سنبني مناطق سكنية آمنة على مسافة معينة من أماكن وجودهم الحالية. وفي هذه الأثناء، سأكون أنا صاحب هذه المنطقة (غزة). فكروا في الأمر كمشروع تطوير عقاري للمستقبل. ستكون قطعة أرض رائعة.. لن يعودوا لأنهم سيحصلون على مساكن أفضل كثيراً.[1]
مقدمة
إن سؤال إعادة الإعمار بعد أي حرب يَطرح عدة قضايا مفصلية، يلخّصها قول الرئيس الأميركي ترامب أعلاه. فهو يَعِد بمنازل جميلة للفلسطينيين في مكان بعيد، وجنّة شرق متوسطية في غزة، وسلام يعمّ المنطقة. خطاب ترامب مستفز لأنه يعطي نفسه الحقّ في تقرير مصير غزة، ويفترض معرفته بطموح أهلها، ويعبُر من فوقهم لوضع تصوّر للمنطقة عامة. غير أن ترامب يعبّر بفجاجة نادرة عن خطّ في الواقع واسع الانتشار يحمله كثيرون وإن بلغة ألطف، أو يدّعون عكس ما يُبطنون. وفي مواجهة هذا الخط يجب تأكيد أن الإعمار هو أولاً قضية سيادة: تنظيم للذات، فصمود على الأرض، فسيادة على الحيّز، يليها توجيه للإعمار كتنمية. وبالتالي، يصبح سؤال الإعمار هو أولاً سؤال شرعية وتمثيل يعودان إلى المجتمع المعنيّ مباشرة بالإعمار وبقواه الحية التي تعبّر عنه وعن مصالحه. ثم هو سؤال سيادة على الأرض ومقدّراتها، وهو ما تحدده مآلات المعركة نفسها، ويمتد إلى ما بعد خفوت هدير المدافع، لينتج من ذلك توجيه للإعمار بما يناهض أهداف العدوان، ويتجاوزها ليحقق مصلحة المجتمع وحريته في خط تنموي.
سأعالج في هذا المقال هذه النقاط الثلاث، بانياً على توجهات تطرحها قوى غزة الحية، ومنطلقاً من موقعي خارجها، مسلطاً الضوء على دور مَن هم منا خارج غزة وبؤر المواجهة الحالية الأُخرى، وعلى سؤال "الذات" في التنمية المعتمدة على الذات في سياق إعادة الإعمار، ومركّزاً على الجانبين المعماري والعمراني في مسألة الاستجابة لقضية السيادة فيه.
I - في مراسم العمارة في جامعة بيرزيت حيث أعمل، اشتغل عدد من الطلاب على تصميم مشاريع لإعادة إعمار غزة، مستجيبين لمسابقة طرحتها بلديات القطاع، ولمتطلبات مساق ركّز على إعادة إعماره، أكان الأمر ميناء جديداً، أم واجهة بحرية، أم منطقة صناعية زراعية، أم مستشفى الشفاء، وغير ذلك. غير أن هؤلاء الطلاب وجدوا أنفسهم وبشكل متكرر في مواجهة سؤال أساسي هو: لأي مستقبل غزي يصممون؟ ما هو السيناريو الذي يتعين على تصاميمهم أن تعمل فيه؟ وكانت إجابتي عن هذا السؤال أننا لا نعرف، فمآلات المعركة (والتي كانت على أشدّها آنذاك، وأفق انتهائها ما زال مبهماً) لم تتبيّن بعد، والمستقبل تبنيه أفعال اليوم لا أحلامه، ولهذا، فإن كل مَن يريد أن يساعد في "تخيل وتصميم" مستقبل أفضل لغزة، عليه أن يسأل نفسه ما الدور الذي يجب أن يؤديه هو اليوم كي نصل إلى ذاك المستقبل.
بكلمات أُخرى، إن إعادة الإعمار تبدأ بالانخراط في المعركة، وتقديم كل ما يمكن تقديمه للانتصار فيها، ثم تحديد شروط الإعمار، لأن لا سيادة للمهزوم، ومن دون السيادة ستكون إعادة الإعمار استمراراً لأهداف المعتدي لا العكس. وهنا من المفيد أن يتساءل المرء عن الدور المنوط به قبل القفز إلى تقديم الحلول التقنية. فالمهندس كمهندس هو جزء من نقابة، وكذلك الأستاذ الجامعي، وطالب الهندسة ربما يكون جزءاً من حركة طلابية، أو أكثر من ذلك، أمّا المهندس في المقاومة فقد صمم أنفاقاً، وهدم جدراناً، وصنع عبوات وصواريخ. إذاً، السؤال هو عن مصبّ هذه الخبرات التقنية، وشكل تأطير الأفراد في جماعة. هذه التساؤلات هي دعوة إلى التفكر كي لا نسمح لعملنا المتخصص بأن يكون هروباً إلى الأمام، ذلك بأن قضية إعادة الإعمار تضعنا أمام مسؤوليات تتعدى التخصصات. وما أقوله هنا ليس انتقاصاً من فعل أي فرد، وإنما اعتراف بواقع أن مجموع أفعالنا جميعاً، خارج غزة وخارج جبهات القتال المساندة لها، لم يَرْقَ في الحقيقة إلى أن يؤثر في وقف الإبادة. وفي النهاية فإن القول هو قول غزة وأهل المقاومة، والباقي هوامش على متن ذاك النصّ.
II - قضية إعادة الإعمار تلزمنا بطرح سؤال جوهري هو: ما الهدف الذي كان يُراد تحقيقه من وراء التدمير؟ وبالتالي، كيف يمكن لإعادة الإعمار أن تواجه هذا الهدف، بدلاً من أن تكرّسه أو تقع في شباكه؟ وكيف يمكنها أن تكون أكثر من مجرد ردة فعل عليه؟ إذ علينا ألّا نغفل أن إعادة الإعمار نفسها قد تتحول إلى أداة تُستكمل من خلالها أهداف العدوان.
في غزة، نحن أمام أهداف واضحة أساسية ترتبط بالاستعمار الصهيوني بشكل مباشر، وأُخرى ترتبط بالمنظومة الإمبريالية بشكل أعمّ، وتنطبق على غزة كما على غيرها. فالأهداف الصهيونية المباشرة هي إبادة سكان القطاع أو تهجيرهم، كجزء من السعي لتهجير الكل الفلسطيني،[2] ولهذا، فإن تدمير غزة، ببُنيتها التحتية ومساكنها، وجميع سبل العيش فيها، يهدف إلى قتل مَن فيها مباشرة، أو بشكل بطيء من خلال جعلها غير قابلة للعيش، فإمّا الهجرة، وإمّا البقاء لمواجهة الموت. كما أن إبادة أجسام المقاومة، العسكرية وغير العسكرية، هي جزء من هذه الإبادة والتطهير، فهي تضمن استكمال الأهداف الصهيونية المتمثلة في القتل والتهجير من دون عائق. والأمر نفسه ينطبق على الضفة الغربية من خلال العدوان الحالي على مخيماتها وبؤر مقاومتها، وإن بدرجة أخفّ من العنف الذي استُعمل في غزة.[3]
أمّا الأهداف الأعمّ لهذا العدوان فتتمثل في استعادة هيبة المستعمرة الصهيونية التي تلقّت صفعة تاريخية في 7 تشرين الأول / أكتوبر، وفي كيّ وعي الشعب الفلسطيني والشعوب العربية عامةً لتخلص إلى أن مقاومة المشروع الصهيوني طريق مسدود وذو تكلفة لا تُحتمل.[4] إن قوة ما مثّله 7 تشرين الأول / أكتوبر، وبالتالي خطورته للمستعمرة وللإمبريالية، تكمن في أنها كشفت نجاعة المقاومة وقدرتها على اختراق قلب المستعمرة بأقل الموارد، وعلى الرغم من فارق القدرات المهول. وهذه القدرة هي نتاج تضافر جهود إقليمية تجاوزت حدود الدول القطرية التي رسمها الاستعمار، والفوارق العقائدية التي جهد المستعمِر ليجعل المستعمَرين يرونها في وعيهم كتناقضات رئيسية، وقدرة بُنيت على حِرَفِية عالية أذلّت أوهام قوة المستعمِر وقداسة دمه المفترضة. وبالتالي، حرّكت عملية طوفان الأقصى جوارح الملايين في العالم العربي والإسلامي وما بعدهما، وأعطت مثالاً لقدرة الشعوب على نفض قيود الاستعمار المباشر وغير المباشر، والذي تمثّل المستعمرة الصهيونية، على تميّزها العقائدي، مثالاً واضحاً لها. ولذلك، كان لزاماً على المستعمرة ودول المركز الإمبريالي محاولة كبح هذا المخيال الذي صنعه الطوفان ليهدد عالمهما. وهذا الأمر يتقاطع مع أهداف الحروب الإمبريالية في العالم العربي، والجنوب بصورة أعمّ، ذلك بأن هذه الأهداف تؤسس وتضمن استمرار سلب موارد الشعوب (أي "التراكم الأولي" في إطار النظام الرأسمالي). وبإخضاعهما لهذه الشعوب، فإن المستعمرة ودول المركز الإمبريالي تفرض عليها تبادلاً غير متكافىء للسلع، ومن ضمنها العمالة، وهذا (أي تبخيس سعر موارد الأمم وقيمة يدها العاملة) يضمن تكلفة أقل للمنتوجات التي تسيطر على صنعها وتبادُلها رؤوس الأموال في دول المركز الرأسمالي، وبالتالي تزيد الأخيرة من تراكم أرباحها.[5] وهذا الهدف يفسّر جزئياً تداعي الإمبريالية العالمية إلى إنقاذ مستعمرتها "إسرائيل" منذ بداية الحرب، ومشاركتها المباشرة في حرب الإبادة، كما تفسّره صهيونية النخب الحاكمة في دول الغرب.
إن إعادة الإعمار، وفق الأهداف المشار إليها أعلاه، يمكن أن تكون بطيئة بحيث لا تلبي حاجات الناس بالسرعة الكافية، أو ألّا تقدم لهم حاجات العيش الأساسية كالصحة فتساهم في قتلهم، أو في دفعهم إلى الهجرة. كما أنها، في رسم الإمبريالية وحروبها، جزء لا يتجزّأ من الحرب واقتصاد العسكرة بصورة أعمّ.[6] فإعادة الإعمار تستطيع أن تشكّل فرصاً ربحية لرؤوس الأموال الأجنبية، وإمكاناً لاستكمال تدمير قوى الإنتاج للمجتمع المستهدَف بالحرب،[7] ولكيّ وعيّ الشعوب وتبديد قدراتها على الفعل السياسي والتنظيمي، فتنزع من المجتمع قدرته أو رغبته في المقاومة، وبالتالي تُمسي فخّاً يجرّده من قابليته على الدفاع عن نفسه آنياً، أو على المدى الطويل.[8]
إذاً ما هو شكل الإعمار المنشود وهدفه في الحالة الفلسطينية، وفي غزة تحديداً؟
"لبناء معادلة إقليم يريد أن يكون سيداً مستقلاً حراً، قراره ذاتي، وأداته الأساس قدرته على صفع إسرائيل متى ما أراد وبكفاءة عالية."[9]
ومثلما كان خطاب قائد الأركان محمد الضيف خطاب بداية معركة الطوفان، فإن مداخلة القائد أسامة حمدان في "منتدى الجزيرة" بتاريخ 15 / 2 / 2025، تصلح لأن تكون دليلاً للإعمار، ذلك بأن الأخير جزء لا يتجزأ من المعركة ذاتها. وهي تصلح لذلك لعدة أسباب، فهي: تؤطّر حرب الإبادة على غزة كحرب على العرب كلهم، وبالتالي تضع المجموع العربي أمام مسؤوليته في هذه اللحظة الممتدة؛ تلمّح إلى الأهداف المتعددة للحروب الغربية على الوطن العربي في التاريخ المعاصر، ومنها نهب مقدّراته وإبقاؤه تابعاً؛ تحمل خطاب قوة وكرامة تجعلان الفرد يعي مواطن الضعف وحجم الخسارة، ويعي أيضاً دلالات الصمود في لحظة أجبرت فيها غزة الإمبراطورية الأميركية بحدّ ذاتها، على أن تخلع قناعها وتتدخّل بشكل مباشر لمحاولة إخضاع مدينة أبت الانكسار؛ تؤكّد أن إعمار غزة تقوده وتوجّهه غزة، سيدة ذاتها ورأس الحربة في العالم العربي. إذاً، إن الهدف ليس إعادة إعمار للحجر فقط، وليس مجرد "إعادة" بصورة فعلية وحقيقية، بل إنه بناء مرتكز على الواقع والمكتسبات، والوقوف في وجه الإخفاقات والتحديات لتحقيق أهداف تتجاوز إيقاف العدوان إلى السير قدماً نحو التحرير. وفي الحقيقة، فإن ما ينطبق على إعادة إعمار غزة، وهي محور هذا العدد، ينطبق كثير منه أيضاً على إعادة إعمار أجزاء أُخرى من فلسطين والوطن العربي، ومنها مخيمات اللجوء في الضفة التي تخضع الآن لحملة تدمير وتهجير صهيونية وممنهجة.
وبالتالي، فإن إعادة الإعمار في السياق الفلسطيني تجد نفسها أمام مجموعتين من الأهداف:
أولاً، إعادة أساسيات الحياة إلى الناس، وبصورة طارئة، من أجل معالجة أسباب الموت البطيء، ولدرء خطر التهجير. وهنا، نذكّر بما قلناه سابقاً من أن هذا الأمر يقع على عاتق مَن هم منا خارج بؤر الاشتباك، إذ علينا العمل بجميع السبل لإدخال المواد الإغاثية فهذا الموضوع يسبق أي خطوة في سياق الإعمار.
ثانياً، يتعين على إعادة الإعمار أن تشكّل نموذجاً للسيادة، وعلى قدرة نهج المقاومة أن يكون تحقق للشعب مكتسبات مباشرة آنية تؤدي، على المدى الطويل، إلى الحصول على مكتسبات طويلة الأمد تتمثل في التحرير وبناء وطن عربي سيد، وإلى إخراجه من دائرة اقتصاد الحرب والتبعية. بكلمات أُخرى، يصبح هدف إعادة الإعمار خلق نموذج تنموي سيادي تبقى قدرة المقاومة فيه شرطاً لذلك وحامية للإعمار. وإذا كنا اليوم لا نستطيع أن نقدّم نموذجاً كاملاً، بحكم محدودية السيادة على الأرض، فإن مقدار العنف الصهيوني الإمبريالي ضد غزة يجعل أي نجاح تنموي جزئي يحافظ على مقدّرات المقاومة ويراكم لمصلحة الشعب ويزيد منعته، مثالاً ذا وزن كبير. والأمر يكون كذلك أمام مخطط ضمّ الضفة الغربية وتهجيرها.
إذاً، على إعادة الإعمار أن تضع نصب عينيها تثبيت الشعب في أرضه، وهذا أمر مرتبط بمناهضة الهدف الصهيوني الإبادي التوسعي، والأيديولوجي المتمثل في تهويد الأرض. فتثبيت الشعب في أرضه هو حجر الأساس لمناهضة كيّ الوعي، ولتعزيز كرامة الأمّة وإثبات نجاعة المقاومة، كما أنه نقطة الانطلاق لتجاوز أهداف العدوان والانتقال إلى بناء أمة تكون سيّدة نفسها، وتملك رؤية أصيلة.
إذا كنت قد قلت سابقاً أن لا سيادة للمهزوم، فإن تخلي المنتصر عن السيادة على الإعمار يبدد أيضاً أي انتصار عسكري في الحرب.
وهنا يصبح السؤال المطروح هو: ما هي ترجمة التنمية السيادية في الإعمار، وما هو دور العمارة والتخطيط المكاني فيها؟ بداية، أرى أنه يمكننا تلخيص هذه التنمية بأنها إعمار قاعدة إنتاجية مستقلة، وقدرة على التحكّم في الواردات والصادرات، وسيادة على توزيع الفائض وتوجيه الاستثمار بما يخدم أهل القضية وأفراد مجتمعها بعدالة، وتثبيت القدرة على حماية هذه المكتسبات. أمّا معمارياً وتخطيطياً، فإن المهمة تصبح إيجاد وتطوير ما يتلاءم مع هذه الأهداف من ناحية أنماط العمل والبناء، والمواد الإنشائية، والتصاميم، بمختلف أبعادها، من المستوى المعماري حتى التخطيطي الإقليمي. وأعتقد أن بذور هذه الأنماط موجودة في الحاضر، لكننا في حاجة إلى تطويرها.
فمثلاً في مخيمات الضفة، وفي مناطق أُخرى من أطرافها، ثمة نماذج واعدة يمكن البناء عليها، ومنها: مجموعات شبابية وتعاونيات تعمل على توفير حاجات الناس الأساسية من غذاء ودواء، وتأمين مصدر دخل لهم؛ مجموعات مقاومة تحمل بُعداً تنموياً، وفيها سكّان يصنعون "عمارة دفاعية" في وجه هجمات المستوطنين. وتلك التعاونيات الشبابية تقدّم مثالاً لإنشاء قاعدة إنتاجية على قدر من الاستقلال، تعمل على توزيع فائض الإنتاج بعدالة، وإعادة تدويره إلى حدّ كبير في المجتمع المحلّي، سعياً لتحقيق سيادة على الأرض وعلى الغذاء. ومن المهم أنه في سعيها لتحقيق ذلك، تجد هذه التعاونيات نفسها ومجتمعها المحيط أمام أسئلة عن علاقات الإنتاج والحيازة المهيمنة: فمثلاً، تقوم مجموعة من الفلاحين الشباب باستعارة أراضٍ ذات تصنيف "ج" في قريتها في الضفة من دون مقابل وتفلحها كلها مستفيدة من "اقتصاديات الحجم"، وفي ذلك دلالة على قابلية الناس لتجاوز علاقات الحيازة الرسمية بمواقع جغرافية معيّنة (أي أن يعيروا أرضهم مجاناً)، وعلاقات الإنتاج الفردانية (أي أن يعمل هؤلاء الشباب بشكل أفقي تعاوني) لتحقيق هدف يتعدى الربح (حماية الأرض من الاستيطان؛ توفير غذاء محلّي للقرية أو المخيم صحي وزهيد؛ توفير فرص عمل). تعاونية أُخرى في مخيم تقدّم تأميناً صحياً من خلال اقتصاد دائري تموّل فيه تعاونية استهلاكية ثمن أدوية لأعضائها من المحتاجين، وفي ذلك مثال لتوجيه الفائض لخدمة المجتمع المحلي صاحب المبادرة (وفي ذلك أيضاً دلالة على قصور المؤسسة الصحية الرسمية).[10] وحين تعمل كتائب مقاتلة على معالجة ظاهرة كتجارة المخدرات، فإن في هذا دلالة على قدرة الأجسام النضالية المحلية على إدارة ذاتها والتعبير عن مصالح مجتمعها وتطلعاته ببُعد نظر وبتقبّل مجتمعي يصعب أن تحوزه أجسام أُخرى. وكذلك، فإن في قرى الضفة التي تتعرض لهجمات المستوطنين ممارسات دفاعية، ومنها المعماري الذاتي البناء، والتي يمكن الاستنباط منها والبناء عليها وتطويرها، وكذلك الأمر في المخيمات.
ومع أن هذه المبادرات لا تزال محدودة الحجم والتأثير، وتواجه السؤال عن إمكان نموها وتعميمها، إلّا إنها تؤشر إلى قدرات كامنة يمكن البناء عليها، وهنا تشكّل إعادة الإعمار فرصة لمأسسة ممارسات محلية حيّة وتطويرها. ونحن إن كنّا نسعى لتنمية ذات سيادة، فعلينا خلع وهم المكتسبات السريعة، أو نمط الحياة الاستهلاكي الذي تروّجه القوى نفسها التي تريد استعبادنا، ونبدأ البحث عن ممارسات قائمة تتّسق مع قدراتنا لتعظيمها، وبالتالي نوازن بين السعي لتحقيق الرفاه، وبين الاعتماد على القوى الذاتية. وهنا علينا كمعماريين ومخططين التفكير في عملية التصميم والبناء بحيث تقودها، أو تساهم فيها جذرياً، الأجسام السياسية والنضالية المحلية، على أن تحافظ تصاميمنا على منعة البيئة المبنية أمام العدوان، وتطوّرها عمّا كانت عليه بناء على خبرة المعارك الأخيرة والممارسات القائمة. وعلينا أيضاً أن نفكّر في نمط العمل المرتبط بهذه المخططات، والذي يعود بالفائدة على المجتمع المحلي بشكل عادل، لا على نخب رأسمالية أكانت محلية أم غير ذلك، وأن نفكر أيضاً في مواد البناء التي تعتمد على الموارد المحلية، أو تلك التي لدينا سيادة أكبر على استيرادها، والتي تلائم أنماط العمل السابقة.[11] ويمكن كذلك العمل على أنماط إسكان وزراعة تبني على تلك الممارسات التشاركية أعلاه، والتي أثبتت نجاعتها في الممارسة ضمن ظروف معينة. هذا كله يستطيع أن يشكّل لبنة مخططات الإعمار كمشروع تنموي حقيقي. وبالتالي، فإن من ضمن أعمال إعادة الإعمار البناء على هذه الأمثلة وما شابهها من خلال دراستها وتطويرها.
هذه النقاط عن السيادة والتنمية ليست من باب التوهم بأن تحقيقها سهل أو مرجّح، وإنما من باب تسليط الضوء على أن أي إعادة إعمار يجب أن تكون خطوة نحو التحرير لا انكفاء عنها، ودعوة إلى بذل الجهود في هذا السبيل. ففي الضفة الغربية، يواجه هذا النموذج آلة الحرب الصهيونية ومخططاتها، فضلاً عن نموذج السلطة التنموي التابع وثقافته. أمّا في غزة، فإن نموذجاً من هذا النوع دونه عدة عقبات، منها الحصار متعدد الأذرع، والاشتراطات الدولية والعربية لإعادة الإعمار، وطبعاً جميع المحاولات الصهيونية والأميركية لإعاقته أو تشكيله سعياً لتحقيق أهداف الحرب. ولذلك يبقى التعويل في المرحلة المقبلة، بعد قوى المقاومة، على بناء قوة شعبية تضغط بجميع السبل نحو تحقيق الأهداف التنموية في غزة، سواء من خلال رفع الحصار، أو إيصال المساعدات والأموال، أو تسخير مختلف الإمكانات ضمن الرؤى التي تضعها غزة ومقاومتها. باختصار، سؤال الاعتماد على الذات في تنمية غزة وإعمارها، وفي سائر بؤر المواجهة يطرح سؤال تعريف "الذات" هذه، والتي أجادل هنا أن لا بد لها من أن تتجاوز هذه البؤر إذا كان سيكون هناك أي فرصة للتنمية والتحرر. لكن الأمل هو أن الزمن الذي مضى والخبرة كذلك ساهما ويساهمان في تحريك عجلة التنظيم في اتجاهات ناجعة وهذا، مجدداً، من مسؤوليات الإعمار على المهنيين كما على غيرهم. بعبارة أُخرى، إن أي تنمية سيادية في غزة هي ممكنة بمقدار اضطلاع الجميع بمسؤولياتهم في هذه المعركة، وتبقى وهماً إذا ركنت الأمة إلى قدرة غزّية خارقة.
III - ختاماً، إن إعادة الإعمار، كامتداد للحرب، هي معركة إرادة مثلما هي معركة وجود. وإذا كان الهدف الصهيوني الأساسي هو نفي وجود الغزي خاصة، والفلسطيني عامة، فإن تمسّك الأخير بفاعليته وسيادته على نفسه هو ضرب لأساس العدوان، كما أن انتزاع سلطته من أيّ كان، وبأي دثار تغطى، هو مساهمة في المجهود الحربي الصهيوني. بالتالي، فإن أساس إعادة الإعمار لا بد من أن يبدأ بالاعتراف بسيادة الفلسطيني على أرضه ومصيره، والاعتراف بشرعية قواه المقاومة كممثّل له، وكذلك بدور المجتمعات المحلية في بناء حياتها من جديد بحسب تطلعاتها. فمَن أحقّ بقرارات إعادة إعمار مخيم جنين من كتيبته وناسه؟ ومَن أقدر على تصميم غزة من ناسها وأحزابها الفاعلة وكتائبها المقاتلة؟ ويشمل ذلك المهنيين من مهندسين ومخططين واقتصاديين وغيرهم. وبالتالي، فإن أي جهد من خارج بؤر الاشتباك يسعى لدعم إعادة الإعمار، يجب أن يمرّ من خلال سلطة المقاومة وشعبها ومَن يختارا حصراً، أكان ذلك بلديات أم لجاناً أم أفراداً، وأي شيء دون ذلك هو تساوق مع العدوان. طبعاً، الواقع أكثر تعقيداً، وبالتالي فإن المقولة هنا هي أيضاً دعوة إلى تدعيم هذه الأجسام المهنية التمثيلية وغيرها.
المصادر:
[1] الرئيس الأميركي دونالد ترامب، 10 / 2 / 2025.
[2] من أجل أمثلة من زمن حرب الطوفان لهدف التهجير والإبادة تُنظر خطة الجنرال المتقاعد غيورا آيلاند بشأن حرب غزة في: حسين شاهين، "خطة الجنرالات: من توسعة غزة إلى عودة الاحتلال"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 141 (شتاء 2025)، ص 86 - 96. وتُنظر كذلك تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي يسرائيل كاتس ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش التي تتبنّى أهداف ترامب بشأن التهجير بشكل صريح، وأيضاً تصريحات بني غانتس ويائير لبيد التي تتبنّى تلك الأهداف بشكل ضمني، في: أنطوان شلحت، "في أبرز الرؤى الإسرائيلية لخطة ترامب"، ملحق "المشهد الإسرائيلي" في موقع المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية / مدار، 17 شباط / فبراير 2025، في الرابط الإلكتروني.
[3] ياسر مناع، "ما هي الأهداف الكامنة وراء الحرب الإسرائيلية على المخيمات في الضفة الغربية 17 شباط / فبراير 2025، "ملحق المشهد الإسرائيلي" في موقع المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية / مدار، في الرابط الإلكتروني.
[4] يُنظر مثلاً تكرار نتنياهو لفكرة خلق "شرق أوسط جديد"، أو "تغييرات جذرية في الشرق الأوسط"، من خلال الحرب على غزة، مثلما جاء في خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 27 أيلول / سبتمبر 2024، في: ماهر الشريف، " 'شرق أوسط جديد'! هل يركض بنيامين نتنياهو وراء سراب؟"، "مؤسسة الدراسات الفلسطينية – المدونات"، 13 / 1 / 2025، في الرابط الإلكتروني.
[5] يُنظر مثلاً:
Paris Yeros and Praveen Jha. “Late Neo-Colonialism: Monopoly Capitalism in Permanent Crisis”, Agrarian South: Journal of Political Economy, vol. 9, no. 1 (2020), pp. 78–93.
[6] تُنظر مثلاً مقالة علي قادري في مقارنتها بين نمطَي إعادة الإعمار بعد حروب الغرب في شرق آسيا، والعالم العربي، إذ عملت إعادة الإعمار في الأولى على تنمية اقتصاد تابع يوفر عمالة رخيصة لدول شمال شرق آسيا التابعة للهيمنة الأميركية، بينما هدفت إعادة الإعمار في العالم العربي على نفي سيادة الدول القطرية وإبقائها في حالة حروب دائمة واعتماد على دول الغرب المهيمنة التي توفر موارد وخدمات بسعر بخس:
Ali Kadri, “Imperialist Reconstruction or Depopulation in Syria and Iraq”, International Development Economics Assosiates (IDEAs), 19 April 2017.
[7] تُنظر مثلاً الخطة التي صاغها وزير الخزانة الأميركي هنري مورغنثاو لإعادة إعمار ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وهي خطة لم يتم تبنّيها رسمياً، ومع ذلك فإنها أثرت في سياسات أميركا بعد الحرب حتى بداية الحرب الباردة. ونصّت خطة مورغنثاو على القضاء على تقدم ألمانيا التكنولوجي وقدرتها الصناعية، وتحويلها إلى اقتصاد زراعي غير قادر على المراكمة والتحول الصناعي (وبالتالي التسلّح) من جديد. وشملت الخطة الاستحواذ على موارد ألمانيا الطبيعية، وكذلك على مقدّراتها الصناعية كنوع من التعويضات.
[8] تكثر الأمثلة هنا، ومنها: خطة بريغز البريطانية لمواجهة الثوار الشيوعيين ضمن "حالة الطوارىء" في مالايا (ماليزيا) 1948 – 1960؛ برنامج "الدعم المدني والتنمية الثورية" الأميركي في جنوب فييتنام، وجزء منه كان إعادة الإعمار بعد هجوم تيت [Tet Offensive]؛ برنامج "الاستجابة الطارئة للقادة" (CERP) الذي أقامته أميركا خلال حروبها في العراق وأفغانستان في بدايات الـ 2000، وشمل تمويل مشاريع بُنية تحتية وخدمات وغيرها، وكذلك الإشراف على عمل "فرق إعادة الإعمار الإقليمية" (PRTs) في أفغانستان، والتي شكلتها أميركا أيضاً من أجل تقديم الخدمات وإنشاء البُنى التحتية. وهذه المشاريع كلها تقع ضمن جهود "مكافحة التمرد" و"كسب العقول والأفئدة"، أي استخدام إعادة الإعمار والتنمية لنزع الشرعية عن قوى معادية للمستعمِر وإعطائها له وللقوى المتعاونة معه. وفي الحقيقة، فإن روبط القرى في فلسطين مثال آخر، مع أنه لا يقع ضمن إعادة الإعمار.
[9] تُنظر مداخلة أسامة حمدان في "منتدى الجزيرة" في: أحمد رضا، "حماس من منتدى الجزيرة: لن نخرج من غزة ثمناً لإعادة الإعمار"، 15 / 2 / 2025، في الرابط الإلكتروني.
[10] لدراسة معمّقة عن تجربة التعاونيات الشبابية، يُنظر:
Faiq Mari, “Masha’ of the Periphery: Collective Labor and Property in Palestinian Liberation Struggle”, A thesis submitted to attain the degree of Doctor of Sciences 2/10/1990, (Dr. sc. ETH Zurich).
[11] مثلاً عمل "حملة أنقذوا الأغوار" بالطوب الطيني وتقنيات أُخرى، والذي سعى لخلق نموذج عمل معتمد على الذات من ناحية مواد البناء وعلاقات إنتاج، وذلك في إطار التصدي للاستيطان الصهيوني في غور الأردن منذ بدايات الألفينيات. ولنظرة نقدية عن تجربة "أنقذوا الأغوار" يُنظر:
Faiq Mari, “Building in Solidarity, Building with Earth: The Jordan Valley Solidarity Campaign”, in: Arab Modern: Architecture and the Project of Independence, edited by Nadi Abusaada and Wesam Al Asali (Zurich: gta Verlag, 2025), pp. 163–86,