ما حدث ويحدث اليوم "بغياب إنسانية وردع المعمورة"
إن الاحتلال والسلطات الغاشمة في عملياتهما الحربية، استهدفا أولاً، بعنف وبقسوة وحشية ومن دون إنسانية، البشر والحجر والأخضر. والمقصود من هذا العنف هو استهداف التركيبة البشرية في المكان، وبالتالي الوطن بأجمعه، ومدنه الريفية والحضرية وما تحويه بالكامل من بُنية تحتية ونسيج حضري واجتماعي.
والهدف الأهم من هذا العنف هو تهشيم / إنكار عبقرية المكان، وتدمير هوية المدينة ونسيجها الحضري، وما يتميز به هذا المكان من نسق نمط العيش. والخسارة الكبرى هي فقدان تلك الأرض لهويتها التي تتميز بها مدن وريف فلسطين والمنطقة.
فغزة وبيروت والجنوب اللبناني ودمشق والموصل، هي حواضر عانت مؤخراً جرّاء هذا الاستهداف، واختبرت اعتداء وحشياً عليها في محاولة لطمس هوياتها المتجذرة. والهدف الصريح هو تجريف مدن وحواضر بأكملها، في سعي لمسحها من الخرائط المتوارثة عبر تاريخ مدننا المتجذر.
وهذا الأمر لا يزال يحدث يومياً، عبر هجمات وموجات غير متصالحة لا مع الأرض ولا مع البيئة، وديدنها طمس للحضور المكاني، وللواقع المكتسب بحقّ وضمن شرائع الإنسان كافة. أمّا القصد فهو اكتساب شرعية لموجات تستوطن في أرض ليست لها، وتزوّر تاريخاً وبيئة لا يمتّا إليها بأي صلة.
هذا الكيان المتسلط ليس أكثر من عصابات تمتلك القوة، والتصرف اللاإنساني غير المسبوق في عنفه وقساوته، كما تمتلك السلاح الذي يمكّنها ويحلل لها امتلاك التاريخ الممسوخ بكذبها، والحقّ المزيف في الوجود في أرض ليست أرضها، وفي بيئة لا علاقة لها بها، وضمن نمط عيش وقيم لا يقبلان بوجودها.
أمّا ابن الأرض ووارث الوطن الواحد فيصرّ على الحفاظ على أرضه، والاستمرار في نسق عيشه المتوارث والمتجذر ضمن تاريخ طويل، ولذا نراه يقاوم ويضحي لتبقى الأرض، بل يموت لتبقى أرضه، وليدوم معنى وجوده تاريخاً وتركةً وذكريات متجذرة في أعماق التاريخ الماضي، ودليلاً على وحدة المصير في المستقبل. هذا هو صكّ الوجود القانوني في البقاء على هذه الأرض، وهو صكّ مكتسب أباً عن جد، وغير قابل للتنازل عنه مهما يطُل الزمن ويَغْلُ الثمن.
نعم هذا الإصرار غالٍ ورخيص: غالٍ بالفداء والتضحية بكل عزيز، ورخيص لأنه كرمى لعيون فلسطين.
وفي قول الشاعر الفلسطيني راشد حسين صدى لهذا الإصرار، إذ يقول:
وتقتربُ الأرضُ مني / وتشربُ مني / وتتركُ عندي بساتينَها / لتضحي سلاحاً جميلاً / يدافعُ عني / وحتى إذا نمتُ في الحلمِ / تقتربُ الأرضُ مني / وبين المنافي أُهَرِّبُ زعترَها / وأُنشد أحجارَها / وأنضحُ حتى دمي من عروقي / لأشربَ أخبارَها / فتقتربُ الأرضُ مني / وتتركُ عندي حجارةَ حبٍ / تدافعُ عنها وعني / وحين أردُّ الجميلَ سأحضُنها ألفَ مرهْ / وأعبُدها ألفَ مرهْ / وأُحيي لها العرسَ فوق جبيني / وفوق حطامِ المنافي / وفوق ركامِ السجونِ / فأشربُ منها / وتشربُ مني*
هذه المقدمة والعَتبة المطولة هي لإعلان موقف واضح اتخذتُه والتزمت به عبر مسيرتي المهنية الطويلة، وخلال كل ما دُعيت إلى الاستشارة فيه من أجل إعمار المدن المنكوبة. وموقفي واضح وجازم فحواه ألّا يفسَح المجال للمعتدي بالحصول على أهدافه المعلنة وغير المعلنة، والمذكورة أعلاه.
فنحن، الحريصين على إبقاء الهوية والذاكرة، نحرّم على المعتدين تحقيق هدف إزالة الحواضر وشواخصها، وبالتالي هويتها الفلسطينية المميزة، كما نقاوم الغاشم بإصرارنا على العودة ثانية وثالثة إن كرر تهجيرنا، لتظل مدننا كما كانت، ولنظل نحن على ما نحن عليه.
إن المدن ذات الهوية المميزة والتاريخ العمراني تواجه إشكالية في قرارات إعادة التعمير، وأنا شخصياً لا أعتبر هذه المدن ذات لغز محير، وذلك لتماثلها مع مثيلاتها من مدن أوروبية، كبرلين ودرسدن وبراغ ولندن التي تمتلك تجارب متماثلة.
الموقف والقرار من هذه الإشكالية
من أجل إعادة إعمار وتشــكيل المناطق المنكوبــة، يجب اعتماد تصور مستقبلي يتضمّن جميع المقومات الأساسية، الاقتصادية والاجتماعية، والتركة العمرانية، والحاجات الآنية والمستقبلية، والتي تسبغ الخصوصية على المكان ونسيجه المديني.
وثمة خطوات ينبغي لنا اتّباعها لتلافي اتخاذ القرارات غير الحكيمة، ولإعادة الهوية المميزة بعد إزالة أجزاء كبيرة منها بسبب قساوة الحرب. وأهم الخطوات في هذه المرحلة هي:
1) المسح الموقعي: لا بد من إجراء مسح موقعي يشتمل على توثيق للمنشآت المتضررة، وقياس مدى صلاحية بعضها، وذِكْر البعض الذي يحتاج إلى إزالة وإعادة بناء. وهنا يكمن أيضاً المتوارث الذي يسبغ على المدن والأمكنة أصالتها وهويتها ونسيجها العمراني الموروث والمتميز.
2) إزالة الأنقاض وتأمين المرافق الأساسية: يجب هدم بعض المباني المتضررة بشدة، والتي في الإمكان تدوير كثير من أنقاضها وإعادة استعمالها، أو ردم البحر الأبيض المتوسط بها لتوفير مساحة جديدة من أجل تشييد مرافق خدمية جديدة، مثلما حدث في ردم وسط بيروت في مقابل نزلة فندق الفينيسيا ومرفأ الزيتونة، ومرفأ الضبيّة في شمال بيروت.
3) بناء مساكن بسيطة لاستيعاب السكان النازحين: لقد تم تهجير عدد هائل من سكان غزة الأصليين، أو حتى من بعض مدن الضفة كـ "جنين وطولكرم"، من خلال التدمير الشامل للمرافق السكنية. ولهذا بات ضرورياً مساعدتهم على الإصرار والتشبث بالأرض، بتوفير مرافق عامة وسكن مرحلي لائق بالعيش الكريم إلى حين الانتهاء من توفير المجمعات السكنية الحديثة.
4) التخطيط العمراني: المقصود هو تخطيط هيكلي مديني عمراني شامل يتضمّن جميع الفاعليات العامة والخاصة، التجارية والصحية والثقافية الترفيهية والاستعمالات الأُخرى، من خلال اكتشاف المقومات وواقع الخصوصية المحلية لكل موقع وما يوفره من فرص، ثم تُعيَّن الأهداف العمرانية لكل موقع على حدة.
5) التنفيذ والبرمجة الزمنية: عند توفير التمويل، بإشراك الدوائر المحلية، يجب وضع برامج زمنية بعد تعيين أطقم الإعمار، وذلك بحسب توفير السيولة، كما يتوجب وضع برنامج زمني لمراحل التنفيذ وأولوياته.
ومن الضروري في هذا المجال اتّباع أحدث الطرق في اتخاذ القرارات من خلال "مرصد عمراني" يشتمل على قاعدة بيانات شاملة لكل منطقة يجب إعادة إعمارها، وذلك باتّباع طرق الحوكمة والذكاء الاصطناعي، وبإدارة هيكلية وهرم اختصاصات مهنية كفوءة، مع إشراك المواطنين والبلديات.
نعود إلى الجدلية القائمة وهي: إلى أي مدى يحدث التدخل في إعادة الإعمار، وتأهيل النسيج المديني ومكوناته العمرانية المكتسبة؟
لديّ موقف عمراني ثابت كنت قد اتّبعته في بغداد والموصل، واستوعبته مجرباً وعلى الواقع، من خلال تدريبي في ألمانيا عند إعادة تأهيل بعض الشواخص المعمارية الموروثة من خلال التراكم العمراني الألماني في فرانكفورت وبرلين، واختبرته مؤخراً في مدينة درسدن بعد توحيد الألمانيّتين. وليس ذِكْري لهذه المدن الجميلة والعامرة اليوم، أسوة بكثير من المدن الأوروبية التي تضررت معالمها ونسيجها ضرراً كبيراً جرّاء الغارات في أثناء الحرب العالمية الثانية، إلّا لأنها أمثلة حية متماثلة مع ما أصاب مدننا من خراب.
إن ضرورة إعادة التأهيل ليست لأسباب إنسانية ضاغطة، وإنما للتمسك بالأرض والتاريخ والخصوصية، وهي أمور ما زالت أول هدف لاعتداءات الغاشمين. فنحن عندما نعيد الإعمار والتأهيل نقف سداً في وجه نجاح المعتدي في طمس الهوية، ونفنّد ادعاءه المزيف بحقّه في الأرض، وبإنكاره الحقّ الطبيعي لأهل هذه الأرض.
إعادة إعمار المدينة بشواخصها ضرورة قصوى وملحّة للحفاظ على تراكمها الحضري أو الريفي، ذلك بأن الشواخص تعبّر عن هوية المكان والإنسان، على أن يصاحب هذا الإعمار تلافي السلبيات التي كانت قائمة في نسيج المدينة، ووضع أهداف مصاحبة لتحسين نمط العيش ومواكبته للواقع الزمني الحالي وللمستقبل.
* قصيدة "مع الأرض" للشاعر راشد حسين في سنة 2012، بمناسبة ذكرى يوم الأرض - آذار / مارس 1976.