تقديم
تحصّنت إسرائيل بعد بدء عدوانها على قطاع غزة في تشرين الأول / أكتوبر 2023 خلف مجموعة من المواقف الدولية المساندة لها، وتحديداً من الدول الغربية، إذ قدّمت نفسها، وعلى لسان قادتها، كدولة تخوض حرباً بالنيابة عن العالم المتحضر، أو بالشراكة معه في مواجهة البربرية.[1] كما تمتّعت الحكومة الإسرائيلية بإسناد الشارع في بداية الحرب مستفيدة من حالة التجييش التي بدأتها وسائل الإعلام الإسرائيلية، وتشكيل حكومة الحرب التي ضمت المعسكر الصهيوني آنذاك.
وفي ظل حالة الإسناد الداخلي والخارجي للحكومة، شنّ الجيش هجمات غير مسبوقة على قطاع غزة خلّفت الآلاف من الشهداء والجرحى والنازحين منذ أول أيام الحرب، ولم يكن هناك أي استجابة حقيقية للحديث عن إمكان وقف الحرب قبل تحقيق الهدفين المعلَنين من الحكومة الإسرائيلية وهما: إعادة الأسرى الإسرائيليين، واجتثاث "حماس".
بيد أن حالة الإسناد تلك لم تبقَ على حالها، فالمواقف الغربية، وتحديداً الأوروبية، بدأت تتبلور من جديد بشكل بطيء ومتدرج لمصلحة إنهاء الحرب عبر المفاوضات، وذلك نتيجة صور المأساة التي بدأت تظهر وتتكشف من داخل قطاع غزة، وجرّاء بدء انكشاف زيف المزاعم الإسرائيلية بشأن ما جرى في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، وهو ما ظهر على صفحات "هآرتس" الإسرائيلية التي فنّدت كثيراً من التصريحات التي استُخدمت لتجنيد الدعم الغربي رسمياً وشعبياً.[2] كما بدأت أصوات المعارضة تظهر من جديد في الشارع الإسرائيلي، فحالة الوحدة المتوهمة والناجمة عن عملية التعبئة الإعلامية والتجييش لم تدم فترة طويلة. وفي الوقت الذي كان يطمح نتنياهو إلى أن تكون الحرب عامل تذويب الخلافات التي بدأت في مرحلة الانقلاب القضائي، أو بشكل أدق أن تكون الحرب أداة تحييد المعارضة، أصبحت الحرب واحدة من عوامل تأجيج الخلافات الإسرائيلية الداخلية مع مرور الوقت. وبالتزامن مع ذلك، بدأ بعض الجهود يظهر من أجل التوصل إلى هدنة إنسانية في القطاع عبر الوسيطَين العربيين مصر وقطر ومعهما الولايات المتحدة الأميركية.
الهدنة الإنسانية في القطاع
بعد شهر ونصف الشهر من استمرار العدوان على قطاع غزة، استطاع الطرفان وبجهود الوسطاء التوصل إلى هدنة إنسانية محدودة جداً من حيث الزمان مدتها أربعة أيام قابلة للتمديد، نصت على إطلاق سراح 50 من محتجزي الاحتلال لدى "حماس" والفصائل في غزة، من النساء والأطفال دون سن 19 عاماً، في مقابل الإفراج عن 150 من النساء والأطفال الفلسطينيين من سجون الاحتلال دون سن 19 عاماً، وزيادة إدخال الشاحنات المحملة بالمساعدات الإنسانية والإغاثية والطبية والوقود إلى القطاع، علاوة على وقف حركة الطيران خلال سريان الهدنة جزئياً أو كلياً، وضمان حرية حركة الناس خلال الهدنة.
استطاع الوسطاء التوصل إلى اتفاق لتمديد الهدنة الإنسانية في القطاع يومين إضافيين، بيد أن الجهود اللاحقة لإطالة أمد الهدنة مرة أُخرى أو تحويلها إلى وقف كامل للحرب لم تنجح.
هذا النجاح الجزئي في وقف العدوان الإسرائيلي لم يكن ليتحقق لولا توفّر جملة من العوامل، أهمها:
-
بداية التحول في الموقف الأوروبي، وبدرجة أقل في الموقف الأميركي، جرّاء ما حلّ بالقطاع وأهله، وما ترتّب عليه من تغيّر في الرأي العام الدولي ضد الحرب، وانهيار الادعاء الإسرائيلي بأنها حرب العالم المتحضر، لتصبح عبئاً على كل دولة تدعم إسرائيل من الناحية الأخلاقية والقانونية والسياسية.
-
عدم وجود أي مؤشرات إلى إمكان تحقيق إسرائيل الأهداف التي وعدت بتحقيقها، وبداية تشكُّل موقف مشكك في أوساط إسرائيلية من جدوى الحرب، من دون أن يكون هذا التشكيك مبنياً على أسس أخلاقية، بل على قاعدة الحسابات المادية للربح والخسارة.
-
تنامي التخوفات لدى أطراف إقليمية ودولية من إمكان أن تؤدي صور المأساة في القطاع إلى تشكُّل زعزعة الاستقرار في المنطقة، وإمكان تأثر ساحات أُخرى.
وعلى الرغم من وضوح الموقف الإسرائيلي حينها من أن الهدنة لن تتطور إلى وقف نهائي للحرب، وأن اللجوء إليها هو من أجل تأمين خروج أعداد من الأسرى الإسرائيليين لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، فإن الآمال اتجهت إلى أن تكون هذه الهدنة مقدمة لمجموعة من الهدن المتتالية التي قد تؤدي في نهاية المطاف إلى نهاية الحرب، على اعتبار أن الهدنة ربما تؤدي إلى تفتير الأجواء، وخصوصاً في المجتمع الإسرائيلي المعبأ والمجيّش ضد قطاع غزة والفلسطينيين عامة، وستسمح بطرح تساؤلات جديدة في إسرائيل عن إمكان تحقيق هدف واحد من أهداف الحرب على الأقل، وهو استعادة الأسرى من دون تحمّل تكلفة الحرب الباهظة، ليس من الناحية البشرية والمادية فحسب، بل أيضاً من ناحية تراكم خسائر إسرائيل على المستوى الدولي لصورتها وعلاقاتها ومكانتها.
لكن في مقابل هذه العوامل التي تشكلت فعلاً، كان هناك عوامل أقوى تدفع في اتجاه استئناف العدوان العسكري الإسرائيلي، وهي:
-
عدم ترجمة التحول في مواقف بعض الدول الأوروبية إلى سياسات ضاغطة على إسرائيل، بحيث بقيت الدول ذات التأثير القوي مثل ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة تتحرك تحت سقف الدعوة إلى إنهاء الحرب من دون أن تمتد إلى خطوات عملية تُجبر إسرائيل على ذلك، بل في كثير من الأحيان بدا خطاب تلك الدول عاجزاً عن إحداث فارق أمام تغوّل الولايات المتحدة الأميركية في هذا الملف. أمّا تلك الدول التي اتخذت خطوات عملية مثل اعتراف إسبانيا والنرويج وإيرلندا بالدولة الفلسطينية،[3] فكانت مساهمتها محدودة جداً على الرغم من أهميتها، نظراً إلى كون تأثير تلك الدول في السياسة الدولية غير فاعل.
-
عدم توافق التحول في الخطاب الأميركي مع المسار الميداني، إذ استمر الدعم اللامتناهي لإسرائيل، فعلى الرغم من خشية الولايات المتحدة الأميركية على صورتها أمام العالم، أو مثلما عبّر جو بايدن حرفياً بالقول أنه يخشى على المركز الأخلاقي للولايات المتحدة الأميركية جرّاء الحرب على غزة، فإنه لم يمتنع هو وإدارته من تقديم الدعم العسكري والمعلوماتي والدبلوماسي لإسرائيل في حربها. كما أن كل حديث للولايات المتحدة عن ضرورة إدخال المساعدات والحثّ على وقف الحرب لم ينتج منه شيء يُذكر في تغيير أوضاع أهالي قطاع غزة، حتى إن عمليات تعليق بعض شحنات الأسلحة كانت خطوات ضعيفة التأثير في ظل استمرار تدفّق أنواع أُخرى من الأسلحة والذخائر والمعدات.
-
تراخي الموقف العربي الرسمي، فعلى الرغم ممّا حلّ بالقطاع من دمار وصل إلى حد الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، فإن الأنظمة السياسية العربية بمجملها لم تتحرك خارج نطاق التصريح باستنكار العدوان الإسرائيلي، والدعوة إلى وقف الحرب، وضرورة إدخال المساعدات الإنسانية. ومع أن مواقف الدول العربية وأدوارها تباينت، إلّا إن الحالة العامة كانت أدنى كثيراً من أن تشكّل قلقاً لإسرائيل، بل حتى الإجراءات الدبلوماسية، مثل قطع العلاقات وسحب السفراء أو طرد سفراء إسرائيل أو التلويح بمراجعة الاتفاقيات من طرف الدول التي لديها اتفاقيات مع إسرائيل لم يتم، الأمر الذي أعطى إسرائيل الفرصة للانقضاض من جديد على الفلسطينيين في عدوان طال مقومات الحياة في القطاع كافة.
-
فتور التفاعل الشعبي العربي، وهو مسألة مرتبطة بسابقتها، فالأنظمة السياسية العربية إجمالاً لا تتيح الفرصة للشارع كي يتحرك ويعبّر عن رأيه ومواقفه سوى بالحد الأدنى، لكن حجم المعاناة التي تولدت في القطاع كانت قد دفعت إلى توقّع حراك عربي شعبي واسع ومؤثر ربما يؤدي إلى قلب المواقف الرسمية، إلّا إن هذا لم يحدث، بل على عكس المتوقع، كانت الحراكات الشعبية محدودة وموقتة، وهو أمر يحتاج إلى مزيد من الدراسة والبحث. بيد أنه يمكن الافتراض أن سطوة الأنظمة في مرحلة ما بعد الربيع العربي تنامت، وأزمات الشعوب العربية تفاقمت، فضلاً عن أن حملات تغيير الثقافة السياسية على مدار أعوام خلقت شارعاً عاجزاً أمام انتكاسات التغيير المتتالية.
-
تفاعل الفلسطينيين الضعيف في الضفة الغربية وأراضي 48، إذ كان متوقعاً أن يؤدي العدوان في القطاع إلى ردة فعل في سائر المناطق الفلسطينية على شكل احتجاجات وربما انتفاضة، فيما يشبه الحالة التي تشكلت في سنة 2021، إلّا إن جملة من العوامل حالت دون التفاعل القوي، ومن أهمها: حملات الاعتقال التعسفي التي طالت آلاف الفلسطينيين من الضفة الغربية؛ فرض الإغلاق الشامل عليها، واستمرار المداهمات بشكل مكثف؛ عدم وجود بُنية تنظيمية متماسكة لفصائل المقاومة مثل حركة "حماس" والجهاد والجبهة الشعبية، ولا سيما أن حركة "فتح" تماهت مع موقف السلطة الفلسطينية؛ تعرُّض الفلسطينيين في أراضي 48 لحملة قمع وترهيب حدّت من إمكان احتجاجهم.
-
التمسك باستقرار الحكومة الإسرائيلية، إذ أدرك نتنياهو أن التصريحات الأولى بشأن الحرب، والتي كانت تحت عنوان النصر المطلق، أصبحت العامل الأساسي الحافظ لتماسك ائتلافه اليميني، وأن أي تراجع عن هذا النصر هو بمثابة إعلان حجب الثقة عن الحكومة، ولذلك لم يكن في قدرة نتنياهو أن يغامر بالذهاب إلى هُدَن جديدة.
العودة إلى القتال، واستمرار المفاوضات: من إطار باريس إلى مقترح بايدن
تأسيساً على ما سبق، استأنفت إسرائيل أعمالها العدوانية في القطاع متسببة بحصيلة أكبر من الضحايا، بينما بدأت الحوارات مجدداً في منتصف كانون الثاني / يناير 2024 بشأن فرص التفاوض في باريس، وإمكان مشاركة الأطراف فيها. وعلى الرغم من تسويف نتنياهو عدة أيام، فإن الوفد الإسرائيلي شارك في المفاوضات التي عُقدت خلال الفترة 28 -31 كانون الثاني / يناير، غير أن نتائج المباحثات اصطدمت بتصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية عن الهوّة الكبير الماثلة ما بين الطرفين،[4] في حين جاء رد "حماس" بعد أسبوع من نهاية المحادثات على شكل مقترح يجزّىء الصفقة المحتملة إلى ثلاث مراحل تضم عدة قضايا، منها: وقف الحرب؛ الانسحاب من القطاع؛ تبادل الأسرى؛ عودة النازحين؛ فكّ الحصار؛ إعادة الإعمار.[5] وحاولت "حماس" ألّا تقع مرة أُخرى في شرك الصفقات الجزئية التي تضمن لإسرائيل استعادة جزء من الأسرى من دون إنهاء الحرب، فطالبت بوجود ضامنين من عدة دول، علاوة على الوسطاء.
لكن على الرغم من تلك الفجوة التي أشار إليها نتنياهو، فإنه لم يستطع إغلاق الباب أمام العملية التفاوضية برمّتها، وذلك بسبب بقاء حركة الاحتجاج في الشارع الإسرائيلي، وتنامي الدعوات الخارجية إلى وقف الحرب، إلّا إنه أسلوب جديد للمماطلة تمثّل في تقليص صلاحيات الوفد المفاوض مثلما حدث في مباحثات باريس الأولى في كانون الثاني / يناير 2024، أو في إرسال مستشاره الشخصي أوفير فيلك إلى القاهرة للمشاركة في مباحثات 13 شباط / فبراير، أو العودة إلى تقليص الصلاحيات على غرار الحال مع مباحثات باريس الثانية في 23 شباط / فبراير 2024، وهو ما جعلها مباحثات شكلية استفاد منها نتنياهو في مشاغلة الشارع المحتج وإدارة العلاقة مع الأطراف الدولية من دون أن يصل إلى نتيجة من هذه المفاوضات. فعلى الصعيد الداخلي استطاع الحفاظ على استقرار الائتلاف الحكومي الذي هدد بعض أطرافه بالانسحاب منه إذا ما تمت الصفقة، كما استطاع إبقاء الشارع الإسرائيلي من دون سقف الإضرابات المفتوحة، الأمر الذي جعل حركته الاحتجاجية قابلة للاحتواء، كما استطاع على الصعيد الخارجي استبقاء الدعم الأميركي من دون أن يتقدّم بشكل حقيقي في العملية التفاوضية.
ومع أن الردّ الذي قدمته حركة "حماس" على المقترح المصري القطري كان إيجابياً، إلّا إن نتنياهو استطاع عرقلة المفاوضات بالنهج ذاته المشار إليه أعلاه، على الرغم من جهود الوسطاء الواضحة للعودة إلى مفاوضات فاعلة خلال آذار / مارس ونيسان / أبريل 2024، إلى أن انهارت تماماً بعد قرار اجتياح رفح. وحاولت الولايات المتحدة الأميركية أن تعطي المفاوضات دفعة قوية بإعلان مقترح جديد عُرف بمقترح بايدن في نهاية أيار / مايو 2024،[6] وقد قدّمه آنذاك كمقترح إسرائيلي، غير أن المقترح رُفض من إسرائيل، ومع ذلك تجاهلت الولايات المتحدة السلوك الإسرائيلي وألقت باللوم على حركة "حماس" التي أعطت ردوداً إيجابية على المقترح.
كان المقترح الذي قدّمه بايدن قائماً على فكرة تقسيم الاتفاق إلى ثلاث مراحل: أولاً، وقف موقت لإطلاق النار مع تكثيف إدخال المساعدات وإجراء تبادل جزئي للأسرى، وذلك لمدة شهر ونصف الشهر؛ ثانياً، انسحاب إسرائيلي من القطاع ووقف الأعمال القتالية كلياً واستكمال عملية التبادل؛ ثالثاً، إعادة الإعمار. وكان المقترح أرضية جيدة للبناء عليه على الرغم من التخوفات من عدم النجاح المحتمل في الانتقال من مرحلة إلى أُخرى، لكن إسرائيل أعلنت في نهاية المطاف أن شروطها لم تتغير، وأنها لن تنهي الحرب من دون تحقيق أهدافها المعلنة، بل إنها مع كل حديث عن المفاوضات كانت تدفع في اتجاه العودة إلى نقطة الصفر، وعدم البناء بشكل تراكمي على ما تم التوصل إليه. هذه كانت أدوات إسرائيل في إفراغ المفاوضات من مضمونها، علاوة على وضع شروط جديدة مع كل جولة تفاوضية.
مفاوضات من دون جدوى
كان السلوك الإسرائيلي المماطل في العملية التفاوضية يستند في تلك المرحلة من عمر الحرب إلى مجموعة من العوامل، بينها: ثبات حركة الشارع الإسرائيلي المعارض لاستمرار الحرب والداعم للمفاوضات، غير أن الجهات القائمة على الاحتجاج لم تستطع تطوير أدواتها الاحتجاجية، فباتت الاعتصامات في قلب المدن من المشاهد غير الضاغطة بشكل كبير على نتنياهو، ولهذا استطاع أن يلوّح هو وأعضاء الائتلاف اليميني بأن هناك شارعاً آخر داعماً ومسانداً للائتلاف وربما يكون جاهزاً للتحرك، وهذا أمر دقيق، فالحكومة كانت وما زالت تستند إلى قاعدة جماهيرية لم تتبدل بشكل ملحوظ وفقاً لاستطلاعات الرأي.
علاوة على هذا العامل، فإن الخسائر المتراكمة لإسرائيل في ميدان القتال في قطاع غزة بعد بدء العمليات البرية،[7] ونتيجة المقاومة التي أظهرتها فصائل المقاومة وتحديداً كتائب القسام، لم تدفع الإسرائيليين إلى التراجع، مع أنه كان هناك قتلى وجرحى بالمئات، بل وفقاً لآخر التقارير فإنهم بالآلاف، وذلك إلى جانب الخسائر الاقتصادية الناجمة عن تشغيل جنود الاحتياط وتشكّل بيئة طاردة للاستثمارات وتكلفة الحرب، الأمر الذي يدفع إلى المحاججة في أن التوجهات اليمينية في إسرائيل، والتي اتسعت قاعدتها الجماهيرية، أفرزت ثقافة سياسية جديدة تدفع حامليها إلى تقبّل فكرة دفع الثمن في مقابل ما يعتبرونه النصر المطلق، فضلاً عن عمليات حظر نشر المعلومات، أو التلاعب بها، وهو ما ساهم في التحكم في الرأي العام الإسرائيلي جزئياً خلال الحرب.[8]
وعلى الرغم من هذا التمدد لثقافة اليمين وتزوير الحقائق، فإن كثيراً من التقارير عن خسائر إسرائيل وجدت طريقها إلى الجمهور الإسرائيلي، الأمر الذي جعل نتنياهو مضطراً إلى الإبقاء على المفاوضات قائمة، وخصوصاً بعد أن أشارت استطلاعات الرأي إلى تحولات جديدة نحو أغلبية مؤيدة للمفاوضات،[9] لتصبح العملية التفاوضية أداة من أدوات ضبط المشهد الإسرائيلي الداخلي أكثر من كونها مساراً بديلاً من الحرب من أجل تحقيق الأهداف الإسرائيلية.
نقطة أُخرى يمكن الإشارة إليها كعامل أساسي مكّنت نتنياهو من التلاعب بالمفاوضات، وتتمثل في الوهن الذي أصاب بعض أعضاء مجلس الحرب الإسرائيلي الذين أيدوا الصفقة، وتحديداً بني غانتس وغادي أيزنكوت اللذين لم يكن لهما تأثير خلال وجودهما في مجلس الحرب، وذلك على الرغم من شعبية بني غانتس في حينها، والتي تفوقت أحياناً على نتنياهو الذي بدا مكبّل اليدين، كما لم يكن لهما تأثير بعد انسحابهما من مجلس الحرب على الرغم من التهديد الواضح من طرف بني غانتس في حال انسحابه بالعمل من أجل حكومة جديدة،[10] إذ بدا بعد خروجه أضعف كثيراً، وهو ما أعطى نتنياهو مزيداً من الوقت للعمل من دون معارضة فاعلة. وهكذا يمكن القول إن جميع أقطاب المعارضة في إسرائيل لم يجمعهم سوى انتقادهم للحكومة، لكنهم لم يستطيعوا طرح مسار بديل يشكل نقطة التقاء مركزية تحوّل تحرك الشارع إلى تحرك من أجل تغيير أكثر شمولية من الدعوة إلى عقد صفقة.
لقد أصبحت حال المعارضة غير الفاعلة في المشهد السياسي الإسرائيلي أكثر انكشافاً بعد عمليات الاغتيال التي طالت كبار القيادات في حركة "حماس" وكذلك في حزب الله. فبعد أن استطاعت إسرائيل اغتيال إسماعيل هنية والسيد حسن نصر الله، ومعهما العديد من قيادات الصف الأول والثاني في التنظيمين تمكّن نتنياهو من ضخّ الأكسيجين من جديد في رئتَي حكومته، وأصبح أكثر قدرة على تمرير مقولاته إلى الرأي العام الإسرائيلي، وهو ما يمكن قراءته في تنامي شعبيته وفقاً لاستطلاعات الرأي، بل حتى المعارضة الإسرائيلية كانت مضطرة إلى الإشادة بعمليات الاغتيال تلك.
اتفاق كانون الثاني/يناير 2025
على الرغم من قدرة نتنياهو على التلاعب بالعملية التفاوضية في ظل العوامل المدرجة أعلاه، فإن حركة "حماس" استطاعت أيضاً الصمود في العملية التفاوضية من دون تقديم تنازلات جوهرية، والإصرار على الانسحاب الكامل ووقف الحرب وإعادة الإعمار وفكّ الحصار وإجراء تبادل للأسرى. وعلى الرغم من عوامل الضعف المتمثلة في الموقف الرسمي العربي وفتور الموقف الشعبي العربي وكذلك التحول المحدود في المواقف الغربية، فإن هناك عوامل قوة أُخرى استندت إليها "حماس" في الحفاظ على تماسكها في المفاوضات، وهذه العوامل تتمثل في صمود الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وتمسّكه بالبقاء فيها، إلى جانب استمرار المقاومة الفلسطينية داخل القطاع، وإنزالها الخسائر في صفوف الجيش الإسرائيلي وتوثيق تلك الخسائر وإيصالها إلى المجتمع الإسرائيلي ومعها معلومات عن الأسرى ووضعهم وظروفهم في ظل استمرار الحرب، وهو ما أبقى "حماس" قادرة على التأثير في الرأي العام الإسرائيلي. علاوة على ذلك، ساهمت التهديدات القادمة من لبنان واليمن والعراق في تقوية موقف "حماس"، كما أن التحولات في الرأي العام الغربي أدت إلى ظهور أصوات إسرائيلية متخوفة من تحولات أكثر جذرية في مراحل لاحقة، وخصوصاً مع بدء الملاحقة القضائية لإسرائيل وقادتها ومَن خدموا في جيشها على مستوى محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، وعلى مستوى القضاء المحلي لبعض الدول.
إن صمود الطرف الفلسطيني في العملية التفاوضية، إلى جانب جملة عوامل سيجري إيضاحها، هو الذي قاد في نهاية المطاف إلى الوصول إلى اتفاق قبلته إسرائيل و"حماس"، مع أنه لم يختلف من الناحية الجوهرية عن مقترح بايدن. فقد تراجعت إسرائيل عن خطوطها الحمراء وهي: عدم الانسحاب من نتساريم وصلاح الدين، وعدم السماح لأهالي الشمال بالعودة إلّا لفئات معينة، وعدم إنهاء الحرب كلياً، والتحفظ على فئات معينة من الأسرى الفلسطينيين، لتجد نفسها أمام اتفاق ينص على ما رفضته بشكل قطعي في مرحلة سابقة. بيد أن هناك تخوفات مبررة من أن التقسيم إلى ثلاث مراحل قد يؤدي إلى انهيار الاتفاق بعد مرحلته الأولى، وهو ما يعني أن إسرائيل قبلت بالاتفاق بما يحقق لها استعادة مجموعة من الأسرى من دون استكماله، لكن هذه التخوفات ظلت حتى شباط / فبراير 2025 مجرد تخوفات تتغذى على تصريحات بتسلئيل سموتريتش.
هذا التحول في الموقف الإسرائيلي، والانتقال من حالة التلاعب بالعملية التفاوضية إلى القبول بمخرجاتها، بحاجة إلى تفسير؛ فهناك جملة من العوامل التي ذُكرت سابقاً، والتي أبقت العملية التفاوضية قائمة، مثل خسائر إسرائيل، وحركة الشارع المحتج، وصمود الفلسطينيين، واستمرار المقاومة في غزة، وجبهة الإسناد من بعض قوى الإقليم مثل حزب الله وأنصار الله، وتنامي الدعوات الدولية الداعية إلى وقف الحرب، لكنها عوامل كانت كفيلة باستمرار التفاوض من دون أن تصل إلى الدفع نحو اتفاق، وهو ما يعني أن هناك عوامل تشكلت وساهمت في إنضاج هذا الاتفاق.
إن العوامل التي تسببت بالتوصل إلى اتفاق يمكن اختصارها في نوعين: عوامل متحوّلة، وعوامل جديدة. أمّا المتحولة فهي جزء من العوامل السابقة التي أبقت المفاوضات قائمة، لكن طرأ عليها تغيّر أدى إلى تنامي دورها، منها تكيف الفصائل الفلسطينية في القطاع مع بيئة الحرب، وظهور شكل من الاستفاقة للخلايا العسكرية قبيل التوصل إلى الاتفاق أدى إلى مزيد من الخسائر في صفوف الجيش الإسرائيلي، علاوة على التحول في سياسة "حماس" في التعامل مع الأسرى لديها بعد عملية النصيرات التي نفذها الجيش. وإلى جانب ذلك؛ فإن تخوفات نتنياهو من انهيار حكومته أصبحت أقل بعد قدرته على توسيع الائتلاف حين ضم غدعون ساعر إلى الحكومة، وأصبح أكثر قدرة على التعامل مع تهديدات بن غفير وسموتريتش.
أمّا العوامل الجديدة كلياً فتمثلت في فوز دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية، وهو الذي كرر خلال حملته الانتخابية انتقاده إدارة بايدن بسبب عجزها عن إنهاء الحرب، ثم أعلن تصريحه الشهير بعد الفوز بأنه سيحيل الشرق الأوسط إلى جحيم في حال عدم التوصل إلى اتفاق، ووضع سقفاً زمنياً لذلك حدّه الأقصى 20 كانون الثاني / يناير 2025، وهو يوم تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة الأميركية.[11] فمع أن هذا التصريح عكس تصميم ترامب على ضرورة التوصل إلى اتفاق، إلّا إنه لا يعكس بالضرورة أن التوصل إلى اتفاق جاء بسبب التهديد فحسب، ذلك بأن الطرف الذي تراجع هو الطرف الإسرائيلي غير المقصود بهذا التهديد، بل جاء ربما بسبب ما يمكن أن يقدّمه ترامب إلى الإسرائيليين في مرحلة ما بعد التوصل إلى اتفاق، وذلك في ثلاثة ملفات أساسية هي:
-
اليوم التالي للحرب على قطاع غزة، وهو أمر لم يعد بحاجة إلى استنتاجات بعد إعلانه مخطط التهجير الذي يداعب طموحات اليمين الإسرائيلي.
-
الاستيطان والضم والتوسع في الضفة الغربية، إذ أعطى مؤشرات إلى ضوء أخضر أميركي للإسرائيليين بعد رفع العقوبات عن المستوطنين والجماعات الاستيطانية التي عوقبت في عهد بايدن.
-
التطبيع غير المشروط بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، إذ كرر أن شرط الدولة لم يعد قائماً كشرط للتطبيع، وهذا على الرغم من نفي السعودية.
خاتمة
إن توقيع الاتفاق وتطبيق مرحلته الأولى لا يعني أن إسرائيل ستلتزم بالضرورة بتنفيذ المراحل التالية، وإذا كان من الصعب التراجع عن الاتفاق نتيجة العوامل التي دفعت إلى تحقيقه، فإنه ليس مستبعداً أن تتم المماطلة من جديد في مفاوضات المرحلة الثانية لتحويل النقاط الثلاث السابقة من دائرة الاحتمالات إلى واقع. وكذلك إذا كانت مسألة التهجير مستبعدة في الوقت الراهن، فإن التمدد الاستيطاني في الضفة ما زال أمراً مستمراً، وجهود التطبيع من طرف الولايات المتحدة تلجأ إلى مزيد من الضغط، بل ربما تستخدم التلويح بتنفيذ تهجير الفلسطينيين من أجل هذا المبتغى، بحيث يصبح قبول بعض الدول العربية للتطبيع ممكناً في مقابل عدم التهجير، لا في مقابل دولة فلسطينية على حدود 5 حزيران/يونيو.
المصادر:
[1] David Isaac, “Netanyahu Calls Civilized World to Arms Against ‘Forces of Barbarism’ ”, “Jewish News Syndicate/JNS”, October 30, 2023.
[2] Joshua Askew & Mared Gwyn Jones, “Spain, Ireland and Norway Announce they will Recognise the State of Palestine”, “Euro News”, May 22, 2024.
[3] Ibid.
[4] Ethan Bronner and Galit Altstein, “Netanyahu Says Big Gaps Remain in New Hostage Negotiations”, “Bloomberg”, January 29, 2024.
[5] “ ‘Our Conditions’: Full Text of Hamas Response to Ceasefire Proposal”, “Palestine Chronicle”, February 7, 2024.
[6] Karen DeYoung, “Biden Announces New Cease-Fire Plan for Gaza”, The Washington Post, May 31, 2024.
[7] Rabia Ali, “200 Days of War on Gaza: ‘Israel Has Already Lost Strategically and Operationally’”, “Anadolu Agency”, April 24, 2024.
[8] محمد العدم، "خسائر جيش الاحتلال.. هكذا يخفيها ولهذه الأسباب"، "الجزيرة نت"، 23 كانون الثاني / يناير 2024، في الرابط الإلكتروني.
[9] Sam Sokol, “Poll: Majority of Israelis Support Prioritizing Hostage Deal over Rafah Operation”, The Times of Israel, May 7, 2024.
[10] Adam Rasgon, “Benny Gantz Quits Israel’s Emergency Government in Dispute Over Gaza”, The New York Times, June 9, 2024.
[11] Dan Mangan, “Trump Warns ‘All Hell will Break Out’ if Gaza Hostages not Released by his Inauguration”, “CNBC”, Jan 7 2025.