Analysis: Lebanon’s Political Landscape After the War
Full text: 

أدت التطورات العسكرية التي تشهدها المنطقة ما بين قطاع غزة ولبنان وسورية إلى تحوّل كبير في المشهد السياسي اللبناني، يمكن وصفه بالجذري، إذ إن الفترة الممتدة من تشرين الأول / أكتوبر 2023 إلى نهاية تشرين الثاني / نوفمبر 2024 كانت حافلة بأحداث عسكرية وأمنية، حملت في طياتها بوادر تغيير في المنطقة عامة، وفي لبنان خاصة. وأتت هذه التطورات بعد أعوام اقتصادية ومالية عجاف عاشها لبنان واللبنانيون في المرحلة التي تلت جائحة "كورونا" وانفجار مرفأ بيروت والانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي.

فقد انهارت قيمة العملة اللبنانية تجاه الدولار الأميركي، وهبطت القدرة الشرائية لدى المواطنين اللبنانيين إلى حدودها الدنيا، وتآكلت مداخيل شرائح واسعة منهم، ولا سيما الذين يتقاضون رواتبهم بالعملة المحلية مثل موظفي القطاع العام والدوائر الحكومية وأعداد كبيرة من موظفي القطاع الخاص. وترافق ذلك كله مع حالة اضطراب وبلبلة كاملتَين في القطاع المصرفي، وفقدان الثقة فيه بعد أن حجبت المصارف الودائع عن أصحابها ومنعتهم من سحبها بما يخالف القواعد المصرفية والمالية البديهية، الأمر الذي أوجد أكبر أزمة مصرفية عرفها لبنان في تاريخه، وتضاهي أزمة بنك "إنترا" الشهيرة في سنة 1966.

في ظل هذه الأجواء، جاء فتح "جبهة إسناد غزة" التي أعلنها حزب الله من الجنوب اللبناني بعد انطلاق عملية طوفان الأقصى، والذي استكمل التحول على صعيد لبنان بحيث بات في عين العاصفة منخرطاً في حروب المنطقة حتى أصبح جزءاً منها بعدما أعلنت إسرائيل حربها التدميرية على لبنان التي استمرت شهرين بين 23 أيلول / سبتمبر و26 تشرين الثاني / نوفمبر 2024، تاريخ التوصل إلى اتفاق "لوقف الأعمال العدائية" برعاية أميركية – فرنسية – عربية.

لقد بذلت المقاومة الإسلامية ممثلة في حزب الله جهوداً ملحوظة لإدارة المعركة، قبل توسعها، بكثير من الدقة كي لا تتفلت الأمور وتتوفر الذريعة لإسرائيل للانقضاض على لبنان. غير أن تلك الخطوات كلها لم تنفع لأن الاحتلال استغل حقيقة أن حزب الله هو من افتتح الجبهة في 8 تشرين الأول / أكتوبر 2023 ليطلق حربه الواسعة، ليس فقط ضد الحزب، بل ضد لبنان واللبنانيين أيضاً. وأتيح لإسرائيل أن تطلق حرباً تصعيدية قاسية كانت تُحضّر لها منذ أعوام لإسقاط ما اصطُلح على تسميته "توازن الرعب".

والسؤال المطروح هنا هو: كيف يمكن قراءة المشهد السياسي في لبنان في ظل وقف إطلاق نار هشّ، وعملية خلط أوراق على الصعيدَين الخارجي والداخلي؟ 

أولاً: تحولات المنطقة وخصوصية لبنان

لا يمكن الحديث عن التطورات على صعيد المنطقة وانعكاسها على الداخل اللبناني من دون الأخذ بعين الاعتبار الواقع السياسي اللبناني الذي يكاد يكون فريداً من نوعه في المنطقة العربية. فالداخل اللبناني يعاني انقسامات عمودية وأفقية بين الخصوصية الطائفية والمناطقية، والولاءات والاعتبارات الخارجية.

فقد اعتاد اللبنانيون لعبة الانقسام والاختلاف في الرؤى السياسية على الصعيدين الشعبي والرسمي، إلّا إن الأمور كانت تزداد خطورة ودقة كلما دخل لبنان مخاض مرحلة جديدة متأثراً بأحداث المنطقة. وهنا لا يمكن إغفال العوامل الطائفية والمذهبية التي تطغى على النموذج اللبناني منذ زمن بعيد سابق لقيام دولة لبنان الكبير، وهي عوامل فتحت الباب على مصراعيه لتدخلات خارجية تختلف باختلاف المراحل.

نتيجة هذه الاعتبارات، فإن التعافي من الأزمات المتكررة يزداد صعوبة مرة تلو الأُخرى، حتى يبدو الأمر كأنه محاولة للخروج من عنق الزجاجة. وهكذا تنعكس خصوصية لبنان بين نظام سياسي مقولب، وتنوع ديموغرافي من شأنه أن يشكل سيفاً ذا حدّين.

إن محاولة الوقوف عند التطورات الأخيرة التي تعيشها المنطقة منذ 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، وتداعياتها على لبنان، ليست بالأمر السهل إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ضبابية المرحلة على الصعيد الداخلي. 

ثانياً: أين لبنان في شرق أوسط جديد؟

لقد بات واضحاً أن المنطقة على عتبة تغيير ترسم الولايات المتحدة خطوطه الكبرى. وبما أن لبنان من أكثر أجزاء هذه المنطقة سخونة، فإن رياح التغيير لا بد من أن تصل إليه، وخصوصاً بعد الإخفاقات العسكرية لإيران وحليفها الأكبر في المنطقة، حزب الله.

فعلى مدى أكثر من عام، منذ بداية حرب الإسناد التي أطلقها حزب الله مساندة لقطاع غزة، راقب سياسيو لبنان وترقبوا النتائج ليبنوا عليها توجهاتهم المقبلة. وبما أن التطورات العسكرية لم تكن لمصلحة حزب الله، فقد وجد خصومه في هذا فرصة لتغيير الوضع القائم سياسياً معتبرين أن الخسارة العسكرية ستؤدي حتماً إلى إضعاف الحزب سياسياً، وبالتالي إلى انتظامه ضمن العملية السياسية أسوة بأقرانه من الأحزاب السياسية الأُخرى؛ بمعنى ألّا "يوظف" فائض القوة التي كان يملكه مجدداً في مجريات اللعبة السياسية الداخلية، أو ألّا يُخلّ بالتوازنات الدقيقة التي تحكم البلد، والتي كان الاضطراب الذي يشوبها، لأي سبب من الأسباب، مدخلاً لقلاقل سياسية وأمنية، وهو ما أثبتته الأحداث التاريخية في العديد من المحطات.

غير أن رياح التغيير لم تقتصر على موازين القوة العسكرية بين إسرائيل وحزب الله ومن خلفه إيران، إذ ما إن تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية حتى جاء التغيير الأكبر من سورية. فقد شكّل سقوط النظام السوري وسيطرة هيئة تحرير الشام بمباركة دولية وإقليمية وعربية، سقطة كبيرة لإيران وحزب الله. وأدت هذه التطورات السريعة إلى سحب الملف السوري من إيران من ناحية، وانكفاء روسيا من ناحية ثانية. وبهذا أصبحت المنطقة على انقلاب في موازين القوى والمعادلات، وعودة الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط من بابه الواسع.

وإذا تحدثنا عن شرق أوسط جديد يرسم خرائطه المنتصرون، فإن اللبنانيين باتوا يدركون أيضاً أنهم على عتبة ولادة لبنان الجديد الذي لم تتّضح معالمه حتى الآن. إلّا إن الواضح أن لبنان قد لا يُسمح له بأن يغرد خارج سرب الشرق الأوسط الجديد، وخصوصاً أن الولادة الجديدة تحمل مباركة من الدول الفاعلة والمؤثرة عربياً. 

ثالثاً: خطورة المرحلة الانتقالية

يعتبر كثير من اللبنانيين أنهم أمام فرصة لا تعوّض ستسمح بقيامة لبنان جديد ينأى بنفسه عن أزمات المنطقة، ويحظى بدعم دولي وعربي يتيح له النهوض اقتصادياً، وخصوصاً أن لبنان لا يزال يعاني تبعات أزمته الاقتصادية منذ أواخر سنة 2019، ولم يتمكن حتى الآن من التعافي منها. غير أن الوصول إلى هذه المرحلة أمامه عقبات كثيرة، في مقدمها واقع الانقسامات السياسية، وعدم التوافق على آلية الانتقال والتغيير.

وإذا كانت مجموعات سياسية لبنانية عديدة قد تحفظت في أثناء الحرب عن المجاهرة برأيها المعارض لاحتفاظ حزب الله بسلاحه، فإن أغلبيتها لم تتوانَ عن ذلك عقب انتهاء الحرب، تحت عنوان "احتكار الدولة للسلاح" أسوة بما هو معمول به في سائر الدول، وإناطة وظيفة الدفاع عن الأراضي اللبنانية بالقوى الشرعية فقط دون سواها، وفي طليعتها الجيش اللبناني.

وترى عدة أطراف لبنانية أن احتفاظ الحزب بسلاحه لم يعد جائزاً بعد تحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي من دون قيد أو شرط في سنة 2000، وهي تستند في ذلك إلى أن جميع الميليشيات اللبنانية المسلحة سلّمت سلاحها وانخرطت في العملية السياسية عند انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية في سنة 1990، بينما أبقى حزب الله على سلاحه، الأمر الذي منحه فائضاً من القوة على أقرانه اللبنانيين لم يتأخر في استعماله ضدهم في عدة محطات كان أبرزها أحداث 7 أيار / مايو 2008، عندما اجتاحت عناصره العاصمة اللبنانية وجبل لبنان، رفضاً لقرارات اتخذتها الحكومة اللبنانية تتعلق بشبكة اتصالات الحزب، وبإقالة مسؤول أمني في مطار بيروت الدولي.

ولعل الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان أخرجت إلى العلن كثيراً ممّا كانت تُضمره قوى لبنانية لناحية ضرورة الدعوة إلى التفاهم الوطني على خطة وطنية للدفاع يكون فيها قرار الحرب والسلم حكراً على الدولة اللبنانية دون سواها من الأطراف، بما يحول دون تورط لبنان في حروب لا طاقة له على احتمالها، وربما لأهداف قد لا تتقاطع بالضرورة مع المصلحة الوطنية اللبنانية العليا.

كما تعالت أصوات المطالبين بحياد لبنان وتحييده عن أزمات المنطقة، وفي مقدمهم البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي كان ولا يزال يدعو إلى حياد لبنان، حياداً إيجابياً، لعدم قدرة هذا البلد على تحمّل تبعات ما يجري حوله من حروب وصراعات، معتبراً أن "هذا الحياد يمكّن لبنان من القيام بدوره الفاعل بوصفه مكان لقاء وحوار بين الثقافات والأديان، ومدافعاً عن السلام والتفاهم في المنطقة."[1]

وفي مقابل الدعوة إلى الحياد، تبرز مطالبات مسيحية بتطبيق الفدرالية بديلاً من النظام السياسي القائم الذي أثبت فشله في إقامة الدولة القادرة. ويرى المطالبون بالفدرالية أن "بناء دولة فدرالية قائمة على مبادىء المواطنة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية هو الخيار الوحيد لضمان استقرار لبنان على المدى الطويل"، إلّا إن هذا "يتطلب إرادة سياسية حقيقية من جميع الأطراف، وهو ما يبدو غائباً في الوقت الحالي."[2]

ورداً على "الفدراليين"، تبرز اتهامات من الجانب الآخر، وخصوصاً من الثنائي الشيعي، بالسعي لتقسيم لبنان من خلال طرح الفدرالية. وهكذا ينقسم اللبنانيون إزاء النظام السياسي وفقاً لتعدد وجهات نظرهم بالنسبة إلى مفهوم الوطن والمواطنة.

وفي ظل هذا التخبط، شكّلت محطة 9 كانون الثاني / يناير 2025 منعطفاً مهماً مع انتخاب قائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية اللبنانية، وهو شخصية تحظى باحترام شعبي واسع. فقد تولى عون إدارة المؤسسة العسكرية في ظروف سياسية واقتصادية ومالية صعبة؛ والأهم أن هذا الانتخاب وضع حداً للشغور الرئاسي الذي عاشه لبنان منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون في 31 تشرين الأول / أكتوبر 2022، من دون أن يفلح المجلس النيابي في اختيار خلف له في المواعيد الدستورية المحددة.

واستُكملت هذه الخطوة بتكليف شخصية قانونية دولية هي الدكتور نواف سلام لتأليف الحكومة الجديدة، وكان يرأس محكمة العدل الدولية منذ 6 شباط / فبراير 2024 لثلاثة أعوام، في إثر انتهاء ولاية القاضية الأميركية جوان إي دونوغو، وأصبح ثاني عربي يتبوأ هذا المنصب بعد وزير خارجية الجزائر الأسبق محمد بجاوي.

وسلام الذي ينحدر من عائلة بيروتية سياسية عريقة، معروف عنه مواقفه الوطنية وخصوصاً تجاه القضية الفلسطينية، فقد ناضل خلال دراسته الجامعية من أجل القضية، وكان لنكسة 1967 تأثير في شخصيته مثل أبناء جيله.[3] واختيار سلام لترؤس الحكومة دليل على طبيعة التغيير في المعادلات القائمة في لبنان، إذ إن ترشيحه لرئاسة الحكومة كان دونه عقبات كثيرة في السابق، ذلك بأن أطرافاً لبنانية عارضت تولّيه منصب رئيس الحكومة.

ومع تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة في فترة زمنية معقولة نسبياً قياساً إلى التجارب السابقة في العقدين الأخيرين، يبقى الاختبار السياسي قائماً بشأن سبل التعامل مع التحديات الكبيرة التي تواجه لبنان في المرحلة المقبلة. 

رابعاً: تحديات المرحلة المقبلة

على الرغم من المناخ السائد بوجود دعم عربي ودولي لرئيس الجمهورية ورئيس الحكومة لقيادة المرحلة الجديدة في لبنان، فإن أمام الرئاستين تحديات كثيرة لا بد من مواجهتها للتمكن من الانطلاق في عملية الانتقال إلى مرحلة الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي.

وعلى رأس هذه التحديات ما نصّ عليه اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل فيما يتعلق بتطبيق القرار 1701 ومندرجاته، وأهمها تولّي الجيش اللبناني مسؤولية الأمن في المناطق التي كانت تحت سيطرة حزب الله، وهو ما يتطلب موافقة حزب الله من ناحية، وتعزيز ودعم الجيش اللبناني على جميع الصعد كي يتمكن من القيام بهذه المهمة، من ناحية ثانية.

وهنا، ثمة إشكالية لا يمكن تجاهلها تتصل بمدى قدرة القوات المسلحة اللبنانية على مواجهة الاستفزازات الإسرائيلية التي لا تتوقف، والتي انتهكت اتفاقية وقف إطلاق النار عشرات المرات، من دون أن يعني ذلك بالضرورة التسليم بإبقاء وظيفة الدفاع عن لبنان من صلاحية حزب سياسي مسلح قد تكون له حساباته ومصالحه الخاصة، بالتوازي مع استبساله في حماية لبنان وتقديم المئات من الشهداء في هذا السبيل.

ويعزز هذه الإشكالية تمنّع الدول الغربية من توفير الدعم العسكري النوعي المطلوب للجيش اللبناني، على الرغم من الارتفاع الملحوظ في الدعم العسكري الأميركي للمؤسسة العسكرية اللبنانية منذ أعوام، وآخرها كان ما أعلنته وزارة الخارجية الأميركية بشأن تقديم أكثر من 117 مليون دولار من المساعدات الأمنية الموسعة والجديدة للجيش اللبناني وقوات الأمن الداخلي.[4] كما أعلن الاتحاد الأوروبي حزمة مساعدات ثالثة في إطار آلية السلام الأوروبية بقيمة 60 مليون يورو لمصلحة الجيش اللبناني.[5]

وعلى الرغم من أهمية تلك المساعدات العسكرية، فإن التساؤل بشأن فاعليتها في الدفاع عن لبنان إزاء التفوق العسكري الإسرائيلي يبدو محقاً، ولا سيما أن الغرب، وفي طليعته واشنطن، ملتزم بالكامل بأمن إسرائيل وبتفوقها في المنطقة، الأمر الذي يجعل لبنان أمام معضلة حقيقية. فهو وإن أبدى حرصه على الالتزام بتنفيذ القرارات الدولية، وطالب بالتزام إسرائيلي بتطبيقها، فإن عدم امتلاك جيشه أدوات المواجهة والردع سيبقيه في موقف ضعيف داخلياً وخارجياً، وهذه معضلة حقيقية لا تجيب عنها المطالبات اللبنانية المحقة بحصر السلاح بيد الدولة.

من الواضح أن الأساليب الدبلوماسية التقليدية لم تُجدِ نفعاً في السابق ولن تجدي نفعاً اليوم، وخصوصاً أن إسرائيل كثيراً ما تصرفت على أنها فوق القانون الدولي، وأنها لا تعيره أي اهتمام يُذكر، وما الإبادة الجماعية التي مارستها في قطاع غزة على مدى أكثر من عام، والعدوان على لبنان، إلّا خير شاهد على ذلك. وكثيراً ما تقدّم لبنان بشكاوى إلى مجلس الأمن الدولي، لكن من دون جدوى، ولو أنه لا يجوز له التخلي عن هذا الحقّ، وعليه ممارسته وفقاً لأبسط حقوق الدول في العالم.

إزاء هذا الواقع، لا مفر من العودة إلى مناقشة استراتيجيا وطنية للدفاع بحيث يُستفاد من قدرات المقاومة وخبراتها، لكن تحت لواء الدولة وضمن أطرها المؤسساتية، وبعيداً عن حالة الانفكاك شبه التام التي سادت المرحلة السابقة، والتي أدت بشكل أو بآخر إلى توفير الذرائع لإسرائيل (التي قلما تحتاج إليها) لضرب لبنان.

في خطاب القسم أمام مجلس النواب، تحدث الرئيس اللبناني المنتخب جوزيف عون عن تثبيت حقّ الدولة في احتكار السلاح، كما أكد بناء "استراتيجية دفاعية كاملة على المستويات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية بما يمكّن الدولة اللبنانية من إزالة الاحتلال الإسرائيلي وردع عدوانه."[6] فهل سيتمكن من وضع هذه الاستراتيجيا موضع التنفيذ، وهو الرئيس القادم من المؤسسة العسكرية، والأكثر دراية بتعقيدات هذه المسألة؟

ويمكن تلخيص أبرز التحديات اللبنانية بالعناوين الرئيسية التالية:

1 - تثبيت وقف إطلاق النار وعدم تجدُّد الحرب بما يتيح عودة الاستقرار إلى طول الخط الأزرق، وعدم اشتعال النزاع مجدداً، ولا سيما على ضوء النتائج التي تولدت عن الحرب الأخيرة.

2 - وقف الانتهاكات الإسرائيلية للسيادة اللبنانية واحترام قرارات الشرعية الدولية، وخصوصاً أن الاستفزازات الإسرائيلية لم تتوقف لا قبل وقف إطلاق النار ولا بعده، فلإسرائيل باع طويل في انتهاك السيادة اللبنانية منذ احتلالها لأرض فلسطين ونكبة 1948، الأمر الذي يستوجب مقاربة جدية للحيلولة دون تكرار تلك الاعتداءات من دون هوادة.

3 - وضع خطة وطنية للدفاع بحيث تمارس الدولة وظيفتها السيادية، وهو مطلب وطني لبناني تطرحه القوى المتعددة، وبعضها يدعو إلى الاستفادة من خبرات المقاومة وقدراتها، لكن ضمن الأطر الرسمية للدولة اللبنانية.

4 - إعادة إعمار القرى الجنوبية والبقاعية والضاحية الجنوبية التي شهدت دماراً هائلاً، واعتبارها أولوية في المرحلة المقبلة لما لها من تأثيرات في النسيج الاجتماعي للقرى اللبنانية، وفي معيشة الأهالي الذين فقدوا بيوتهم وأرزاقهم. وإذ تتفاوت التقديرات المالية بشأن الخسائر، فإن التوقعات تبقى بأن يساهم الانفراج الذي حدث في علاقات لبنان العربية في توفير مسارات تمويلية تتيح الخروج من الواقع الراهن الصعب.

5 - تثبيت الاستقرار النقدي وقيمة العملة الوطنية والدخول المتدرج في مرحلة التعافي الاقتصادي وانتعاش الحركة الاقتصادية التي شهدت تراجعاً كبيراً في النمو، وغياب فرص العمل والمشاريع الاستثمارية.

6 - استكمال التدقيق الجنائي ووضع خطة لمعالجة مشكلة الودائع المصرفية، ولا سيما أن هذه القضية لامست جميع شرائح المجتمع اللبناني بتفاوت قدراتهم المالية، كما أصابت المودعين غير اللبنانيين من سوريين وفلسطينيين وعرب وأجانب ممّن كانوا يثقون بالنظام المصرفي اللبناني، ويحقّ لهم استعادة ودائعهم.

7 - وضع رؤية اقتصادية شاملة من أجل تنشيط الاقتصاد اللبناني بعد المشكلات والفجوات الكبرى التي مر بها، والالتفات إلى القطاعات الموازية للقطاع السياحي الذي لا يكفي للنهوض باقتصاد البلد على أهميته، وفي طليعتها قطاعات الصناعة، والزراعة، وتكنولوجيا المعلومات الذي يمكن للبنان أن يحقق نجاحات ملحوظة فيه نظراً إلى الكفاءات البشرية الشابة العاملة في هذا القطاع الحيوي.

8 - الالتفات إلى الواقع المعيشي المزري للمخيمات الفلسطينية ومعالجة قضية السلاح داخلها وخارجها، وفتح النقاش الموضوعي والهادىء بعيداً عن العنصرية والشعبوية حيال الحقوق المدنية للفلسطينيين في لبنان، بما يتيح انخراطهم في سوق العمل وفق القوانين والأنظمة اللبنانية المعمول بها، مع تأكيد حق العودة كمسألة مسلّم بها ومن الثوابت الوطنية.

9 - فتح حوار مع الحكم السوري الجديد بشأن النازحين السوريين الذين لا بد من توفير عودة طوعية وآمنة لهم بعد التطورات الأخيرة التي شهدتها الساحة السورية.

10 - توطيد علاقات لبنان الخارجية، ولا سيما العربية منها بعد تضرّرها بشكل كبير خلال الأعوام الماضية، وهو ما يثبت هوية لبنان العربية، فهو عضو مؤسس في جامعة الدول العربية، ولا يمكنه الخروج من هذه البيئة الحاضنة، ذلك بأن تكلفة الخروج منها باهظة للغاية على المستويَين السياسي والاقتصادي على حد سواء. 

خاتمة

في المحصلة، لا يبدو أن المشهد السياسي في لبنان يسير على خطى أكيدة نحو التغيير تواكب ما يجري في المحيط، حتى مع الحكومة الجديدة، بل إن طبيعة النظام السياسي، والتجاذبات السياسية التي تتحكم في ممارسات مختلف الأطراف، وأجواء عدم الثقة السائدة بينها، ستظل تشكل عائقاً أمام محاولات التغيير، وإن كان الشرق الأوسط يشهد تحوّلاً جذرياً في طبيعة الأدوار الدولية والإقليمية.

إن المشكلة الطائفية والمذهبية في لبنان مشكلة متجذرة وتفرض نفسها على الواقع القائم، وهي عامل أساسي في مختلف نواحي الحياة السياسية، وبات واضحاً أن تجاوزها لا يبدو سيكون متيسراً في المدى المنظور على ضوء تمترس القوى السياسية خلف طوائفها، وبسبب التغاضي المتعمد للآليات التي ينصّ عليها الدستور اللبناني لإلغاء الطائفية السياسية، ومنها تشكيل الهيئة الوطنية المولجة وَضْع الخطوات العملية لذلك، والتي يفترض أن يترأسها رئيس الجمهورية، وهي لم تتشكل منذ إقرار اتفاق الطائف في سنة 1989.

إن التوزع الأفقي للنفوذ السياسي في لبنان، وارتباطه بالاعتبارات الطائفية والمذهبية المشار إليها، إنما يجعل من عملية التغيير والإصلاح مسألة في غاية التعقيد، وهو ما يستوجب مضاعفة الجهود لتأكيد المساواة بين اللبنانيين أمام القانون من دون تفرقة أو تمييز، وذلك بهدف البدء بخطوات محددة تتيح بناء مناخات وطنية وسياسية جديدة، لكن من الواضح أن المسيرة في هذا الاتجاه طويلة.

 

المصادر:

[1] "البطريرك الراعي: لا خلاص للبنان إلا بالعودة إلى الحياد الإيجابي"، "الشرق الأوسط"، 24 كانون الأول / ديسمبر 2024، في الرابط الإلكتروني.

[2] سليم زخور، "أزمة نظام وليس أزمة حكم: نحو الفدرالية التوافقية"، "نداء الوطن"، 27 / 1 / 2025، في الرابط الإلكتروني.

[3] "نواف سلام قاضٍ دولي يرأس حكومة لبنان"، موقع "الجزيرة" – "الموسوعة"، في الرابط الإلكتروني.

[4] "الولايات المتحدة تعلن عن مساعدات أمنية موسعة لدعم تنفيذ لبنان لاتفاق وقف الأعمال العدائية"، "وزارة الخارجية الأميركية"، 18 كانون الثاني / يناير 2025، في الرابط الإلكتروني.

[5] "المجلس الأوروبي يعتمد حزمة مساعدات ثالثة لدعم الجيش"، "الأنباء"، 22 كانون الثاني / يناير 2025، في الرابط الإلكتروني.

[6] "خطاب القسم لرئيس لبنان الجديد: حياد إيجابي... وحقّ الدولة باحتكار السلام"، "الشرق الأوسط"، 9 كانون الثاني / يناير 2025، في الرابط الإلكتروني.

 

Author biography: 

رامي الريّس: مدير مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، صحافي وكاتب.