Jerusalem During the War on Gaza: Actions of Judaization
Full text: 

تستغل إسرائيل، على جاري عادتها، انشغال العالم والإعلام بقضية ما، سواء داخل فلسطين أو خارجها، لتتلاعب بالوضع فتفرض مزيداً من الأمر الواقع على مدينة القدس، في محاولة لحسم وضعها وتقرير مصيرها. وإسرائيل تستهدف القدس عبر محورين أساسيين: الأول يتعلق بالأرض، والثاني بالسكان، وبدعم من منظومة قضائية جاهزة لصوغ هذه الإجراءات وتسهيل تطبيقها. وخلال الحرب على غزة، توفر كثير من الظروف الملاءمة لفرض السياسات الإسرائيلية على القدس، وذلك عبر إجراءات ناعمة، بصمت أحياناً، وبصخب إعلامي في أحيان أُخرى، فمَن سيتحدث عن مصادرة أراضٍ، أو توسيع استيطاني، أو هدم بضعة عقارات في القدس، في ظل قتل المئات من الفلسطينيين في غزة، وهدم مئات من البنايات يومياً فيها؟ ومَن يستطيع أن يمارس النقد ضد إسرائيل الجريحة بهجوم 7 تشرين الأول / أكتوبر ونتائجه على الصورة التي رسمتها لنفسها؟ ويمكن القول إن مجمل الإجراءات الإسرائيلية في القدس يهدف إلى تعزيز السيادة الإسرائيلية على الشطر الشرقي من المدينة، وقد خصصت إسرائيل مبالغ طائلة (نحو 600 مليون دولار) لتحقيق ذلك، كما يهدف إلى ترسيخ مكانة القدس "الموحدة" كعاصمة لدولة إسرائيل. 

القدس القديمة شبه مهجورة

لقد فرضت الحرب تراجعاً كبيراً في حركة السياحة والحج إلى القدس، سواء الإسلامي أو المسيحي، وحرمت المدينة زوارها من الضفة الغربية، فأصبحت أسواق وطرقات البلدة القديمة شبه مهجورة، كما أن معظم الدكاكين أغلق أبوابه. وبسبب طول فترة الحرب، تحول صغار التجار فيها، وهم الأغلبية الساحقة، إلى عاطلين عن العمل، وهناك أسواق كاملة تعتمد على السياحة، وخصوصاً في محيط كنيسة القيامة، لم تفتح أبوابها منذ ما يزيد على العام. وما ينطبق على البلدة القديمة ينطبق على فنادق القدس العربية كلها، وعلى معظم مطاعمها، وكذلك على الأسواق المحيطة بأسوار البلدة القديمة. 

أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة

بسبب الأوضاع المذكورة، تراجعت القدرة الاقتصادية للأغلبية الساحقة من سكان القدس الفلسطينيين، وهو ما أثر بشكل ملموس في مجمل التجارة والخدمات المحلية. وبصورة عامة، يمكن القول إن كثيرين من سكان القدس فقدوا مكانتهم الاقتصادية والتحقوا بخط الفقر. أمّا العمل في المؤسسات والمنشآت الإسرائيلية، فتراجع بدوره بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية في إسرائيل عامة، وبسبب الحرب وما رافقها من إنفاق عسكري، فضلاً عن تعرّض العمال العرب من سكان القدس لمزيد من الاضطهاد القومي، وللاستغلال الطبقي الذي ازداد حدة. 

المسجد الأقصى

يجب ألّا تنطلي على أحد الإعلانات الرسمية الإسرائيلية القائلة إنها لا تهدف إلى تغيير "الوضع الراهن"، فهذا الوضع في تآكل متدرج منذ حزيران / يونيو 1967، ومحاولات الانقضاض على المسجد بلا هوادة مستمرة بالتأكيد، فقوات الاحتلال لن تتوانى عن مراكمة التغيرات السائدة لمصلحة توسيع السيطرة اليهودية بالتدريج، سواء الزمانية أو المكانية، وهي مسألة يمكن إثباتها بسهولة عبر مراجعة العقود الستة الماضية. صحيح أن الاستراتيجيا الإسرائيلية تجاه المسجد لا يمكن اعتبارها وليدة الحرب على غزة، إذ جرى التأسيس لها منذ عقود طويلة، إلّا إن بعض ملامحها تعزز فعلاً في أثناء الحرب، وأصبح أكثر وضوحاً. ويمكن تلخيص الاستراتيجيا تجاه المسجد بما يلي:

1 - الفكّ بالتدريج بين المسلمين ومسجدهم، وذلك عبر تقييد دخولهم إليه بتحديد الأعمار أحياناً، والمنع المطلق أحياناً أُخرى، وخصوصاً للشباب، وتشكيل ضغط نفسي مستمر على المصلين بحيث تصبح الصلاة في المسجد الأقصى مشقة وإهانة، ولا سيما على بواباته الخارجية، وطبعاً لا يخلو الأمر من إذلال للنساء، وفرض التفتيش الجسدي عليهن، وهي سياسات ازدادت خلال الحرب على غزة. وتنطلق هذه السياسات من فرضية أن المشقة والإذلال سيؤديان إلى تقليل عدد رواد المسجد، وخصوصاً من سكان القدس، وستكون النتيجة أنهم سيبحثون عن مساجد بديلة في المدينة، معتمدين على تجربتهم في الحرم الإبراهيمي في الخليل. وفي ظل الحرب على غزة، فقد المسجد كثيراً من زواره القادمين من مختلف أنحاء العالم، وخصوصاً من مسلمي أوروبا وأميركا والهند وأماكن أُخرى في العالم. ويبقى فلسطينيو أرض 48 الخزان البشري الأكبر (نحو مليونين) في إعمار المسجد بالمصلين والزوار، على الرغم من تعرضهم لشتى ضروب الإذلال. كما يتم إخراج أكبر عدد ممكن من المصلين من المسجد، بمَن فيهم كبار السن، في أوقات اقتحامات اليهود اليومية له، إذ يبدو المسجد في تلك الأوقات كأنه "معبد يهودي"، وهذا الضغط يزداد طبعاً في مواسم الأعياد اليهودية الكثيرة.

2 - زيادة الارتباط اليهودي بالمسجد ومحيطه، وذلك عبر زيادة أعداد المقتحمين يومياً، واستغلال المناسبات الدينية اليهودية والأعياد للترويج لذلك حتى بين أوساط اليهود الأرثوذكس الذين امتنعوا لفترات طويلة من الدخول إلى المسجد، إلّا إن هذا الامتناع بدأ يتآكل نتيجة بروز فتاوى يهودية من حاخامات كبار تبيح ذلك، إلى جانب إضافة مزيد من الأساطير الدينية والدنيوية وتوزيعها بين اليهود. وتهدف هذه السياسات إلى تثبيت علاقة اليهود بالمسجد أمام العالمين الإسلامي والغربي، وتحويل هذه العلاقة إلى "حقّ تاريخي"، وجزء من "حقّ ديني" لا يتزعزع. ويتم تبرير ذلك بأن ممارسة الطقوس الدينية اليهودية في المسجد تأتي ضمن مفهوم "التسامح" و"التعايش" وضمن إطار "وحدة الديانات السماوية الإبراهيمية" (السلام الإبراهيمي)، وأن صلاة اليهود في المسجد لا تضر أبداً بممارسة المسلمين صلواتهم في الموقع ذاته، لكن بأوقات مختلفة، وأن تجربة الحرم الإبراهيمي في الخليل خير دليل على ذلك. وعليه، فإن قبول "حقّ اليهود" في الصلاة في المسجد الأقصى يُعتبر مساهمة مهمة في طريق تحقيق "السلام بين الشعبين"، بل في تحقيق السلام بين إسرائيل والعالم الإسلامي ككل. وبدأ بصورة كبيرة الاستثمار في تسويق الفكرة وزرعها في الأذهان، إذ بدأنا نلحظ بروز أصوات نشاز في العالم العربي تردد الدعاية الصهيونية؛ صحيح أنها أصوات هامشية، لكن كثيراً من قصص النجاح هامشية، ثم اكتسبت مشروعية بشكل متدرج.

والأمر لا يقتصر على داخل المسجد الأقصى، بل إن الضغط يشمل المناطق المحيطة به أيضاً، ومنها الكُنُس التي جرى تشييدها بالقرب من المسجد، تحت الأرض وفوقها، كذلك في سوق القطانين، وطريق باب الحديد بما فيه رباط الكرد (يسمونه المبكى الصغير)، وساحة باب حطة. فهذه الأماكن تتحول في المناسبات الدينية اليهودية إلى كُنُس، كما يتم قهراً إغلاق سوق القطانين ومنع أصحاب الدكاكين من فتحها (52 دكاناً)، وتحويل قاعة السوق الكبيرة والمقببة، والتي يصل طولها إلى 100م، إلى كنيس. كما يُغلَق طريق باب الحديد ويمنع سكانه من الوصول إلى بيوتهم، بل يتحول الطريق أيضاً إلى كنيس ضخم تجري فيه الصلوات طوال النهار وردحاً من الليل، هذا إن لم تمتد طوال الليل. لقد أصبحت هذه الإغلاقات بمرور الوقت كأنها مبرمجة و"قانونية"، ففي النهار يجري اقتحام المسجد مرتين، وبعد انقضاء النهار تنتقل السيطرة عبر الطقوس الدينية اليهودية إلى المنطقة المحيطة بالمسجد، وطبعاً يتم ذلك كله تحت شعار عدم تغيير "الوضع الراهن".

هل يمكن اعتبار "الواقع الحالي" تقسيماً زمانياً للمسجد الأقصى، أي اقتحام المسجد واستباحته من الساعة السابعة صباحاً حتى صلاة الظهر، ومرة أُخرى بعد صلاة الظهر حتى صلاة العصر؟ لا أعتقد أن هذه نهاية المطاف، ذلك بأن تعريف صحن المسجد من طرف سلطات الاحتلال كحديقة وطنية يبيح توسيع السيطرة الزمانية، فإذا كانت الظروف ملائمة، فإن الاقتحامات ستصبح على مدار اليوم، بحيث لا يستطيع المصلّون المسلمون المقيدة أعدادهم وأعمارهم الصلاة إلّا في  القاعات المغطاة وفي مناطق بعيدة عن مسار المقتحمين، وأنا أعتقد أن التقسيم الحالي هو خطوة موقتة ستتبعها في الوقت الملائم الخطوة الثانية المذكورة.

لقد أصبح المسجد، داخله وعلى بواباته ومحيطه، في قبضة الشرطة الإسرائيلية بالمطلق، وقد ازدادت هذه القبضة حين تولى إيتمار بن غفير مسؤولية وزارة الأمن الداخلي (الشرطة)، وخصوصاً في أوقات الحرب على غزة. لكن يجب عدم فهم سياسة بن غفير على أنها طارئة ستنتهي بانتهاء ولايته، فما يقوم به، بما في ذلك اقتحاماته وعصابته للمسجد، إنما هو تعبير عن السياسة الرسمية الإسرائيلية، حتى لو أدلى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بالتصريحات المطمئنة والمخادعة والتي تدعي الحفاظ على "الوضع الراهن"، فكل ما يتم تحقيقه من مكاسب إسرائيلية في المسجد، يصبح جزءاً من ترتيبات "الوضع الراهن"، تماماً مثلما هي الحال في الأراضي المحتلة كافة.

نجح الاحتلال في احتلال الجزء الأكبر من جدر المسجد من الخارج، وبعضها فوق الأرض وبعضها الآخر تحتها، واستطاع على مدار العقود الستة الماضية تثبيت العلاقة بالمكان، والتحكم عبر قوات الشرطة في كل بواباته، وسحب كثير من صلاحيات دائرة الأوقاف الإسلامية المتعلقة بالمكان، بحيث بات الاحتلال مقرراً حتى في ممارسة أعمال الصيانة والترميم، حتى إن تغيير لمبة كهربائية بحاجة إلى إذن. إذاً، لا يمكن قبول فكرة أنه لم يتم تقسيم المسجد مكانياً، إن لم يكن لدائرة الأوقاف الإسلامية الحقّ في منع مَن تشاء من دخول المسجد، أو السماح لمَن تريد بزيارة المسجد، أو التصرف في أي شيء في المسجد من دون إذن إسرائيلي. لكن، هل سيقتصر الأمر على ما وصلت إليه الأمور حتى الآن؟ لا يوجد ما يدل على أن شهية الاحتلال ستكتفي بذلك، ولا سيما في ظل الصعود المتنامي للتيار المسياني في إسرائيل، والذي لم يصبح شريكاً في الحكم فحسب، بل مقرر في كثير من السياسات الحكومية أيضاً، وخصوصاً أن هذا التيار بمفرده (حزب بن غفير وحزب بتسلئيل سموتريتش) أصبح يمثل أكثر من 10% من الإسرائيليين، علاوة على مجموعات إضافية لا تقل عدداً، وموجودة في الأحزاب الأُخرى مثل الليكود وغيره. ويزداد هذا التيار توسعاً نظراً إلى التغير الجوهري في المجتمع الإسرائيلي نحو العنصرية والتديّن واليمينية، والذي انتشر في الأعوام الأخيرة، وأصبح أكثر شراسة بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر، كما ازدادت مقولاته العنصرية وضوحاً. ويجدر بنا القول إن شهية الاحتلال لمراكمة مزيد من المكاسب في المسجد الأقصى لم تعد خفية على أحد، علاوة على أن الاحتلال نفسه لم يعد قادراً على إخفاء ذلك، بل لم يعد معنياً بإخفاء هذا التوجه، وذلك في سبيل شرعنته وتسويقه وتحويله إلى حقيقة مسلّم بها.

وأكثر الأماكن المرشحة للخطوة الإسرائيلية المقبلة هو باب التوبة والرحمة، إذ ازدادت في أثناء الحرب على غزة، إقامة الشعائر الدينية اليهودية بالقرب من تلك البوابة، الأمر الذي يدل بوضوح على هذا التوجه. فالخطة المتدرجة لإسرائيل تقضي بتثبيت الصلوات اليهودية أمام البوابة من الخارج وكذلك بالقرب منها من الداخل، ثم إعادة إغلاق البوابة أمام المسلمين، يتلوها إزالة الحجارة التي تغلق البوابة من الخارج، وإغلاق البوابة من الداخل، وبعدها يتم تحويل قاعة البوابة الرحبة إلى كنيس يقع داخل المسجد وليس في محيطه.

ولا يمكن أيضاً استبعاد المحاولة من جديد للسيطرة على المسجد المرواني على اعتباره جزءاً من الخاصرة الرخوة للمسجد، وهو أكبر الأماكن المغطاة في المسجد الأقصى. ولا أعتقد أن الاحتلال سلّم بتحويل المرواني إلى مسجد بعد إعماره، كما يجب عدم إغفال إمكان استغلال أي ظرف للسيطرة عليه وتحويله إلى كنيس.

من غير المعروف كيف سينتهي الوضع المعقد الذي يسود حالياً في منطقتنا، لكن من المؤكد أن الحرب سترخي بظلالها على المسجد الأقصى. فإذا استطاعت قوات الاحتلال فرض شروطها، لا سمح الله، على غزة ولبنان، فإن المسجد الأقصى سيصبح في مرمى الاحتلال، بل ربما ينتهز فرصة ضعف العالمَين العربي والإسلامي، والذي ترك غزة ولبنان ولم يكترث للإبادة الجماعية ومحاولات شطب القضية الفلسطينية، فيفرض أوضاعاً جديدة في المسجد الأقصى لن يكترث لها العالمَين العربي والإسلامي، وهو ما يذكّرنا بقصة غولدا مئير الشهيرة عقب حرق المسجد في سنة 1969.

ومن المهم الإشارة إلى ازدياد الاعتداءات على الأماكن المسيحية المقدسة، وبروز ظاهرة الاعتداء على رجال الدين المسيحي بشكل ووتيرة لم يسبق لهما مثيل. فعلى امتداد سنة 2024، مُنع المسيحيون من سكان الضفة الغربية من الوصول إلى الأماكن المقدسة في القدس خلال الأعياد الدينية المهمة، مثل عيد الفصح وعيد الميلاد وغيرهما من الأعياد الدينية الرئيسية. 

هدم المباني والمنشآت

بلغ مجموع المباني والمنشآت التي جرى هدمها في القدس خلال سنة 2024 ما مجموعه 380 عملية هدم، وهو عدد لم يسبق له مثيل، ومنها 92 عملية هدم ذاتي قسري، في حين بلغت أعمال الهدم التي نفذتها آليات الاحتلال 315 عملية هدم وتجريف لمنشآت.

وآخر قرارات الهدم هو هدم قرية النعمان بمبانيها كلها، إذ اقتحم موظفو بلدية القدس الإسرائيلية القرية، وألصقوا قرارات الهدم على جميع المباني، علماً بأن هذه القرية جزء من الضفة الغربية، وتقع إلى الشرق شمالي شرقي بيت لحم، وتبعد عنها 4,5 كلم. وتتكون القرية من 45 بناية سكنية يقطنها نحو 150 شخصاً يحملون هويات فلسطينية (ليست مقدسية)، علماً بأن القرية كانت موجودة قبل سنة 1948، ولم يُشيَّد فيها أي مبنى بعد سنة 1993 بسبب المنع الإسرائيلي، كما لم يُعلَن ضمها إلى بلدية القدس الإسرائيلية، غير أن الإجراءات الأخيرة تشير بوضوح إلى وجود مخطط لقضم القرية وأراضيها وضمها إلى بلدية القدس. 

الاستيطان

ازدادت عمليات استعمار القدس في ظل حكومة نتنياهو - بن غفير الحالية، إذ كان توسيع الاستيطان، ومصادرة الأراضي في الضفة الغربية والقدس، بندَين من بنود الائتلاف الحكومي. وتتركز أعمال الاستيطان في المنطقة الجنوبية للقدس، والقريبة من حدودها مع منطقة بيت لحم، وتهدف إلى إغلاق الفجوات وإكمال الحزام الاستيطاني الفاصل بين القدس وبيت لحم، ومنها استمرار البناء في مستعمرة غفعات همتوس المقامة على أراضي بيت صفافا، وتوسيع مستعمرة غيلو المقامة أساساً على أراضي بيت جالا، وتوسيع الاستيطان وزيادة قضم الأراضي في مستعمرة هار حوما (جبل أبو غنيم). إن استكمال أعمال البناء التي زادت وتيرتها بشكل ملموس خلال سنة 2024 سيؤدي تماماً إلى إغلاق البوابة الجنوبية للقدس، ومن هنا يأتي مخطط هدم قرية النعمان. والآن تتجه الأنظار، وبشكل معلن، نحو البوابة الشرقية التي تسدّ الجزء الأكبر منها مستعمرة معاليه أدوميم المقامة على أراضي العيزرية وأبو ديس، ويبقى فراغ كبير في هذه المنطقة متمثل في المنطقة الواقعة إلى الشرق من جبل الزيتون (أكثر من 12,000 دونم)، وقد أطلق عليها مخططو الاستيطان E1 (أو مستعمرة مفاسيرت أدوميم)، وهي أرض شاسعة تم التخطيط لبناء مستعمرة كبيرة على أراضيها (4000 وحدة سكنية)، علاوة على فنادق وأماكن ترفيه وتسوق. غير أن العمل عليها توقف بعد تسوية مساحات شاسعة من أراضيها، وذلك بسبب اعتراض كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، فضلاً عن تبلور حركة شعبية فلسطينية قوية للتصدي لهذه المستعمرة، إلّا إن الحديث الآن يدور حول السبل التي ستؤدي إلى موافقة الرئيس الأميركي ترامب على إنشاء هذه المستعمرة. إن تنفيذ هذا المخطط سيؤدي إلى إغلاق البوابة الشرقية للقدس، علماً بأنها المنطقة الوحيدة المتاحة نظرياً لتوسع البناء العربي في القدس، إذ يعاني العرب أزمة إسكان خانقة. وقد ربط الساسة في إسرائيل بين الحرب على غزة، ومقايضة بعض الأمور المتعلقة بها، بأخذ الموافقة الأميركية على إنشاء المستعمرة، كما طرح رئيس بلدية القدس الإسرائيلية إطلاق اسم الرئيس الأميركي ترامب على هذه المستعمرة.

وبالإجمال، ومن دون الدخول في تفصيلات النشاطات الاستيطانية، فإن سنة 2024 شهدت إقرار سلطات الاحتلال أو تنفيذ ما مجموعه 43 مشروعاً تتضمن بؤراً استيطانية أو إنشاء مستعمرات جديدة وتوسيع أُخرى، وتشييد حدائق ومناطق خدمات للمستوطنين، كما تمت السيطرة على خمسة مبانٍ، وأُقرّت 13 عملية مصادرة للأراضي شملت بمجموعها آلاف الدونمات. وهناك مخطط لبناء 450 وحدة سكنية في مستعمرة جبل المكبر، داخل الأحياء الفلسطينية، حيث ستفصل هذه المستعمرة جبل المكبر عن حي أم ليسون. 

 

 

شهداء وقمع واعتقال

خلال سنة 2024 استشهد على ثرى القدس 35 فلسطينياً، منهم 28 من سكان القدس وسبعة من خارجها، وبينهم 15 طفلاً وامرأة، هذا إلى جانب شاب تركي، وما زالت سلطات الاحتلال تحتجز جثامين 12 شهيداً. وقد طالت عربَ القدس منذ بداية الحرب على غزة أشكالُ قمع متعددة ، إذ اعتُقل أكثر من 2000 فلسطيني من سكان المدينة في سنة 2024، كان للقاصرين نسبة معتبرة منهم، فضلاً عن 280 اعتقالاً إدارياً. وعلاوة على الاعتقالات، فإن سلطات الاحتلال تمارس أشكالاً متنوعة من القمع، فهناك: الاعتقال المنزلي الذي بلغ عدد المعتقلين منزلياً في سنة 2024 فقط، 58 معتقلاً؛ منع الدخول إلى الضفة الغربية؛ منع الوصول إلى البلدة القديمة؛ منع الدخول إلى الحرم الشريف (المسجد الأقصى)؛ منع الدخول إلى حي الشيخ جرّاح؛ إلخ. ويتم اقتحام البيوت يومياً وتفتيشها والعبث بمحتوياتها وإذلال السكان بشكل متعمد لبثّ الرعب فيهم، وإبراز قدرة الاحتلال على البطش.

الجديد في أمر الاعتقالات، هو ما تسميه سلطات الاحتلال "التحريض الإلكتروني"، وقد شملت هذه "الجريمة" أعداداً كبيرة من المقدسيين، إذ مجرد الترحم على شهداء غزة، أو مشاركة معلومة على وسائل التواصل الاجتماعي، تُعتبر تهمة كافية للاعتقال. صحيح أن هذا الشكل من الاعتقال لم يتم ابتداعه في أثناء الحرب على غزة، وإنما سبقها بأعوام، إلّا إن وتيرته ازدادت بشكل كبير خلال أشهر الحرب.

كما يمكن رصد ازدياد عدد كاميرات المراقبة في أرجاء القدس كافة. وشهدت سنة 2024 صعوبة كبيرة في قدرة المقدسيين على الحركة داخل المدينة وبينها وبين الضفة الغربية، فقد ازدادت نقاط التفتيش الدائمة شراسة في التعامل وإذلالاً للعابرين، وطالت فترات الانتظار على هذه البوابات لتصل إلى ساعات في كل اتجاه، علاوة على كثير من الإغلاقات التي قد تدوم أياماً تنعدم خلالها الحركة تماماً. وفضلاً عن نقاط التفتيش الدائمة (المعابر)، ظهر كثير من نقاط التفتيش الموقتة (الطيارة). ومن الجدير ذكره أن أكثر من 150,000 مقدسي (من أصل 400,000) يسكنون داخل حدود بلدية الاحتلال، لكن خارج جدار الفصل العنصري، وترتبط حياتهم اليومية بالقدس التي تقع داخل الجدار، حيث توجد مدارسهم ومستشفياتهم وأسواقهم وأماكن عملهم. ويتطلب الوصول إلى القدس من حي كفر عقب (خارج الجدار) من ثلاث إلى أربع ساعات يقطع فيها المقدسي نحو 2 - 3 كيلومترات، ويمكن تصور الأثر الاقتصادي والاجتماعي والنفسي الذي يتركه هذا الأمر في هؤلاء. 

التعليم

اعتمدت سلطات الاحتلال خطة خماسية للتعليم في الشطر الشرقي من القدس، تستهدف أساساً المناهج الدراسية فيها، وتضم مُغريات الانتقال إلى المنهاج التعليمي الإسرائيلي مادياً وتنظيمياً. وهذا الأمر إذا جرى تنفيذه، سيؤدي إلى ضعضعة ومسح قدرة التعليم الوطني على الصمود.

وقد تصاعدت وتيرة العداء للمنهاج الفلسطيني الذي يُدرَّس في القدس، فقد مُنع بالكامل استعمال الكتب المدرسية التي تحمل شعار دولة فلسطين، كما منعت دائرة المعارف الإسرائيلية بعض الكتب تماماً، وخصوصاً تلك المتعلقة بالتربية الوطنية، وشطبت بعض الفصول من كتب أُخرى، مثل التربية الدينية والتاريخ والجغرافيا واللغة العربية، وطال هذا الشطب حتى كتب العلوم والرياضيات، وذلك بهدف إخفاء كلمة فلسطين والشعب الفلسطيني والخرائط، إلخ. وشهدت سنة 2024 ازدياد الضغط على مؤسسات التعليم الفلسطينية بمختلف الأشكال، وتشجيع الطلاب على الانتقال إلى المدارس التي تُدرِّس المنهاج الإسرائيلي، ورُصدت مبالغ طائلة لتقديم المنح الدراسية للطلاب المقادسة بهدف تشجيعهم على الانتقال إلى المدارس التي يديرها الاحتلال مباشرة. ولم يقتصر الأمر على رصد المنح، بل تضمن أيضاً ضمان العمل بعد التخرج من الكليات والجامعات الإسرائيلية، بينما مُنع المقادسة من خريجي الجامعات الفلسطينية، وخصوصاً في الحقول التربوية والاجتماعية والإنسانية من الحصول على عمل في المؤسسات التعليمية وغيرها من المؤسسات الإسرائيلية، في حين لم يشمل المنع خريجي الطب ومختلف العلوم الطبية والصحية لحاجة السوق الإسرائيلية إليهم.

ومن المعروف أن هناك خمسة أنواع من المدارس في القدس، هي: مدارس تديرها الأوقاف الإسلامية، وتتبع إدارياً لوزارة التربية والتعليم الفلسطينية؛ مدارس وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)؛ مدارس خاصة، وتديرها الكنائس المتعددة والجمعيات الخيرية والأفراد؛ مدارس المعارف الإسرائيلية وبلدية الاحتلال؛ مدارس المقاولات، ويديرها أفراد بالنيابة عن إدارة المعارف الإسرائيلية. 

الأونروا

في 30 / 1 / 2025 أَخْلَت الأونروا مقرها الرئيسي في القدس، والذي يقع في حي الشيخ جرّاح، وذلك ضمن الحملة الإسرائيلية الواسعة ضدها، والتي اشتدت في أثناء الحرب على غزة، وقد اتُّخذ هذا القرار بضوء أخضر من الإدارة الأميركية. ومثلما هو معروف، فإن الحملة ضد هذه الوكالة (التي ترمز بوجودها إلى وجود احتلال ومشكلة لاجئين) تستهدف حقّ العودة أساساً، علاوة على تضييق الخناق على كل المؤسسات الدولية العاملة في فلسطين.

تبلغ مساحة مقر الوكالة "الرئاسة" في القدس نحو 6 دونمات تضم مجموعة من الأبنية والمخازن كانت الوكالة تدير منها عملياتها في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة. ويشتغل في المقر مئات الفلسطينيين، والعشرات من الموظفين الأجانب. إن إغلاق المقر في القدس سيُفقد المدينة أحد أهم المُشَغِّلين فيها. فهذه الوكالة في القدس تدير مجموعة من المدارس والعيادات الصحية ومراكز شبابية ومراكز خدمات اجتماعية ومعهد تدريب مهني (قلندية). لقد رحل الموظفون، وأُفرغ المقر من الأثاث. ولم تُخفِ إسرائيل شهيتها للسيطرة على أرض المقر، إذ ستقوم ببناء حي سكني (1440 وحدة سكنية) عليها ضمن مستعمرة معلوت دفنة المحيطة بالمقر من جميع الجهات، ويبدو أن المصير نفسه ستلاقيه أراضي معهد قلندية الواسعة (110 دونمات). أسئلة كثيرة ما زالت مفتوحة عن تأثير هذا القرار في القدس، إذ علاوة على فقدان كثير من سكان المدينة أماكن عملهم، لا يُعرف حتى الآن مصير الطلاب الذين يدرسون في مدارس الوكالة، لأن استيعابهم في المدارس القائمة شبه مستحيل، ذلك بأن أغلبية المدارس في القدس، وبغضّ النظر عن الجهة التي تديرها، تعاني أصلاً نقصاً حاداً في الغرف الصفية. كما لا يُعرف كيف سيتم سدّ الفجوة في الخدمات الصحية والاجتماعية التي تقدمها الوكالة. 

خاتمة

ليس هناك متسع للدخول في تفصيلات ما ذُكر كله، لكن الحرب على القدس كانت ضارية في أثناء الحرب على غزة، وشملت جميع نواحي حياة الإنسان وأرضه. وبسبب الانشغال العام بالحرب على غزة ولبنان، لم تحظَ القدس بنصيب ملائم من الاهتمام. صحيح أن المكاسب الإسرائيلية في القدس، وخصوصاً ما يتعلق بالأرض والأقصى، كانت كبيرة، إلّا إنها لم تنجح في زعزعة علاقة المقدسي بمدينته على الرغم من ممارسة أشكال الطرد كلها من المدينة، كما لا يمكن التقليل من الثمن الذي يدفعه المقدسي ومدينته يومياً، غير أن صموده مدعاة للفخر.

Author biography: 

نظمي الجعبة: أستاذ التاريخ في جامعة بيرزيت.