Settler Colonialism Rebranded: Trump’s Gaza Plan and the Capitalist Logic of War
Full text: 

"أولئك الذين لا يستطيعون تذكّر الماضي محكوم عليهم تكراره."

جورج سانتايانا[1]

 

"تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر."[2] 

7 تشرين الأول / أكتوبر وتدمير غزة على طريقة مدينة درسدن الألمانية

بعد "طوفان الأقصى"، العملية العسكرية لـ "حماس" في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، تعرضت غزة لقصف إسرائيلي متواصل لمد 470 يوماً. وتشير التقديرات إلى أن قوة القصف تعادل قوة ست قنابل نووية من تلك التي أُلقيت على هيروشيما في الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي أدى إلى تدمير نحو 80% من المباني في غزة، بما في ذلك المدارس والمساجد والمستشفيات والمواقع الأثرية والمتاحف. وفضلاً عن تدمير البُنية التحتية والأراضي الزراعية، فإن الخسائر البشرية مروعة، إذ تم تهجير 90% من سكان غزة، وفقد أكثر من 48,000 شخص حياتهم، وأصيب أكثر من 110,000 شخص، وسُجن الآلاف. [3]ويتضاعف وقع هذا الدمار بسبب الحصار الإسرائيلي الطويل الأمد، الذي أخضع سكان غزة البالغ عددهم 2,3 مليون نسمة لحرمان شديد منذ سنة 2007. وبالتالي، فإن الحملة العسكرية الإسرائيلية الحالية جعلت قطاع غزة غير قابل للسكن إلى حد كبير، وهو ما خلق حاجة ملحة إلى المساعدات والإغاثة الإنسانية. وفي الوقت نفسه، أثار هذا الوضع اهتمام المطورين والسياسيين، مثل السيد ترامب، الذين ينظرون إلى قطاع غزة كصفحة بيضاء تنتظر التطوير.

ووُصف حجم الهجوم وكثافته على قطاع غزة بأنهما غير مسبوقَين، مع إجراء مقارنات بحملات القصف التدميرية في الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك هيروشيما وناغاساكي اليابانيتان، ولندن البريطانية، وستالينغراد الروسية، ودرسدن الألمانية بصورة خاصة، ذلك بأن قصف درسدن الذي نُفّذ بين 13 و15 شباط / فبراير 1945، مع نهاية الحرب العالمية الثانية، يتشابه بصورة كبيرة مع الحملة الحالية على غزة. فقد تضمن هذا القصف الذي نفذته قوات الحلفاء، استخدام قنابل شديدة الانفجار وقنابل حارقة لخلق عاصفة نارية، وهو ما أدى إلى مقتل نحو 25,000 مدني، وتدمير 80% من مركز المدينة، وتهجير أكثر من 100,000 شخص.[4] ولذا، أثار قصف درسدن جدلاً أخلاقياً كبيراً، إذ جادل النقاد في أنه استهدف المدنيين بشكل غير متناسب بدلاً من الأهداف العسكرية، مع اعتبار البعض أنه عمل من أعمال "الحرب الشاملة"، والذي يهدف إلى إرهاب السكان المدنيين وإحباط معنوياتهم. [5]فالخسائر ومدى الدمار الذي تعرضت له غزة يشيران إلى حملة أكثر تدميراً من تلك التي حدثت في درسدن. وقد تم توثيق استهداف المدنيين وبُنيتهم التحتية بالكامل، وهو ما وفّر أسباباً قوية لاتهام رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير دفاعه أمام المحكمة الجنائية الدولية (ICC) بتهمة ارتكاب جرائم حرب.[6] 

ترامب: فترتا حكم والنهج نفسه

تفاجأ معظم المراقبين السياسيين والمعلقين، من الشمال العالمي أو جنوبه، من طوفان أفكار ترامب المتعلقة بالتوسع، الأمر الذي يؤكد أن الناس بصورة عامة يميلون أو يستسهلون النسيان، أو ببساطة يختارون ما يتذكرونه.

في فترة رئاسته الأولى، كانت خطابات ترامب تشير غالباً إلى رغبة قوية في توسيع النفوذ والسيطرة الأميركية على الأصول العالمية الرئيسية. ففي سنة 2018، نظر إلى الشمال، واقترح فكرة ضمّ كندا إلى أميركا كالولاية رقم 51، وهي فكرة ناقشها في عدة مناسبات قائلاً: "كندا مرتبطة بنا فعلاً بشكل وثيق، وربما يكون الوقت قد حان لجعل الأمر رسمياً." [7]ونظر إلى الجنوب، ورأى قناة بنما كأصل استراتيجي حاسم للهيمنة الأميركية في التجارة العالمية، ففي خطاب له في سنة 2019، تفاخر قائلاً: "القناة هي قطعة هائلة من البُنية التحتية، ويمكننا أن نفعل بها الكثير."[8] كما نظر شرقاً، وأشار إلى غرينلاند في سنة 2020 على أنها "فرصة عقارية لا مثيل لها." واقترح أن أميركا: "تحتاج إلى غرينلاند لأنها مهمة استراتيجياً، ومواردها هائلة." [9]ومع أن أياً من هذه الأفكار لم يتحقق خلال فترة ولايته الأولى، إلّا إنها أثارت نقاشاً مكثفاً بشأن حدود النفوذ والتوسع الإقليمي الأميركي في عصرنا الحالي.

كانت تصريحات ترامب الأكثر جرأة في فترة ولايته الأولى متعلقة بفلسطين التاريخية ومحيطها. ففي 21 آذار / مارس 2019، وقّع ترامب إعلاناً يعترف رسمياً بهضبة الجولان كجزء من إسرائيل. واعتُبر مثل هذا الإجراء تحولاً دراماتيكياً في السياسة الأميركية تجاه هضبة الجولان التي احتلتها إسرائيل من سورية خلال حرب 1967، وضمّتها لاحقاً في سنة 1981. إذ تبجح حينها ترامب قائلاً: "اليوم، أعترف رسمياً بهضبة الجولان كجزء من دولة إسرائيل. وهذا الأمر ذو أهمية استراتيجية وأمنية حاسمة لدولة إسرائيل وللاستقرار الإقليمي." [10]فجاء رد سورية الرسمي متوافقاً مع الرفض الدولي الواسع لإعلان ترامب.[11]

وعلى غرار وعد بلفور (1917)، كشف ترامب في 28 كانون الثاني / يناير 2020 عن خطة أُخرى أطلق عليها اسم "صفقة القرن"، في إشارة إلى خطة "سلام" لحل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي الطويل الأمد. فالخطة تعترف صراحة بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، وتضمن الأمن الإسرائيلي بما في ذلك القدرة على الحفاظ على السيطرة على مناطق واسعة في الضفة الغربية، وتسمح بتوسيع المستعمرات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وتشمل إحكاماً لسيادة إسرائيل على مساحات كبيرة من الضفة الغربية التي اعتبرها ترامب "متنازعاً عليها" بدلاً من "محتلة".[12]

عادت قصة التوسع الأميركي لتسيطر على وسائل الإعلام قبل أن يعود ترامب إلى البيت الأبيض؛ ففي كانون الأول / ديسمبر 2024، هدد بـ "استعادة" قناة بنما، مدعياً أن بنما كانت تفرض رسوماً "باهظة" على السفن الأميركية، ومشيراً إلى أن الصين كانت تمارس نفوذاً غير مبرر على القناة، لكن رئيس بنما خوسيه راؤول مولينو نفى الادعاءات.[13] وفي 2 شباط / فبراير 2025، بعد فترة وجيزة من عودة ترامب إلى البيت الأبيض، أعاد ادعاءه مصرّحاً: "الصين تدير قناة بنما التي لم تُمنح لها، بل مُنحت لبنما بشكل أحمق، لكنهم انتهكوا الاتفاقية ]1977[، وسنستعيدها، أو سيحدث شيء مهول."[14]

وبعد أسبوع أو أكثر، أعاد ترامب إثارة النقاش في شأن احتمال ضمّ كندا إلى الولايات المتحدة، مقترحاً أن هذه الخطوة ستوفر لها حماية معززة وفوائد اقتصادية، وخصوصاً في ضوء التهديدات المتخيلة من روسيا والصين، [15]فردّ رئيس الحكومة الكندية جاستن ترودو بالإشارة إلى أن الولايات المتحدة قد تكون مهتمة بالموارد الطبيعية الكبيرة في كندا.[16]

أعاد ترامب أيضاً إثارة النقاش في شأن الاستحواذ على غرينلاند، مشيراً إلى موقعها الاستراتيجي ومواردها الطبيعية، كأمور في غاية الأهمية للأمن الأميركي. وفي 13 كانون الثاني / يناير 2025، تقدم النائب الأميركي آندي أوغليس، متابعاً أحلام ترامب، بقانون "لنجعل غرينلاند عظيمة مرة أُخرى"، والذي يخوِّل الحكومة الأميركية التفاوض في شرائها. [17]غير أن رئيس حكومة غرينلاند، موتي إيغيدي ردّ بالقول: "غرينلاند ملكنا. نحن لسنا للبيع ولن نكون للبيع أبداً."[18] 

غزة من "موقع هدم" إلى "ريفييرا الشرق الأوسط"

"غزة موقع هدم، إنها موقع هدم بحت."[19] "غزة موقع عقاري كبير."[20] "سنسمح لدول أُخرى بتطوير أجزاء منها، ستكون جميلة."[21] "غزة ستكون ريفييرا الشرق الأوسط."[22]

في وقت مبكر من تولّي ترامب منصبه، اقترح أن "تستولي" الولايات المتحدة على قطاع غزة و"تمتلكه"، متخيلاً تحويله إلى "ريفييرا الشرق الأوسط." [23]وتتضمن خطته تهجير نحو 2,3 مليون فلسطيني من غزة إلى دول مجاورة، مثل مصر والأردن، مع ادعاءات بتوفير ظروف معيشية أفضل للغزيين. [24]إلّا إن اقتراح ترامب واجه إدانة دولية واسعة النطاق، بل نُظر إليها على أنها انتهاك لحقوق الفلسطينيين الأساسية.[25] ولهذا لم يُعبّر أي زعيم تقريباً عن دعمه لسيطرة الولايات المتحدة على غزة باستثناء رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو.[26] 

التوسع الإمبريالي الأميركي: من ضمّ هاواي إلى الاستيلاء على غزة

تنسجم خطة ترامب للاستيلاء على غزة وغرينلاند وكندا أو قناة بنما، مع نمط التوسع الإمبريالي الأميركي، فقد أدت الاعتبارات الجيوسياسية، والموارد الطبيعية، وطرق التجارة وتعظيم الأسواق، دوراً رئيسياً في الطموحات الاستعمارية الأميركية. إذ يوضح ضمّ هاواي إلى الولايات المتحدة المساعي الأميركية التوسعية بصورة عامة، والتي شملت أيضاً مناطق أُخرى، مثل بورتوريكو والفيليبين وغوام. وقصة هاواي تُظهر أن الجشع التجاري دفع إلى الاستيلاء على الجزر الشهيرة في المحيط الهادىء؛ فبحلول منتصف القرن التاسع عشر، كانت هاواي قد أقامت علاقات تجارية، ولا سيما مع الولايات المتحدة،[27] ثم بحلول أواخر القرن التاسع عشر، أصبحت المزارع المملوكة لأميركيين قوة مهيمنة على اقتصاد هاواي.[28] وفي سنة 1887، أجبرت مجموعة من رجال الأعمال الأميركيين والأوروبيين، وبدعم من الجيش الأميركي، ملك هاواي على توقيع "دستور بايونيت" (Bayonet Constitution)، الذي قلل بصورة كبيرة من سلطة الملك.[29] وفي سنة 1893، قام رجال الأعمال الأميركيون، بدعم من مشاة البحرية، بانقلاب أطاحوا فيه بملكة هاواي آنذاك.[30] وأعلنت "لجنة السلامة" (The Committee of Safety)، وهي مجموعة من المقيمين الأميركيين والأوروبيين، حكومة موقتة سعت للانضمام إلى الولايات المتحدة. ووقّع الرئيس الأميركي وليم مكينلي (William McKinley) "قرار نيولاندز" (The Newlands Resolution) في سنة 1898، الذي ضمّ هاواي رسمياً[31] (وهذا بالتزامن تقريباً مع عقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل، والذي وضع أهدافاً لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين). لقد ناضل سكان هاواي الأصلانيون ضد الضمّ، ولم تصبح هاواي الولاية رقم 50 للولايات المتحدة إلّا في سنة 1959.[32]

تشكل هاواي مثالاً كلاسيكياً للاستعمار الاستيطاني الذي يبدأ بالاستثمار، وينتهي بالسيطرة والاستعمار، ويوفر نظرة ثاقبة إلى مستقبل غزة التي يقترحها ترامب "في اليوم التالي للحرب." فرؤية ترامب لغزة تتضمن الاستيلاء على القطاع، وتهجير سكانه الأصليين، واستيطان سكان جدد مكانهم، وتنفيذ مشروع تطويري يراه ملائماً للمنطقة – ريفييرا أُخرى تطلّ على البحر الأبيض المتوسط. وعلاوة على ذلك، لا يخطط ترامب للانخراط مباشرة في العمل العسكري، فهو بدلاً من ذلك، يتوقع أن تقوم إسرائيل بالحرب وتقدم له غزة "مُطَهَّرة" من سكانها للتطوير. كما أن الولايات المتحدة لا تنوي استقبال لاجئي القطاع، بل إن ترامب يتوقع أن تستضيفهم مصر والأردن في مقابل المساعدات المالية الأميركية السابقة. وفضلاً عن ذلك، ليس لدى ترامب نيّة الاستثمار في إعمار الريفييرا الجديدة، وإنما يتوقع أن تقدم الدول العربية الغنية بالنفط الأموال اللازمة لذلك.[33] بالمختصر، ينظر ترامب إلى غزة كإقليم بعيد تابع ذي إمكانات ربحية كبيرة، مع إيلاء القليل من الاهتمام للمعاناة الإنسانية أو التكاليف المادية المرتبطة بالاستيلاء عليه أو تطويره. وعلى غرار وعد بلفور في سنة 1917، والذي وعدت فيه بريطانيا أرضاً ليست لها لشعب لم يكن فيها، يَعِد ترامب الآن غزة – بعد إفراغها من الغزّيين – للمستوطنين والمستثمرين من شتى أنحاء العالم.

وعلى غرار الاستحواذ على هاواي من دون أي بدلات مالية، فإن الاستيلاء المتوقع على غزة هو في جوهره حالة استعمار استيطاني بامتياز تنتهي باستبدال السكان الأصليين بآخرين جدد. ويقدم باتريك وُولف في مقالته "الاستعمار الاستيطاني وإقصاء السكان الأصليين" (2006)، فهماً للاستعمار الاستيطاني كبُنية وليس كحدث. فبالنسبة إليه، إن هدف الاستعمار الاستيطاني يتعدى استغلال الموارد الطبيعية أو البشر، إلى القضاء على السكان الأصليين واستبدالهم منهجياً، وغالباً ما يكون ذلك بالعنف الذي يمكن أن يتخذ شكل العنف الجسدي (على سبيل المثال، التهجير القسري أو الإبادة الجماعية)، والاستيلاء على الأراضي، والمحو الثقافي (مثلاً: الاستيعاب القسري؛ محو اللغات؛ القضاء على التقاليد). وفي الغالب، يتجلى الاستعمار الاستيطاني في عمليات مستمرة من الاستحواذ على الأراضي، والسيطرة السياسية، والتهميش الاجتماعي للسكان الأصليين. وهناك عنصر رئيسي في أطروحة وُولف هو الاستيلاء على الأراضي من السكان الأصليين من خلال وسائل قانونية وأيديولوجية، مع تجاهل أو حتى تجريم مطالب السكان الأصليين بالأراضي وطرق حياتهم.[34]

تمثل خطة الاستيلاء على غزة، والتي تنتهك القوانين الدولية والمعاهدات وقرارات مجلس الأمن التي تجرّم الاحتلال والاستيطان وفرض الحصار على الأراضي الفلسطينية، مخططاً للتطهير العرقي، والإبعاد القسري، والإبادة الجماعية – وكل منها يشكل جريمة ضد الإنسانية. وبالتالي، فإن خطة الولايات المتحدة للاستيلاء على غزة هي مشروع استعماري استيطاني مصمم بوعي، ويتميز بمحو السكان الأصليين للقطاع واستبدالهم بمواطنين ومستثمرين عالميين.

يعقلن ترامب مشروعه بأن غزة هي "موقع هدم كبير" غير صالح للحياة، ويعتبر أن حلمه بـ "الريفييرا الجديدة للشرق الأوسط" على أنقاض غزة هو أيضاً نموذج للتجديد الحضري والمشاريع العقارية العملاقة التي تتميز بالاستطباق (الجنترة)، وخصوصاً في إعادة الإعمار بعد الحرب، أو بعد الكوارث، من دون الاكتراث لحاجة السكان الأصليين وتطلعاتهم. إن التجديد الحضري، أو إعادة الإعمار بعد الحرب في السياقات الاستعمارية، أو ما بعد الاستعمار، لا يمكن فصلهما عن العقيدة الرأسمالية.

كتاب ديفيد هارفي (1989) "حضرنة رأس المال" (The Urbanization of Capital)، يجادل في أن مشاريع التجديد الحضري غالباً ما تعمل كعملية لتراكم رأس المال في الرأسمالية المعاصرة، بحيث يهدف إحياء المدن إلى ضمان استمرار النمو الاقتصادي. وبالنسبة إليه، فإن التجديد الحضري مرتبط بشكل وثيق بديناميات الرأسمالية التي تتطلب نمواً وتوسعاً مستمرَّين.[35] وغالباً ما يكون التجديد في المدن هو إعادة تطوير أو إعادة تطويع الأراضي، ولا سيما في المناطق ذات الإمكانات الربحية العالية، إذ يدفع ثمن هذه العمليات مطوّرو القطاع الخاص، وتسهلها الحكومات، والمؤسسات المالية التي تهدف إلى تعظيم قيم العقارات وجذب الاستثمارات، وفي الغالب يكون ذلك على حساب المجتمعات الفقيرة أو المهمشة. وفي معظم الأحيان يؤدي هذا النوع من التجديد إلى التهجير، فينتقل الأثرياء ليحلوا محل الفقراء. [36]ووفقاً لهارفي، تُصمّم مشاريع التجديد الحضري عادة لتحويل المدن إلى فضاءات من أجل إعادة استثمار الفوائض الرأسمالية، وتحويل المكان إلى سلعة، ذلك بأن هذه الأمكنة غالباً ما تخدم مصالح رأس المال – مثل مراكز التسوق، والإسكان الفاخر والمنتجعات، أو عمارات المكاتب – بدلاً من تلبية حاجات السكان المحليين. وفي مثل هذه المشاريع، تتعاون الحكومات مع رأس المال الخاص لجذب المطورين. ويستعير هارفي أيضاً من جوزيف شومبيتر (Joseph Schumpeter) مفهوم "التدمير الخلّاق" (creative destruction)[37] لشرح كيف يعمل التجديد الحضري كوسيلة للرأسمالية من خلال تدمير رأس المال القديم، وتمهيد الطريق لاستثمارات جديدة. [38]ويجادل هارفي في أن هذه العملية الدورية هي جوهر الرأسمالية، ذلك بأن تدمير القديم ضروري لتمهيد الطريق لصعود الجديد، وبالتالي تسهيل التدفق المستمر والتوسع لرأس المال.[39] ويمكن ملاحظة هذه الدينامية في سياقات متعددة، مثل: إعادة إعمار وسط بيروت (مشروع سوليدير) بعد الحرب الأهلية الطويلة؛[40] مشروع إعادة إعمار بيروت بعد انفجار المرفأ؛[41] إعادة بناء برلين بعد الإطاحة بالجدار ما بين شطري البلد (1989) وتوحيد المدينة؛[42] بلفاست في إيرلندا الشمالية بعد اتفاقية الجمعة الطيبة (The Good Friday Agreement 1998) التي نزعت فتيل الحرب التي أنهكت البلد لثلاثة عقود.[43] ويمكننا أن نتكهن بشأن مستقبل غزة في حال استحواذ ترامب عليها في أعقاب الإبادة الجماعية. ومن الجدير ذكره أنه في مشاريع إعادة الإعمار بعد الحرب كالتي ذُكرت أعلاه، يتم إخفاء بعض الحقائق التاريخية والاجتماعية، بينما يجري بناء حقائق جديدة لتتماشى مع مصالح ورؤى النخب السياسية والاقتصادية السائدة. 

الثورة الحضرية معكوسة

مع الاستحواذ أو السيطرة على الضفة الغربية بما فيها القدس بالكامل، واستمرار تآكل السيادة الفلسطينية على الأراضي الفلسطينية الموصوفة في اتفاق أوسلو في سنة 1993، لا يوجد أي أفق متوقع لحل الدولة الواحدة أو الدولتين في المستقبل القريب أو البعيد. فقبل 7 تشرين الأول / أكتوبر، كان قطاع غزة، على الرغم من خضوعه لحصار إسرائيلي، يمثل الجزء الأخير المتبقي من فلسطين التاريخية الذي لا يخضع مباشرة للاستعمار الاستيطاني الصهيوني، أو السياسات النيوليبرالية التي تبنّتها السلطة الوطنية الفلسطينية بعد أوسلو. وقد أرسى مقترح ترامب، جنباً إلى جنب مع الصور التي جرى إبداعها بواسطة الذكاء الاصطناعي لمستقبل غزة الافتراضي، والتي انتشرت قبل انتخابه بأشهر، الأساس لـ"دبي / نة" غزة، بعد "درسدن / تها"، من أجل جذب رأس المال العالمي. [44]ففي هذا السياق، يشهد الغزّيون على الاغتراب عن أرضهم – العنصر المهم الذي ما فتىء يشكل رؤيتهم وعلاقتهم بالكون، وخصوصاً عندما يكونون، في معظمهم، لاجئين يعانون صدمة جرّاء تهجيرهم القسري من قراهم وبلداتهم الأصلية فيما يُعرف اليوم بإسرائيل. ويشير مفهوم الاغتراب عند ماركس إلى إزاحة القيمة من العمال إلى أصحاب العمل الرأسماليين (الاغتراب عن نتاج عملهم)، في عملية يتم فيها التفاوض باستمرار في شأن المعنى والقيمة.[45] وفي إطار خطة ترامب، يتم تجريد الغزّيين من إرادتهم وذاتيتهم، وكلاهما مركزي في عمليات صنع المعنى وخلق القيمة. كما يُعتبر استبعاد الغزّيين من التخطيط أو تشكيل مستقبلهم الخاص، المستوى الثاني من الاغتراب، أو الاغتراب المضاعف (الغربة على رأي ماركس)، الذي تعرّض له الفلسطينيون في أحداث تاريخية مماثلة من وعد بلفور سنة 1917، وخطة التقسيم في سنة 1947، ونكبة 1948، وصفقة القرن في سنة 2020، وهي أحداث تشبه ريفييرا ترامب عندما تم استبعاد الفلسطينيين من القرارات التي تؤثر في مناطقهم ومنطق حياتهم. 

ملاحظات ختامية: الحقّ في التدمير الكامل على طريقة درسدن

لقد تحمّل قطاع غزة عدة دورات من التدمير وإعادة الإعمار على مدى 5000 عام من الاستيطان البشري المستمر، فالحفريات الأثرية تكشف عن طبقات عديدة من الاستيطان وإعادة الاستيطان في غزة. فعلى سبيل المثال، في سنة 1191 ميلادية، دمر الأيوبي صلاح الدين المدينة لمنع الصليبيين من استعادتها. [46]وبالمثل، خلال الحرب العالمية الأولى، تركت معارك غزة الثلاث في سنة 1917 المدينة مدمرة بالكامل تقريباً. كما أدت الحملة العسكرية الإسرائيلية في خان يونس في سنة 1956، وسلسلة العمليات العسكرية الإسرائيلية بعد الانسحاب الأحادي الجانب من غزة في سنة 2005 – أمطار الصيف (2006)؛ الرصاص المصبوب (2008 / 2009)؛ عمود السحاب (2012)؛ الجرف الصامد (2014)؛ شينغل (2014)؛ الجار الجيد (2016 - 2018)؛ الحزام الأسود (2019)؛ فجر الصباح (2022) – إلى دمار كبير، تاركة قطاع غزة يعاني جرّاء تعافٍ موقت لا تلبث أن تكتسحه دورة تدمير جديدة. وكانت الدورة الأخيرة من التدمير، الدرع والسهم (2023 - 2025)، والتي أعقبت أحداث 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، الأكثر دموية وتدميراً على الإطلاق.

وعلى مر التاريخ، فإن كل دورة من التدمير تلتها جهود إعادة إعمار، فمنذ العصر البرونزي إلى الوقت الحاضر، شهدت غزة إعادة البناء، بل حتى على عكس المتوقع، التوسع. فعلى سبيل المثال، بعد تدمير الأيوبيين المدينة، نُفّذت مشاريع بناء ضخمة خلال الفترات المملوكية والعثمانية، ونمت غزة كمدينة رئيسية في فلسطين. وبالمثل، خلال الانتداب البريطاني، وبعد المعارك الثلاث للسيطرة على غزة، جرى تنفيذ مشاريع إعادة إعمار واسعة النطاق لاستعادة المدينة وتطويرها. كذلك، على الرغم من الدمار المتكرر الناجم عن الحملات العسكرية الإسرائيلية بعد الانسحاب الأحادي الجانب في سنة 2005، أُعيد بناء غزة باستمرار.

هذه الظاهرة ليست مقصورة على غزة، فإعادة الإعمار بعد الحرب ممارسة واسعة الانتشار عالمياً، من أوروبا بعد الحربَين العالميَّتين الأولى والثانية، إلى حروب البلقان، وإيرلندا، ولبنان، والعراق... وحتى روما، بعد أن أحرقها نيرون في سنة 64 ميلادية.[47] وفي هذه الحالات جميعها، لم يتم تقديم أي اقتراح لتهجير السكان المحليين، أو إعادة تطوير المنطقة كمشروع عقاري لمواطني الكوكب. ويشير المفهوم الذي أقترحه "الحقّ في التدمير الكامل على طريقة درسدن" إلى الحقّ في دورة كاملة من التدمير يتبعها إعادة إعمار – وهي عملية استفادت منها مدن، مثل درسدن وغيرها في أوروبا وخارجها بعد الكوارث التي لَحقت أو أُلحِقت بها. أمّا في حالة غزة، فيشير هذا الحقّ إلى الحاجة إلى عملية تعافٍ عادلة وشاملة، تسمح للسكان بإعادة بناء حياتهم واستعادة مدينتهم في أعقاب الدمار المتكرر.

بعد اقتراح ترامب للحصول على غرينلاند، وجّه عضو البرلمان الأوروبي الدانماركي أندرس فيستيسن (Anders Vistisen) خطاباً إلى دونالد ترامب في 21 كانون الثاني / يناير 2025 قائلاً: "دعني أضعها بكلمات قد تفهمها: سيد ترامب، انصرف."[48] وأنا هنا أستلهم من الغزّيين العاديين الذين تحملوا صنوفاً لا يمكن تصورها من الظلم، ومع ذلك ما زالوا يلقّنون البشرية دروساً في الشجاعة والكرامة والصمود، ولذا، أضمّ صوتي إلى صوت عضو البرلمان الأوروبي الدانماركي، وأطالب السيد ترامب بالانصراف من دون قيد أو شرط.

 

المصادر:

[1] George Santayana, The Life of Reason: The Phases of Human Progress (New York: Charles Scribner’s Sons, 1905).

[2] وعد بلفور، 2 تشرين الثاني / نوفمبر 1917.

[3] “Gaza: One of the Most Intense Bombardments in History?”, European Network Against Racism,

Gaza: one of the most intense bombardments in history? | SGR: Responsible Science

[4]Air Force Historical Support Division, “1945-Bombings of Dresden”.

[5] Michael J. Richard, “Dresden and the Ethics of Strategic Bombing in World War II”, Honors Thesis, Louisiana State University, 2010.

[6]Situation in the State of Palestine: ICC Pre-Trial Chamber 1 Rejects the State of Israel’s Challenges to Jurisdiction and Issues Warrants of Arrest for Benjamin Netanyahu and Yoav Gallant”, International Criminal Court, 21 November 2024.

[7]Donald Trump, Interview with Fox News (2018).

[8]Donald Trump, Speech at Rally in Ohio (2019).

[9]Donald Trump, Press Conference on Greenland (2020).

[10]“Trump Recognizes Golan Heights as Part of Israel”, The New York Times, 21 March 2019.

[11] أكد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والجمعية العامة أن مرتفعات الجولان معترَف بها دولياً كجزء من سورية، وأن ضمّ إسرائيل للمرتفعات غير قانوني.

[12]David Taub, “Trump’s Middle East Plan: Starting Point or Dead End?The New York Times, 30 January 2020.

[13]Eric Bazail-Eimil, “Trump Threatens to Retake Panama Canal”, “POLITICO”, 21 December 2024.

[14]Samantha Waldenberg and Michael Rios, “Trump Reiterates Threat to Retake Panama Canal ‘or something very powerful’ will Happen”, “CNN”, 2 February 2025.

[15]Diana Glebova, “Trump Says Canada ‘Serious Contender’ to be 51st State: ‘They Need our Protection’ ”, New York Post, 13 February 2025.

[16]Leyland Cecco, “Trudeau Says Trump is Serious about Wanting to Annex Canada”, The Guardian, 7 February 2025.

[17]H.R.361-119th Congress (2025-2026), “Make Greenland Great Again Act”, 13 January 2025.

[18]Adam Arnold, “Denmark to Boost Defense Spending for Greenland after Trump Repeats Call for US Control”, “Sky News”, 24 December 2024.

[19]Trump Calls Gaza ‘Demolition Site’ While Calling for Resettlement”, “ABC News”, 4 February 2025.

[20]Betsy Klein and Irene Nasser, “Trump Describes Gaza as a ‘Big Real Estate Site’ as He Doubles Down on Plans to Redevelop the Enclave”, “CNN”, 9 February 2025.

[21]Madeline Sherratt, “Trump Says People Should Think of Gaza as ‘a Big Real Estate Site’ the US will Own”, The Independent, 10 February 2025.

[22]Tamara Keith, Greg Myre and Don Gonyea, “Trump Wants to Turn Gaza into the ‘Riviera of the Middle East’ ”, “NPR”, 6 February 2025.

[23]Sarah van Loon, “What is Trump’s Proposal for Gaza?”, “AJC Global Voice”, 12 February 2025.

[24]Nidal Al-Mughrabi, Ali Sawafta and Hussam Al-Masri, “ ‘Hell Worse Than What we have Already?’ Gazans Reject Trump Plans”, “Reuters”, 12 February 2025.

[25]Saudi Arabia Spearheads Arab Scramble for Alternative to Trump’s Gaza Plan”, The Jerusalem Post, 14 February 2025.

Clothilde Goujard, Laura Hülsemann, Clea Caulcutt, Elena Giordano and Noah Keate, “Global Fury Builds Over Trump’s Plan to Turn Gaza into the Middle East ‘Riviera’ ”, “POLITICO”, 5 February 2025.

[26]Haley Ott, “Israel Welcomes Trump’s Plan for U.S. to ‘Take Over’ Gaza, as Allies and Adversaries Reject It”, “CBS News”, 6 February 2025.

[27]Lilikalā Kameʻeleihiwa, Native Land and Foreign Desires: Pehea LA E Pono Ai? How Shall We Live in Harmony? (Honolulu Hawaii: Bishop Museum Press, 1992).

[28]David Silverman, Hawaii: A History (New York; London: W.W. Norton & Company, 1996).

[29]Gavan Daws, Shoal of time: A history of the Hawaiian Islands (University of Hawaii Press, 1968).

[30] Queen Liliʻuokalani, Hawaii’s Story by Hawaii’s Queen (Chicago, Illinois: C. McClurg & Co, 1898).

[31]Stephen E. Ambrose, The Rise to Globalism: American Foreign Policy, since 1938-2000 (London: Penguin Books, 1999).

[32]William H. Morrow, The Hawaiian Revolution: A History of the Overthrow of the Monarchy (Honolulu: University of Hawaii Press, 1967).

[33]Jonathan Panikoff, “Trump Is Serious About Shaking Up the Middle East, Even If His Gaza Plan Isn’t”, “Atlantic Council”, 5 February 2025.

[34]Patrick Wolfe, “Settler Colonialism and the Elimination of the Native”, Journal of Genocide Research, vol. 8, no. 4 (2006), p. 390.

[35]David Harvey, The Urbanization of Capital: Studies in the History and Theory of Capitalist Urbanization (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1989), pp. 181-200.

[36]David Harvey, Rebel Cities: From the Right to the City to the Urban Revolution (New York; London: Verso Books, 2012), pp. 125-155.

[37]Joseph A. Schumpeter, Capitalism, Socialism, and Democracy (New York: Harper & Brothers, 1942).

[38]Harvey, The Urbanization of Capital…, op. cit., pp. 97-115.

[39]Harvey, Rebel Cities…, op. cit., pp. 54-67.

[40]Bruno Marot and Serge Yazigi, “The Reconstruction of Beirut: Sowing the Seeds for Future Conflicts?”, “Metropolitics”, 14 November 2012.

[41]Mona Fawaz and Soha Mneimneh, “Beirut’s Blasted Neighborhoods: Between Recovery Efforts and Real Estate Interests”, “The Public Source”, 6 November 2020..

[42]Noe Padilla, “Berlin: A City Plagued by Gentrification”, “Berlin Beyond Borders”, 29 July 2019..

[43]Conor McFall, “Gentrification in a Post-Conflict City: The Case of Belfast”, “New Socialist”, 9 February  2018.

[44]Kate Wagner, “The Awful Plan to Turn Gaza into the Next Dubai”, The Nation, 9 July 2024.

[45]Karl Marx, Economic and Philosophic Manuscripts of 1844, translated by M. Milligan (Moscow: Progress Publishers, 1975, Original work published 1844).

[46]Denys Pringle, The Churches of the Crusader Kingdom of Jerusalem: A Corpus (Cambridge: Cambridge University Press, vol.1, 1993).

[47]Matthew Reich, “The Great Fire of Rome”, Origins: Current Events in Historical Perspective, July 2024.

[48]Anders Vistisen, “European Parliament, Sitting of 21/01/2025”.

 

Author biography: 

خلدون بشارة: مهندس معماري، ومرمّم، وعالم أنثروبولوجيا.