كُتب العديد من الدراسات والأدبيات عن الحواجز العسكرية الصهيونية من جوانب متعددة، ولا سيما خلال فترة انتفاضة الأقصى التي انطلقت في أيلول / سبتمبر 2000 وما تلاها؛ لكن من دون الخوض في مراجعة نقدية لهذه الأدبيات، لأن المقالة الحالية لا تحتمل ذلك، فإن الفكرة التي طرحها وليد دقة في كتابه "صهر الوعي"[1] بشأن المقاربة بين هندسة السجن الصهيوني وهندسة جغرافيا الضفة الغربية، تُعتبر فكرة جوهرية وأساسية في دراسة الحواجز العسكرية الصهيونية. كما أن الكاتب الإسرائيلي أليساندرو بيتي توسع في هذه المقاربة، وقام بمقاربة بين مختلف العناصر في الجغرافيتين: جغرافيا السجن توازي جغرافيا الضفة الغربية، والزنزانات توازي القرى والمدن والبلدات الفلسطينية، والمستعمرات توازي أبراج المراقبة داخل السجن، والشوارع والطرقات توازي الممرات المتنوعة داخل جغرافيا السجن، والحواجز العسكرية والإغلاقات توازي بوابات السجن المتعددة، والجيش الإسرائيلي والمستوطنون يوازون حراس السجن، والفلسطينيون في الضفة الغربية يوازون السجناء الفلسطينيين.[2] ويمكن إضافة جدار الفصل العنصري الذي يتحكم فيه المستعمر بمثابة الجدار المنيع الذي يحيط بالسجن. ويتحدث الكاتب أريئيل هاندل عن الوقت الذي تتطلبه المسافة بين نقطتين جغرافيتين، فمهما تكن المسافة الجغرافية قريبة بين النقطتين، فإن تلك المسافة لا تُحسب فقط بمعدل السرعة التي تستغرق قطعها بحساب "كلم/ساعة"، وإنما بحساب قدرة الفلسطيني على قطع هذه المسافة في واقع العرقلة والسماح والمنع الذي يتحكم فيه الإسرائيلي.[3] وتفيدنا هذه المقالة بأن هندسة الضفة الغربية كحالة سجن بهدف السيطرة على حركة الجسد الفلسطيني تم التحضير لها منذ عدة أعوام، لكن ما الجديد في السياسة الإسرائيلية تجاه الحواجز العسكرية والإغلاقات بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023؟ ومن أجل كتابة هذه المقابلة أُجريت مقابلات غير ممنهجة مع خمس فلسطينيين يتنقلون عبر الحواجز داخل محافظاتهم وهي: جنين وطولكرم ورام الله وبيت لحم والخليل، إلى جانب مقابلة مع سائق سيارة عمومية يعمل على خط رام الله – جنين، وذلك خلال كانون الثاني / يناير 2025، علاوة على تجربة الباحث ومتابعته اليومية لأوضاع وحركة التنقل مع الأصدقاء والأقارب.
يمكن الحديث عن مجموعة من القضايا التي استُحدثت و / أو كُثّفت بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 بالنسبة إلى سياسات إغلاقات الاحتلال الإسرائيلي، ويمكن إجمالها بما يلي:
هيمنة سلطة ونفوذ اليمين المتطرف والمستوطنين
إن الشكل العام للسياسات الصهيونية السابقة تجاه الفلسطينيين هو تبنّي فكرة "العصا والجزرة"، وهذه السياسة طورتها إسرائيل منذ احتلالها الضفة الغربية في سنة 1967، وتستند مثلما يقول وليد حبّاس إلى ثلاثة مبادىء لموشيه دايان تتمثل في: "الاحتلال المتنور"؛ "الاحتلال الخفي"؛ "علوم إدارة السكان". وتركّز هذه المبادىء على الممارسات غير المرئية للسيطرة والتحكم والتوسع الاستعماري، وإتاحة حياة شبه طبيعية للفلسطينيين، واعتماد القنوات الفلسطينية في إدارة السياسات الاستعمارية، بما يشمل قضايا السلام الاقتصادي وتوفير فرص العمل داخل إسرائيل وبقاء أفق الحل السياسي عبر التفاوض مفتوحاً، لكن ذلك بالتزامن مع الاستمرار في فرض السيطرة والتوسع الاستيطاني ومصادرة الأراضي واستخدام العنف.[4] وهذه الممارسات الإسرائيلية التوسعية كانت تتم بصورة أقل تسارعاً وعلناً وغطرسة، فمثلاً، كان يتم استخدام مصطلحات "التوسع الطبيعي" للمستعمرات، من خلال زيادة عدد الوحدات السكنية، أو اعتبار المستعمرات الجديدة بؤراً استيطانية غير معترف بها رسمياً من الحكومة الإسرائيلية، لكن في الوقت ذاته يتم تزويدها بجميع مرافق البُنية التحتية والخدمات أسوة بسائر المستعمرات "الشرعية" تمهيداً للاعتراف بها مستقبلاً. مثال آخر: أغلقت إسرائيل كثيراً من البلدات والقرى الفلسطينية، لكن لفترات قصيرة نسبياً، وذلك كجزء من العقاب والتحذير بمزيد من الإجراءات. وهذه السياسة المتّبعة من الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة جاءت بناء على دراسات وتقديرات إسرائيلية بأن الضغط على الفلسطينيين سيعمل على اندلاع العنف في الضفة الغربية، غير أن إسرائيل في الوقت ذاته استخدمت القوة المفرطة في الاعتداء على الفلسطينيين في عدة أوقات، وذلك بناء على سياسة "جباية الثمن" التي تستخدمها إسرائيل ضد الفلسطينيين تحت مبررات عديدة، مثلما هي الديباجة الإسرائيلية المستمرة لتبرير جميع سياساتها كدولة استعمارية، وفحواها "محاربة الإرهاب الفلسطيني".
لقد دفع وصول اليمين المتطرف والمستوطنين إلى قمة القرار السياسي الإسرائيلي إلى التركيز على استخدام سياسة "العصا الغليظة"، وبذلك اتبعت الحكومة الإسرائيلية سياسة "حسم الصراع"،[5] وهذه السياسة وَجدت بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر تكثيفاً لها. وتتبنّى هذه السياسة نمطين من استهداف الفلسطيني: الأول، هو العمل على التوسع الاستيطاني المصحوب مع "تنظيف" الأرض من الفلسطينيين، والثاني، هو زيادة الضغط والتضييق على الفلسطيني بهدف تهجيره من الضفة الغربية إلى دول أُخرى. ونجد مظاهر النمط الأول في التوسع الكثيف للاستيطان والاعتراف بالبؤر الاستيطانية مباشرة، ومنع الفلسطينيين من الوجود في مساحات كبيرة من الأراضي، وليس فقط في محيط المستعمرات، مثلما هي الحال مع اعتداءات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين على التجمعات البدوية والرعاة، وكذلك على الفلسطينيين الذين يتجولون في الجبال والوديان. وجاء تعيين المستوطن المتطرف بتسلئيل سموتريتش كوزير مدني ثانٍ في وزارة الدفاع الإسرائيلية، على أن يكون نائب رئيس الإدارة المدنية تابعاً له، تعزيزاً لانتقال حالة الاستعمار العسكري الموقت إلى حالة ضمّ مدني دائم.[6] أمّا مظاهر النمط الثاني فنجده في تضييق حركة السكان الفلسطينيين من خلال تكثيف الحواجز والإغلاقات واعتداءات المستوطنين على الطرقات والبلدات الفلسطينية، إذ تحدث وزير المالية الصهيوني سموتريتش في اجتماع مع قادة المستوطنين في الضفة الشهر الماضي عن أنه وضع خطة تجعل البلدات والمدن الفلسطينية مثل الفندق ونابلس وجنين تبدو كأنها جباليا في شمال غزة، وذلك كي لا تتحول كفار سابا في وسط إسرائيل إلى كفار غزة،[7] هذا إلى جانب تصريحاته العديدة مثل "محو قرية حُوّارة"،[8] وتصريحات وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير. ويتحدث وليد حبّاس عن ثلاثة مستويات لدور الحواجز العسكرية الإسرائيلية، وعن أنها تتركز على إدارة السكان وحركتهم ومكانهم.[9] غير أن الهدف العلني والضمني لهذه المستويات ليس كالسابق، أي سياسة "العصا والجزرة"، وإنما تكثيف دور الحاجز في تشكيل بيئة قاهرة وصعبة تدفع الفلسطينيين إلى الهجرة من فلسطين، وذلك بعد صعود اليمين والمستوطنين إلى قمة الحكم في إسرائيل.
خريطة الحواجز العسكرية الإسرائيلية
لم تعد سياسة الحواجز الإسرائيلية في الضفة الغربية تركز على تقسيم الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق جغرافية: شمال ووسط وجنوب، على غرار الحواجز الرئيسية الكبيرة، مثل حواجز حُوّارة وعَنَّبْتا وزَعْتَرَة[10] والكونتينر، إلى جانب العديد من الحواجز المتنوعة الأقل مستوى من حيث البُنية التحتية و"الحواجز الطيارة" المنتشرة بين القرى الفلسطينية داخل المحافظات. والشكل العام الجديد والمكثف له هدفان: الأول، عزل القرى والبلدات الفلسطينية عن مركزها المديني، والثاني، عزل القرى الفلسطينية بعضها عن بعض.[11] وتصف سامرة إسمير وضع الحواجز العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر بالقول: "لم تعد الحواجز محض حواجز، وإنما تطورت لتصير أداة مصغرة للحصار [....] وبما أن الحواجز هي أدوات لانتشار الحصار الذي يعزل الفلسطينيين في مساحات أصغر من الأراضي، فإنها تيسّر تجزئة الأرض والشعب."[12]
إن عدد التجمعات الفلسطينية وفقاً للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني هو نحو 516 تجمعاً، وعدد الحواجز الإسرائيلية بحسب هيئة مقاومة الجدار والاستيطان في منتصف كانون الثاني / يناير 2015، نحو 898 حاجزاً، الأمر الذي يعني أن كل تجمّع فلسطيني (مدينة؛ قرية؛ مخيم؛ خربة؛ تجمّع بدوي) له 1,74، الأمر الذي يجعل فكرة مقاربة السجن الإسرائيلي للضفة الغربية واقعاً غير مبالغ فيه. وتُعتبر محافظة الخليل أكثر محافظة فلسطينية تعاني جرّاء العزل بسبب الإغلاقات باستخدام البوابات الحديدية للمدينة والقرى، فعدد الحواجز الإسرائيلية في تلك المحافظة يبلغ 230 حاجزاً، منها 112 بوابة مغلقة بالكامل، و118 حاجزاً يقف عنده جنود الاحتلال.[13] ويعود السبب في ذلك إلى طبيعة التداخل بين التجمعات الفلسطينية والمستعمرات الإسرائيلية.
توزيع الحواجز الصهيونية على محافظات الضفة الغربية
# |
المحافظة |
عدد الحواجز |
1. |
الخليل |
229 |
2. |
رام الله والبيرة |
156 |
3. |
نابلس |
147 |
4. |
القدس |
82 |
5. |
بيت لحم |
65 |
6. |
قلقيلية |
53 |
7. |
سلفيت |
50 |
8. |
طوباس |
33 |
9. |
أريحا |
32 |
10. |
طولكرم |
27 |
11. |
جنين |
24 |
|
المجموع |
898 |
المصدر: هيئة مقاومة الجدار والاستيطان (تشمل الحواجز: حاجزاً ثابتاً، أو حاجزاً طياراً، أو سدّة ترابية، أو بوابة حديدية، أو مكعبات أسمنتية).
تتنوّع أماكن انتشار الحواجز وفقاً للجغرافيا الفلسطينية، فالمدن الفلسطينية، باستثناء مدينة جنين، تحاصرها الحواجز الإسرائيلية في معظم مداخلها، كما أن أغلبية القرى الموصولة مداخلها الرئيسية مباشرة بالشوارع الالتفافية التي يستخدمها المستوطنون الإسرائيليون مغلقة. وهذا المنطق فرض وجود عدة حالات من الإغلاقات، وهو إغلاق قرية بشكل منفرد وفصلها عن سائر القرى المحيطة بها. وتشكل قرية دير أبو مَشعل في رام الله، وقرية بيت فَجَّار في محافظة بيت لحم، مثالين لهذا النوع من القرى، إذ أُغلقت مداخل القرى ببوابة حديدية، كما أُغلق بعض الطرقات الوعرة بين حقول الزيتون بالسواتر الترابية. وقد تُغلَق مجموعة من القرى بعضها مع بعض، وهذا له سببان: الأول، هو أن هذه القرى تشترك بمدخل واحد على الشارع الالتفافي، مثلما هي الحال على سبيل المثال مع قرى النبي صالح وبيت ريما ودير غسانة وكفر عين وقراوة بني زيد، فمدخل هذه القرى جميعها هو مدخل قرية النبي صالح، وقد أُغلقت هذه القرى بإغلاق البوابة الحديدية على مدخل القرية؛ أمّا السبب الثاني فهو أن لكل قرية من مجموعة قرى متصلة مدخلاً منفصلاً على الأقل على الشارع الالتفافي. ومنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر بات الاحتلال الإسرائيلي يُغلق هذه المداخل كلها، ولم يعد يُبقي سوى على بوابة واحدة لمجموعة القرى هذه، تُفتح وتُغلق وفقاً لما يقرره الإسرائيلي. وتُعتبر قرى عَزَّون وعَزَّون عَتْمِة والنبي إلياس في محافظة قلقيلية، وقرى بَتّير وحوسان ونَحّالين ووادي فوكين في محافظة بيت لحم، مثالاً لهذه الحالة من الإغلاقات.
واختارت إسرائيل مواقع وجود الحواجز العسكرية في الأماكن التي لا تشكل عرقلة لحركة تنقّل المستوطنين والجيش الإسرائيلي، وهو هندسة جديدة استفادت منها إسرائيل من تجربة الحاجز في انتفاضة الأقصى، إذ كان وجود بعض الحواجز يعرقل حركة تنقّل المستوطنين، ولهذا انتقلت الحواجز الحالية إلى مداخل المدن والقرى والبلدات الفلسطينية، وهو ما يمكّنها من احتجاز الفلسطينيين ساعات طويلة من دون أن يشكل ذلك خطراً أو إعاقة لتنقّل المستوطنين والجيش الإسرائيلي. وفضلاً عن ذلك، فإن احتجاز أعداد كبيرة من السيارات على الحاجز يخضع لهذا الاعتبار، فمثلاً نجد أن الأعداد الكبيرة من السيارات الفلسطينية المحتجزة يكون من الجهة الفلسطينية من الحاجز، ويعمل على تفعيل حجز أعداد كبيرة من السيارات الفلسطينية من جهة الشارع الالتفافي أيام السبت، أي في أوقات عدم تنقّل المستوطنين. كما أن الاحتلال غيّر بعض مواقع الحواجز بحيث تمكّن من احتجاز السيارات على جانبي الحاجز من دون إعاقة تنقّل المستوطنين ودوريات الجيش، فمثلاً نقل موقع حاجز عطارة شمالي قرية بيرزيت إلى الموقع القديم كي يتمكن من احتجاز أعداد كبيرة من السيارات من جهة الشارع الالتفافي، ونقل موقع حاجز "المربعة" شمالي قرية مادما ليصبح في إمكانه احتجاز أعداد كبيرة من الفلسطينيين من دون إعاقة دخول / خروج دوريات الجيش الإسرائيلي من المعسكر الإسرائيلي القريب من الحاجز، وهو السبب ذاته في إغلاق حاجز حُوّارة تماماً منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، وحصر الوصول إلى مدينة نابلس عبر حاجزَي المرَبَّعة وعَوَرْتا. إلى جانب ذلك، هناك كثير من الحواجز التي تُفتح وتُغلق يومياً في الأوقات التي لا تشكل حركة الفلسطينيين تضييقاً على حركة المستوطنين، ولا تسبب لهم أزمات مرورية وغيرها، وهذه السياسة جاءت انسجاماً مع رغبة الوزير الصهيوني بن غفير الذي قال: "حق المستوطنين في الحياة له الأولوية على حرية تنقّل الفلسطينيين."[14] فعلى سبيل المثال، تُفتح هذه الحواجز مع إجراءات مشددة غالباً بعد التاسعة صباحاً، وتُغلق عند الساعة الرابعة عصراً، أي في الفترة التي يذهب فيها المستوطنون إلى أعمالهم ويعودون منها، مثلما هي الحال على سبيل المثال مع حواجز: جَبَع شمالي مدينة القدس؛ بيت إيل شمالي مدينة البيرة؛ عناب شرقي بلدة عَنّبْتا؛ حواجز النَّشاش والإسكان وعشّ الغراب في محافظة بيت لحم.
تنشيط كامل عناصر السجن الكبير
قامت إسرائيل بتفعيل جميع عناصر السجن بشكل متزامن ومكثف وطويل الأمد، فقد أُغلق عدد كبير من القرى والمدن الفلسطينية، وبالتحديد مداخل القرى والبلدات والمدن الفلسطينية التي تتصل مباشرة بالشوارع الالتفافية المخصصة للمستوطنين، وجرى تفعيل استخدام الجيش الإسرائيلي العنف على الفلسطينيين الذين يتمكنون من الحركة على هذه الشوارع والطرقات. فعلاوة على التنكيل الجسدي بالفلسطينيين على الحواجز والطرقات، يقوم الإسرائيلي باحتجازهم ساعات طويلة على هذه الحواجز، وهو ما يتسبب بزيادة معاناتهم والدفع بهم نحو عدم التنقل والحركة. كما تم تفعيل دور المستوطنين في ممارسة الانتهاكات تجاه الفلسطينيين، فإن وجودهم على الطرقات والشوارع يشكّل حواجز جديدة للفلسطينيين، واعتداءاتهم على الفلسطينيين الذين يتنقلون على الطرقات خَطَر "منفلت" و"فوضوي"، وهو ما يجعل الفلسطيني يتجنب التنقل إلّا في الضرورة القصوى.
ثمة جانب آخر لهذه التطورات الجديدة في هندسة الضفة الغربية كسجن إسرائيلي يُحتجز فيه جميع الفلسطينيين، هو تكثيف استخدام البوابات الحديدية لإغلاق البلدات والمدن الفلسطينية. وهذا التطور مهم من عدة نواحٍ: أولاً، أن البوابة الحديدية هي أكثر استدامة من أنواع الحواجز الأُخرى، بمعنى يمكن تفعيلها بأي لحظة، ومن دون الحاجة إلى إزالتها في حال سُمح برفع الإغلاق عن البلدة والمدينة الفلسطينية؛ ثانياً، أن البوابات الحديدية عملت على سرعة الإغلاق وبشكل شبه متزامن في عدة مواقع، فمثلما قال أحد سائقي السيارات العمومية، إنه يمكن عبر أدوات الاتصال بالجيش تعميم الأمر بإغلاق الضفة الغربية، بحيث تصبح مغلقة خلال ربع ساعة، كأنها كبسة زر، وهذا عكس الأدوات الأُخرى التقليدية لعملية الإغلاق؛ فمثلاً إغلاق القرى والبلدات كان يتطلب استدعاء جرافات عسكرية لوضع المكعبات الأسمنتية، أو حفر الخنادق، أو وضع كتل رملية على مداخل هذه القرى، الأمر الذي يتطلب وقتاً وجهداً وتكاليف كبيرة، لكن مع وجود البوابات باتت عملية الإغلاق سريعة ومتزامنة، وأكثر سهولة ويسر.
جانب آخر من تكثيف عملية الإغلاقات عبر الحواجز، وفقاً لسائق سيارة عمومية، هو أن الوصول إلى الشوارع الالتفافية التي توصل معظم التجمعات بعضها ببعض، يجب أن يكون عبر المرور على حاجز إسرائيلي، أكان هذا الحاجز موقتاً أم دائماً، فقد أُغلقت جميع الطرق الترابية والوعرة التي توصل القرى بالشوارع الالتفافية سواء من خلال وضع بوابات على هذه الطرق، أو بالسواتر الترابية. يقول سائق السيارة العمومية: "كنا سابقاً لمّا يسكر أي حاجز نجد عشرات من الطرق الترابية نتجاوز فيها الحاجز ونعبر منها إلى ما نريد، لكن الآن كل الطرق الترابية مغلقة، وأنت مجبر أن تمر عبر الحاجز وتنتظر لساعات طويلة."
الفلسطينيون والحواجز العسكرية
التعامل الفلسطيني مع الحواجز والإغلاقات العسكرية متفاوت ومتنوع، ولا شك في أن العديد من الفلسطينيين تجنبوا قدر الإمكان التنقل والحركة بين المدن الفلسطينية، ولا سيما التنقل لأغراض ترفيهية مثلما اعتادت الأُسر والمجموعات الفلسطينية المتعددة القيام به، كما أن عدة مؤسسات فلسطينية أضحت تنجز أعمالها عن بعد باستخدام طرق الاتصال التكنولوجية، أو تفعيل الاجتماعات الافتراضية مثلما كان معمولاً به في فترة جائحة كورونا.
لكن نسبة كبيرة من الفلسطينيين لم تتوقف عن التنقل والحركة بين المدن والقرى الفلسطينية، وهذا ما تشهده الأزمات على الحواجز العسكرية الإسرائيلية، غير أن الطرق بالنسبة إلى الفلسطينيين باتت متعبة ومرهقة وتأخذ وقتاً طويلاً، فمثلاً الوصول من مدينة نابلس إلى مدينة رام الله قد يستغرق ساعات عديدة، إذ يضطر الفلسطينيون إلى الوقوف على حاجز بيت إيل مدة ربما تتجاوز الساعة، وكذلك الحال مع حاجز عطارة أو حاجز عين سينيا في محافظة رام الله، وأحياناً يضطر المسافر إلى أن يستخدم طرقاً أطول وأكثر إرهاقاً مثل استخدام الطرق التي توصل إلى سِلواد ودير جَرير وكفر مالك وأبو فَلاح وتُرْمُسعَيّا التي يكون غالبا على مدخلها حاجز إسرائيلي. ونتيجة الإغلاق التام لحاجز حُوّارة، فإن المسافر إلى مدينة نابلس مضطر إلى المرور عبر حاجز عورتا أو حاجز "المربعة"، وهو ما يستغرق ساعات طويلة، هذا إلى جانب التعب والإرهاق جرّاء استخدام طرق ترابية أو داخل القرى غير المؤهلة. ففي الوضع الطبيعي يستغرق الوصول من مدينة رام الله إلى مدينة نابلس بالحد الأقصى ساعة، الأمر الذي يمكّنك من إنجاز أكثر من عمل في اليوم ذاته.
كثيرون من الفلسطينيين يتجنّبون التنقل بسياراتهم الخاصة، ويفضلون استخدام السيارات العمومية، وذلك لتجنّب عنف المستوطنين وتحطيم مركباتهم، أو اضطرارهم إلى استخدام أكثر من سيارة بسبب الإغلاقات، أو لإدراكهم قدرة سائقي السيارات العمومية على انتقاء حواجز أقل أزمة، ولا سيما أن لدى هؤلاء السائقين مجموعات اتصال فيما بينهم ترشدهم إلى الحواجز الأقل ازدحاماً.
وساهم التضييق الشديد عبر الحواجز في إنشاء مجموعات في شبكات الواتساب والإنستغرام والفيسبوك خاصة بالحواجز الإسرائيلية، بحيث يمكن لأي شخص أن يسأل أو يعلّق على وضع حواجز معينة، كما خصص بعض المحطات الإذاعية فقرات يومية بشأن وضع الحواجز، وخصوصاً خلال فترة الصباح والمساء، أي في الفترات التي يذهب الفلسطينيون إلى أعمالهم ويعودون منها.
وشهدت الفترة التي تلت وقف حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، وبالتزامن مع العدوان على الضفة الغربية، تكثيفاً شديداً للإغلاقات والتضييق على حركة تنقّل الفلسطينيين الذين يضطرون إلى الانتظار على الحواجز ساعات طويلة جداً، وقد عبّر الفلسطينيون عن حال الحواجز العسكرية باستخدام الفكاهة، مثل: "ختمت أجزاء باب الحارة على الحواجز"، "مسلتزمات السفر في طرق الضفة"، وهي قائمة يعدّدون فيها مسلتزمات البيت الفلسطيني، كأن الفلسطينيين يعيشون على الحاجز.
خاتمة
لقد صُممت هندسة الحواجز العسكرية الإسرائيلية قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 بأعوام، ويمكن القول إن الاحتلال الإسرائيلي استفاد من تجربة الحواجز خلال فترة انتفاضة الأقصى في سنة 2000 وما بعدها، فالهدف من تصميم الحواجز هو تحقيق قدرة الاحتلال الإسرائيلي على إغلاق الضفة الغربية خلال فترة قصيرة جداً قد لا تتجاوز خمس عشرة دقيقة. وما حدث بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 هو تفعيل هذه الحواجز بصورة مكثفة ومتزامنة، الأمر الذي يعبّر عن السياسة التي يتطلع إليها الاحتلال الإسرائيلي إلى مستقبل الضفة الغربية، وهو تعزيز السيطرة والتحكم في الفلسطينيين وحركتهم وتفاعلهم مع المكان، ومن جانب آخر توفير بيئة قاهرة تعمل على تعزيز هجرتهم من الضفة الغربية، وهذا الهدف صرّح عنه كثيراً بعض وزراء الحكومة الإسرائيلية، ولا سيما سموتريتش وبن غفير.
المصادر:
[1] وليد نمر دقّة، "صهر الوعي: أو في إعادة تعريف التعذيب" (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات؛ بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2020).
[2] أليساندرو بيتي، "اللاتماثلات: شبكة الطرق في الفضاء الفلسطيني - الإسرائيلي"، في: "حالة الاستثناء والمقاومة في الوطن العربي"، تحرير ساري حنفي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2010)، ص 39 - 81.
[3] أريئيل هاندل، "أين، وإلى أين، ومتى في الأرض المحتلة: مقدمة لجغرافية الكارثة"، في: "سلطة الإقصاء الشامل: تشريح الحكم الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة"، تحرير ساري حنفي وآخرين (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012)، 209 - 282.
[4] وليد حبّاس، "الحكم العسكري في الضفة الغربية: من سياسة العصا والجزرة إلى سياسة العصا الغليظة وحسب!"، "المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية / مدار"، 10 تموز / يوليو 2023، في الرابط الإلكتروني التالي:
مدار - الحكم العسكري في الضفة الغربية: من سياسة العصا والجزرة إلى سياسة العصا الغليظة وحسب!
[5] وليد حبّاس وعبد القادر بدوي، "إسرائيل والضفة الغربية: جبهة حرب أُخرى وأفق سياسي مفتوح على الاحتمالات!"، "المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية / مدار"، 1 شباط / فبراير 2014، في الرابط الإلكتروني التالي:
مدار - إسرائيل والضفة الغربية: جبهة حرب أُخرى وأُفق سياسي مفتوح على الاحتمالات!
[6] أنطوان شلحت، "تراكم المؤشرات إلى تطبيق سياسة 'الاستيطان في مسار سريع' في أراضي الضفة الغربية"، "المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية / مدار"، 13 كانون الثاني / يناير 2025، في الرابط الإلكتروني التالي:
مدار - تراكم المؤشرات إلى تطبيق سياسة "الاستيطان في مسار سريع" في أراضي الضفة الغربيّة
[7] المصدر نفسه.
[8] "بتسلئيل سموتريتش: غضب دولي بعد دعوة الوزير الإسرائيلي لـ "محو" بلدة حُوّارة الفلسطينية" "بي. بي. سي. نيوز عربي"، 3 آذار / مارس 2023، في الرابط الإلكتروني التالي:
بتسلئيل سموتريتش: غضب دولي بعد دعوة الوزير الإسرائيلي لـ"محو" بلدة حوارة الفلسطينية - BBC News عربي
[9] وليد حبّاس، "عن منظومة الحواجز العسكرية والمعابر في الضفة الغربية.. عددها، أنواعها ووظائفها!"، "المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية / مدار"، 10 تشرين الأول / أكتوبر 2022، في الرابط الإلكتروني التالي:
مدار - عن منظومة الحواجز العسكرية والمعابر في الضفة الغربية.. عددها، أنواعها ووظائفها!
[10] أُلغي حاجز زعترة منذ أعوام، وتحول إلى "حاجز طيار" يوقف أحياناً الفلسطينيين.
[11] باستثناء مدينة جنين التي تُعتبر المدينة الوحيدة التي تخلو من الحواجز العسكرية، باستثناء حاجز "دوتان" غرب المحافظة، القريب من مدخل بلدة يعبد.
[12] سامرة إسمير، "ارشادات غزة: عن نهاية الحكم الاستعماري"، ترجمة عبد الرحيم الشيخ، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 137 (شتاء 2024) ص 27 – 37.
[13] تقرير لتلفزيون فلسطين بتاريخ 23 كانون الثاني / يناير 2025، في الرابط الإلكتروني التالي:
[14]. "بن غفير يطالب بـ 'حواجز دائمة' على طرق الضفة"، "الجزيرة نت"، 12 كانون الأول / ديسمبر 2024، في الرابط الإلكتروني التالي:
بن غفير يطالب بـ"حواجز دائمة" على طرق الضفة | أخبار | الجزيرة نت