Gaza and Its Reconstruction
Full text: 

في أعقاب وقف إطلاق النار الأخير في غزة، اكتسبت الجدالات بشأن إعادة الإعمار والتأهيل زخماً جديداً، وهي جدالات لا يمكن عزلها عن السياق السياسي الأوسع الذي أدى إلى تدمير غزة في المقام الأول. فالحملات العسكرية الإسرائيلية المتكررة التي تقوم على سياسة "الأرض المحروقة"، لا تهدف فقط إلى شنّ الحرب، بل إلى جعل الحياة في غزة مستحيلة للفلسطينيين. هذه الاستراتيجيا المترافقة مع الطموحات الاستيطانية الاستعمارية، والدعوات المتكررة من القادة الإسرائيليين والأميركيين إلى تهجير الفلسطينيين خارج القطاع، تؤكد أن أي حديث عن "إعادة الإعمار بعد الحرب" يتجاهل حقيقة أن الحرب لم تنتهِ بعد. 

سرديات إعادة الإعمار: بين ترسيخ التشاؤم ومسارات التعافي

في ظل هذا الواقع، تشكّلت منظومة من التوقعات تميل إلى التشاؤم إزاء إمكان إعادة إعمار غزة، إذ تعمد المؤسسات الدولية ووسائل الإعلام إلى ترسيخ تصورات تُقدّم هذه العملية كاستحقاق مستحيل، تُقاس نجاحاته وفق جداول زمنية تمتد إلى عقود أو حتى قرون. فعلى سبيل المثال، تفيد تقارير صادرة عن الأمم المتحدة بأن الاقتصاد الغزي، في ظل الظروف الراهنة، قد يستغرق 350 عاماً لاستعادة مستوياته ما قبل الحرب.[1]

ومع أن هذه التقديرات تكشف عن عمق التحديات المقبلة، إلّا إنها تتجاوز كونها مجرد توصيف موضوعي للواقع، لأنها تُعيد إنتاج سردية قاتمة تساهم في تكريس الشعور باستعصاء التعافي. وهذا التشاؤم ليس محض محصلة حسابية باردة، بل يتماهى مع استراتيجيات سياسية تُوظِّف الإحباط كأداة لإجهاض أي مساعٍ فلسطينية مستقلة نحو التعافي. وفي المقابل، يتموضع التفاؤل في سياقات أُخرى ملائمة أكثر لمشاريع الهيمنة. فحين اقترح الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن تتولى الولايات المتحدة إدارة غزة، مستحضراً صورة "ريفييرا" متوسطية، لم يكن ذلك مجرد تفكير عابر، بل تعبير عن تصور يكون الأمل فيه مشروطاً بالاستتباع السياسي، بينما يُترك التشاؤم ليرسّخ العجز في المخيلة الفلسطينية.

على امتداد العقود الخمسة الماضية، شهدت خطابات إعادة الإعمار تحولات جوهرية. فإذا كانت تقتصر تاريخياً على إعادة بناء البُنية التحتية وترميم المواقع المتضررة، فإن المقاربات الحديثة باتت تتبنّى منظوراً أكثر شمولية، يستوعب الأبعاد الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تشكّل صُلب عمليات التخطيط لما بعد الدمار. وانعكس هذا التحول في تبنّي مفهوم "التعافي"،[2] وهو مفهوم يتجاوز إعادة البناء المادي إلى تأكيد استمرارية الفاعلية المجتمعية، وترسيخ امتداد زمني يربط بين الماضي والمستقبل، مع الأخذ في الاعتبار التشابك العميق بين السياسة والمجتمع في عملية الإعمار.

وفي هذا السياق، لا تقتصر إعادة الإعمار على كونها مجرد عملية ترميم مادي للبُنى التحتية المدمرة، بل أضحت عملية إعادة بناء للحياة أيضاً، وإعادة تشكيل لسبل العيش، وإعادة صوغ للوجود الفلسطيني ذاته. ومع ذلك، فإن حتى أكثر النماذج تقدماً في هذا المجال تصطدم بمحدوديتها عندما يتم إسقاطها على واقع غزة وفلسطين، في ظل استمرار الاستيطان الاستعماري. فالمفهوم التقليدي لـ "ما بعد الحرب" يفترض قطيعة بين زمن الحرب وزمن السلم، بينما يبرهن الواقع الفلسطيني على نقيض ذلك: فالدمار في غزة ليس استثناء ولا مرحلة موقتة، بل هو مكوّن عضوي في مشروع استيطاني استعماري متواصل، يعيد إنتاج العنف عبر العدوان العسكري، والحصار الاقتصادي، والتجزئة السياسية والجغرافية. هكذا، تصبح إعادة الإعمار في الحالة الفلسطينية مسرحاً لمواجهة أكثر تعقيداً، إذ لا ينحصر السؤال في كيفية إعادة البناء، بل في الشروط السياسية التي تتيح أصلاً إمكان التعافي أيضاً. 

غزة المفتوحة: تحدي التقسيم والحصار

حين يجري صوغ سياسات إعادة الإعمار بمعزل عن السياق السياسي الأوسع، فإنها قد تؤدي إلى تكريس التقسيم الاستعماري لفلسطين بدلاً من تفكيكه. ويشكل الحصار الإسرائيلي على غزة أداة ممنهجة للهندسة الديموغرافية، فهو يعيد تشكيل علاقتها بسائر فلسطين التاريخية ضمن إطار يعمّق العزلة المفروضة عليها. وفي هذا السياق، تتجاوز إشكالية إعادة الإعمار البعد المادي للبناء، لتتحول إلى عملية إعادة تشكيل البُنية السياسية والاقتصادية لغزة، وإعادة ترسيم موقعها في المشهد الفلسطيني، وعلاقاتها بالمنطقة والعالم.[3]

كثيراً ما ارتبط ازدهار غزة بدورها المركزي ضمن شبكات التجارة الإقليمية، ذلك بأن موقعها الاستراتيجي بين البحر الأبيض المتوسط وعمق المشرق العربي مكّنها من أداء دور حيوي في التبادل التجاري والثقافي. فقد شكلت أسواقها وموانئها ومحطات قوافلها نقاط ارتكاز لحركة البضائع والأفراد، الأمر الذي عزّز موقعها ضمن فضاء حضري واقتصادي أوسع.[4] غير أن تجاهُل هذا الامتداد التاريخي يساهم في إعادة إنتاج العزلة المصطنعة التي فرضتها السياسات الاستعمارية، محوّلاً المدينة إلى كيان منفصل عن شبكاتها التاريخية بدلاً من كونها جزءاً من منظومة اقتصادية واجتماعية متكاملة.

ولا تقتصر آثار هذه العزلة على الجوانب الاقتصادية، بل تمتد أيضاً إلى الهوية التاريخية والاجتماعية لسكان غزة الذين ينتمي معظمهم إلى مجتمعات لاجئة نزحت قسرا خلال نكبة 1948.[5] فجذورهم الاجتماعية وارتباطاتهم التاريخية تتجاوز حدود القطاع، وهو ما يؤكد حقهم المزدوج في البقاء في غزة والعودة إلى أراضيهم الأصلية، بدلاً من أن يكون مبرراً لمزيد من التهجير القسري. وهذا الواقع يعكس العلاقة العضوية بين غزة وسائر فلسطين، إذ تتجاوز الروابط الاجتماعية والجغرافية الحدود السياسية المفروضة. وفي هذا الإطار، تصبح سياسات إعادة الإعمار مرتبطة بإعادة تعريف العلاقة بين غزة ومحيطها الفلسطيني، ذلك بأن أي مشروع يعيد إنتاج العزل الجغرافي والسياسي يساهم في ترسيخ واقع غير قابل للاستدامة، سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي.

عند النظر إلى تجارب إعادة الإعمار السابقة في غزة، تتضح إشكاليات التعامل مع إعادة البناء ضمن الإطار القائم. فمنذ الانسحاب الإسرائيلي في سنة 2005، شهدت غزة تدفقاً واسعاً للمشاريع التنموية، إلّا إن هذه المبادرات لم تعالج الأسس الهيكلية للحصار، وهو ما جعلها عرضة للانتكاس مع كل دورة من التصعيد العسكري الإسرائيلي. ومع تشديد الحصار في سنة 2007، تعطل معظم الاستثمارات التنموية، وتعرضت البُنية التحتية للاستهداف، الأمر الذي كشف هشاشة النهج القائم على إعادة الإعمار من دون معالجة الأسس الهيكلية للحصار والاحتلال. وهذه التجربة تؤكد أن إعادة الإعمار لا يمكن أن تقتصر على الجوانب المادية، بل تستدعي أيضاً تحولات على الصعيدَين القانوني والسياسي تضمن عدم تكرار أنماط التدمير والتهجير.

في ضوء ذلك، فإن أي رؤية مستقبلية لغزة تتطلب تجاوز منطق "إعادة الإعمار داخل السجن"، لأننا هكذا نعيد بناء ما تهدم ضمن حدود مغلقة تكرس العزل بدلاً من تفكيكه. وهذا الأمر مرتبط بإعادة فتح طرق التجارة، وإعادة بناء الموانىء والمطارات، وضمان الوصول غير المقيّد إلى العالم الخارجي، وهذه عناصر لا تمثل فقط مطالب اقتصادية، بل تشكل أيضاً مداخل أساسية لاستعادة الدور التاريخي لغزة كمركز حضري متصل ومتفاعل مع محيطه. بهذا المعنى، تصبح إعادة الإعمار مشروعاً سياسياً يرتبط بنزع الاستعمار وإعادة دمج غزة ضمن منظومتها الاقتصادية والاجتماعية الأوسع، بما يعزز سيادتها الاقتصادية وامتدادها الجغرافي بعيداً عن الإملاءات الخارجية التي سعت لتحويلها إلى جيب معزول داخل مخطط استعماري طويل الأمد. 

الأهالي، لا للإملاءات الخارجية في صلب إعادة الإعمار

في السياق الحالي لغزة، لا يمكن اختزال الأولويات إلى إعادة الإعمار المادي فحسب، بل إن أي نقاش بشأن هذه العملية مرتبط بمعالجة التداعيات الإنسانية الكارثية الناتجة من التجويع الممنهج، والتهجير القسري، وتفشي الأوبئة. كما أن التغافل عن هذه المسائل الجوهرية لا يجعل الحديث عن إعادة الإعمار مجرد مسألة سابقة لأوانها، بل يحوّله إلى خطاب استغلالي يتجاهل الواقع المادي والمعنوي للسكان. فأي عملية تعافٍ لا يمكن فصلها عن تقييم شامل لطبيعة الأضرار وآليات التدخل، وذلك تجنباً لإعادة إنتاج ديناميات الإعمار المفروضة من طرف الجهات المانحة الدولية، والتي غالباً ما تنفصل عن السياقات المحلية وتعيد تكريس الهياكل الاستعمارية بدلاً من تفكيكها.

علاوة على ذلك، لا يمكن فهم إعادة الإعمار كعملية تقنية محضة، بل هي بالضرورة صيرورة سياسية تتداخل فيها قضايا السيادة والعدالة مع المسائل العمرانية والبُنيوية. ولهذا لا يتعلق السؤال فقط بما يتم إعادة بنائه، بل بكيفية البناء، والشروط التي تحكمه، والجهات التي تتحكم في مساراته. ومن المحتم أن تسعى الجهات الخارجية، أكانت دولاً، أم منظمات دولية، أم مستثمرين من القطاع الخاص، لفرض تصوراتها لإعادة الإعمار بما يتماشى مع مصالحها الجيوسياسية أو الاستثمارية، وليس بالضرورة مع حاجات الفلسطينيين وأولوياتهم. وعليه، فإن مركزية المشاركة الفلسطينية في هذه العملية لا تتعلق فقط بمسألة الإنصاف، بل تمثل أيضاً بُعداً أساسياً في إعادة تعريف العلاقة بين السكان والفضاء العمراني، خارج الأطر التقليدية التي تختزلهم إلى مجرد متلقين للمساعدات، أو مستفيدين سلبيين من خطط معدّة سلفاً.

إن ترك مسألة مواءمة إعادة الإعمار مع المصالح الفلسطينية في أيدي الجهات المانحة الغربية، أو الفاعلين الإسرائيليين والأميركيين الذين يتحملون مسؤولية مباشرة عن تدمير غزة، يثير إشكاليات عميقة تتعلق بالشرعية والسلطة. ولهذا فإن من الضروري التفكير في آلية مستقلة، محلية ودولية، قادرة على الإشراف على عملية إعادة الإعمار وفقاً لمبادىء القانون الدولي وحقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، مع إبقاء هذه العملية خارج الأطر المهيمنة التي تكرس التبعية. كما أن التجربة التاريخية تشير إلى أن المشاريع التي يقودها الغرب الاستعماري تميل إلى تعزيز أنماط السيطرة بدلاً من تمكين الأهالي، الأمر الذي يجعل ضرورياً البحث في إمكان إعادة تصور الإعمار كعملية تحررية تتجاوز النموذج التنموي الاستغلالي نحو نموذج يمكّن الفلسطينيين من استعادة حقهم في تقرير مستقبلهم العمراني والسياسي.

وفضلاً عن ذلك، فإن مركزية القرار في عمليات إعادة الإعمار تطرح تساؤلات عن ديناميات السلطة، ذلك بأن إخضاع هذه العملية لمؤسسات بيروقراطية بعيدة عن السياق المحلي يساهم في إنتاج تصورات نمطية تعيد إنتاج الاختلالات القائمة بدلاً من معالجتها. ومن هذا المنطلق، فإن إعادة الإعمار كعملية دينامية تتطلب نهجاً لامركزياً يضع اللجان المحلية والمجتمع المدني في موقع الفاعل الرئيسي، وهو ما يسمح بمرونة أكبر في تحديد الأولويات وفق حاجات كل حي ومنطقة، بدلاً من فرض نماذج جاهزة لا تأخذ في الاعتبار تعقيدات المشهد المحلي. كما أن إشراك النقابات، والبلديات، والمبادرات الشعبية، والهيئات المجتمعية، لا يشكل فقط بديلاً من الهياكل الإدارية التقليدية، بل يضمن أن تتشكل عملية إعادة الإعمار من الداخل أيضاً، بناء على حاجات السكان الفعلية، وليس وفق أجندات المانحين الدوليين، أو القوى السياسية الخارجية، أو حتى النخب الاقتصادية الفلسطينية.

وفي هذا السياق، يصبح من الضروري إعادة النظر في مفهوم الإعمار نفسه، ليس فقط بصفته استجابة مادية للدمار، بل كمساحة لإعادة تعريف العلاقة بين السكان والمكان، وبين العمران والسياسة، وبين التنمية والسيادة. وبذلك، تتجاوز عملية إعادة الإعمار كونها مجرد مشروع لإعادة بناء ما تهدّم، لتصبح أداة لإعادة صوغ مستقبل غزة وفق رؤية تنبع من واقعها، وليس كامتداد لخطط تُرسم في أماكن أُخرى. 

ما بعد التبعية: إعادة الإعمار والاكتفاء الذاتي

إن إعادة إعمار غزة ليست مجرد مشروع تقني أو استجابة إنسانية، بل يمكن فهمها كخطوة جوهرية في مسار التحرير. والتحدي لا يقتصر على تلبية حاجات سكان القطاع الفورية، على الرغم من أهميتها، بل يمتد إلى ضمان أن هذه الجهود لا تتم على حساب الطموحات السياسية البعيدة المدى. كما أن إعادة الإعمار لا تقتصر على تعويض ما دُمّر، بل تنطوي أيضاً على مواجهة البُنى التي تُنتج الدمار وتكرّس الخضوع.

وفي صلب هذه العملية، يبرز سؤال الاكتفاء الذاتي الاقتصادي، فعلى مدى عقود، عززت إسرائيل تبعية غزة للمساعدات الخارجية، مستخدمة الحصار والقيود الاقتصادية كأدوات استعمارية لإبقاء القطاع في حالة هشاشة دائمة. ولذلك، فإن أي خطة لإعادة الإعمار تتجاوز هذا النموذج المفروض ستكون أكثر انسجاماً مع بناء اقتصاد مستقل يعزز السيادة الفلسطينية، وهو أمر يتطلب إعادة هيكلة البُنية التحتية لدعم الصناعات المحلية، وتعزيز الابتكار، وبناء اقتصاد قادر على الصمود أمام الضغوط الخارجية، كما يجب ألّا تُعاد هندسة النظم الاقتصادية في غزة وفق رؤية خاضعة للسيطرة الإسرائيلية، بل من خلال مقاربات تعزز الدور الفلسطيني في ملكية الموارد والإنتاج.

إن عملية إعادة الإعمار يمكنها أن تستلهم من صمود أهل غزة أنفسهم، الذين نجحوا في الحفاظ على نسيجهم الاجتماعي على الرغم من الحرمان والقهر الممنهج. فقدرتهم على التكيّف والنجاة - عبر الاقتصادات غير الرسمية، وشبكات التضامن المجتمعي، والحلول الإبداعية في مواجهة الشح المصطنع - توفر نموذجاً فعلياً لإعادة إعمار مستقلة ومستدامة. ومن الضروري ألّا يتم تصنيف هذه الاستراتيجيات كوسائل بقاء موقتة، بل النظر إليها كجزء من رؤية استراتيجية إلى مستقبل محرر يتجاوز منطق الإغاثة إلى منطق الاستقلال والاعتماد الذاتي.

والسؤال عن مستقبل الاكتفاء الذاتي في غزة لا يمكن فصله عن التجربة التراكمية للفلسطينيين في مواجهة التحديات الاقتصادية والمعيشية، فمنذ نكبة 1948، خاض الفلسطينيون معركة مستمرة لبناء اقتصاد مستقل، ولمقاومة محاولات التهجير والتهميش. وفي هذا السياق، برزت جهود مثل "جمعية المشروع الإنشائي العربي" بقيادة موسى العلمي، التي سعت لتأسيس نموذج للاعتماد الذاتي عبر العمل الزراعي والتعليمي.[6] ومع أن هذا المشروع واجه تحديات جسيمة، وأخفق في تحقيق معظم أهدافه، إلّا إن الدروس المستفادة منه كانت ولا تزال جوهرية، واليوم تتجلى هذه الخبرات المتراكمة في التعاونيات الزراعية والمبادرات المحلية الأُخرى، الأمر الذي يؤكد ضرورة البناء على التجارب السابقة، والاستفادة من نجاحاتها وإخفاقاتها، لضمان نماذج أكثر استدامة وقدرة على الصمود.

لذا، بدلاً من اتباع مسار تعافٍ مشروط تحدده الجهات المانحة، يمكن لغزة أن تعتمد نموذج إعادة إعمار تحولياً وقائماً على تجارب شعبها ومعرفته المتراكمة. وأي نهج يتجاهل الدروس التي قدمتها غزة في صمودها، والشعب الفلسطيني في مسيرته الطويلة بمناهضة الاستعمار، سيعيد إنتاج أخطاء الماضي: إعمار محكوم بالدمار المستقبلي. وفي المقابل، يمكن لعملية إعادة الإعمار أن تؤسس لرؤية جديدة تجعل من قدرة غزة على الصمود حجر الأساس لمستقبل قائم على الاكتفاء الذاتي، والكرامة، والسيادة الحقيقية. 

التعافي والذاكرة: المحو باسم إعادة الإعمار

وصف ترامب غزة في خطابه بأنها "موقع هدم"، واقترح تحويلها إلى "ريفييرا"، في تكرار لمنطق استعماري مألوف يُمحى فيه المكان تحت غطاء التنمية الاقتصادية، ويُعاد تشكيله وفقاً لرؤية رأس المال، لا بحسب حاجات سكانه. وهذا النموذج ليس جديداً؛ فقد شهدنا لعقود كيف يمكن أن تتحول إعادة الإعمار إلى شكل آخر من أشكال المحو التي تستبدل التاريخ الحي بمساحات حضرية معقمة ومصممة لخدمة مصالح القوى المهيمنة. ومثل هذه المقاربات لا يعيد البناء بقدر ما يجرّد المكان من طبقاته التاريخية، ويحوّله إلى مشهد قابل للتسويق، يُباع بوعد التحديث بينما يُفرغ من معناه. وحتى لو بدت شروط إعادة الإعمار مقبولة - وهي ليست كذلك - فإن نهجاً يفتقر إلى العمق الاجتماعي والثقافي يمكن أن يكون مدمّراً بقدر الحرب نفسها، لأنه يعزل المجتمعات عن ماضيها، ويعيد تشكيل مساحاتها لتتوافق مع رؤى الحداثة المفروضة.

وفي مقابل هذا التوجه المبني على المحو، قدمت إعادة إعمار وارسو بعد الحرب العالمية الثانية نموذجاً مختلفاً، لكنه لم يكن مجرد استعادة للمدينة، بل محاولة لصوغ صورة مثالية لماضٍ لم يكن يوماً مثالياً.[7] فإعادة الإعمار هناك كانت أشبه بإعادة إنتاج مدينة مثلما يُفترض أن تكون، لا كما كانت، فعلاً، مجمّدة الذاكرة في لحظة محددة، بدلاً من الاعتراف بأنها عملية مستمرة من التشكل وإعادة التشكيل. لكن غزة ليست وارسو، كما أن الدمار في غزة ليس مجرد نقطة في خط زمني، بل هو جزء من تاريخ استعماري مستمر يعيد تشكيل المكان بلا توقف. إذاً، كيف نحفظ ذاكرة المكان من دون تحويلها إلى صورة رومانسية جامدة؟ وما الذي ينبغي لإعادة الإعمار أن تسعى لاستعادته حقاً؟

علينا أن ندرك أن الذاكرة الحضرية ليست مجرد مجموعة من المواقع التاريخية التي تُحدد قيمتها وفق معايير المؤسسات الدولية، بل هي نسيج حي يتجسد في فضاءات الحياة اليومية – الأسواق؛ الشوارع؛ المكتبات؛ المراكز الثقافية - حيث تتشكل العلاقات الاجتماعية، وتتوارث الأجيال معاني الانتماء، ويتحقق الفعل الجماعي. لكن التدمير الاستعماري في غزة، لم يكن مجرد استهداف لمبانٍ أو معالم أثرية، بل كان اعتداء على هذه المساحات المشتركة التي تحافظ على الذاكرة بصفتها تجربة معاشة، وليست مجرد أثر مغيّب. ولذلك، لا يمكن لإعادة الإعمار أن تختزل الماضي إلى استعادة معمارية جامدة، بل من الضروري أن تعيد بناء فضاءات الحياة اليومية، حيث تتجدد الذاكرة عبر الممارسة، ويستعيد سكان غزة حقهم في المدينة، ليس فقط كمساحة مادية، بل كنسيج اجتماعي وثقافي حيّ أيضاً.

غير أن الإعمار ليس مجرد عملية تقنية أو اقتصادية، بل هو أيضاً فعل تخيلي، فالخيال الفلسطيني أدى دائماً دوراً محورياً في مقاومة المحو، ليس فقط عبر استعادة المكان، بل عبر إعادة تعريفه باستمرار كمساحة للعيش والتفاعل والإبداع.[8] ولهذا، فإن إعادة إعمار غزة لا يمكن أن تكون مجرد استجابة للدمار، بل يجب أن تنبع من خيال سياسي وثقافي قادر على تجاوز حدود الإملاءات الخارجية، واستعادة القدرة على تخيل مستقبل مغاير يتجاوز قيود الاستعمار والاحتلال، لأنه من دون هذا البعد، فإن أي عملية إعمار تبقى عرضة لخطر التحول إلى إعادة إنتاج لشروط السيطرة بدلاً من أن تكون أداة للتحرر.

التحدي إذاً، لا يقتصر على استعادة ما فُقد، بل على خلق ظروف لمستقبل يقاوم المحو، ويعيد تعريف معنى الإعمار كفعل مقاومة لا مجرد استجابة لكارثة. فغزة لا تحتاج إلى إعادة تشكيل وفقاً لرؤية خارجية، بل إلى إعادة إعمار تعترف بجروحها المفتوحة، وتحوّل عملية التعافي نفسها إلى أداة للصمود والاستقلالية، وإلى تخيل مستقبل يتجاوز الواقع الاستعماري. 

إعادة الإعمار والمشروع التحرري

يتمحور السؤال الأساسي اليوم حول كيفية توظيف إعادة إعمار غزة بطريقة تحافظ على الكرامة، وتمكّن الفلسطينيين من إعادة بناء حياتهم من دون أن يُجبَروا على التخلي عن حقوقهم الأساسية. والإجابة تكمن في إيجاد نموذج لإعادة الإعمار يتجاوز مجرد إعادة البناء المادي، ليصبح فعلاً سياسياً يستعيد ليس فقط ما فُقد، بل أيضاً مستقبلاً سعت إسرائيل لمحوه.

إن إعادة إعمار غزة اليوم ليست مجرد مسألة فلسطينية محلية، مع أن الفلسطينيين هم جوهرها، بل هي اختبار حاسم لإمكان إعادة تصور التعافي في ظل العنف الاستعماري الاستيطاني المستمر. لكن كيف يمكن بناء مستقبل لا يُفرض فيه التهجير والتجزئة كحقائق ثابتة؟ وما هي الآليات البديلة التي يمكن أن تعيد تعريف مفهوم الإعمار عندما لا يكون الهدف مجرد العودة إلى استقرار زائف، بل تفكيك البُنى القمعية التي جعلت الدمار ممكناً في المقام الأول؟

ما يحدث في غزة لا بد من أن يشكّل مصدر إلهام لنموذج أوسع يعيد التفكير في التعافي الحضري تحت أنظمة الاستعمار، والفصل العنصري، والاحتلال العسكري. ولهذا، لا يمكن لإعادة الإعمار أن تكون غاية في ذاتها، ولا مجرد محاولة لاستعادة الوضع الذي كان قائماً قبل العدوان، بل يجب أن تتحول إلى أداة للتحرر، وإعادة بناء مجتمع يرفض الخضوع لأنظمة القمع، ويؤكد العدالة والحقّ في تقرير المصير كأسس لأي مستقبل ممكن.

 

المصادر:

[1] "Economic Costs of the Israeli Occupation for the Palestinian People: The Economic Impact of the Israeli Military Operation in Gaza from October 2023 to May 2024–UNCTAD Report (A/79/343)”, United Nations.

[2] Howayda Al-Harithy, ed., Urban Recovery: Intersecting Displacement with Post War Reconstruction (New York: Routledge, 2021).

[3] ندي أبو سعادة، "إعادة الإعمار ومشروعنا التحرري"، "مدونة مؤسسة الدراسات الفلسطينية / ملف خاص: غزة إبادة جماعية"، في الرابط الإلكتروني.

[4] أباهر السقّا، "غزة: التاريخ الاجتماعي تحت الاستعمار البريطاني، 1917 – 1948" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2018).

[5] Ola Awad, “The Conditions of the Palestinian People Through Statistical Figures and Findings, on the Eve of World Refugee Day”, Palestinian Central Bureau of Statistics (PCBS), 26/6/2024.

[6] Nadi Abusaada, “Forgotten History: A Vision for Palestinian Refugees’ Agricultural Self-Sufficiency”, “The Architectural Review”.

[7] Historic Center of Warsaw, UNESCO.

[8]فائق مرعي، "معمار زاده الخيال: تجارب في التحرر المعماري"، مدونة "باب الواد"، 4 / 7 / 2024، في الموقع الإلكتروني.

 

Author biography: 

ندي أبو سعادة: معماري وباحث فلسطيني.