مقدمة
كثيراً ما ارتبط الاستعمار بالاستيلاء المادي والثقافي على الأراضي والشعوب، لكن في كثير من الحالات، لم يكن إنهاؤه سوى تحوّل في أدوات السيطرة، لا في جوهرها. وقد استُخدم في السياق الكولونيالي الحديث مفهوم "إعادة الاستعمار"، إذ برزت أشكال جديدة من الهيمنة تمارسها القوى الاستعمارية على الدول أو المناطق التي انسحبت منها بطرق غير مباشرة، ومنها استغلال موضوع تدوير المخلفات والركام وإعادة الإعمار بحيث يتحول الدمار وإعادة الإعمار إلى عملية متكررة تُستخدم كأداة سياسية لتعزيز الهيمنة والحصار وخلق الولاءات والارتباط بدلاً من تمكين السكان المتضررين. ويبدو هذا المشهد واضحاً ومتكرراً في حالتنا الفلسطينية مثلما يحدث حالياً، وحدث سابقاً في غزة وجنين وطولكرم، وفي الجنوب اللبناني، حيث يعاد بناء ما دمرته قوى الاحتلال، ثم يُعاد تدميره مجدداً ضمن دورة مستمرة.
إعادة الإعمار: أداة سيطرة بدلاً من التمكين
تبدو عملية إعادة الإعمار في المناطق المستعمَرة والمحتلة ظاهرياً كعملية إنسانية تهدف إلى مساعدة المجتمعات المنكوبة، لكنها في الواقع غالباً ما تتحول إلى وسيلة لإعادة فرض النفوذ السياسي والاقتصادي والتحكم في المخرجات. فالمحتل أو القوى المتحالفة معه، يسمحون أو يشاركون في إعادة الإعمار فقط ليحتفظوا بالقدرة على التحكم في البنية التحتية والاقتصاد والتوجه السياسي للسكان، أو للسلطة الحاكمة وفق أجندتهم ومخططاتهم.
ففي الجنوب اللبناني، شنّت دولة العدوّ في سنة 2006 حرباً مدمرة استهدفت البُنية التحتية والجسور والمنازل، وبعد انتهاء الحرب، ضُخّت أموال إعادة الإعمار من عدة جهات، بهدف معلن وهو إعادة الإعمار وخلق جو من الاستقرار. لكن مع استمرار العدوان، لم يتحقق الاستقرار المزعوم، وإنما تكرر الهدم وإعادة الإعمار، الأمر الذي يثير الشكوك في أن الهدف من إعادة الإعمار هو الدخول في دوّامة ليس هدفها استقرار السكان وتمكينهم، ذلك بأن هذا يتطلبّ استقراراً سياسياً، بل الدخول في الدوّامة التي تعزز التدخلات الخارجية وفرض الشروط والإملاءات، وإلّا فسيتكرر العدوان مجدداً مثلما حدث في العدوان الأخير في نهاية العام الماضي على الجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية في بيروت والبقاع، وسيتبعه تكرار لإعادة فرض الشروط والتدخلات بهدف إعادة الإعمار.
والأمر ذاته حدث في مدينة جنين، إذ تعرّض مخيمها في سنة 2002 لاجتياح دمّر مساحات واسعة منه، وهدم عدداً كبيراً من المنازل وشرّد سكانها، ليعاد إعماره لاحقاً بدعم دولي وعربي. لكن في الآونة الأخيرة، شرعت قوات الاحتلال في تنفيذ عمليات هدم واسعة في المخيم ذاته وفي مخيم طولكرم، بهدف شقّ طرق جديدة، وتغيير البُنية التحتية للمخيمات لتسهيل حركة الآليات العسكرية داخلها، وعزل بعض أجزائها لأهداف أمنية بحتة، من أجل التضييق على المقاومين، والضغط على الحاضنة الشعبية المساندة لهم لإجبارها على عدم احتضانهم وتقديم المساعدة إليهم. ومن المتوقع أن تعرض جهات متنوعة، على السلطة الفلسطينية، مساعدات لإعادة إعمار المخيمات المدمرة، لكنها ذات أجندات محددة تشترط فيها أن تكون إعادة الإعمار ضمن محددات معينة تضمن التغييرات المكانية التي يشترطها الاحتلال لتغيير معالم المخيم وتسهيل اقتحامه للقضاء على المقاومة فيه.
لذلك في هذه الحالات والحالات المشابهة يجب أن تكون الهيئات المسؤولة عن إعادة الإعمار واعية لعدم الخضوع لأي شروط تستهدف تشويه النسيج العمراني والاجتماعي للمخيمات بادعاء أن هدفها هو التحسين، في حين أن هذا الهدف مبطّن بأهداف أمنية أُخرى. كما من الضروري التنبّه إلى أن إعادة الإعمار بتمويل خارجي لا يضمن أي حماية من الاعتداءات المستقبلية، فالهدم وإعادة الأعمار باتا جزءاً من مشهد طبيعي تتكرر فيه الدورات التدميرية من دون اعتراض من الجهات الممولة، أو ردع دولي فاعل، وهو ما يجعل إعادة البناء جهداً غير محصن ضد التدمير المتكرر.
غزة: وأجندات إعادة الإعمار
تمثّل غزة النموذج الحي لهذه الظاهرة، إذ إنها تعرضت على مدى العقود الأخيرة لعدة جولات من الهجمات "الإسرائيلية"، أبرزها خلال السنوات 2006، و2008 / 2009، و2012، و2014، و2019، و2021، و2022، ومؤخراً حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي (2023 - 2025). وفي كل مرة، تُدمَّر البًنية التحتية، والمساكن، والمرافق الحيوية، ثم تُعقد مؤتمرات دولية لجمع أموال إعادة الإعمار، وغالباً ما يكون للدول المانحة أجندات سياسية تتحكم في كيفية توزيع الأموال وآليات التنفيذ. غير أن الأمر المختلف هذه المرة هو حجم وطبيعة العدوان الذي هدف إلى تهجير سكان القطاع، وإبادة أكبر عدد منهم، للسيطرة الكاملة على القطاع ومقدراته. فقد لامس عدد الشهداء 50,000[1] شهيد وشهيدة، بينما أصيب أكثر من 118,500 شخص بجروح متفاوتة، وأُجبر 2 مليون فلسطيني على النزوح، كما دُمّر أو تضرر أكثر من 170,800 مبنى، الأمر الذي أدى إلى محو مدن وأحياء سكنية بأكملها، وتدمير البُنية التحتية وجميع مقومات الحياة فيها من مؤسسات تعليمية وصحية وأسواق تجارية ومصانع ومؤسسات خدماتية حكومية وأهلية وموروث ثقافي، إلخ.
وللإضاءة على موضوع المقالة، أورد فيما يلي ملخصاً لبعض الخطط المطروحة من عدة جهات لمرحلتَي التعافي وإعادة الإعمار في قطاع غزة. ففي حين أن الخطط يجب أن تستند إلى رؤية وطنية شمولية تعزز تنمية الصمود، وتُعَدّ بأيدٍ فلسطينية مرتكزة على الأوضاع على أرض الواقع ومستجيبة لحاجات الشعب، بحيث ترسم خريطة طريق لحاضر القطاع ومستقبله، نجد تهافتاً على طرح الخطط المرتبطة بأجندات المموّل، كخطة البنك الدولي،[2] والخطة الإماراتية (خطة الحبتور)،[3] والخطة القَطَرية، ومؤخراً الخطة المصرية، وغيرها. وفي مقابل ذلك، أُعِدّت خطط فلسطينية مثل: خطة السلطة الفلسطينية[4] وهي الخطة الرسمية؛ خطة الفينيق[5] وهي وثيقة إطار أعدّها المجتمع المحلي بجهود تطوعية؛ خطط جزئية أُعدّت من خبراء فلسطينيين، مثل ورقة العمل بشأن "حوكمة إعادة الإعمار: دروس مستفادة"[6] التي أعدها مأمون بسيسو من خلال مؤسسة فريدريش إيبرت (Friedrich-Ebert-Stiftung)، ودراسة عن "النموذج التنموي لإعادة إعمار قطاع غزة: مطالب وتطلعات" أعدها طلال أبو ركبة.[7] وعلاوة على ذلك، هناك التدخلات الإغاثية التي تقوم بها الهيئة العربية الدولية للإعمار في فلسطين،[8] ونقابة المهندسين الأردنيين،[9] والعديد من الجهات الدولية والعربية. وفيما يلي نبذة عن كل خطة:
1) خطة السلطة الفلسطينية
وفقاً لخطة الإغاثة والتعافي المبكر (Relief and Early Recovery Plan) التي أُعدّت في كانون الثاني / يناير 2025، جرى الاعتماد على نتائج التقييم السريع للأضرار والحاجات (IRDNA) الذي أعدّه البنك الدولي، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة. ولم يتم إجراء تقييم مستقل جديد على الأرض بسبب القيود الأمنية وصعوبة الوصول، وإنما استندت الخطة إلى البيانات المتاحة من التقييمات السابقة والمسوحات التي نفذتها الجهات الدولية، الامر الذي يعني أن التقديرات والتخطيط يعتمدان بشكل كبير على المعطيات الدولية بدلاً من التقييم الميداني المستقل.
تحدد خطة التعافي وإعادة الإعمار في غزة (GRRP) في شباط / فبراير 2025، رؤية شاملة لإعادة بناء القطاع بعد الدمار الواسع الذي خلفته الحرب، وتستند إلى تقييم الأضرار والحاجات، وتشمل استثمارات بقيمة 52,5 مليار دولار لإعادة الإعمار، مع 20 مليار دولار مخصصة لأول ثلاثة أعوام. وتركز الأولويات على: إعادة الإسكان (3,7 مليارات دولار)؛ إصلاح البُنية التحتية؛ استعادة الخدمات الأساسية مع إعطاء الأولوية للحماية الاجتماعية والصحة والتعليم؛ دعم الاقتصاد من خلال شراكات بين القطاعَين العام والخاص.
تعتمد السلطة على دعم دولي وإقليمي لتحقيق إعادة إعمار مستدامة يقودها الفلسطينيون أنفسهم، مع التركيز على استعادة الحياة الاقتصادية والاجتماعية بسرعة، وتهيئة الظروف للانتعاش الطويل الأمد. وبما أن العمل ما زال جارياً على تجهيز المخططات المكانية في أثناء إعداد هذه الدراسة، فقد تعذّر علينا تحليلها.
2) خطة فينيق غزة
هي إطار استراتيجي شامل لإعادة إعمار قطاع غزة، يوفر رؤية مستدامة شاملة ومنتجة ومتجذرة محلياً وذات صدقية، ويشكل مرتكزاً فكرياً وعمليا للانطلاق ببرامج إعادة الإعمار في قطاع غزة، ويجمع بين التعافي العاجل وإعادة الإعمار المستدام، مع التركيز على إشراك المجتمع المحلي. وقد طوّر هذه الخطة فريق من الخبراء الفلسطينيين ضمّ باحثين وأكاديميين، فضلاً عن اتحاد بلديات غزة وطواقمه، وتهدف إلى الحفاظ على الأصول المادية وغير المادية للقطاع، وتعزيز القدرة على الصمود في مواجهة التحديات المستقبلية. واستندت الخطة إلى جمع البيانات من الميدان من طرف فريق البلديات والمؤسسات العاملة على الأرض، وارتكزت على نهج تشاركي يرفض التعامل مع غزة كـ "صفحة بيضاء"، ويستند إلى المعرفة المحلية والاستفادة من الخبرات الدولية لضمان إعادة إعمار تحترم السياق الفلسطيني وتعزز الاستقلالية الاقتصادية والاجتماعية. وتنقسم الخطة إلى ثلاث مراحل:
- مرحلة الطوارىء (المدى القصير)، وتستمر حتى ستة أشهر بعد الحرب، وتركز على الإغاثة العاجلة.
- مرحلة التثبيت والإصلاح (المدى المتوسط)، وتمتد إلى عامَين أو ثلاثة بعد وقف إطلاق النار، وتشمل إعادة تأهيل البُنية التحتية.
- مرحلة إعادة الإعمار والتطوير (المدى الطويل)، وتهدف إلى بناء بيئة مستدامة ومزدهرة، وتبدأ مع إعلان وقف إطلاق النار، وتستمر إلى خمسة أعوام وأكثر.
غير أن الخطة لم تتطرق إلى مسألتين مهمتين هما مصادر التمويل وآلية التنفيذ على الرغم من أهميتهما، وإنما اقتصرت على الجانب الفني الذي سيعالجه المستوى السياسي عند تبنّي الخطة، وعلى التنبيه إلى ضرورة أن يكون التمويل غير مشروط.
3) خطة الحبتور لإعادة إعمار غزة
هي خطة إماراتية تمّ تكليف مركز الحبتور للدراسات والأبحاث لإعدادها. وتعتبر أن المسؤولية عن قيادة هذا المشروع تقع على العرب، وأنه يجب عدم تركه في أيدي القوى الدولية وحدها. وتعتمد الخطة نهجاً ثلاثي المحاور يجمع بين الإغاثة الفورية، وإعادة البناء، والتنمية الاقتصادية، لضمان استدامة الإعمار، كما تركز على الإسكان الموقت عبر وحدات سكنية مسبقة الصنع باستخدام الأنقاض المعاد تدويرها، وهو ما يسرّع الإسكان ويوفر فرص عمل.
وتشمل الخطة إعادة بناء البُنية التحتية باستخدام نموذج إعادة الإعمار الهجين الذي يدمج الأمن والحوكمة الشفافة، مع إنشاء مناطق صناعية متخصصة لتطوير القطاعات الإنتاجية، مثل الطاقة المتجددة والزراعة. وتسعى الخطة لتقليل اعتماد غزة على إسرائيل عبر مشاريع اقتصادية تمولها استثمارات دولية، الأمر الذي يعزز الاستقلال الاقتصادي، ويضمن إعادة إعمار مستدامة.
غير أن الخطة لا تراعي الجذور التاريخية لقطاع غزة وتطوره عبر الزمن، ولا نسيجه الاجتماعي والعمراني، ولا معالمه التاريخية، وتهمل ملكيات الأراضي الخاصة والعامة، وأنماط البناء، وأسلوب الحياة، وتتعامل مع غزة كأنها صفحة بيضاء بلا مرجعيات حضارية، متجاهلة ذاكرة المكان والتقسيمات الحضرية ذات الأبعاد الاجتماعية، والاقتصادية، والبيئية. كما أنها لم تُعدّ بالتواصل مع المرجعيات الشعبية وهيئات الحكم المحلي، وهو ما يجعلها غير قادرة على تلبية حاجات السكان الحقيقية، ولا تنبع من الظروف المعيشية الفعلية، وخصوصاً فيما يتعلق بتنمية الصمود والاستدامة. وعلاوة على ذلك، يفتقر المخططون والمصممون إلى تقدير دقيق للمقياس، الأمر الذي أدى إلى إنتاج مشروع خيالي يتعامل مع غزة كصفحة بيضاء، متجاهلاً أصولها وجذورها وإرثها.
4) الخطة المصرية
الخطة المصرية لإعادة إعمار غزة، فمع أنها ما زالت في مراحلها الأولية، إلّا إنه جرى تشكيل لجنة استشارية من طرف نقابة المهندسين المصريين، تركز على إعادة الإعمار مع ضمان بقاء السكان في أماكنهم وعدم تهجيرهم. وتدعو الخطة إلى تشكيل لجنة عليا تضم الحكومة المصرية، ونقابات مهنية، وشركات مقاولات ذات خبرة في غزة وسيناء، مع متابعة الاجتماعات الدورية في رفح المصرية، وفي مقر دائم في العريش. وتشمل الأهداف إعداد تقارير هندسية شاملة عن البُنية التحتية والمباني، والتنسيق مع النقابات العربية والدولية، ووضع نماذج معمارية تشمل ملاجىء عامة، كما تتضمن الخطة تنفيذ مشاريع باستخدام تكنولوجيا البناء السريع، مثل استخدام الطوب المعاد تدويره، ودعم بناء مساكن بديلة بشكل مستدام.
5) خطة البنك الدولي
خطة التقييم السريع للأضرار والحاجات (IRDNA)، التي أعدها البنك الدولي، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، تقدم تحليلاً شاملاً لحجم الدمار في غزة، وتضع الأسس لإعادة الإعمار. وتُقدّر الأضرار بـ 29,9 مليار دولار، والخسائر الاقتصادية بـ 19,1 مليار دولار، بينما تبلغ الحاجات الكلية لإعادة الإعمار 53,2 مليار دولار تشمل 20 مليار دولار لأول ثلاثة أعوام.
وتركز الخطة على إعادة بناء البُنية التحتية الأساسية، مع إعطاء الأولوية للإسكان (15,2 مليار دولار)، واستعادة الاقتصاد (6,9 مليارات دولار)، والخدمات الاجتماعية مثل الصحة والتعليم. وتشمل التدخلات إعادة تشغيل شبكات الطاقة والمياه، وإزالة الأنقاض، وتحفيز الاقتصاد المحلي عبر دعم المشاريع الصغيرة، وإعادة تأهيل القطاعات الإنتاجية.
وتعتمد الخطة على نهج تعافٍ متدرج، يجمع بين الإغاثة الفورية وإعادة الإعمار المستدام، مع ضمان الشفافية والمساءلة، كما تدعو إلى مشاركة المجتمع المحلي في التخطيط والتنفيذ، وتوفير تمويل مرن لدعم التعافي على المدى الطويل.
وهناك أيضاً عدة خطط جزئية لإعادة إعمار غزة، أعدّها خبراء فلسطينيون، ومنها:
6) خطة مأمون بسيسو
صدرت هذه الخطة عن مؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية، وركزت على الحوكمة الفاعلة وإصلاح آليات الإعمار لضمان سرعة التنفيذ والاستدامة. ويشدد بسيسو على أن إعادة الإعمار لن تكون ناجحة من دون حل سياسي مستدام ووحدة فلسطينية، ذلك بأن الانقسامات الداخلية، وآلية إعادة الإعمار الحالية التي تتحكم فيها دولة الكيان الصهيوني المستعمِر، تعوق الجهود.
ويقترح بسيسو إنشاء مؤسسة وطنية مستقلة غير سياسية تتولى إدارة عمليات الإعمار بمشاركة المجتمع المدني والقطاع الخاص، مع تقليل الاعتماد على آلية إعادة الإعمار القديمة التي أثبتت عدم فاعليتها، كما يدعو إلى تطوير تخطيط عمراني مستدام يتجنب إعادة إنتاج الهشاشة الحضرية، ويضمن حقّ الفلسطينيين في مدن آمنة ومستدامة.
7) مقترح طلال أبو ركبة
يطرح طلال أبو ركبة نموذجاً تنموياً لإعادة إعمار غزة، يركز على النهج الشامل والمستدام لضمان تنمية حقيقية تتجاوز إعادة البناء المادي. إذ يؤكد المقترح دمج التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتحقيق الاكتفاء الذاتي عبر دعم القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والصناعة، وتعزيز البُنية التحتية المستدامة.
ويدعو المقترح أيضاً، إلى حماية الهوية الثقافية والتراثية في عملية الإعمار، مع تبنّي معايير بيئية حديثة، وإشراك المجتمع المحلي لضمان عدالة التوزيع واستدامة التنمية، ويشدد على ضرورة وجود إطار حوكمة قوي وشفاف لضمان كفاءة التنفيذ، ومنع تكرار الفشل في خطط الإعمار السابقة.
مقارنة بين خطط إعادة إعمار غزة من حيث ملاءمتها للسياق الفلسطيني واستقلالية القرار
بعد عرض هذه الخطط، لا بد من تقديم تحليل لمختلف خطط إعادة إعمار غزة وفقاً لمعيارين أساسيين:
1 - مدى ملاءمتها للواقع الخاص بغزة (بما يشمل الحصار؛ الدمار الواسع؛ الحاجة إلى حلول سريعة ومستدامة).
2 - انسجامها مع الرؤية الوطنية إلى الاستقلالية، أي مدى اعتمادها على القدرات المحلية، وعدم خضوعها لهيمنة أجندات خارجية.
جدول مقارنة بين الخطط المعلنة بشأن إعادة إعمار قطاع غزة
الخطة |
الملاءمة للواقع في غزة |
الانسجام مع الرؤية الوطنية (الاستقلالية والكفاءات المحلية) |
||
خطة السلطة الفلسطينية |
تستند إلى تقييم شامل للأضرار وتقدم رؤية واضحة إلى إعادة البناء، لكنها تعتمد على التمويل الخارجي بشكل رئيسي. |
مع أنها بقيادة فلسطينية، إلّا إنها تعتمد على آليات دولية في التمويل والتنفيذ، الأمر الذي قد يحدّ من الاستقلالية (الخطة غير مكتملة بعد). |
||
خطة فينيق غزة |
تأخذ بعين الاعتبار التعافي العاجل وإعادة الإعمار المستدام، وتراعي الخصوصية الفلسطينية من خلال التخطيط المتدرج. وتقتصر على الجانب الفني، ولا تتطرق إلى مصادر التمويل وآلية التنفيذ. |
تعتمد بالكامل على الخبرات المحلية، وتنبع من حاجات وأولويات واقعية، وتؤكد رفض فرض حلول خارجية، وهو ما يعزز استقلالية القرار الفلسطيني. والخطة تضع المحددات لمصادر وطبيعة التمويل والتنفيذ لضمان استقلالية القرار. |
||
خطة الحبتور الإماراتية |
تعتمد على حلول جاهزة مثل الإسكان المسبق الصنع وإعادة التدوير، لكنها قد لا تلبي حاجات إعادة الإعمار كلها. |
بعيدة عن الواقع وتقترح تخطيطاً لا يحترم النسيج الاجتماعي والعمراني الأصلي، وتعتمد على استثمارات خارجية، الأمر الذي يقلل من الاستقلالية الفلسطينية على الرغم من تقديمها حلولاً مبتكرة. |
||
الخطة المصرية |
تركّز على إعادة الإعمار من دون تهجير، وتعتمد على خبرة الشركات المصرية، لكن تنفيذها قد يتأثر بالبيروقراطية المصرية. |
تعتمد بشكل أساسي على شركات ومهندسين مصريين، وعمالة مصرية، مع إشراك محدود للقدرات المحلية في غزة، وهو ما قد يقلل من الاستقلالية، ولا يشجع النماذج التنموية المستدامة والمنيعة. |
||
خطة البنك الدولي / الاتحاد الأوروبي / الأمم المتحدة |
توفر رؤية متكاملة تشمل الإغاثة العاجلة والتنمية طويلة الأمد، لكنها تتطلب تنسيقاً مع جهات دولية متعددة. |
تعتمد بشكل كبير على المانحين الدوليين، الأمر الذي يضع قيوداً على الاستقلالية، لكنها تتبنّى نهجاً يدمج المحليين في التنفيذ. لكن فيما يتعلق بالنواحي الأمنية، فهناك فرصة للاختراق. |
||
خطة مأمون بسيسو |
تركز على ضرورة وجود آلية فلسطينية مستقلة للإعمار بعيداً عن الهيمنة "الإسرائيلية"، وهو ما يجعلها منسجمة مع الواقع. |
تشدد على الحوكمة الفلسطينية المستقلة ورفض أي آليات تفرضها دولة الاحتلال الصهيوني، الأمر الذي يعزز الاستقلالية والسيادة الفلسطينية. |
||
مقترح طلال أبو ركبة |
|
يركز على بناء اقتصاد فلسطيني مستقل، وعلى إشراك القطاعات المحلية، الأمر الذي يجعله أكثر انسجاماً مع رؤية الاستقلالية. |
من مقارنة الخطط المقترحة يتبيّن أن هناك نموذجين:
الأول: يعتمد في إعداده على الكفاءات والخبرات المحلية مع إمكان الاستعانة بالخبرات والكفاءات العربية والدولية إن لزم، وكذلك على على جمع المعلومات من أرض الواقع بأيدٍ محلية، ومن الميدان، ويسند تحليلها إلى خبراء فلسطينيين. كما يسعى لوضع الحلول والخطط التي تقود إلى تنمية مستدامة تعزز الصمود والانفكاك من التبعية الاقتصادية والارتهان لشروط الممولين، ومنسجمة مع الرؤية الفلسطينية الوطنية، وبمشاركة واسعة من مختلف مكونات المجتمع الفلسطيني، في إطار يضع تحرير فلسطين وإنهاء الاحتلال والعودة وضمان السيادة الفلسطينية على الأرض في صلب الأولويات.
الثاني: يسعى لإدامة النظام الاستعماري الاستيطاني وحمايته والحفاظ على أمنه، ويُعتبر امتداداً للسيطرة الاستعمارية بطرق غير مباشرة، ولا يسعى لفرض السيادة الفلسطينية على الأرض، بل على العكس يقوم بتقييد وربط السلطة الحاكمة بمصالح المستعمِر والتحكم في قراراتها. كما لا يحقق السيادة والتنمية المستدامة وتنمية الصمود بالحماية الشعبية، ولا يعالج هذه الأسباب الجذرية، وإنما ينظر إلى إعادة الإعمار كفرصة استثمارية لمنفعته ومنفعة الكومبرادور وإن بشكل أقل، ويؤدي إلى التبعية والاعتماد على المساعدات الدولية، الأمر الذي ينطبق على معظم المبادرات الغربية، ذلك بأن قبول هذا، والانجرار إلى أجندة الممول، يشكلان سقطة ويتنكران لنضالات شعبنا في سبيل الحرية والاستقلال.
وعلى المستوى الفلسطيني، شُكّلت عدة لجان لإدارة عملية التخطيط والتنفيذ في مرحلتَي التعافي والاستجابة السريعة وإعادة الأعمار، منها اللجان التي ألّفتها السلطة الفلسطينية، مثل الهيئة المستقلة لإعادة إعمار قطاع غزة، والفريق الفني الذي يعمل على إعداد الخطة برئاسة وزير التخطيط والتعاون الدولي وائل زقوت، وغرفة العمليات الحكومية للإغاثة والإيواء برئاسة سماح حمد وزيرة الشؤون الاجتماعية. كما جرى تشكيل عدة لجان من المجتمع المدني مثل اللجنة الاستشارية لنقابة المهندسين الفلسطينيين لدعم إعادة الإعمار، والتي يرأسها نقيب المهندسين الفلسطينيين في قطاع غزة، وتضم بعضويتها نقابة المهندسين – مركز القدس، واتحاد المقاولين الفلسطينيين، واتحاد بلديات غزة، ومجموعة من الخبراء الفلسطينيين. وتمّ مؤخراً تشكيل هيئة الإعمار العربية الفلسطينية برئاسة رئيس اتحاد المقاولين الفلسطينيين وعضوية نقابتي المهندسين في غزة والضفة، ومن أولى اللجان التي تشكلت منصة إعمار غزة التي شكلتها بلدية غزة، وتضم مجموعة كبيرة من المتطوعين، وكذلك فريق الفينيق الذي يضم مجموعة من الأكاديميين والمهنيين، عدا اللجان التخصصية المختلفة الموجودة في الميدان في قطاع غزة، واللجان على المستوى العربي، ومنها الهيئة العربية الدولية للإعمار في فلسطين.
مقاربات عالمية: إعادة الاستعمار بالطرق الناعمة
هذه الظاهرة ليست حكراً على فلسطين ولبنان، بل تتكرر في عدة مناطق حول العالم:
1 - العراق بعد الغزو الأميركي (2003): تم تدمير البُنية التحتية للدولة، ثم جرت إعادة الإعمار عبر عقود ضخمة مُنحت لشركات أميركية وغربية، مثل شركة هاليبرتون التي حصدت مليارات الدولارات من عقود إعادة البناء، وهو ما جعل الإعمار نفسه جزءاً من عملية استعمار اقتصادي.
2 - أفغانستان بعد الغزو الأميركي (2001 - 2021): شهدت البلاد تدميراً هائلاً تلاه مشاريع إعادة إعمار موجهة من طرف الجهات الغربية، لكنها لم تؤدِّ إلى استقلال اقتصادي أو سياسي، وإنما زادت في التبعية للمساعدات الدولية، كما أن العديد من المشاريع انتهى بها المطاف غير مكتملة أو مدمرة مجدداً.
3 - البوسنة بعد الحرب (1992 - 1995): خضعت إعادة الإعمار إلى تحكّم دولي مكثف، إذ تحولت عملية البناء إلى وسيلة لترسيخ الانقسامات العرقية والسياسية بدلاً من تحقيق المصالحة.
نحو فهم جديد: مقاومة إعادة الاستعمار
إذا كانت إعادة الإعمار أصبحت جزءاً من المشهد الطبيعي الذي يفرضه الاحتلال والاستعمار الجديد، فإن مواجهته تتطلب تفكيك هذه الدينامية. ولهذا، يجب أن يكون الإعمار فعلاً سيادياً مستقلاً، غير مشروط سياسياً، ولا يُستخدم كأداة للهيمنة. ومن الضروري أن يستند إلى مبادىء تشكل البوصلة الموجهة والضابط والمُحدّد لجميعة التدخلات في جميع المراحل من مرحلة التعافي إلى مرحلة الإعمار والمراحل المستقبلية. ويجب أن يستند أيضاً إلى:
-
المقاومة الاقتصادية: تعزيز المشاريع المحلية المستقلة عن التمويل المشروط.
-
بناء قدرات محلية: الاستثمار في الخبرات والبُنى التحتية التي لا يمكن التحكم فيها خارجياً.
-
محاسبة دولية: الضغط من أجل اعتبار التدمير المتكرر جريمة حرب تستوجب العقوبات الدولية.
خاتمة
إن إعادة الإعمار ليست دائماً مرحلة تعافٍ، بل يمكن أن تكون امتداداً للسيطرة الاستعمارية بطرق غير مباشرة. فحين يتحول الدمار إلى أداة، والإعمار إلى ورقة ضغط، فإن المشهد الطبيعي يجب أن يتغير عبر تبنّي استراتيجيات مقاومة تضمن السيادة وتنمية الصمود المستدامة، بدلاً من إبقاء المجتمعات في دائرة لا تنتهي من إعادة البناء والهدم.
المصادر:
[1] الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، "عدوان الاحتلال الاسرائيلي على فلسطين منذ 7 / 10 / 2023"، في الرابط الإلكتروني.
[2] “Gaza and West Bank Interim Rapid Damage and Needs Assessment”, Conducted by the World Bank, the European Union (EU), and the United Nations (UN), and published in February 2025ز
[3] “Gaza Reconstruction Plan”, Alhabtoor Research Center, February 2025ز
[4] “Gaza Recovery and Reconstruction Plan - Executive Summary”, State of Palestine, 17 February 2025.
[5] “Gaza Phoenix”, 1st edition, December 2024.
[6] Ma’moun Bseiso, “Reconstruction Governance – Lessons Learned: Palestinian Perspectives on the Reconstruction of Gaza”, Friedrich-Ebert-Stiftung, August 2024ز
[7] طلال أبو ركبة، "النموذج التنموي لإعادة إعمار قطاع غزة: مطالب وتطلعات"،المؤسسة الفلسطينية للتمكين والتنمية المحلية، تشرين الثاني / نوفمبر 2024، في الرابط الإلكتروني.
[8] يُنظر الموقع الإلكتروني للهيئة العربية الدولية للإعمار في فلسطين، في الرابط الإلكتروني.
[9] " 'العليا للإعمار في فلسطين' تسلّم الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية 4,500 خيمة للنازحين في غزة"، صفحة نقابة المهندسين الأردنيين في موقع "فايسبوك"، في الرابط الإلكتروني.