Reconstruction in the Face of Israeli Wars on Lebanon
Full text: 

مقدمة

إعادة الإعمار بعد الحروب الكارثية تتعدى كونها إعادة تشكيل الفراغات الحضرية، فهي فرصة لإعادة صوغ الزمن بين الماضي والحاضر، في تصميم الفراغات الحضرية على أساس التنوع في ابتكار المعاني المتجددة، لكسر مأساة الحدث الزمني للحرب.

وصُور الدمار على المستوى المديني والريفي، تطرح بعمق إعادة التفكير في المكونات الحضرية العامة والخاصة، من خلال عرض أزمنتها الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية، وإعادة صوغ الزمن تأسيساً على رؤية نقدية إلى الحدث تأخذ في الاعتبار إعادة تصميم المناطق المدمرة، في سياق استعادة الحياة في دورة الزمن المقبل.

وما بين الحنين الماضوي إلى إعادة بناء ذاكرة الأماكن والمعالم المحددة للهويات المكانية، وحيوية التحولات في سياقها التاريخي، يبرز التحدي في تجاوز الحدث المأسوي.

يعتبر كثيرون أن الحرب هي فرصة لإعادة تشكيل الأماكن وتغييرها جذرياً بحجة التنمية وإعادة الإعمار، وفي لبنان تجارب كثيرة على هذا الصعيد. وهذه المقالة تستند إلى تجربة إعادة الإعمار بعد الحرب الإسرائيلية في تموز / يوليو 2006، وذلك في سياق صوغ التصورات والرؤية لإعادة الإعمار بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان خلال سنة 2024. 

العدوانية العنصرية الصهيونية

تجلت العنصرية الصهيونية بأبشع صورها خلال العدوان الهمجي الإسرائيلي على لبنان، فهي لم تكن مسألة تدمير التراث والحياة فحسب، بل إن إسرائيل سعت أيضاً لتدمير موطىء القدم الوجودي للبنانيين، مثلما حدث في نكبة فلسطين في سنة 1948، عندما أزالت قرى بأكملها، ومَحَت الإرث الفلسطيني المحلي.

تعرضت أغلبية الحواضر جنوب الليطاني لعملية تدمير شامل (رامية؛ بليدا؛ كفركلا؛ عديسة؛ ميس الجبل؛ النبطية؛ الخيام؛ بنت جبيل) وصولاً إلى بعلبك والضاحية الجنوبية لبيروت، ومجموعة كبيرة من القرى والبلدات. ولم يقتصر الدمار على المكونات التراثية المعمارية، بل طال أيضاً النسيج العمراني والبيئي، وتشكيلاته الطبيعية، والأخطر هو تهجير قسري كامل لأهل هذه الحواضر المتميزة بمواقعها الجغرافية، ومراكزها التراثية القديمة، وامتداداتها العمرانية، ومحيطها الطبيعي من السهول الزراعية التي تشكل مصدر الحياة. 

تحديات إعادة الإعمار من خلال تجربة ما بعد حرب تموز / يوليو 2006

الناس هم الذين يصنعون المكان، فالمكان خاوٍ من دونهم، والتحدي الأساسي اليوم، هو كيفية إعادة إحياء الحياة.

من القضايا الحاسمة التي تواجه صانعي القرار والمتخصصين بالتراث استيعاب التغيير في الأماكن التراثية، وإضافة طبقات جديدة إلى البيئة الحضرية التاريخية بطرق تعترف بقيم تراثها وتفسرها وتحافظ عليها. وتبرز معالم هذا التحدي بوضوح في التدمير الممنهج للتراث العمراني الحي عبر الحروب والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على لبنان، وخصوصاً على المناطق المحاذية للحدود مع فلسطين المحتلة.

من سمات التحدي الأساسي غياب خطة مدروسة من طرف الدولة اللبنانية لإعادة إعمار ما تهدم في حرب 2006. فبحسب التوزيع الحصصي المعتمَد للقوى السياسية المهيمنة، وضمن الاعتبارات السابقة أن الحرب فرصة للتنظيم والتخطيط السليمين، وعلى مبدأ التعويض الفردي والعشوائي الذي يعتمد على قيم غير مدروسة للوحدة المحددة، فإن دولة قطر عبر إعلانها تبنّي إعادة بناء أربع بلدات ( بنت جبيل؛ الخيام؛ عيتا الشعب؛ عيناتا ) شجعت السكان على جرف البيوت، وخصوصاً في نسيج البلدات القديمة، فجُرف معظم وسط عيتا الشعب وعيناتا والخيام، أمّا في بنت جبيل فقد أعلنت البلدية وقف الجرف في أجزاء من الأحياء التاريخية، واتخذت قراراً بتجميده في البلدة القديمة إلى أن تتبيّن آلية ترميم البيوت الحجرية والتعويض عنها. وفي هذا الأمر كثير من الرمزية المتمثلة في أن تظل البلدة القديمة صامدة في وجه إسرائيل، فهي المكان الصامد بعد الحرب أمام عمليات الجرف وتغيير المعالم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وهي المكان الذي يثبت أن الحرب ليست فرصة، بل أذى يصيب القاطنين في حياتهم، ومع ذلك فإن التغيير يجب ألّا يؤثر في نمط سلوكهم المعيشي في أماكنهم. وجرى تبنّي الرؤية المرتكزة على أن النسيج التراثي هو الحاضن للنسيج الاجتماعي، وللتفاعل بين الناس القاطنين والمكان، وأن هذه الأحياء ذات الشوارع والأزقة الضيقة التي لا تتسع في كثير من الأحيان لأكثر من عبور سيّارة، إنما تمثّل أحياء مقاوِمة بأكملها. ففي حرب تموز / يوليو العدوانية، ولقرب البلدة القديمة لبنت جبيل من المواقع الإسرائيلية في فلسطين المحتلة، حاول الإسرائيليون جرف هذه الأحياء لتحطيم المقاومة وكسر إرادة المقاومين فيها، كي يتمكنوا من احتلال البلدة بأكملها لاحقاً، بحيث تصبح المدينة الجديدة ببيوتها وساحاتها أكثر اتساعاً وانتظاماً مقارنة بالزواريب والأزقة التي شُيّدت فيها البيوت بعضها إلى جانب بعض على امتداد التاريخ الاجتماعي لهذا النسيج. فالعلاقات الاجتماعية التي كانت قائمة متجسّدة بالبناء المعماري وتنظيمه، وهي بتكوينها الأساسي جزء من المقاومة، ولذا كانت المقاومة الأشرس تنطلق من هذه الأحياء، فهي نقطة تجمّع المقاومين من مختلف الأماكن، وهي البلدة القديمة التي قاومت منذ قيام الكيان الصهيوني في سنة 1948. وقد اعتمد الجيش الإسرائيلي سياسة الجرف والتدمير للأحياء القديمة، وهي السياسة التي اتُّبعت في عدة بلدات لبنانية، وعلى فترات متلاحقة، ففي الحرب الأخيرة، جرفت إسرائيل ودمرت بشكل ممنهج أحياء بأكملها، وخصوصاً البلدات القديمة لقرى جنوبية.

إن أي عملية إعادة إعمار، وخصوصاً فيما يتعلق بالمدن والبلدات المحاذية للحدود، لا بدّ من أن تأخذ بعين الاعتبار هذه العوامل، ولا سيما في المناطق الأمامية المواجهة لإسرائيل، تحسباً لأي اعتداءات إسرائيلية مستقبلية. ومن الضروري دراسة هذه العوامل المتنوعة بتداخلها مع الطابع المعماري والتنظيمي المقاوِم لهذه الأحياء، من أجل المحافظة على الطابع المقاوم لها، وذلك عبر التركيب العضوي للنسيج المبني على تاريخ الأرض وعلاقات الناس الاجتماعية المتجسدة بعمارتها وتنظيمها. 

تجربة إعادة إعمار مدينة بنت جبيل في سنة 2006[1]

بنت جبيل حاضنة لجزء أساسي من تاريخ جبل عامل، وهي تشكل تاريخياً مركزاً تجارياً حيوياً لمنطقة شاسعة من شمال فلسطين قبل الاحتلال، وصولاً إلى منطقة حوران في سورية، علاوة على قرى وبلدات جبل عامل المحيطة.

وقد ارتبط الواقع الاجتماعي والتطور العمراني في بنت جبيل بالتحولات الأمنية والسياسية التي شهدها الجنوب اللبناني عامة خلال القرن الماضي، منذ اغتصاب فلسطين ونشوء الكيان الصهيوني على أرضها في سنة 1948، مروراً باحتلال هضبة الجولان في سنة 1967، وصولاً إلى الاجتياحات الإسرائيلية المتتالية. وتميز الواقع الاجتماعي والاقتصادي بالإهمال من طرف الدولة اللبنانية لهذه المنطقة، وعدم تحضيرها لقاعدة اقتصادية بديلة تعتمد على الإمكانات الاقتصادية المحلية، ولا سيما في ظل عدم الاستقرار، وندرة التجهيزات (تربية؛ صحة؛ كهرباء؛ طرق؛ زراعة؛ هاتف؛ كهرباء)، وغياب البُنية التحتية، إذ لم تحتوِ المنطقة إلّا على بعض التجهيزات الاقتصادية المتواضعة، الأمر الذي شكّل عاملاً أساسياً كبيراً في جمود النمو الاقتصادي وتطور المجال المديني العمراني، ودفع بالعديد من أهل المدينة ومحيطها إلى السفر والهجرة، فأصبح المغتربون المصدر الاقتصادي الأساسي. 

العمران والمجتمع[2]

ساهم الاغتراب منذ نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، في جزء أساسي من التطور العمراني المحدود في وسط مدينة بنت جبيل القديم، والذي شكّل الموجة الأولى من العمران الأسمنتي الذي بدأ يغيّر من صورة الوسط القديم، لكنه تميز بالانسجام مع النسيج القديم من حيث الحجم واللون، إلّا إن هذا التغيير شكل بداية التمركز وزيادة الاستثمار للعقارات الموجودة في الوسط، حيث بدأ طغيان التطور العمودي للأبنية. غير أن هذا الواقع ارتبط بالواقع الاجتماعي، والترابط العائلي، وببداية غياب جيل وبروز جيل جديد من الورثة للعقارات والأبنية، إذ حافظ الورثة على البُنى المعمارية التاريخية، مضيفين إليها أقساماً لتلبي حاجات النمو العائلي، أو للتعبير عن الواقع الاجتماعي الجديد والمنسجم مع الحياة المعاصرة القادمة من دول الاغتراب، وهذه الفترة تظهر جلياً في الأبنية المختلطة (الحجرية الأسمنتية المختلطة)، وفي بعض الأبنية المسقوفة بالقرميد.

المرحلة الثانية هي منذ اندلاع الحرب الأهلية والنزوح من بيروت إلى بنت جبيل والعكس، إلى جانب رزوح المدينة تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي منذ سنة 1978؛ فخلال 25 عاماً من الحرب والاحتلال، طغى التوسع العمراني في الوسط عشوائياً، وبدأت تتبدل صورة المدينة القديمة، كما طغت الكتل الأسمنتية والعناصر المعمارية العشوائية والغريبة على النسيج العمراني، مترافقة مع تغيرات اجتماعية ووظيفية للوسط، وشرعت تنقرض مجموعة الحرف التقليدية من الوسط ليتحول إلى ملاذ للمتقاعدين، والذين يعيلهم أبناؤهم المستقرون في دول الاغتراب. هذا كله غيّر صورة الوسط ووظيفته الاجتماعية والاقتصادية، لكن العامل الأساسي يبقى الاحتلال الإسرائيلي، لما تسبب به من تهجير ودمار على مدى 25 عاماً، وصولاً إلى العدوان الأخير في تموز / يوليو 2006، وما أدى إليه من دمار وتخريب للوسط طال أكثر من 60% من أبنيته.

حافظت بنت جبيل على موقعها كمركز ربط تجاري على مستوى قرى وبلدات جبل عامل، حتى بعد احتلال فلسطين، إلى جانب كونها مركز القضاء الإداري والخدماتي، ومركز استقطاب جميع قطاعات الاقتصاد المحلي للقرى والبلدات المحيطة بها، الأمر الذي أسس لقاعدة انطلاق في عملية إعادة التأهيل، وبناء اقتصاد محلي يؤكد الجدوى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لوسطها التاريخي وإعادة توظيفه. إن مشكلات بنت جبيل ليست فقط وليدة حرب تموز ولا الاحتلال الإسرائيلي لها، بل هي كمعظم حواضر الجنوب تعاني أيضاً منذ سنة 1943 إهمال الدولة المزمن لها، واعتبارها خارج الوطن وحرمانها من جميع حقوقها في التنمية. وقد تضخمت هذه المشكلات وظهرت بعد العدوان، ويمكن تلخيصها بالنقاط التالية:

  • فضلاً عن الإهمال التاريخي لم تتحمل الدولة مسؤوليتها بعد حرب تموز / يوليو.

  • حدوث الدمار الكبير، وخصوصاً في المدينة القديمة، وفقدان مئات المنازل والمحلات الصغيرة والمؤسسات التجارية والصناعية والحرفية، الامر الذي سبّب ركوداً اقتصادياً.

  • سفر أهل المدينة في السابق إلى المهاجر (تعداد سكانها المقيمين هو بحدود 5000 نسمة من أصل نحو 45,000 نسمة) ونزوح كثير من المقيمين بعد الحرب.

  • عدم تنشيط الحركة الاقتصادية، وعدم تشجيع السكان على العودة.

  • عدم تفعيل الخدمات العامة والبُنى التحتية، وعدم توفير حقوق الناس في مقومات الحياة الأساسية.

  • أهم مشكلاتها أنها المدينة الحدودية مع العدو الإسرائيلي، ولذا لا بد من دراستها من النواحي الأمنية وإمكانات المقاومة فيها باعتبارها عاصمة المقاومة، وستبقى عرضة للعدوان الصهيوني.

شهدت بنت جبيل نقاشاً وجهداً واسعَين طالا وسطها القديم ودوره المستقبلي، فهذا الوسط حتى في ظل الدمار الجاري، لم يفقد جاذبيته، وخصوصاً بسبب تميّزه على مستوى المنطقة، ولحجمه الذي يضعه في مصاف المراكز التاريخية الشهيرة في لبنان والدول المجاورة، علاوة على أن الفرصة متاحة الآن لقيام مشروع شامل للمحافظة على النسيج العمراني والتاريخي للوسط، وتعزيز ودعم النسيج الاجتماعي للتواصل وإعادة إنتاج قدراته وتطويرها. هذا الدور والحضور حفرا عميقاً في نسيج وسط المدينة عمرانياً واجتماعياً، وما زالت شواهده حاضرة بقوة على الرغم من التهجير الذي استمر خلال 25 عاماً من الاحتلال الإسرائيلي. وفي خضم إعداد خطة إعادة تأهيل شاملة للوسط في سياق تأمين عودة سكانه وإعادة الحياة إليه، تم اقتراح الالتزام بمجموعة من الشروط والقواعد التي تؤكد الطابع المحلي والتاريخي للنسيج العمراني الحاضن للنسيج الاجتماعي، وتعزيز الانتماء والخصوصية، على قاعدة تعزيز المعاني التي يمثلها المركز متجسداً في دوره الاقتصادي الحيوي الذي يشكله للقاطنين وللمدينة، ولما يمثله من إرث إنساني على المستوى الوطني. 

أسس إعادة بناء المدينة القديمة في بنت جبيل

  • التعامل مع الموقع باعتباره نسيجاً مدينياً متكاملاً اجتماعياً، وكجزء أساسي من مكونات مدينة بنت جبيل ككل، بل هو بمثابة القلب والروح لها.

  • اعتبار أن الطابع التراثي فيها يتكون من نسيجها العام ومن الوحدات المكونة لهذا النسيج، وأن المدينة القديمة موقع يمارس فيه الناس سلوكهم الحياتي والاجتماعي والاقتصادي. فهذا المكان عبارة عن تراكم لحياة الناس الاجتماعية والمكانية وذاكرتهم منذ تكوين المدينة إلى لحظة الحرب التي دمرتها، وهو معطى أساسي لا يمكن تغييره أو تعديله إلّا بالموافقة العامة من أصحاب المصلحة الأساسيين (المالكين أو القاطنين).

  • اعتماد نظرة شاملة بجوانبها الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية لموقع المدينة القديمة، وارتباطه ودوره كجزء من مكونات المدينة ككل.

العوامل التي تفرض إعادة تأهيل المدينة القديمة بالحفاظ على نسيجها العمراني والاجتماعي 

1 - عامل المقاومة "الأمني والعسكري"

ثبت بعد حرب تموز / يوليو أن بُنية المدن القديمة ونسيجها العمراني هما واحد من أهم عوامل الصمود في وجه الاجتياح العسكري الإسرائيلي لعدم قدرة الآلة العسكرية على الحركة فيها، كما أنها عامل مفاجأة للقوات بسبب أزقتها وممراتها وتعرجاتها، الأمر الذي ظهر جلياً في البلدات التاريخية للمدن والقرى مثل بنت جبيل وعيتا الشعب ومارون الراس وغيرها، وأكبر دليل على ذلك محاولة العدو الإسرائيلي تدمير النسيج القديم لهذه المدن والقرى في لبنان كما في فلسطين،[3] وهو من الأسباب التي تدعونا إلى المحافظة عليها وإعادة تكوينها على الأسس نفسها. وقد كشفت دراسة لباحث إسرائيلي (في مقابلة مع الضابط المسؤول عن إخلاء المستعمرات في قطاع غزة)، عن جوانب مهمة من تفكير الجيش الإسرائيلي في التعامل مع الأماكن والأحياء القديمة خلال اجتياح البلدة القديمة لنابلس ومخيم جنين، إذ قال الضابط: "إن فهم الجيش الإسرائيلي للمعركة في نابلس هو أنها معركة متعلقة بالحيز المكاني." وثمة ضباط إسرائيليون يتابعون دراساتهم الأكاديمية في جامعات إسرائيلية من أجل فهم كيف يفكر السكان المقاومون والمحتمون في الأحياء القديمة، كما يحاول الإسرائيليون بدورهم إعادة تعريف هذه الأماكن ليقابل تعريف السكان والمقاومين لها، فمثلاً اعتمد الإسرائيليون سياسة "الحائط المهدوم"، وحمل ما يسمونه "عدّة الشغل"، وهي أدوات يتمكنون من خلالها فتح ممرّات داخل البيوت غير التي يتوقعها المقاومون في محاولة لإلغاء عنصر المفاجأة الذي هو سلاح المقاومة الفاعل في هذه الأمكنة، كما أوضحت الدراسة أن الجيش الإسرائيلي يعيد تكييف نفسه، ويقلل من جموده، اعتماداً على مواجهات متعلقة بحرب الشوارع في الأحياء القديمة.

2 - عامل التراث والتاريخ

هذا النسيج الذي بُني على تراكم تاريخنا المديني هو جزء من تراثنا الممتدة جذوره في الأرض، وهو ما يحاول العدوان في فلسطين البحث عنه لنفسه وتدمير ما هو عندنا أو عند الإخوة الفلسطينيين. إنه التدمير الذي يمحو تاريخ أهل هذه الأرض ويهجّرهم تجهيزاً لاحتلالها بذريعة مقولتهم التي يرددونها دائماً: "أرض بلا شعب، وشعب بلا أرض"، ولهذا فإن هذا التاريخ والتراث يجب أن يظلا فعل استمرار.

3 - عامل الهوية والمحلية

هذا النسيج هو تعبير عن هويتنا، وهو الأثر الخاص بمنطقتنا، كما أنه المثال لنمط معيشتنا وأسلوب حياتنا. وإذا قارناه بالمستعمرات نراه ثابتاً في الأرض غارساً جذوره فيها مثالاً لثباته في داخلها بتكوينه العمراني والاجتماعي، بينما المستعمرات مثال للموقت الساقط والزائل.

4 - العامل الاقتصادي

عدا كونه يؤمن السكن للناس، فإنه ثروة اقتصادية من الناحية العمرانية، ويتضمن أماكن الحرف والصناعات المحلية والمصالح الصغيرة التي تشمل شريحة كبيرة من المواطنين، كما يمكن استثماره سياحياً في بعض مبانيه الخاصة داخل هذا النسيج.

5 - عامل التواصل

المدينة القديمة هي عنصر الترابط بين مختلف مكونات المدينة، وهي أصل التشكل وبؤرة التنظيم، وأي تعديل فيها قد يلغيها ويجعل أقسامها تابعة للمناطق الجديدة، أي إتباع الأصل بالفرع. 

الخاتمة

يتعين علينا إعادة بناء هذا التراث المدمر كله، كي لا نخسر القيم الاجتماعية والاقتصادية والرمزية التي تشكل جزءاً من هويتنا، ولهذا ينبغي للبلديات والمؤسسات المعنية أن تعمل على توثيق تراثها العمراني في سبيل إنتاج معرفة محلية تساهم في التنمية من خلال نظام المنطقة التراثية الخاصة، بحيث تصبح الأولوية للقيمة الاجتماعية والاقتصادية على مستوى الاستثمار في الريف والمدينة، وبما يخدم المصلحة العامة، متقدماً خلال عمليات إعادة الإعمار على الاستثمار الريعي الفردي.

المسألة ليست العودة إلى الماضي، وأن نعيش حالة سلفية كأننا مهزومون ضائعون بين الحاضر والمستقبل، بل المطلوب أن يكون هذا التراث حاضراً في مستقبلنا، فهناك مجموعة من الرؤى والأفكار التي يجب بلورتها أمام تحديات الوضع الراهن، والمتمثلة في إعادة إعمار المناطق المنكوبة، وخصوصاً بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة ولبنان.

إن العمل ضمن السياق التاريخي والتراث ليس قيداً وإنما فرصة، إذ يمكن أن يكون الكل أكبر من مجموع الأجزاء، كما يمكن للمبنى المعاصر أن يضيف طبقة جديدة غنية، وأن يؤدي دوراً في إنشاء تراث المستقبل، بما يخدم إعادة الحياة إلى الأماكن المدمرة، وذلك في سياق التأزم المتزايد لوتيرة الحياة، وتفكك التفاعلات، وأن يلبي حاجة الناس إلى التمسك بأماكن وهويات حقيقية. والحفاظ على النسيج التاريخي ليس مقتصراً على طابعه البصري والجمالي، بل يجب أن يشمل أيضاً خلال عمليات إعادة الهيكلة والإعمار، الهياكل المادية والاجتماعية والاقتصادية الأساسية، وأن يركز على أهمية الطابع النمطي المورفولوجي للحواضر، كأساس للتدخلات المستقبلية.

وفي سياق مواجهة الحرب الاستعمارية لمحو الهوية الوجودية لحواضرنا، علينا العمل على صوغ مفهوم لإدارة الحواضر كي تتعرف إلى نفسها من خلال تاريخها وجذورها، ولا تصبح بلا هوية وتفقد ذاكرتها.

تسعى الأيديولوجيا الغربية لتكريس مفاهيم عيش المجتمعات الاستهلاكية في سياق تحولات تقنية سلعية، مترافقة مع وفرة كبيرة في إنتاج السلع أفقدت الإنسان حسه النقدي، وجعلته يغيب في لاوعيه، فانتشرت الحروب التي جعلت المكونات المجتمعية تفقد أبعادها الإنسانية.

وإذا كان الهدف من التعامل مع معالم التراث هو استحداث أنماط تدل على خصوصية فكر عربي معاصر حر ومستقل عن المركزية الغربية، فإن الإنسان اليوم، كما في كل زمان، يستحدث خصوصيته المكانية عبر دينامية التفاعل بين مقومات السلف ورمزياته من جهة، وتلك القائمة والمستحدثة راهناً من جهة أُخرى. ولذا تمتد خصوصية الحاضر وترتبط بالماضي عبر انتقائية تسخرها كمقومات في معيش الحاضر. ولذا فإن المعاصرة العقلانية هي تلك التي تتمتع بإمكانات القطع والفصل عن السلفيات المعوقة، استناداً إلى قدرة معرفية تتمكن من اتخاذ موقف موضوعي يتلاءم مع متطلبات المعاصرة، في صوغ وتشكيل الزمن الذي يشهد صراعاً عميقاً من أجل وجودية مجتمعاتنا.

وفي سياق قراءة نقدية للتحولات المجتمعية ونتائج الحروب المدمرة، وخصوصاً منها ما يتعلق بالعمارة والمدينة، يبرز إمكان إنشاء بُنى مكانية تملك القدرة على إقامة عمارة محلية تحاكي متطلبات الراهن، وتبعدها بشكل متوازٍ عن أيديولوجيا النموذج التكنولوجي، وعن الدفع في اتجاه العودة الكاملةِ إلى الأشكال الماضوية الحرفية. فلا قدسية للتقنيات العالية، ولا عودة إلى حنين تاريخاني شكلي وتزييني سطحي مزيف.

ولهذا، يتعين علينا العمل على صوغ رؤى وأفكار ترسم جوهر حواضرنا في سياقاتها التاريخية التي تعكس الأزمنة ومقاومة الاستعمار، وتحكي قصص التنوع الثقافي وتحولاته الاجتماعية المتنوعة. كما يرسم الريف تعبيرات الخصوصيات البيئية – الاجتماعية، ومقوماتها الاقتصادية النفعية ورمزيات المجموعات وجمالياتها المشتركة والخاصة، علاوة على مبادئها العقائدية والدينية وقيمها الروحية الإنسانية في سياق المحقق من الإرث الإنساني. أمّا العمارة فلها ذاكرتها الجمعية في إطار وحدة التنوع الثقافي بصيغته المرجعية للتضامن الاجتماعي، وبناء الحياة في مواجهة الموت والتهجير القسري.

 

المصادر:

[1] في إطار التعاون العلمي بين قسم التنظيم المديني في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية والمرصد الحضري في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، تم تنظيم ورشة عمل بعنوان: "التراث / الحروب / ما بعد الحروب"، وذلك نهار الثلاثاء المصادف فيه 2 تموز / يوليو 2013. وقد قدّم المعمار نصر شرف الدين والمعمار حبيب صادق محاضرة بعنوان: "إعادة الإعمار بعد الحرب: تجربة بنت جبيل"، وكانا مكلّفَين من بلدية بنت جبيل وضع دراسة واستراتيجيا لإعادة بناء وتأهيل وسط بنت جبيل، وتأسيس مكتب فني لإدارة إعادة الإعمار.

[2] "دفع انفجار مرفأ بيروت المدمر في 4 آب [أغسطس] 2020 إلى ضرورة وجود رؤية متكاملة لإعادة الإعمار وإعادة تأهيل التراث وحماية النسيج الاجتماعي والهوية العمرانية. يمثل إعلان بيروت العمراني، بمشاركة نقابة المهندسين والمعماريين في بيروت، وكليات الهندسة المعمارية في لبنان، ومؤسسة الجادرجي للعمارة والمجتمع، ونقابة المهندسين، ورابطة المعماريين ورابطة التخطيط المدني، ملخصاً للمساهمات الفكرية والثقافية في إعداد رؤية وطنية شاملة، ويكون بمثابة نقطة انطلاق لإعادة تشكيل مكونات المدينة وإعادة دمجها." يُنظر "إعلان بيروت العمراني"، في الرابط الإلكتروني.

[3] يُنظر: سعاد العامري ومهند حديد (محرران)، "زلزال في نيسان" (رام الله: مركز المعمار الشعبي / رواق، 2002).

Author biography: 

حبيب إبراهيم صادق: منسق المبادرة الوطنية للتصدي لنتائج العدوان الإسرائيلي على لبنان في سنة 2024، وأستاذ مساعد في الجامعة اللبنانية.