مقدمة
يرتكز العمران العلاجي إلى حد كبير على عملية التفاعل بين التجارب الإنسانية والبيئة الحضرية، وخصوصاً في أعقاب النزاعات والحروب. فعلاوة على ضراوة الإبادة الجماعية، خضع قطاع غزة خلال الحرب الأخيرة التي فُرضت عليه للإبادة الحضرية المتمثلة في التدمير المنهجي للبيئة الحضرية مع الاستهداف المتعمد للمناطق الآهلة، الأمر الذي يستلزم عملية إعادة إعمار حضرية عميقة بعد الحرب تشمل الصحة الإنسانية والجسدية والنفسية، فضلاً عن العلاقات الاقتصادية والمكانية.
العمران العلاجي نهج شامل متعدد الأوجه يجمع بين التصميم الذي يستند إلى فهم التأثيرات النفسية والاجتماعية التي خلّفتها الصدمات أو الأزمات، والسياسات الحضرية التفاعلية لتسهيل التعافي الاجتماعي المكاني ومعالجة مَواطن الضعف المتأصلة. وتهدف هذه العملية إلى إعادة بناء العلاقات المتجذرة بما يضمن شفاءها وجعلها متوافقة ومتآلفة من خلال تصميم يهدف إلى إصلاح الأضرار النفسية والاجتماعية والبيئية، وإعادة إرساء مبادىء التعافي.
ويشمل العمران العلاجي التخطيط واتخاذ القرار من أجل صوغ السياسات والاستراتيجيات الحضرية التي توجه عملية إعادة الإعمار، بما في ذلك تحديد مجالات التدخل الرئيسية، وتخصيص الموارد، وتحديد الأولويات بناء على الحاجات الخاصة بكل مجتمع من المجتمعات المتضررة. ويُعدّ تأمين الموارد جزءاً من نظام الحوكمة التعاونية لضمان تنفيذ التدخلات الحضرية المخطط لها بفاعلية وكفاءة. إن إشراك أصحاب الشأن والمجتمع أمر بالغ الأهمية لنجاح التخطيط الحضري العلاجي، مع أخذ العبر من الدروس المستفادة من تداعيات الحروب السابقة، ذلك بأن إشراك المجتمع في عملية إعادة الإعمار يساهم في ضمان مراعاة حاجات سكان قطاع غزة وتطلعاتهم. ومثل هذا النهج التشاركي لا يعمل على تمكين المجتمع فحسب، بل يعزز أيضاً شعور السكان بالمسؤولية وبأنهم جزء من العملية ويؤدون دوراً مؤثّراً فيها، وهو أمر ضروري للتعافي المستدام.
وفي الختام، يمثل التخطيط الحضري العلاجي نهجاً شاملاً لإعادة الإعمار بعد الحرب، ويدمج الاعتبارات الإنسانية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والمكانية والبيئية. ومن خلال الجهود التعاونية لأصحاب المصلحة المعنيين والمجتمع، يسعى التخطيط الحضري العلاجي لإعادة بناء ليس فقط النسيج المادي لقطاع غزة، بل المجتمع ورفاه سكانه أيضاً. وهذا النهج الشامل يضمن إمكان التعافي واستدامته، ويمهّد الطريق لمستقبل حضري مقاوم للتحديات.
بناء عليه، فإن التخطيط الحضري العلاجي الذي يرتكز على التفاعل بين التجارب الإنسانية والبيئة الحضرية، وفي حالة الإبادة الحضرية التي تعرّض لها قطاع غزة، والمتمثلة في التدمير المنهجي للبيئة الحضرية مع الاستهداف المتعمد للمناطق الآهلة، يستلزم عملية إعادة إعمار حضرية عميقة تشمل رفاهة الإنسان والعلاقات الاقتصادية المكانية. والإبادة الحضرية تتجاوز الإبادة الجسدية لتشمل الصدمة الاجتماعية والمكانية والجغرافية، ويستمر تأثيرها بعد نهاية الحرب، كما أن عواقبها الهائلة الدائمة التي لا يمكن إصلاحها تفرض أسئلة حاسمة بشأن النهج الذي يجب اتّباعه للمضي قدماً. والمبادرات المتعلقة بإعادة الإعمار والتعافي والشفاء متشابكة ومعقدة، وتتطلب رؤية إلى المستقبل بعد أن تم تدمير الماضي والحاضر (Kusiak and Azzouz 2023, pp. 2908-2909)، وهي رؤية شاملة لا تقتصر على الجوانب المادية فحسب، بل على مستويات أُخرى من التدخلات أيضاً. وتحاول الدراسة الإجابة عن سؤال: كيف يمكن أن تعالج النُّهج والسياسات الحضرية التدمير الطاغي ومواطن الضعف والهشاشة المتشابكة والمركبة؟ ولذلك من المشروع طرح أسئلة بشأن هدف التعافي وإعادة الإعمار ومعناهما ومداهما، جنباً إلى جنب مع تحديد المجتمعات المستهدفة والوضع الاجتماعي والاقتصادي والجدول الزمني، فضلاً عن سؤال: كيف يمكن التعامل مع الآثار المباشرة وغير المباشرة في البيئة المادية، وكذلك في الصحة النفسية؟ وهذه الأسئلة ملحّة في وقت تتصاعد الحروب في مختلف أنحاء العالم، ولا سيما في فلسطين الخاضعة للاستعمار.
في أعقاب الحروب وغيرها من الحالات الطارئة وما يرافقها من عدم اليقين وعدم الاستقرار، يصبح التعافي وإعادة البناء واقعاً يومياً. فكلما كان الدمار أكثر كثافة، اشتدت الحاجة إلى تخطيط جذري أعمق للاستجابة للظروف الناشئة للمجتمعات المتضررة، وإلى إعادة تخطيط البُنية التحتية وإعادة بناء المدن بجميع الضروريات اللازمة لحياة كريمة. وهذا لا يؤثر فقط في إعادة بناء المساكن والمنشآت المادية، بل يتطلب أيضاً إعادة التفكير في جهاز الحوكمة والأطراف المعنية لضمان التكيف مع تعافي الأهالي ورفاهيتهم، ذلك بأن استعادة العلاقات بين الناس والمؤسسات وأجهزة الحكم ضرورية للاستجابة لمختلف التحديات، وللتكيُّف من أجل تحقيق النمو والتنمية في المستقبل.
التخطيط الحضري العلاجي هو نهج شامل متعدد الأوجه يجمع بين التصميم الذي يستند إلى فهم التأثيرات النفسية والاجتماعية التي خلّفتها الصدمات والسياسات الحضرية التفاعلية لتسهيل التعافي الاجتماعي المكاني، ومعالجة نقاط الضعف والهشاشة المتأصلة. وتهدف هذه العملية المتدرجة وصولاً إلى التخطيط المستدام، إلى إعادة بناء العلاقات الراسخة بما يضمن شفاءها وجعلها متوافقة ومتصالحة من خلال تصميم تصالحي ترميمي يعيد إرساء مبادىء التعافي بعيداً عن اليأس، وبما يُحيي الشعور بالأمل. وتتطلب معالجة تعقيد التعافي النظر في المكونات البشرية والاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية ضمن عمليات متعددة الأبعاد والمستويات، ومترابطة على المستويات المحلية والوطنية والإقليمية والدولية (Barakat 2005, p. 29). وعليه، لا بد من أن يضطلع المجتمع المحلي بدور رئيسي باعتباره من أصحاب المصلحة المعنيين، مع تجنّب الرؤى المفروضة من الخارج والنماذج الأجنبية لإعادة الإعمار، ومراعاة تأثيرات صدمة الحرب وتجارب المجتمعات المحلية وحاجاتها وأولوياتها، والتنسيق بإيجابية للحدّ من أي صراع محتمل.
في فلسطين، تعكس الهجمات العسكرية الإسرائيلية الاستعمارية، وخصوصاً الحروب المتعاقبة على قطاع غزة التي بلغت ذروتها في الحرب الأخيرة، استراتيجيا الحرب الحديثة المتعمدة والمنهجية. فتأثير التصعيد الأخير المدمر كان هائلاً بما خلَّفه من عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والسجناء والأطفال اليتامى، والأعداد الهائلة من المصابين بصدمات نفسية، الذين أُجبروا على النزوح مراراً وتكراراً، أو على النفي والشتات، الأمر الذي تسبب بجروح اجتماعية ونفسية عميقة لا يمكن إصلاحها، إلى جانب الدمار الواسع النطاق للبيئة المادية وانهيار قطاعات أساسية لضمان سبل العيش والحياة.
إن تعقيد الوضع في قطاع غزة نظراً إلى تجزئة المجتمع وحصاره في مساحات مكتظة، أو نزوحه داخلياً إلى ملاجىء موقتة أو خيام، أو اضطراره إلى الفرار إلى المناطق المجاورة من أجل النجاة، يثير أسئلة ملحة: كيف يستطيع المواطنون أن يتحملوا ويقاوموا العدوان العسكري المستمر؟ وكيف يمكن أن تستمر الحياة في ظل هذه الظروف التي تفوق القدرة على الاحتمال؟ والأهم من ذلك، كيف يمكنهم المضي قدماً بعد انهيار سبل العيش التي كانت تؤمّن لهم البقاء؟
لقد عانى قطاع غزة الذي يُعدّ أكبر سجن مفتوح في العالم بسبب الحصار المفروض عليه منذ أكثر من 17 عاماً، تحديات جمّة أعاقت بناء المنازل والبُنى التحتية، ونقصاً في الإمدادات الأساسية للحياة ومواد البناء. وخلال الحروب السبع التي شهدها منذ سنة 2008 حتى الحرب الأخيرة في 2023 – 2025، عانى هذا القطاع جرّاء تداعيات وتأثير الهجمات والغارات العسكرية الإسرائيلية. فقد أصيب سكان قطاع غزة بالإحباط جرّاء الصعوبات، والمعاناة المستمرة، والألم، والخراب الذي خلفته تلك الهجمات، وتركّز الحجم الأكبر من الدمار لهذه الهجمات العسكرية الإسرائيلية المستمرة في الحرب الأخيرة 2023 – 2025، إذ ارتفع العدد اليومي للوحدات السكنية المدمرة بالكامل ارتفاعاً مروعاً. وفي ظل استمرار حرب الإبادة الجماعية هذه، فإن الأرقام ما زالت تتصاعد يوماً بعد يوم. لقد أثرت الحروب والهجمات العسكرية المتعاقبة بشكل عميق في جميع قطاعات الخدمات والبُنية التحتية، وبشكل مدمر في صحة السكان وعافيتهم؛ ويشمل ذلك القطاعات السكنية والتعليمية والحكومية والصحية والدينية والخدماتية والكهرباء والمياه والصرف الصحي والدفاع المدني والترفيه والاتصالات والإعلام والإنترنت وجوانب البيئة السكنية والحضرية كافة. وتشير تقارير قناة "الجزيرة" بعد عام واحد من الحرب، إلى أن أكثر من 47,000 شخص استُشهدوا، وأكثر من 111,000 شخص أصيبوا، مع بقاء أكثر من 10,000 شخص في عداد المفقودين (Aljazeera 2023; 2025)، ومحو أكثر من 1200 عائلة من الوجود (تُنظر تقارير تصدرها وزارة الصحة الفلسطينية عن يوميات العدوان الإسرائيلي على غزة في موقع الوزارة الإلكتروني). وتفيد تقارير قناة "الجزيرة"، استناداً إلى بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية ومنظمة الصحة العالمية والحكومة الفلسطينية حتى كانون الثاني / يناير 2025، بأن الدمار التام، أو الضرر الجزئي، أصابا منازل قطاع غزة كلها تقريباً، و80% من المرافق التجارية، و88% من المباني المدرسية، ومرافق الرعاية الصحية مع بقاء 17 من 36 مستشفى قادرة على العمل على نحو جزئي، في حين أن 68% من شبكات الطرق، و68% من الأراضي الزراعية، دُمرت بالكامل (Aljazeera 2023; 2025).
الإطار النظري
في العصر الحديث، اشتدت الكوارث وحروب المدن والاضطرابات في العديد من مناطق العالم، بما في ذلك في أوروبا وآسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو ما أدى إلى ارتفاع حصيلة القتلى والجرحى والمعتقلين والأسرى، وحجم النزوح واللجوء، وتدمير البيئات الحضرية. ويشهد العالم حالياً الحرب بين روسيا وأوكرانيا، والصراع الداخلي في السودان، وحرب إسرائيل على قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان وأجزاء أُخرى من المنطقة، الأمر الذي أدى إلى مزيد من العنف الحضري. ففي سورية، على سبيل المثال، ومنذ سنة 2011، اضطُر ملايين السوريين إلى النزوح في الداخل، أو اللجوء إلى عدة أنحاء من العالم. وعلى غرار ذلك، أدى النزاع في كوسوفو إلى موجة نزوح وممارسات التمييز بين الصرب والألبان (Boussauw 2012, p. 144). أمّا في فلسطين، وخصوصاً في قطاع غزة خلال الحروب السبع من سنة 2008 إلى سنة 2025، فإن الهجمات العسكرية الإسرائيلية استهدفت معظم المباني تقريباً، وهو ما خلَّف تأثيرات شديدة في البشر والمنشآت المدنية والبيئة.
وعلى الرغم من الحروب المستمرة، فإنه لا بد من التخطيط على أساس رؤية تضمن التعافي والشفاء، وتستفيد من الحالات التاريخية والعِبَر من نجاة العديد من المدن وإعادة بنائها وتطويرها. ففي بولندا في أثناء الحرب الروسية في أربعينيات القرن الماضي، طرح متخصصون خططاً حضرية لإعادة بناء وارسو، في الوقت الذي كانت عملية التدمير مستمرة، على أمل تنفيذها وإعادة بناء المدينة واستعادة قابلية العيش فيها (Kusiak and Azzouz 2023, p. 2906). إن إعداد رؤية في أثناء الحروب المستمرة يوضح أهمية التخطيط الحضري والهندسة المعمارية في إعادة إحياء معنى المدينة وهويتها من خلال دمج الأنماط والممارسات التي كانت قائمة فيها، وإشراك المجتمعات المحلية في تلك العملية. ففي مدن مقدونيا الشمالية، مثل سكوبيه، فإن الخطة الحضرية التي اقترحها كينزو تانجه (Kenzo Tange) أخذت في الاعتبار الأنماط الموجودة سابقاً بالتعاون مع السلطات المحلية والسكان، الأمر الذي أفضى إلى إنشاء بُنية اجتماعية وتصوّر لمدينة دينامية ومفعمة بالحياة (Lozanovksa 2012, pp. 159-160)، وهو ما يمثل تحدياً على مستويات متعددة.
وفي حين يمكن قياس الأضرار المادية الناجمة عن الحروب، إلّا إن تداعياتها العاطفية، مثل الألم النفسي والمعاناة، يستحيل فهمها أو قياسها. ففي سورية، على سبيل المثال، عانى الأهالي ضائقة عاطفية ساحقة مع نزوح نصف السكان، واضطرار أكثر من ستة ملايين إلى مغادرة البلد (Kusiak and Azzouz 2023, p. 2910).
إن شدة الإبادة الحضرية تترك تأثيراً طويل الأمد في الناس، فتؤثر في رفاهيتهم واستقرارهم وسلامتهم، وتخلّف ندوباً في ذكرياتهم وشعورهم بالهوية وإحساسهم بالثقة. فعندما يهجَّر الناس ويتعرضون للنفي والصدمات، تتمزق عواطفهم، كما أن استعادة شعورهم بالتماسك تتطلب عملية شفاء تستغرق وقتاً طويلاً. ويقوم أحد جوانب تحديات بناء الخطط المعمارية والحضرية على دمج آليات الشفاء والتعافي لعلاج هذه التجارب المؤلمة والمشاعر الإنسانية غير القابلة للقياس. وبالتالي، ينبغي للخطط الحضرية أن تتجاوز الجوانب المعمارية وأن تنهل من نتائج الأبحاث النفسية والعصبية (Samalavičius 2018, p. 1)، علاوة على استخدام وسائل متنوعة لبدء عملية الشفاء. ففي بولندا، على سبيل المثال، جرى البحث عن الذاكرة الجماعية من خلال الصور الفوتوغرافية والمنشورات في محاولة لإعادة بناء الثقافة، وكذلك إعادة بناء الهوية وتعريفها (Erten et als 2015, p. 10).
والضرر المادي ليس أقل تعقيداً من الضرر العاطفي، بل إن شدّته بعد الحروب يمكن أن تكون ساحقة. ففي سورية، لم تتضرر المباني فحسب، بل دُمرت أيضاً الأرشيفات الغنية بالمعلومات، كما أن الدمار في لبنان والعراق والسودان كان شديداً أيضاً. وفي أماكن أُخرى، مثل مدينة وارسو التاريخية، لحق دمار كارثي أيضاً بالمباني والمنشآت. ولهذا، فإن الاستجابة لمثل هذا الضرر تستوجب استخدام خطط التعافي الشاملة، وحلول هندسية معمارية للملمة قطع المدن المحطمة.
إن إعادة الإعمار بعد الكوارث تتطلب الاعتماد على خطط حضرية متعددة المستويات للاستجابة لعواقبها الهائلة. ففي حالة المدن اليابانية بعد زلزال كانتو العظيم (1923)، اعتُمدت عدة خطط لبناء المدن، مثل خطة إحياء العاصمة الإمبراطورية (في سنة 1923)، وخطة إحياء المدن ما بعد الحرب (في سنة 1945)، وأصبحت هذه الخطط أساساً لتطوير المدن الحديثة (Murakami and Wood 2014, p. 237). وكذلك في قرى الصيد المدمرة في اليابان، تم تبنّي مبادرة قانونية باسم "استقصاء نمط التعافي"، وأعدّت البلديات ميزانيات مفصلة، علاوة على خطط التعافي (Tomita 2014, p. 243). وركزت خطط التعافي الأُخرى على التقدم الاقتصادي، مثل حالة كوسوفو التي تضمنت خططها الحضرية ذات الرؤية المستقبلية مشاريع تطوير الإسكان الاجتماعي، فضلاً عن المنشآت الصناعية والتجارية (Boussauw 2012, p. 144). وفي مدينة سكوبيه المقدونية، حاولت خطة إعادة الإعمار بعد الحرب التي أعدها كينزو تانجه استعادة خصوصية المدينة من خلال استحضار العناصر التاريخية المهمة، مثل سور المدينة وبوابتها؛ فمن أجل بنائها على النمط الحديث، إلى جانب الاحتفاظ بالرموز التي تؤكد هوية المكان، أعيد إحياء النمط السابق في البُنية والصورة المكانية، الأمر الذي ساعد على تعزيز التعافي الاجتماعي وإعادة بناء المستقبل (Lozanovksa 2012, p. 142)، وإذا نظرنا إلى حالات أُخرى، مثل لبنان، وتحديداً مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين في الشمال، نجد أن خطط إعادة الإعمار تضمنت أيضاً إعادة تدوير مخلفات التدمير والهدم (Tamer-Chammas 2012, pp. 210-211).
وبالتوازي مع رؤية التعافي، فإنه لا يمكن فصل قضايا المُلكية والمطالبات العقارية والتعويضات في أثناء إعداد خطط إعادة الإعمار، لكن في حالات مثل البوسنة ولبنان وبولندا، لم يكن من السهل حل مثل هذه الأمور، لأن المصالح السياسية والتجارية تدخّلت وأثرت في القرارات المتخذة. وكذلك في وارسو، لم يكن من الممكن حل المطالبات الفردية من خلال إعادة الأملاك (Kusiak and Azzouz 2023, p. 2914). وعلى نطاق أوسع، فإن تقدم الاتجاهات العالمية للتنمية والتطوير يؤثر أيضاً في إعادة الإعمار بعد الكوارث، كما يمكن لأفكار الرأسمالية العالمية والمشاريع العقارية الكبرى وشبكات رأس المال العابرة للحدود الوطنية (Kusiak and Azzouz 2023, p. 2909) أن تنافس الاتجاهات المحلية، الأمر الذي يؤثر في تميز المكان وخصوصيته.
محاور التعافي والشفاء
يجمع العمران العلاجي بين محاور الرفاه الاجتماعي وصمود المجتمع وقدرته على التعافي المكاني والحوكمة، كنهج شامل للجمع بين المشاعر المحطمة والخسائر الجسدية والاجتماعية والاقتصادية. وفي حين أن العمران العلاجي هو عملية طويلة الأمد، إلّا إنه يمكن تحقيقه من خلال اعتماد خطوات تطويرية متدرجة. وسيتم تناول العلاقات المتشابكة بين هذه المحاور الثلاثة: الرفاه الاجتماعي؛ التعافي المكاني؛ الحوكمة.
أ - الرفاه الاجتماعي
إن تداعيات الحرب وتأثيراتها تُخلّف صدمات طويلة الأمد، في الناجين الذين فقدوا منازلهم وتشتتوا وأُرغموا على النزوح مراراً وتكراراً، ولجأوا إلى مبانٍ موقتة، أو أقاموا في ملاجىء وخيام موقتة، وانفصلوا في أكثر الأحيان عن عائلاتهم وأحبائهم. واستجابة للصدمات التي فرضتها الحروب المتعاقبة، لا بد من تبنّي رؤية منفتحة وجذرية تتيح استكشاف الإمكانات والأفكار التي تعيد الأمل بمستقبل أفضل، ذلك بأن مثل هذا الشعور بالأمل من شأنه أن يكسر تواتر الصدمات. وقد استُخدم نهج الأمل في حالات أُخرى من أجل التقييم التحليلي للسبل الممكنة للتنمية لتحقيق "تطلعات مستقبلية من خلال ماضٍ لم يتعافَ بعد" (Eagleton 2015, p. 32; Kusiak and Azzouz 2023, p. 2909)، وذلك في سبيل إعادة تصور مستقبل تعطَّل تحقيقه بسبب تراكم الصدمات التي تكتنف الحاضر (Al-Asli 2020; Al-Sabouni 2017؛ المصري 2014). ففي وارسو مثلاً، وفي ظل استمرار الحرب، عمل المهندسون ومخططو المدن والطلاب على صوغ رؤية وخطط لمستقبل المدينة، الأمر الذي أتاح الفرصة لتعزيز قابليتها للاستمرار، وإمكان العيش فيها من خلال توفير مساكن بأسعار معقولة ومناطق خضراء كانت تفتقر إليها بسبب الكثافة السكانية قبل الحرب (Kusiak and Azzouz 2023, p. 2906). وخفف العمل الجماعي والشراكات من التوتر السياسي المحتمل، إذ شارك بعض هؤلاء المهنيين فعلاً في إعادة إعمار المدينة.
أمّا في حالة فلسطين حيث تستهدف الهجمات المواطنين وأرضهم، فإن تعزيز الأمل والرفاه يصبح أداة استراتيجية للمقاومة والصمود والبقاء. ومع أن الدمار الشامل للمباني قد لا يعكس تماماً حجم الدمار العاطفي، إلّا إنه يمكن أن يكون مؤشراً محتملاً إلى مدى جسامة الكارثة وخطورتها (Bleibleh 2012). وإذا لم يؤخذ مثل هذه الخسائر العاطفية في الاعتبار ضمن خطة التعافي، فإن الناس سيعانون انفصالاً نفسياً يتمثل في فقدان الارتباط بواقعهم ومحيطهم. إن تفكيك مثل هذه الكارثة وحلّها يتطلبان نُهجاً جماعية تشمل المجتمع المتضرر لتجنّب مزيد من التمزق والتصدعات، ذلك بأن وجود مثل هذه النُّهج الجماعية يؤكد امتلاك المجتمع القدرة على تحديد أولوياته وظروفه الخاصة وحاجاته الملحّة وسبل التعامل مع التحديات. وفي الوقت نفسه، تساهم هذه القدرة الجماعية في الجوانب الاجتماعية والعاطفية والنفسية نحو الشفاء الجماعي والفردي المتدرج، وكذلك بالأهمية ذاتها، تكون استعادة الناس لشعورهم بالانتماء وعلاقاتهم بأنفسهم ومع البيئة المحيطة وتقاليدهم وثقافاتهم، علاوة على تعزيز رأس المال الاجتماعي.
تتطلب إعادة الإعمار بعد الحرب أكثر من مجرد إعادة البناء المادية، فهي تستلزم استعادة التماسك الاجتماعي والتمكين الفردي والتعافي الاقتصادي، وكذلك إنشاء قنوات الاتصال، وإجراء استطلاعات الرأي العام، اللذين لهما أهمية كبيرة لإشراك المجتمعات في عملية إعادة الإعمار. ويحدث هذا من خلال جلسات الدراسة وورش العمل للمساعدة على تحديد الأولويات المشتركة وإنشاء شبكات الدعم النفسي وتقديم الرعاية التي تأخذ في الاعتبار واقع الصدمة لدى المجتمعات التي دمرتها أعمال العنف. وينبغي لخطة التعافي أن تتضمن توفير الدعم الاجتماعي، ونظاماً للرعاية والإسكان للمجموعات الاجتماعية المهمشة مثل الأيتام وكبار السن. وضمن هذه الأطر، لا بد من تمكين القيادات الشبابية وإشراكها في تعزيز البُنية الأساسية الاجتماعية للمساعدة على الصمود وتمكين الناس من استعادة السيطرة على زمام أمور حياتهم. وهذا لا يعزز التعافي فحسب، بل النسيج الاجتماعي أيضاً، ويحوِّل المجتمعات إلى عوامل فاعلة للتغيير بدلاً من كونها متلقية للمساعدات.
إن الشبكات الاجتماعية المبنية على الذاكرة المشتركة والممارسات المجتمعية تضمن معدلات بقاء أعلى في أثناء الكوارث لأن لها دوراً حاسماً في التعافي على المدى الطويل. فمن خلال دعم التقاليد التي تبني الهوية الجماعية، تتعزز قدرة المجتمعات على الصمود في مواجهة الضغوط الخارجية، وتحافظ على تماسكها الاجتماعي وصمودها، ذلك بأن الهوية والذاكرة تصبحان أداة للمقاومة ضد المحو والتغييب. إن التكريم اللائق للشهداء ودفنهم وبناء أضرحة لهم تعبّر عن احترامهم وتقديرهم، كما أن إقامة العزاء تجلب الراحة والشفاء النفسي لأهلهم، وشعوراً لدى الناجين بالعدالة والتضامن في المجتمع. وهذه الشعائر ليست مجرد تقاليد، بل معايير اجتماعية أساسية تعزز العمل الجماعي وتوجهه في أثناء الأزمات أيضاً.
علاوة على ذلك، يمثل التراث الثقافي أساساً للهوية، لأنه يربط الناس بتاريخهم وتقاليدهم وتجاربهم المعاشة. وفي السياق الفلسطيني، فإن الحفاظ على الوصفات التقليدية ورواية القصص والموسيقى والحِرف اليدوية يعزز ذاكرة التاريخ والمكان، ويحافظ على ارتباط المجتمعات بجذورها على الرغم من النزوح (Samman 2013, pp. 234-235). وتُظهِر ممارسات مثل الطبخ الجماعي (التكية)، والصدقة (الزكاة)، ومبادرات "الطعام للجميع"، تضامن المجتمع مالياً واجتماعياً خلال الأزمات. وتُجسد هذه الممارسات ذات الجذور الثقافية "قوة المجتمع"، أو الزخم الذي يعزز صمود المجتمع وقدرته على مواجهة التحديات. وهذا التراث المعاش لا يساعد المجتمعات على البقاء فحسب، بل يوفر أيضاً إطاراً أخلاقياً للرفاه الجماعي وصلاح المجتمع وجهود التعافي المستقبلية، بما يضمن بقاء الهوية الثقافية وسلامتها حتى في مواجهة الدمار.
وبشكل غير منفصل، تشكل الاستدامة البيئية جزءاً لا يتجزأ من التعافي بعد الحرب. ففي قطاع غزة الذي يعاني شحّ الموارد الطبيعية وضعف البُنية الأساسية، فإن تعزيز المبادرات الزراعية المجتمعية والممارسات البيئية المستدامة يساهم في تحسين سبل العيش والنظم البيئية، الأمر الذي يتيح تحقيق الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي على المدى الطويل. كما أن توفير وتوزيع المرافق الطبية وخدمات الرعاية الصحية أمران ضروريان لمعالجة مسائل الصحة البدنية والذهنية للسكان المتضررين من الحرب، فضلاً عن أن بناء الشبكات الاجتماعية التي تدعم التخفيف من تداعيات الكوارث يعزز من قدرة المجتمع على الصمود، وهو ما يتيح الاستعداد بشكل أفضل للتحديات المستقبلية. إلى جانب ذلك، فإن تحقيق التوازن بين الحكم الذاتي المحلي والتضامن العالمي الذي يسميه البعض النهج "العالمي - المحلي"، يضمن توافق جهود إعادة الإعمار مع الحاجات المحلية والاستفادة من الخبرات العالمية. وتساهم هذه الدينامية في إيجاد إطار مستدام تنشط فيه المجتمعات محلياً مع الاستفادة من الموارد والمعرفة العالمية، الأمر الذي يمكّنها من إعادة البناء وتحقيق الازدهار. وبصورة عامة، فإنه من أجل بناء مجتمعات محلية قادرة على تحديد مصيرها والتخفيف من تداعيات الكوارث في المستقبل، لا بد من الصمود وتعزيز البنية التحتية الاجتماعية لتحقيق رفاه الأفراد والمجتمعات في قطاع غزة.
ب - التعافي المكاني
تتطلب خطط إعادة الإعمار بعد الحرب الاستعانة بمهنيين لديهم شعور عميق بالمسؤولية والالتزام الأخلاقي كأنهما مهمة مقدسة تستحق التفاني والاهتمام (Kusiak and Azzouz 2023, p. 2911). وبغضّ النظر عن أي انتماءات سياسية أو دينية، وأي نظام حوكمة، فإن مثل هذه المهمة تتطلب إعطاء رفاهية الناس الأولوية، أكان ذلك مباشرة أم على المدى الطويل. فدقّة خطة إعادة الإعمار وتعقيدها تتطلبان فهماً عميقاً لمختلف الجوانب الحساسة لتلك الخطة، وخصوصاً في سياق قطاع غزة، لأن تناولها على نحو غير صحيح قد تنجم عنه تأثيرات سلبية. وإلى جانب ذلك، يجب إشراك بلديات قطاع غزة في صوغ أي خطط لإعادة الإعمار. وحالياً، هناك العديد من المبادرات للمساهمة في تصميم خطط التعافي وإعادة الإعمار القابلة للتطبيق، بما في ذلك المشاريع المقترحة لطلاب الهندسة المعمارية، وإنشاء شبكات من المهنيين في عدة دول.
ويتطلب التخطيط لإعادة الإعمار تلبية المواصفات التي لا تتعارض مع الأهداف الأولى للمستخدمين، وذلك من أجل تجنّب إضافة مشكلات جديدة تفاقم الظروف الكارثية الحالية. ويجب أن ينصب التركيز على رفاهية الناس داخل بيئة تعزز الشفاء، وضمن بناء يتجاوب مع حاجاتهم، بدلاً من دعم إعادة بناء المنشآت المادية، وبالتالي تشجيع المقترحات التي تأتي من المجتمع وتراعي أولوياته. فعملية إعادة الإعمار بعد الحرب لا تقتصر على مجرد الترميم المادي، بل تشمل أيضاً إنعاش هوية المجتمع وإدارة المساحة التي يوجَد فيها. ومع أن الاختلافات الإقليمية وحدها قد لا تحفِّز العمل الإبداعي، إلّا إن الهندسة المعمارية تمتلك القدرة على إعادة تعريف معنى المدينة، وعلى تأسيس نظام جديد يتماشى مع ثقافة مواطنيها وتطلعاتهم. فالنهج الشامل لإعادة الإعمار لا يتطلب التشاور فحسب، بل يستلزم أيضاً وجود عملية تشاركية توفر الوقت الكافي لإتمام الأعمال مع مراعاة المرونة في التعامل مع المتغيرات والحاجات، وتسمح باقتراح الحلول مع إعادة بناء ثقة المجتمعات بنفسها. ومن الأهمية بمكان أن تعي السلطات المحلية مشاعر السكان وتقدّرها، وخصوصاً لدى الأسر التي فقدت منازلها وأملاكها، ولهذا ينبغي لأي خطة للتعافي أن تعالج على نحو استباقي التأثيرات الطويلة الأجل للكوارث، مع ضمان إعطاء وزن لآراء المجتمعات المتضررة في بناء مستقبلها، وكذلك ضمان أن تعزز جهودُ إعادة الإعمار الحوكمةَ التفاعلية وإنشاء مساحات مجتمعية قوية قادرة على الصمود أمام التحديات (Barakat 2005, p. 34).
إن جهود التعافي بعد الحرب لابد من أن تعطي الأولوية لإزالة مخلفات الهدم والقنابل العنقودية أو الصواريخ غير المنفجرة، وأن تباشر في مشاريع ترميم سبل العيش، بحيث تركز الإجراءات الفورية على إزالة الأنقاض المتناثرة في مختلف أنحاء المدن واستخدامها في إعادة الإعمار. ولا يقل عن ذلك أهمية بناء مشاريع الإسكان العام بأسعار معقولة للنازحين لتلبية الحاجات العاجلة بعد الدمار الهائل، مع مراعاة السياقات الجغرافية والطوبوغرافية. ومن أجل تسهيل عملية إعادة الإعمار، فإن من الضروري اتخاذ خطوات لتنظيم وتثبيت حقوق التملك والإيجار كي يصبح لدى أصحاب العقارات والمستأجرين وضع قانوني مستقر وآمن لتجنب النزاعات القانونية (Boussauw 2012, pp. 145-147)، وتنفيذ الحلول التقنية لاستعادة الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء. ومع ذلك، من المرجح أن يؤدي البناء غير المخطط له إلى إجهاد شبكات البُنية الأساسية، وهو ما يجعل من الصعب تلبية الطلب المتزايد على الإسكان والخدمات الأساسية (Boussauw 2012, pp. 145-147). ويجب، على المدى القصير، إنشاء مدن إخلاء موقتة لإيواء السكان النازحين، مع الاستمرار في عملية إعادة بناء المساكن على المدى الطويل (Shiraki and Murakami 2014)، وفي تشجيع البناء الخاص في المساحات الخاصة شرط التنسيق مع البلديات، على الرغم من التأثيرات المحتملة في شكل المدن وتخطيطها (مورفولوجياً). ولا بد من اتباع نهج تعاوني يدمج جهود التنمية الرسمية وغير الرسمية لتلبية الحاجات الإسكانية العاجلة مع منع التعدي على الأراضي العامة المخصصة للبُنية الأساسية والخدمات المجتمعية. وقد توفر هذه الجهود أيضاً فرصاً لتطوير نماذج معمارية جديدة، وخصوصاً في ضواحي المدن (Shiraki and Murakami 2014).
أمّا الجهود المتوسطة الأجل فقد تتركز على إنشاء مراكز للتعافي تربط المجتمعات المتفرقة من خلال شبكات النقل المتكاملة وأنظمة المعلومات وخدمات الرعاية المجتمعية. وتشمل هذه المراكز المرافق العامة مثل المدارس ومراكز الرعاية الصحية وغيرها من الخدمات الأساسية الواقعة بالقرب من أماكن العمل لتعزيز صحة السكان ورفاههم. ومع ذلك، سيكون من المهم ضمان عدم تقويض الأهداف الاقتصادية القصيرة الأجل للأهداف الطويلة الأجل المتعلقة بجودة الحياة. فمن أجل التعافي المستدام، يجب تطوير إطار تنفيذي طويل الأجل من خلال التعاون بين المناطق الإقليمية المتضررة من الحرب والحكومات المحلية، الأمر الذي يسهّل تبادل المعرفة وتطوير السياسات وتنسيق جهود إعادة الإعمار بين مختلف المناطق، وتعزيز القدرة على الصمود على المدى الطويل (Shiraki and Murakami 2014). ويجب تنفيذ إعادة الإعمار، أكان موقتاً أم دائماً، بالتوازي في محافظات قطاع غزة الخمس، بحيث تتاح لكل مجتمع الفرصة للعودة إلى منطقته من أجل المحافظة على شعور السكان بالانتماء. وتُعدّ خدمات البُنية التحتية مسألة ذات أولوية في جميع هذه المحافظات لوجود حاجة ماسة إلى المياه والصرف الصحي والكهرباء، ولهذا لا بد من إزالة الأنقاض من الطرق الرئيسية. علاوة على ذلك، يمكن معالجة وإعادة تدوير الأنقاض واستخدامها في عملية إعادة الإعمار حيثما يكن ذلك ملائماً، كما يجب إزالة الأنقاض من الأراضي الزراعية لاستصلاحها وإعادة استخدامها للعودة إلى ممارسة الأنشطة الزراعية. فمنذ الحروب السابقة يعاني قطاع غزة شحّاً في المياه الصالحة للاستخدام البشري، وخزانات المياه مالحة باستمرار، وبالتالي فإن أحد الحلول الممكنة هو توفير محطات تحلية لمياه البحر للمحافظات الخمس. وتتطلب معالجة مياه الصرف الصحي استراتيجيات سريعة ومتكيّفة تعمل على تخفيف المخاطر الصحية وإعادة تشغيل مرافق البُنية الأساسية، وهو ما يتطلب تدخلات طارئة فورية، مثل استخدام المراحيض الموقتة وحُفر الصرف الصحي، والحواجز الرملية لمنع مزيد من التلوث.
علاوة على ذلك، يمكن أن يساعد الدعم المالي من المانحين، أو من خلال أموال الزكاة التي تدفعها الشركات الصغيرة المهتمة برعاية الأُسر والمجتمع، على استعادة الشعور بالقدرة على المضي قدماً بعد الحرب، والتحرك نحو الاستقلالية. ومن الأمور ذات الصلة مساعدةُ الصيادين عبر تزويدهم بالمعدات والقوارب لاستئناف عملهم وقدرتهم على كسب لقمة عيشهم. وكجزء من إحياء الهوية الوطنية، يجب إعادة تأهيل مواقع التراث الثقافي بشكل ملائم من خلال خطط مهنية تستفيد من الصور والمعلومات التاريخية والأرشيفية لتوصيل جوهر تاريخها ومعناها وأصالتها. وفي إطار هذه التدخلات كلها يجب أن تؤخذ في الاعتبار الاستدامة البيئية والاستفادة من الموارد الطبيعية والتكنولوجيا المتاحة لمصلحة المجتمع، وكجزء من شفاء قطاع غزة من أجل سكانه الحاليين والأجيال المقبلة.
ج - الحوكمة
تتولى الحوكمة دوراً حاسماً في إعادة الإعمار بعد الحرب في قطاع غزة بسبب التحديات المركبة المتمثلة في الدمار الهائل الذي خلّفته الحرب، والتفتت الاجتماعي، وعدم الاستقرار السياسي. ولأن إعادة الإعمار بعد الحرب تتطلب موارد مادية ضخمة، فإن الأمر يتطلب وجود هيكل فاعل للحوكمة يضمن الإدارة الناجعة لهذه الموارد، مع اتّباع العدالة في تخصيصها وتوزيعها. والسؤال عمّن ينبغي له أن يشارك في إعادة الإعمار بعد الحرب مثير للجدل، وربما يتعارض مع نهج تقديم المساعدات وإصلاح النظام والاستقرار السياسي، وقد يخضع أحياناً لشروط مسبقة لاعتماد شكل معين في الحكم. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: مَن الذي يملك السلطة ويتولى مسؤولية الإشراف على إعادة الإعمار؟ الإجابة هنا معقدة لأنها تنطوي على عدد كبير من الجهات الفاعلة المحلية والوطنية والدولية، بما في ذلك الجهات المانحة الدولية والمنظمات الإنسانية والهيئات الحكومية، فكل منها لها مصالحها وأولوياتها ورؤيتها إلى مستقبل المنطقة.
إن إعادة الإعمار في قطاع غزة بعد الإبادة الحضرية تطرح تحديات كبيرة، وخصوصاً فيما يتعلق بنظام الحكم وأصحاب المصلحة المشاركين في عملية صنع القرار، فضلاً عن إعادة الأملاك إلى أصحابها، ذلك بأن القضايا المحيطة بإعادة الأملاك تزيد في تعقيد المشهد الحساس فعلاً، إذ تمتد التأثيرات الواسعة النطاق للإبادة الحضرية إلى ما هو أبعد من الأنظمة الاجتماعية والقانونية لتشمل حقوق الملكية. وهذا الأمر يطرح تعقيدات أمام إعادة الظروف التي سادت قبل الحرب، واستعادة السجلات، وهي مسائل حاسمة إذا أُريد لعملية التعافي أن تكون متماسكة وأن تحقق الأهداف المرجوة. لقد فقد العديد من الأفراد والأُسر في قطاع غزة منازلهم وأراضيهم، وقد تواجه عملية استعادة هذه الأملاك عقبات قانونية وبيروقراطية.
وخُطط إعادة الإعمار والتنمية في قطاع غزة تتطلب تنسيقاً شاملاً عبر مستويات متعددة، أكان ذلك على المستوى الوطني أم المحلي، بما يشمل السكان والمهنيين والمجتمعات النازحة لأن إعادة الإعمار الفاعلة لا يمكن أن تتم بمعزل عن مواءمة الخطط المحلية مع الاستراتيجيات الوطنية. وهذه الحاجة إلى التنسيق ضرورية لإنشاء إطار متماسك قادر على معالجة الحاجات المتعددة الأوجه للسكان، فطابع العملية الشامل يساعد على إعادة بناء الثقة المجتمعية، وتمكين الفئات المهمشة، وضمان أن تتوافق نتائج جهود إعادة الإعمار مع حاجات المجتمع وتطلعاته. وعلى مستوى آخر، يؤدي التوتر بين نماذج التخطيط الحضري المستوردة والخطط المطورة محلياً في أكثر الأحيان إلى تفاقم التحديات القائمة، ذلك بأن تبنّي النماذج الخارجية قد لا يعكس بشكل كافٍ الديناميات المجتمعية والثقافية الخاصة بقطاع غزة، وهو ما يؤدي إلى خطط غير ملائمة لحاجات المجتمع الفعلية، لكن هذا الأمر لا يعني تجاهل الحاجة إلى تدخّل الجهات المانحة الدولية والمساهمة مالياً لتخفيف الظروف المدمرة التي يعيشها أهالي قطاع غزة. وبصرف النظر عن هذه التحديات، فإنه يجب إعطاء أصوات المجتمعات المحلية الأولوية، علاوة على دمج الحلول الإبداعية الفردية المتعلقة بإنتاج الطاقة وتحلية المياه وتطويرها؛ فمُدخلاتها أمر بالغ الأهمية لضمان أن الخطط التي يتم تطويرها ليست ذات صلة فحسب، بل إنها مستدامة وفاعلة أيضاً في تلبية حاجات السكان الأكثر تضرراً من الحرب. ونظراً إلى الظروف الجغرافية والبيئية الفريدة لقطاع غزة، يمكن أن تساهم الابتكارات المحلية في هذه المجالات في دور محوري في تعزيز القدرة على الصمود والاستدامة، لأن إشراك المجتمعات المحلية في تصميم مثل هذه الحلول وتنفيذها يعزز الشعور بالشراكة والالتزام وكذلك المساءلة، وهو أمر ضروري لنجاح جهود إعادة الإعمار على المدى الطويل. وينبغي لهياكل الحوكمة المحلية والبلديات والمنظمات المجتمعية أن تنسق أنشطتها في سياق الأهداف الوطنية، وأن تحترم وتنفذ أولويات وحاجات السكان المحليين. فالبلديات والنقابات المهنية تؤدي دوراً حاسماً في ضمان دمج حاجات المجتمع المحلي في خطط إعادة الإعمار والتنمية، كما أن مشاركتها تساعد في سد الفجوة بين الواقع المحلي والسياسات الوطنية، الأمر الذي يسهّل اتّباع نهج أكثر استجابة وشمولاً لإعادة الإعمار.
إن دمج حاجات المجتمع في خطط إعادة الإعمار يمتد أيضاً إلى مراعاة المساواة والعدالة الاجتماعية، وفي سياق ما بعد الحرب، من الضروري معالجة التفاوتات التي ربما فاقمتها الحرب. وهذا الأمر يتطلب الالتزام بضمان حصول الفئات المهمشة، بمَن في ذلك النساء والأطفال وكبار السن، على نصيب متساوٍ من أجل التوصل إلى الموارد والفرص. إن الرحلة نحو إعادة بناء قطاع غزة مثقلة بالتحديات، لكن من خلال وضع المجتمع في قلب جهود إعادة الإعمار، يمكن ضمان مستقبل يوفر لسكانها مستويات أفضل من العدالة والازدهار.
تُعدّ الحوكمة محوراً أساسياً لإعادة الإعمار بعد الحرب في قطاع غزة لأنها تساهم في الإدماج والتعافي والاستدامة الطويلة الأجل. كما أنها تساعد على إدارة الموارد بشكل فاعل، وحلّ النزاعات القانونية وتلك المتعلقة بالملكية، واستعادة الثقة والاستقرار.
الخلاصة
في الختام، تقترح عملية العمران العلاجي مساراً لإعادة بناء ليس فقط المساحات المادية في قطاع غزة، بل أيضاً النسيج العاطفي والاجتماعي الذي دمرته الحرب. وتحقيق هذه الرؤية يتطلب اتباع نهج منسّق وشامل يدمج بين موضوعات الرفاهية الجسدية والنفسية والتعافي المكاني والحوكمة التعاونية. وهذه الموضوعات مترابطة على نحو عميق: فالرفاه الاجتماعي يضمن قدرة الأفراد والمجتمعات على التعافي من الصدمات، والتعافي المكاني يعالج الحاجة إلى إعادة البناء المستدامة، والحوكمة التعاونية توفر الإطار اللازم لاتخاذ القرارات على نحو تشاركي والمساءلة.
يجب أن يظل الرفاه الاجتماعي في صلب جهود إعادة الإعمار، مع الاعتراف بعدم القدرة على تجاهل الصدمات التي تحمّلها السكان النازحون والأُسر المشردة والناجون من الحرب. فالأمل الكامن في صمود المجتمع وقدرته على الخروج من حلقات اليأس وإعادة تصور مستقبل يتجاوز حالة عدم اليقين الحالية، مثلما هي الحال في المدن الأُخرى التي مزقتها الحروب، ذلك بأن التعافي المكاني في قطاع غزة يعتمد على مشاركة المجتمعات المحلية والمهنيين والبلديات والتعاون فيما بينها. كما أن الطبيعة الحساسة لإعادة البناء في قطاع غزة تتطلب دراسة متأنية للديناميات المحلية، وضمان أن تتفادى جهود التعافي مفاقمة نقاط الضعف القائمة. وتعتمد عملية إعادة الإعمار أيضاً على الحوكمة التعاونية، وهو مجال لا يخلو من التعقيد في سياق قطاع غزة، غير أن التعامل مع هذه التعقيدات لا يتطلب أطراً سياسية فقط، بل يستلزم أيضاً استخدام أطر مبتكرة للحوكمة تضمن العدالة والمساواة والمشاركة.
وفي نهاية المطاف، فإن إعادة إعمار قطاع غزة بعد تدميره تتطلب أكثر من إعادة بناء المباني والمنشآت المادية، بل إنها تستوجب نهجاً شاملاً يعمل على شفاء المجتمعات، وتعزيز الحوكمة، وترميم المساحات حيث يمكن أن تزدهر الحياة والأمل من جديد.
و"العمران العلاجي" يوفر لنا رؤية إلى دعم الترابط بين المحاور الثلاثة، ويعكس التحديات الدقيقة المتمثلة في إعادة بناء قطاع غزة مع ضمان الشمولية والاستدامة والكرامة الإنسانية.
*ترجمة: صفاء كنج.
المراجع
بالعربية
المصري، عماد (2014). "الارتقاء بالبيئة العمرانية في مدينة حمص القديمة 'وجهة نظر وتجربة' ". "مجلة جامعة دمشق للعلوم الهندسية"، المجلد الثلاثون، العدد الثاني، ص 87 – 112، في الرابط الإلكتروني.
الموقع الإلكتروني لوزارة الصحة الفلسطينية.
بالأجنبية
Al-Asali, Mohammad Wesam (2020). Craftsmanship for Reconstruction: Artisans Shaping Syrian Cities. In: Fatemeh Farnaz Arefian and Seyed Hossein Iradji Moeini, eds. Urban Heritage Along the Silk Roads: A Contemporary Reading of Urban Transformation of Historic Cities in the Middle East and Beyond. The Urban Book Series. Cham: Springer, pp. 107–119.
Al-Harithy, Howayda, ed. (2010). Lessons in Post-War Reconstruction: Case Studies from Lebanon in the Aftermath of the 2006 War. London: Routledge.
“Aljazeera Live” (9 January 2023), “Israel-Gaza War in Maps and Charts: Live Tracker”.
“Aljazeera Live’ (15 January 2025). “The Human Toll of Israel’s War on Gaza-by the Numbers”.
Al-Sabouni, Marwa (2017). The Battle for Home: Memoir of a Syrian Architect. London: Thames & Hudson Ltd.
Barakat, Sultan (2005). “Postwar Reconstruction and the Recovery of Cultural Heritage: Critical Lessons from the Last Fifteen Years”. In: Nicholas Stanley-Price, ed. Cultural Heritage in Postwar Recovery. Papers from the ICCROM FORUM Held on October 4-6. Rome, Italy: International Centre for the Study of the Preservation and Restoration of Cultural Property. pp. 26-39.
Bleibleh, Sahera (2012). “Everyday Life: Spatial Oppression and Resilience under the Israeli Occupation: The Case of the Old Town of Nablus, Palestine”. Unpublished Doctoral Dissertation. University of Washington, Seattle.
Bouma, George (2012). Challenges and Opportunities for Mainstreaming Environmental Assessment Tools in Post-Conflict Settings”. In: David Jensen and Steven Lonergan, eds. Assessing and Restoring Natural Resources in Post-Conflict Peacebuilding. London: Routledge.
Boussauw, Kobe (January 2012). “Challenges, Threats and Opportunities in Post-Conflict Urban Development in Kosovo”. Habitat International (Belgium), vol. 36, no. 1, pp. 143-151.
Dimmer, Christian (2014). “Evolving Place Governance Innovations and Pluralising Reconstruction Practices in Post-Disaster Japan”. Planning Theory & Practice, vol. 15, no. 2, pp. 260 – 265.
Eagleton, Terry (2015). Hope Without Optimism. New Haven, Connecticut: Yale University Press.
Erten, Erdem and John Pendlebury and Peter J. Larkham, eds. (2015). “On ‘Alternative Visions’ ”. In: John Pendlebury and Edrem Erten and Peter J. Larkham, eds. Alternative Visions of Post-war Reconstruction: Creating the Modern Townscape. London and New York: Routledge, pp. 6-14.
Itonaga, Koji (2014). “Resilience Design and Community Support in Litate Village in the Aftermath of the Fukushima Daiichi Nuclear Disaster”. Planning Theory & Practice, vol. 15, no. 2, pp. 255 – 260.
Jensen, David and Steven Lonergan, eds. (2012). Assessing and Restoring Natural Resources in Post-Conflict Peacebuilding. London: Routledge.
Kusiak, Joanna and Ammar Azzouz (April 2023). “Comparative Urbanism for Hope and Healing: Urbicide and the Dilemmas of Reconstruction in Post-War Syria and Poland”. Urban Studies, vol. 60, no. 14, pp. 2901–2918.
Lozanovksa, Mirjana (2012). “Kenzo Tange's Forgotten Master Plan for the Reconstruction of Skopje”. Fabrications, vol. 22, no. 2, pp. 140-163.
“Middle East Monitor”, “Over Quarter of Million Housing Units Destroyed in Gaza”, 22 October 2024,".
Miyake, Satoshi (2014). “Post-Disaster Reconstruction in Iwate and New Planning Challenges for Japan”. Planning Theory & Practice, vol. 15, no 2, pp. 246 – 250.
Murakami, Kayo and David Murakami Wood (2014). “Planning Innovation and Post-Disaster Reconstruction: The Case of Tohoku, Japan”. Planning Theory & Practice, vol. 15, no. 2, pp. 237– 242.
Pendlebury, John and Edrem Erten and Peter J. Larkham, eds. (2015). Alternative Visions of Post-war Reconstruction: Creating the Modern Townscape. London and New York: Routledge, pp. 6-14.
Samalavičius, Almantas (2018). “Beyond Sustainability: Reconsidering the Healing Qualities of the Built Environment”. “IOP Conference Series: Earth and Environmental Science 213, 012001”.
Samman, Maha (2013). Trans-Colonial Urban Space in Palestine: Politics and Development. London and New York: Routledge.
Shiraki, Rieko and Kayo Murakami (2014). “Towards a ‘Network Community’ for the Displaced Town of Namie, Fukushima”. Planning Theory & Practice, vol. 15, no. 2, pp. 250 – 255.
Tamer-Chammas, Aïda (2012). “Restoration of Damaged Land in Societies Recovering from Conflict: The Case of Lebanon”. In: David Jensen and Steven Lonergan, eds. Assessing and Restoring Natural Resources in Post-Conflict Peacebuilding. London: Routledge.
Tomita, Hiroshi (2014). “Reconstruction of Tsunami-Devastated Fishing Villages in the Tohoku Region of Japan and the Challenges for Planning”. Planning Theory & Practice, vol. 15, no. 2, pp. 242 - 246.