شهدت الأعوام الأخيرة، وخصوصاً بعد الحرب على غزة، ولوج الهيئات القضائية الدولية في الموضوع الفلسطيني، فالاهتمام العالمي بفلسطين لم يعد مقتصراً على المنظمات الدولية. ومع أن سنة 2024 لم تشهد إلّا خطوات قضائية تمهيدية بشأن قضية جرائم الحرب الإسرائيلية المرفوعة أمام المحكمة الجنائية الدولية في حزيران / يونيو 2015 وبعدها، وبشأن قضية جريمة الإبادة في غزة المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية في كانون الأول / ديسمبر 2023، إلّا إن هذه الأخيرة أصدرت في تموز / يوليو 2024، رأياً استشارياً، أو فتوى، في موضوع جوهري وليس تمهيدياً، وهو إعلان عدم قانونية الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة.
يتعلق هذا الملف بعرض وتحليل جوانب مركزية من فتوى محكمة العدل، بعد تطويرٍ لأوراق قُدمت في ندوة نظمتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية في 3 كانون الأول / ديسمبر 2024 بعنوان: "الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في ميزان العدالة الدولية: قراءة في الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية". ويتضمن هذا الملف ثلاث أوراق من تلك التي أُلقيت في الندوة، تضاف إليها دراسة لسونيا بولس تتعلق بموضوع الندوة إلى حد كبير، على الرغم من عدم كونها جزءاً من برنامجها. وفي عدد المجلة المقبل، سيتم نشر مساهمة كل من نمر سلطاني وشهد الحموري اللذين شاركا في الندوة أيضاً.
يركز كميل منصور في مقالته عن "البعد القانوني – السياسي" لفتوى المحكمة على خلفية الطلب الذي بادرت إليه البعثة الفلسطينية في الأمم المتحدة واعتمدته الجمعية العامة في كانون الأول / ديسمبر 2022، وعلى بنود الفتوى الرئيسية، وعلى إمكان تأثيرها قضائياً وقانونياً، وقانونياً / سياسياً في التطورات اللاحقة. وفي معالجته لتداعيات الفتوى الممكنة، يلفت كميل منصور نظر القارىء إلى أهمية القيم (أكانت مصلحية أم أخلاقية) التي قد تهيمن على المجتمع الدولي في حقبة معينة، ومساهمة الدول والمحاكم الوطنية ووسائل الإعلام، والمجتمع السياسي الفلسطيني نفسه، في إرساء قيم تدعم الحقوق الفلسطينية، في ظل اختلال المعايير الناجمة عن اعتلاء دونالد ترامب المسرح الدولي.
تعالج هالة الشعيبي في دراستها مقولة "التمييز الإسرائيلي" في فتوى المحكمة، وتتساءل عن أسباب عدم اعتراف المحكمة صراحة بكون التمييز يرقى إلى "فصل عنصري". وتجد المؤلفة الإجابة في المواقف المتعارضة التي عبّر عنها بعض قضاة المحكمة في ملاحق منفردة، واتفاقهم على تسوية لفظية تمثلت في عبارة "تمييز بُنيوي". على كل حال، توفر الشعيبي للقارىء، نقاشاً قانونياً شيقاً بشأن العناصر المكونة لجريمة التمييز العنصري أو الأبارتهايد. وفي الخاتمة، ومع تسليمها بأهمية فتوى المحكمة، ترى الباحثة ضرورة تطوير القانون الدولي ليتخطى طابعه المجزأ تجاه الحالة الفلسطينية، فيصبح أكثر شمولية من خلال وضع فلسطين في إطار نظام استعماري استيطاني أوسع.
أمّا ليما بسطامي فتطرقت في مقالتها إلى الالتزامات المترتبة على الجمعية العامة للأمم المتحدة، مثلما أفتت المحكمة بشأنها، وأوضحت أن الجمعية العامة مطالَبة بالتقيد بثلاثة التزامات: عدم الاعتراف بقانونية الوضع الذي أنشأته إسرائيل في المناطق الفلسطينية المحتلة؛ عدم تقديم العون له؛ النظر في الطرائق الدقيقة لإنهائه. كما نظرت في التطبيقات العملية الناتجة من كل من هذه الالتزامات الثلاثة، مع التشديد على أن عدم الاعتراف بقانونية الاحتلال يجب ألّا يقود الأمم المتحدة إلى المساهمة في حرمان الفلسطينيين من الخدمات الأساسية التي يحتاجون إليها. وختمت ليما بسطامي مقالتها باقتراح ما يمكن الجمعية العامة القيام به تجسيداً للالتزامات المتوجبة عليها.
أخيراً، راجعت سونيا بولس استراتيجيات إسرائيل قبل الحرب على غزة وبعدها، تجاه جهود المساءلة القضائية التي تعتبرها إسرائيل "حرباً قانونية" شنّتها عليها القيادة الفلسطينية والمنظمات الحقوقية الفلسطينية ومناصروها. وتعرض الباحثة الهيئات الإسرائيلية المنشأة لمواجهة تلك الحرب والتكتيكات العملية المستخدمة، مثل الضغط على السلطة الفلسطينية، والتجسس والافتراء والترهيب ضد الأفراد، الفلسطينيين منهم والعاملين في محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية. وتشمل التكتيكات القانونية نفي صلاحية المحكمتين في النظر في القضايا المطروحة أمامهما، والادعاء أن المحاكم الإسرائيلية قادرة على التحقيق في مزاعم الانتهاكات، ومحاولة كسب تأييد الدول الصديقة لهذا الموقف، بل حتى الترويج لفكرة نزع الشرعية عن المحكمتين الدوليتين.