسميته "الاستقضاء الدولي في موضوع القضية الفلسطينية" (International Judicialization of the Palestine Cause).

- في نيسان/ أبريل 2018، رفعت فلسطين أمام لجنة القضاء على التمييز العنصري قضية ضد إسرائيل بموجب المادة 11 من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري. وصدر تقرير اللجنة الفرعية الموكلة بمتابعة القضية في 21 آب / أغسطس 2024، لكن من الغريب أن الإعلام لم يُعِر أي اهتمام لهذا التقرير شبه القضائي الذي أكد أن "ضمان تقرير المصير للفلسطينيين أمر بالغ الأهمية لتحقيق السلام المستدام بين إسرائيل ودولة فلسطين [...] ويقع على عاتق إسرائيل، بصفتها القوة المحتلة، واجب ضمان عدم وجود أي تمييز عنصري أو هشاشة أو يأس من تحقق تقرير المصير." غير أن اللجنة تجنّبت التعامل مع الاتهام الفلسطيني بأن إسرائيل تمارس الأبارتهايد.[1]

- في أيار/ مايو 2018، طلبت فلسطين من المحكمة الجنائية الدولية التحقيق في سياسات الاستيطان الإسرائيلية، وفي شباط / فبراير 2021، قضت المحكمة بأن لها صلاحية في متابعة جرائم الحرب المقترفة في فلسطين.

- في 28 أيلول/ سبتمبر 2018، رفعت فلسطين دعوى ضد الولايات المتحدة أمام محكمة العدل الدولية للطعن في قرار إدارة ترامب نقل سفارتها إلى القدس في 14 أيار / مايو 2018 (اعتبرت الولايات المتحدة أن المحكمة غير مختصة للنظر في القضية، وفي 12 نيسان / أبريل 2021، طلبت فلسطين من المحكمة تأجيل جلسات الاستماع الشفوية لفتح المجال للأطراف بإيجاد حل ودي من خلال المفاوضات).

نلاحظ أن اللجوء الفلسطيني إلى القضاء الدولي أصبح ممكناً مع اعتراف الأمم المتحدة بفلسطين دولة مراقبة لديها منذ سنة 2012. فهذا التوجه الاستقضائي لدولة فلسطين هو سمة من السمات الرئيسية للعمل الدبلوماسي الفلسطيني في هذه الأيام، وهو توجه دافعه سياسي في الصميم يلجأ إلى قيم قانونية كونية للضغط على إسرائيل وعلى الولايات المتحدة، حتى إنه بدا بديلاً من وسائل نضالية أُخرى. 

الجمعية العامة للأمم المتحدة وطلب الفتوى

مع إطلاق المفاوضات العربية – الإسرائيلية في مدريد وواشنطن في سنة 1991، وتوقيع إعلان المبادىء الفلسطيني – الإسرائيلي في واشنطن في أيلول / سبتمبر 1993 والبدء بالمحادثات الهادفة إلى تنفيذه، تبنّت الجمعية العامة مواقف مؤيدة للمسار التفاوضي بين الجانبين، وتجنّبت طرح مسألة قانونية احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة على أساس أن نجاح المسار التفاوضي كفيل بجعل بحل المسألة غير ذي موضوع. كما أن فتوى محكمة العدل الدولية في تموز / يوليو 2004 بشأن الجدار الفاصل لم يتطرق إلى قانونية الاحتلال الإسرائيلي، وإنما اكتفى بالنظر في آثار الجدار المقام على أراضي الضفة الغربية بما فيها القدس، معلناً أنه غير شرعي لأنه، بين أسباب أُخرى، يشكل "أمراً واقعاً" (fait accompli) ربما يصبح دائماً، ويكون بالتالي بمثابة "ضم فعلي".

مع تعثّر المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، لا بل مع تحولها إلى غطاء لتعميق الاستيطان ولاستمرار نكران الحقوق الفلسطينية، وعلى رأسها حقّ تقرير المصير، بات ضرورياً فك الرابط النظري بين الحصول على الاستقلال المدعوم دولياً، وبين الالتزام بمسار تفاوضي قد تناقَش خلاله مسألة الاستقلال ومدى الانسحاب الإسرائيلي، كما لو أنهما موضوعان خاضعان للنقاش. وبحسب وجهة النظر الفلسطينية الجديدة، إذا كان لا بد من مفاوضات، فإنه يجب أن تقتصر على مناقشة أمور تنفيذية، أي أن تجري بعدأن يكون محسوماً مبدأ عدم قانونية الاحتلال الإسرائيلي، وليس قبله.

كان على القيادة الفلسطينية، إذاً، إقناع المجتمع الدولي، ممثلاً في الجمعية العامة، بعدم قانونية الاحتلال الإسرائيلي. ويبدو أن الخبراء الفلسطينيين والمقربين منهم، ارتأوا أن السبيل الأكثر ملاءمة لإقناع الجمعية العامة هو المرور من خلال هيئة قانونية معتمدة وذات صدقية (محكمة العدل الدولية)، ليس فقط لأن المسألة قانونية، بل أيضاً لأن من شأن الفتوى المنتظر صدورها عن الهيئة المذكورة أن تزيل تردد بعض المترددين، وأن تصلّب الموقف السياسي لأعضاء الجمعية العامة المتعاطفين مع فلسطين والمستائين من المفاوضات العقيمة ومن عجز مجلس الأمن عن معالجة الموضوع الفلسطيني الناتج من حقّ النقض الذي تتمتع به الدول العظمى الخمس، وعلى رأسها الولايات المتحدة.

أثمرت الجهود الفلسطينية في أروقة الأمم المتحدة استصدار قرار طلب الفتوى (القرار رقم 247 / 77 لسنة 2022)، والذي حظي بتصويت 87 دولة لمصلحة القرار، ومعارضة 26 دولة، وامتناع 53 من التصويت. وتضمنت المادة 18 من القرار الأسئلة الموجهة إلى محكمة العدل الدولية وهي:

(أ) ما هي الآثار القانونية الناجمة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وعن احتلالها الطويل الأمد للأراضي الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967 واستيطانها وضمّها لها، بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديموغرافي لمدينة القدس الشريف وطابعها ووضعها، وعن اعتمادها تشريعات وتدابير تمييزية في هذا الشأن؟

(ب) كيف تؤثر سياسات إسرائيل وممارساتها المشار إليها في الفقرة 18 (أ) على الوضع القانوني للاحتلال، وما هي الآثار القانونية المترتبة على هذا الوضع بالنسبة إلى جميع الدول والأمم المتحدة؟

ومن الجدير الانتباه في هذه المناسبة إلى أن الجمعية العامة لا تلجأ إلى المحكمة إلّا نادراً للحصول على فتوى منها. ففي إحصاء بسيط للفتاوى التي صدرت عن المحكمة من سنة 1945 إلى اليوم، يلاحَظ أنها أصدرت ما مجموعه 29 فتوى، 19 منها بطلب من الجمعية العامة. وبين الحالات الـ 19، فإن 8 فتاوى تتعلق بموضوعات قانونية عامة، و11 تتعلق بأوضاع خلافية بشأن دول معينة مثل ناميبيا، أو الصحراء الغربية. ومنذ سنة 1988 حتى سنة 2025، أي خلال 36 عاماً، أصدرت المحكمة 5 فتاوى لا غير بشأن دول معينة، واحدة تتعلق بكوزوفو في سنة 2010، وواحدة تتعلق بأرخبيل شاغوس وارتباطه بجزيرة موريشيوس في سنة 2019 (أفتت المحكمة فيها بوجوب وضع حد لسيطرة بريطانيا على الأرخبيل)، و3 منها تتعلق بفلسطين، وهي: (1) في سنة 1988، أفتت المحكمة بأن على الولايات المتحدة اللجوء إلى التحكيم بشأن نزاعها مع الأمم المتحدة بعد قرارها إغلاق مكتب منظمة التحرير في نيويورك؛ (2) في سنة 2004 أعطت فتواها بشأن الجدار؛ (3) الفتوى التي تعنينا هنا، والتي صدرت في تموز / يوليو 2024.

إن صدور ثلاث فتاوى متعلقة بفلسطين من أصل خمس خلال فترة طويلة نسبياً، يشير إلى أن فلسطين تحظى بـوضع استثنائي في موضوع اللجوء إلى القضاء الدولي (أو بالأحرى تعاني وضعاً يضطرها إلى اللجوء إلى القضاء)، وخصوصاً إذا أضفنا إلى الفتاوى الثلاث، قيام الجمعية العامة، في قرارها رقم 232 / 79 المؤرخ 19 كانون الأول / ديسمبر 2024، بطلب فتوى جديدة من المحكمة، على أساس الأولوية وبأقصى قدر من الاستعجال، بشأن "التزامات إسرائيل فيما يتعلق بوجود وأنشطة الأمم المتحدة ومنظمات أُخرى في الأراضي الفلسطينية المحتلة"، في إشارة إلى القانون الإسرائيلي الذي تبنّاه الكنيست في 28 تشرين الأول / أكتوبر 2024، والذي يحظر نشاطات وكالة الأونروا داخل إسرائيل. ولا حاجة إلى التذكير بأن جدول أعمال القضاء الدولي لسنة 2024 تضمّن أيضاً بشأن فلسطين قضية الإبادة الجماعية في قطاع غزة لدى محكمة العدل الدولية وملاحقة جرائم الحرب الإسرائيلية لدى محكمة الجنايات الدولية. 

الموقف الإسرائيلي

في 24 تموز/ يوليو 2023، وجّهت إسرائيل مذكرتها إلى محكمة العدل الدولية بشأن طلب الفتوى، رافضة التعامل مع موضوع الطلب المطروح أمام المحكمة، ورافضة الحل القضائي للنزاع مع الطرف الفلسطيني. ومن الجدير هنا عرض بعض الحجج التي ساقتها في المذكرة:[2]

1- ذكرت إسرائيل أن 106 دول في الجمعية العامة (تشكل أغلبية أعضاء الجمعية) لم تصوت لمصلحة القرار، وذلك بسبب معارضة 26 دولة، وامتناع 53، وغياب بقية الدول. وإسرائيل هنا تقارن بين الدول الـ 87 التي صوتت لمصلحة القرار، وبين سائر أعضاء الجمعية العامة. وبطبيعة الحال، لا وزن لهذه الحجة، لأن من الناحية القانونية، النظام الداخلي للجمعية العامة هو الذي يحدد قواعد التصويت. أمّا من الناحية السياسية، فيجب إجراء المقارنة بين عدد المؤيدين للقرار وعدد المعارضين له، والأول يبلغ هنا أكثر من ثلاثة أضعاف الثاني.

2- ادعت إسرائيل أن الأسئلة المطروحة في قرار الجمعية العامة تشكل تشويهاً واضحاً للتاريخ والواقع الحالي للنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، كتجاهل وقوع الآلاف من الإسرائيليين "ضحايا الكراهية والإرهاب الفلسطينيَّين"، والتحريض الفلسطيني الرسمي المستمر "ضد اليهود والإسرائيليين"، ورفض القيادة الفلسطينية المتكرر للعروض البعيدة المدى لتسوية النزاع وإقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، وممارسات حركة "حماس" بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة.

3- ادعت إسرائيل أن الأسئلة المطروحة أمام المحكمة لا تشوّه الوقائع فحسب، بل تشوه الواقع القانوني أيضاً، منها: حقّ إسرائيل في الدفاع عن مواطنيها، والمبدأ القائل إن أي حل للنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني يجب أن يعالج المخاوف الأمنية الإسرائيلية المشروعة.

4- ادعت إسرائيل أن لديها روابط تاريخية عميقة بالأراضي المعنية، ومطالبات بشأنها قابلة لأن يسلَّم بها (valid claims)، وواجبات وحقوق في هذه الأراضي إلى حين التوصل إلى تسوية النزاع عن طريق التفاوض.

5- ادعت إسرائيل أن ثمة اتفاقيات إسرائيلية - فلسطينية التزم الطرفان فيها بتسوية الموضوع المطروح أمام المحكمة من خلال المفاوضات المباشرة.

يتضح من الحجتين الأولى والثانية أن إسرائيل لم تعالج الأسئلة التي طرحتها الجمعية العامة، بينما تبرر الحجج الثلاث التالية، على عكس ما قصدته إسرائيل، لجوء الجمعية العامة (وفلسطين) إلى فتوى المحكمة للرد على مطالبات إسرائيل بضم كل أو جزء من المناطق المحتلة، ولتخطّي المفاوضات التي لا نهاية لها.

يمكن أن نضيف إلى موقف إسرائيل بشأن طلب الفتوى ما سبق أن صدر عنها لدى نظر محكمة العدل الدولية في طلب الفتوى المتعلقة بأرخبيل شاغوس المذكورة أعلاه. ففي شباط / فبراير وأيلول / سبتمبر 2018، ولأول مرة بعد أكثر من نصف قرن، شاركت إسرائيل في مداولات المحكمة الخاصة بالأرخبيل، وذكرت فيها أن على المحكمة أن تمتنع من الإفتاء في مسألة الأرخبيل لأنها تخص بريطانيا وموريشيوس لا غير. وممّا لا شك فيه أن إسرائيل كانت تخشى إجراء الموازاة بين الإدارة البريطانية للأرخبيل وبين الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة (بالمناسبة، أفتت المحكمة في شباط / فبراير 2019، بأن على بريطانيا وضع حد لإدارتها الأرخبيل "بأسرع ما يمكن"، مستندة إلى مبدأ حق تقرير المصير).[3] 

الفتوى

في 19 تموز/ يوليو 2024، وعقب النظر في عدة تقارير دولية، وتلقّي مرافعات كتبتها العشرات من الدول، وبعد جلسات استماع شفوية مع عشرات من الدول الأُخرى، أصدرت محكمة العدل الدولية (المكونة من 15 قاضياً) الفتوى التي طلبتها الجمعية العامة. وتضمّن النص[4] الذي بلغ حجمه 80 صفحة، 284 فقرة ناقشت فيها المحكمة مختلف الأسئلة التي وجهتها إليها الجمعية العامة، وأوضحت فيها وجهة نظرها، لتخلص بـالفقرة 285 المتضمنة "منطوق" الفتوى المكون من تسعة بنود. كما أن المحكمة، علاوة على نص الفتوى، أوردت ملاحق مخصصة لمواقف قضاة بعينهم في عدد من المسائل المطروحة.

لن نلخّص هنا المسائل التي ناقشتها المحكمة واتخذت موقفاً منها بل سنكتفي بالقول إنها عرضت السياسات والإجراءات الإسرائيلية مثل الاستيطان، والاستيلاء على الأراضي، واستغلال الموارد الطبيعية، وتطبيق القانون الإسرائيلي على المناطق المحتلة، والذي اعتبرته بمثابة ضم فعلي، فضلاً عن ضم مدينة القدس. كما تطرقت إلى الممارسات التمييزية ضد الفلسطينيين مثل طردهم من أماكن سكنهم، وفرض القيود على إقامتهم وتنقّلهم، وتدمير منازلهم وأملاكهم كإجراء عقابي، وممارسة العنف ضدهم، معتبرة أن هذه السياسات والممارسات تتعارض مع حقّ الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، ومع مبدأ عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة، وأن هذه الأمور لا يبررها كون الاحتلال طويل الأمد، أو أن لديه مخاوف أمنية. وثمة مسألة واحدة تثير التحفظ من وجهة نظر فلسطينية، وهي تتعلق بالحجج التي ساقتها المحكمة تحت عنوان: "استنتاج بشأن التشريعات والتدابير التمييزية الإسرائيلية" (الفقرات 180 إلى 229). فعلى الرغم من إشارة المحكمة إلى المادة الثالثة من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري التي تدين التمييز العنصري والأبارتهايد، فإن المحكمة اكتفت بوصف السياسات والممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة بكونها "تمييزية"، وأحجمت عن وصفها بـ "العنصرية"، أو بأنها تشكل "أبارتهايد"، وهو ما حثّ القاضي نواف سلام، رئيس المحكمة، على أن يؤكد في الفقرة 29 من ملاحظاته المنفردة، أن أعمال إسرائيل ضد الفلسطينيين هي جزء من نظام ممأسس وممنهج يعبّر بصورة لا يمكن إنكارها عن سياسة ترقى إلى الأبارتهايد.[5]

أمّا منطوق الفتوى (الفقرة 285)، فتمثل في البنود التالية:

(1) تقضي المحكمة بأن لديها صلاحية إصدار الفتوى المطلوبة (بإجماع القضاة الـ 15).

(2) تقرر الامتثال لطلب الفتوى (بأغلبية 14 صوتاً).

(3) تفتي بأن استمرار وجود دولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير قانوني (بأغلبية 11 صوتاً).

(4) تفتي بأن دولة إسرائيل ملزمة بإنهاء وجودها غير القانوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة بأسرع وقت ممكن (بأغلبية 11 صوتاً).

(5) تفتي بأن دولة إسرائيل مُلزمة بالوقف الفوري لجميع الأنشطة الاستيطانية الجديدة، وإجلاء جميع المستوطنين من الأراضي الفلسطينية المحتلة (بأغلبية 14 صوتاً).

(6) تفتي بأن دولة إسرائيل مُلزمة بالتعويض عن الأضرار التي لحقت بجميع الأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين المعنيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة (بأغلبية 14 صوتاً).

(7) تفتي بأن جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ملزمة بعدم الاعتراف بشرعية الوضع الناشىء عن الوجود غير القانوني لدولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبعدم تقديم العون أو المساعدة في الحفاظ على الوضع الناجم عن استمرار وجود دولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة (بأغلبية 12 صوتاً).

(8) تفتي بأن المنظمات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة، ملزمة بعدم الاعتراف بشرعية هذا الوضع الناشىء عن الوجود غير القانوني لدولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة (بأغلبية 12 صوتاً).

(9) تفتي بأنه ينبغي للأمم المتحدة، ولا سيما الجمعية العامة التي طلبت هذه الفتوى، ومجلس الأمن، النظر في الطرائق الدقيقة والإجراءات الإضافية اللازمة لإنهاء الوجود غير القانوني لدولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة بأسرع ما يمكن (بأغلبية 12 صوتاً).

لا شك في أن هذه المواقف جريئة وواضحة وخالية من أي التباس. فبعد أن تقرر المحكمة الامتثال لطلب الجمعية العامة بسبب امتلاكها الصلاحية في ذلك (البندان 1 و2)، تعلن عدم قانونية الوجود الإسرائيلي في الأراضي المحتلة (البند 3)، وهو المبدأ القانوني الذي يؤسس للخطوات العملية (الواردة في البنود 4 إلى 9) المطلوبة من إسرائيل، ومن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ومن المنظمات الدولية، ومن الأمم المتحدة. وتجدر الملاحظة أن المحكمة امتنعت من استعمال كلمة مفاوضات في البند 9، مستعيضة عنها بإشارة غامضة إلى "الطرائق الدقيقة والإجراءات الإضافية اللازمة"، الأمر الذي يعني عدم اشتراط إحقاق الحقوق الفلسطينية بالالتزام بالمفاوضات، أو بتعبير آخر، أيدت المحكمة فك الارتباط النظري بين الحقوق والمسار التفاوضي. 

تداعيات الفتوى معنوياً وقضائياً وقانونياً

مثلما هو معروف، فإن فتاوى محكمة العدل العليا (باستثناء حالات معدودة مثل تفسير "اتفاقية امتيازات الأمم المتحدة وحصاناتها"، أو تفسير "اتفاقية المقرّ بين الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأميركية) لا تتسم بصفة إلزامية تفرض نفسها تلقائياً على الدول والمنظمات الدولية، لكنها مع ذلك، تملك وزناً معنوياً وقضائياً وقانونياً وسياسياً.

وينجم وزن الفتاوى المعنوي من كون المحكمة أعلى هيئة قضائية دولية، ومن أن طلب الفتاوى محصور في الأمم المتحدة (وفي وكالاتها المتخصصة، لكن بقيود إضافية)، ومن أن اللجوء إلى هذه الآلية استثنائي (20 طلباً منذ سنة 1945 من طرف الجمعية العامة، بعد إضافة الطلب بشأن التزامات إسرائيل تجاه الأمم المتحدة، والمؤرخ كانون الأول / ديسمبر 2024). وبسبب هذا الوزن الذي تتمتع به المحكمة رداً على ما تطلبه منها الجمعية العامة، فإن من الملائم اعتماد مصطلح "فتوى" وليس تعبير "رأي استشاري"، المترجم حرفياً من الإنجليزية (advisory opinion)، نظراً إلى التاريخ الطويل لدلالة كلمة "فتوى" بالعربية، واستعمالها المعاصر من طرف مرجعيات معتمدة ذات صفة مدنية، فضلاً عن المرجعيات الإسلامية المعهودة.

بالنسبة إلى الوزن القضائي، أو بالأحرى شبه القضائي، لفتوى المحكمة بشأن قانونية الاحتلال الإسرائيلي، يجب أولاً ملاحظة أسلوب صيغتها. فهي لا تختلف كثيراً عن صيغة القرارات القضائية. ويكفي في هذا الصدد أن نعود إلى ترتيب البنود التسعة لمنطوق الفتوى (صلاحية النظر في المسألة، ثم المبدأ القانوني، ثم الإجراءات العملية المطلوبة)، كما يكفي أن تحل كلمة "تقرر" محل كلمة "تفتي" في البنود 4 إلى 9، كي يبدو النص بمثابة حكم قضائي. غير أن من الضروري إضافة أن التحول من فتوى إلى حكم قضائي لن يحدث، إذ في إمكان إسرائيل، وفقاً لنظام المحكمة، أن تَحول دون أن يتم النظر في قضية قد ترفعها فلسطين ضدها، وذلك من خلال حقّ إسرائيل في رفض صلاحية المحكمة بداية. وفي المقابل، قد تقرر جمعيات داعمة لفلسطين في هذه الدولة أو تلك رفع دعاوى أمام محاكم محلية، تطلب فيها مثلاً منع استيراد منتوجات المستعمرات، أو منع تصدير أسلحة إلى إسرائيل، وذلك استناداً إلى منطوق الفتوى.

أمّا بالنسبة إلى الوزن القانوني للفتوى، فثمة مبدأ تَعتبر المحكمة أنه يتمتع بصفة قانونية عليا، وهو يتعلق بتقرير المصير، إذ إن المحكمة تقول (في الفقرة 233) إنه "في حالات الاحتلال الأجنبي مثل الحالة الراهنة، يشكل الحقّ في تقرير المصير قاعدة قطعية [peremptory norm] من قواعد القانون الدولي"، الأمر الذي يعني أنه يتوجب على جميع الدول الالتزام به. والسؤال الفرعي الذي ينبثق من هذا المبدأ هو التالي: هل حقّ الشعب الفلسطيني في تقرير المصير يشكل بدوره، في نظر المحكمة، قاعدة آمرة تُلزم جميع الدول، بما فيها إسرائيل؟ وقد أجابت المحكمة عن هذا السؤال بالشكل التالي (الفقرة 274): "من بين الالتزامات ذات الحجية تجاه الكافة (erga omnes) التي انتهكتها إسرائيل الالتزام باحترام حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والالتزام الناشئ عن حظر استخدام القوة لحيازة الأراضي."

ويبقى أن نتساءل عن وزن مواقف المحكمة الأُخرى الواردة في منطوق الفتوى، والتي من المسلم به أن الالتزام بها يتوقف على سياسة الدول، منفردة أو مجتمعة، أعني سياستها القانونية في علاقاتها الدولية.[6] 

الوزن القانوني – السياسي للفتوى

يتوقف الوزن القانوني – السياسي للفتوى على معالجة العلاقة بين السياسة الخارجية للدول والقانون الدولي. فالدول، بصفتها صاحبة السيادة التي لا يعلو فوقها أي سيادة أُخرى، هي التي تنشىء، نظرياً، قواعد القانون الدولي من خلال دخولها في معاهدات ثنائية وجماعية، ومشاركتها في إنشاء منظمات دولية وتحديد أنظمتها، ولا تقبل التقيد بالقواعد إلّا بقدر ما التزمت بها مسبقاً. وبطبيعة الحال، فإن الدول الكبرى من الناحية العملية، تؤدي الدور الأكبر في إنشاء قواعد القانون الدولي انطلاقاً من القيم التي تدعم مصالحها أو تتوافق معها. كما أن الدول الكبرى قد تتملص من التقيد بالقواعد التي تكون ساهمت في إنشائها هي بالذات عندما يتعارض التقيد مع مصلحتها الآنية، فتسعى لتفسير ضيق للقاعدة التي تمسّها، أو لادّعاء انطباق قاعدة قانونية أُخرى ذات منزلة أعلى، أي ستحاول في أغلب الأحيان إضفاء غلاف قِيمي لسياستها القانونية. أمّا الدول الجديدة في فترة ما بعد الاستعمار، فبعد أن شككت في انطباق القانون الدولي عليها وهي لم تشارك في صنعه، فإنها عدلت من موقفها منه لإضفاء نوع من الاستقرار على علاقاتها الخارجية (القبول مثلاً بمبدأ عدم المسّ بالحدود الإقليمية التعسفية الموروثة من الاستعمار)، أو لإرساء قواعد جديدة انطلاقاً من القيم التي استندت إليها في نضالها نحو الاستقلال، وذلك بفضل قدرتها كأغلبية صاعدة في المنظمات الدولية ذات العضوية العالمية.

يتضح الآن أن القيمة، أكانت تعبيراً مغلفاً عن مصلحة دولة بعينها، أم نتيجة توافق الدول على مصلحة مشتركة (مثل حظر بعض أنواع الأسلحة في الحروب)، أم تعبيراً عن همّ أخلاقي ذي صدقية، تشكل مفهوماً وسيطاً بين السياسة الخارجية والقانون الدولي. فالقيمة من حيث كونها قاعدة معيارية تحظى بالقناعة أو الاحترام من جانب الدول والمجموعات، وتستحق أن توجّه ممارساتها العملية أو تبررها، قد تتحول إلى قاعدة قانونية دولية لكن شرط أن تهيمن لدى المجتمع الدولي في الحقبة الزمنية المعنية. وقد يبادر القضاء نفسه إلى إرساء قيمة معينة، أو تبادر إليها مجموعة من الدول، أو الجمعية العامة في الأمم المتحدة، أو حتى مجلس الأمن عندما يتخذ بإجماع ثابت قرارات تعبّر عن القيمة ذاتها. وفيما يلي بعض الأمثلة:

- تم تبرير نظام الانتداب الوارد في ميثاق عصبة الأمم (1920)، وتقاسم السيطرة والنفوذ على المشرق العربي بالادعاء أن رفاهية الشعوب التي تَقرَّر وضعها تحت الانتداب تمثل "أمانة مقدسة في عنق الحضارة."

- منذ أواسط ستينيات القرن الماضي إلى أواسط سبعينياته، تطورت قرارات الجمعية العامة من تأييد حقّ الدول المستعمَرة في النضال من أجل التحرر إلى مشروعية استعمال جميع الوسائل المتاحة، ثم إلى مشروعية النضال المسلح.

- منذ تسعينيات القرن الماضي، يتم التركيز في الجمعية العامة على وجوب إدانة الإرهاب ومكافحته.

- الإعلان في القمة العالمية التي عُقدت في الأمم المتحدة في أيلول / سبتمبر 2005 (بعد الفواجع الإنسانية التي شهدتها منطقة البلقان ورواندا) بشأن مسؤولية المجتمع الدولي عن "حماية السكان من الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية" (Responsibility to Protect/R2P)، بما يشمل التدخل عسكرياً بتفويض من مجلس الأمن الدولي. وجرى تضمين هذا الإعلان، مع عدة مسائل أُخرى، في قرار الجمعية العامة رقم 1 / 60 الذي أُقرّ بتوافق جميع الأعضاء.

بطبيعة الحال، يلاحظ من جهة، أن ثمة تعارضاً بين تبرير نظام الانتداب في عشرينيات القرن الماضي، ومن جهة أُخرى تبرير حقّ الشعوب في النضال ضد الاستعمار في الستينيات. كما يلاحَظ تعايش هشّ بين الحق في اللجوء إلى الكفاح المسلح من أجل التحرر، ووجوب إدانة الإرهاب ومكافحته. فبينما كان الكفاح المسلح من أجل التحرر قيمة مهيمنة في المجتمع الدولي، وكان على قامع هذا الكفاح أن يثبت أنه إرهاب، بات من المرجح اليوم أن ممارسة الكفاح المسلح من أجل التحرر قد توصف بالإرهاب بسهولة أكبر. والمقصود من إيراد هذه الأمثلة هو الإشارة ضمناً إلى مسألة انطباقها على الحالة الفلسطينية: هل يُعتبر حقّ الشعب الفلسطيني في التحرر بجميع الوسائل المشروعة قيمة مهيمنة في المجتمع الدولي، أم إن القيمة المهيمنة حالياً فيه، أو على الأقل في قسم منه، تكمن في أن يثبت الشعب الفلسطيني دائماً وتكراراً أن نضاله من أجل التحرر ليس إرهاباً؟

أمّا فيما يتعلق بمبدأ مسؤولية الحماية المعلَن رسمياً في سنة 2005 بموافقة جميع دول العالم، فثمة حالة واحدة هي الحالة الليبية التي سمح فيها مجلس الأمن، عبر القرار رقم 1973 (17 آذار / مارس 2011)، لدول أُخرى باتخاذ "جميع التدابير اللازمة لحماية المدنيين والمناطق المأهولة بالسكان المدنيين المعرضين لخطر الهجوم." ومنح القرار الذي صوتت فيه خمس دول بالامتناع (بينها روسيا والصين)، المبرر لتدخل الحلف الأطلسي في ليبيا، وهو ما أثار حفيظة روسيا الشديدة. أمّا خلال الحرب على غزة (2003 - 2005)، فإن أياً من أعضاء مجلس الأمن لم يقم بأي تحرك لتفعيل مبدأ قيام المجتمع الدولي بمسؤوليته لحماية المدنيين.[7]

في ضوء ما سبق، يمكن الآن العودة إلى التداعيات القانونية – السياسية للفتوى بشأن الاحتلال الإسرائيلي. إن إعلان المحكمة أن الاحتلال ليس شرعياً يشكل بحد ذاته قيمة ذات دلالة، كما يشكل مدماكاً إضافياً في المسار الطويل نحو جعله قيمة مهيمنة في المجتمع الدولي، وبالتالي ضاغطاً على الولايات المتحدة وإسرائيل. والمؤشر إلى أنه مدماك إضافي هو نتيجة التصويت في الجمعية العامة في 18 أيلول / سبتمبر 2024 بعد إدراجها الفتوى على جدول أعمالها: فقد صوتت على القرار الجديد 124 دولة، بينما كانت 87 دولة فقط قد صوتت على طلب الفتوى في سنة 2022، أي بزيادة تبلغ الثلث تقريباً. وفي حين كانت 26 دولة قد صوتت ضد قرار سنة 2022، فإن عدد المعارضين انخفض إلى 14.

من أجل أن تهيمن القيم الواردة في الفتوى وفي قرارات المحاكم والهيئات الدولية، فإن التصويت في الأمم المتحدة لا يكفي، فما حدث في الجامعات في العام الدراسي 2023 / 2024، وما يحدث في وسائل التواصل الاجتماعي، يؤشران إلى إمكان تسجيل نجاحات في بعض ساحات العمل. غير أن هناك ساحة عمل لم يحدث فيها اختراق حقيقي، وهي ساحة الإعلام المكتوب والمرئي في الغرب، وربما يكون النجاح فيها مؤشراً إلى تحول نوعي في النظر إلى القضية الفلسطينية. 

خاتمة

على أمل الوصول إلى هذا التحول، من الضروري التشديد على أن جميع الإنجازات الدبلوماسية والإعلامية والقضائية، بما فيها الحصول على قرارات قضائية في المحاكم الدولية أو المحلية، أو على قرارات سياسية في الهيئات الدولية، تبقى هشّة، إن لم يكن هناك فاعل فلسطيني في الميدان؛ فاعل موحد ينهي الانقسام ويعيد ترتيب البيت الفلسطيني، ويحترم ما يفرض عليه القانون الدولي من واجبات، ويكون بالتالي في موقع يسمح له بحصاد مكتسباته الدولية والبناء عليها. ولا يمكن أن تهيمن القيم المؤيدة لفلسطين على المستوى الدولي على المدى البعيد إذا استمر الوضع الفلسطيني الداخلي مثلما هو حالياً، ولا سيما أن من الضروري أن نلاحظ فجوة شرعت تتعمق بين رصيد دبلوماسي وقانوني دولي متصاعد من جهة، وبين سيطرة فلسطينية تتناقص وتتقلص على أراضي قطاع غزة والضفة الغربية من جهة أُخرى.

كما يجب التساؤل عن تأثير الفتوى في موقف الذين يطالبون بالتخلي عن برنامج الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبتبنّي برنامج الدولة الواحدة على كامل أرض فلسطين، فالفتوى في اعتقادي تدعو إلى مزيد من الحذر في هذا الشأن. ففي إطار برنامج الدولة الواحدة الذي يفترض تمثيلاً موحداً لهذه الدولة في الخارج، يصعب الدفاع عن تمثيل فلسطيني مستقل، وهو تمثيل لدى دول العالم والأسرة الدولية اكتسبه النضال الفلسطيني خلال أكثر من نصف قرن، كما يُضعف في نظر العالم مبدأ عدم شرعية إقامة الإسرائيليين، بمَن فيهم المستوطنون، في الضفة الغربية وقطاع غزة. وربما المطلوب من داعمي الدعوة إلى الدولة الواحدة، إعادة صوغ برامجهم ومراحل تنفيذها في ضوء الفتوى، أو على الأقل التأكد من أن برامجهم لا تتعارض مع، بل تستند بقوة إلى الموقف القانوني الذي نزع الشرعية عن الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة.

وأخيراً، من غير المعروف حتى كتابة هذه السطور مدى تأثير سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي استلم مهامه في كانون الثاني / يناير 2025، في مستقبل قطاع غزة والضفة الغربية ووضعهما القانوني المعتمد أميركياً وإسرائيلياً، والتأثير الذي قد يحدثه الصدام بين الخطوات الأميركية والإسرائيلية، وبين المبادىء الصلبة التي تبنّتها محكمة العدل الدولية والجمعية العامة، في إضعاف وزن هذه المبادىء، أو على العكس في تقويتها كردة فعل صحية من طرف المجتمع الدولي. أضف إلى ذلك التساؤل عن احتمال وقوع اختلال عميق في المعايير القيمية والقواعد القانونية التي حكمت العلاقات الدولية منذ سنة 1945، وتأثير هذا الاختلال غير المباشر في القضية الفلسطينية.

 

المصادر:

[1] لجنة القضاء على التمييز العنصري، "النتائج والتوصيات: تقرير لجنة التوفيق المخصصة المعنية بالبلاغ المقدم من دولة ضد دولة أُخرى والذي قدمته دولة فلسطين ضد إسرائيل بموجب المادة 11 من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري"، 21 آب / أغسطس، في الرابط الإلكتروني.

[2]Written Statement of Israel to ICJ”.

[3] Victor Kattan, “The Chagos Advisory Opinion and the Law of Self-Determination”, Asian Journal of International Law, vol. 10, no.1 (January 2020), pp. 12-22.

[4]Advisory Opinion: Legal Consequences Arising from the Policies and Practices of Israel in the Occupied Palestinian Territory, including East Jerusalem”, 19 July 2024.

[5]Declaration of President Salam”.

[6] Michel Virally, “Réflexions sur la politique juridique des États”, in: Guy de lacharrière et la politique juridique extérieure de la France (Paris: Masson, 1989).

[7] Kristian Alexander, “The Limits of International Law: The Responsibility to Protect (R2P), Israel and the International Court of Justice”, Elcano Roial Institute, 1 May 2024;

Jeremy Moses, “Gaza and the Political and Moral Failure of the Responsibility to Protect”, Journal of Intervention and Statebuilding, vol. 18, no.2 (2024) pp.211-215; Humaira Shafi Awan and Hiba Malek, “Humanitarian Crisis and Crumbling Pillars of R2P in Gaza”, Journal of Security and Strategic Analyses, vol.10, no.1 (July 2024), pp. 87–105.

Author biography: 

كميل منصور: أمين سر مجلس أمناء مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ورئيس تحرير "الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية"، وأكاديمي مختص بالعلاقات الدولية.