Introduction
Full text: 

ندور في الدوامة نفسها منذ نحو ربع قرن: تدمير للمشهد الحضري، ثم البحث في خطط إعادة الإعمار واستراتيجياته وسياساته التي يجب أن تلائم المدمِّر وليس المدمَّر (الضحية). وفي الربع قرن الأخير برزت في منطقتنا مصطلحات كثيرة أصبحت جزءاً من أدبياتنا البحثية والسياسية، ومن هذه المصطلحات: استراتيجيات التمويل لإعادة الإعمار؛ الشروط السياسية لإعادة الإعمار؛ الشفافية في تدفق الأموال والرقابة عليها؛ الحيز العام والحيز الخاص؛ المناطق الخضراء والواجهات البحرية أو الجبلية؛ إعادة ترميم وتعمير المواقع الأثرية والتراثية ضمن عدم عودة "الإرهاب"؛ نزع السلاح؛ ردم البحر؛ تجارب إعادة إعمار المدن الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية. ومع أن هذه المصطلحات ملأت ادبياتنا وخطاباتنا، إلّا إنها لم تُعِد الإعمار، بل إنه حتى في المرات القليلة التي أعيد الإعمار في مناطقنا، فإن المناطق المعمرة دُمّرت من جديد وأصبحت خراباً.

وما دام المدمِّر "المستعمِر صاحب القوة التدميرية" يفرض سياسة إعادة الاعمار وشروطها، فإن ذلك حتماً لن يؤدي الى استقرار واستمرارية لأنه لم يأخذ بعين الاعتبار حاجات المدمَّر إلى استعادة نسيجه الاجتماعي والاقتصادي وطبعاً السياسي، ولا شروط تعافيه من الحرب. ومن نافل القول أنه من أجل تحقيق إرادة سياسية جدية في إعادة إعمار أي مكان دمرته الحرب، فإنه لا بد من توفر بيئة سياسية جاذبة، وفي مقدمها سيطرة المدمَّر على الحيز المكاني، وبالتالي امتلاكه سيادة سياسية عليه، ذلك كضمانة لعدم تدميرها مرة ثانية وثالثة ورابعة كما في حالة قطاع غزة.

وربما تختلف الحالة الفلسطينية واللبنانية عن حالات تدمير وإعادة إعمار مشابهة جرت في مدن قريبة كالموصل وحلب، ذلك بأن فعل التدمير في فلسطين ولبنان هو أساساً لاستعمار استيطاني كولونيالي، بينما في الحالات الأُخرى هو في معظمه، نتاج حروب أهلية ونزاعات طائفية. وبالتالي، إذا كانت تجربة إعادة الإعمار فلسطينياً ولبنانياً مرتبطة بشكل أو بآخر بإرادة المستعمِر وإملاءاته، فإنها في حالتَي الموصل وحلب - على سبيل المثال - أكثر ارتباطاً بالظروف الموضوعية والداخلية في تلك المدينتَين مع ما تحملان من تعقيدات وإشكاليات، لناحية مَن هو المنتصر، ومَن هو المهزوم، ومدى شرعية المنتصر أمام المجتمع الدولي، أو جزء منه، لأنه، أي المجتمع الدولي، هو مَن سيموّل إعادة الإعمار. ومع تحوّل المنطقة إلى كتل من الركام بفعل هذه الحروب، فإن الإعمار يُستخدم لفرض مزيد من الهيمنة على البلاد والعباد، ويتجلى ذلك مع التوسع الإسرائيلي في سورية، والبقاء في نقاط في لبنان، الأمر الذي يجعل تمويل الإعمار وشكله يشكّلان شرطاً سياسياً وأمنياً وعسكرياً يسمح للمدمِّر بـ "العمل بحرية" وقتما يشاء.

وإذا كانت قراءة تجارب إعادة الإعمار تفترض أن تُقرأ من زاوية بيئية وسياسية ونظرية تأخذ بعين الاعتبار موقف الضحية قبل أن تُقرأ من زاوية هندسية أو تقنية، فإن من المؤكد أن التسليم شبه الجماعي الدولي بمنح إسرائيل الضوء الأخضر للتدمير الشامل هو ما يستحق أن يناقَش أيضاً من النواحي السياسية والأخلاقية والقانونية وكذلك... الهندسية.

ولهذا، فإننا في هيئة التحرير، وبعد أن تكشّف حجم الدمار الذي حلّ بقطاع غزة ومخيمات شمال الضفة الغربية، وبقرى الجنوب اللبناني والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، وببعض المناطق في سورية، جرّاء العدوان الإسرائيلي التدميري منذ تشرين الأول / أكتوبر 2023، بات موضوع إعادة الإعمار ملحّاً، ولهذا فكّرنا ملياً في هذا الموضوع، وبطبيعة الحال قادنا هذا الأمر فوراً إلى التفكير في أن البحث في إعادة إعمار هذه المناطق التي دُمرت، يجب ألّا يتم من منظور هندسي ومعماري فقط، بل من منظور اجتماعي وسياسي وثقافي واقتصادي أيضاً. ولهذا تواصلنا مع مجموعة من الكتّاب والأكاديميين والخبراء بهذا المجال، وتداولنا معهم في إعداد ملف في المجلة نأمل بأن يثير نقاشاً واسعاً عن هذه الموضوع.

شمل ملف إعادة الإعمار دراسة لساحرة بليبلة ومها السمان عن العمران العلاجي والتخطيط المستدام نحو التعافي والصمود في غزة، كما كتب المعماري العراقي معاذ الألوسي تصوراً أولياً لإعادة الإعمار مستمداً من تجاربه الطويلة في هذا الحقل، بينما عرضت نادية حبش الخطط المقترحة لإعادة إعمار غزة محذرة من أن تكون مشاريع إعادة الإعمار واحدة من أدوات الهيمنة، في حين تناول عالم الآثار حمدان طه تاريخ تدمير المواقع الأثرية والتراثية في فلسطين وتجارب إعادة إعمارها، أمّا حبيب صادق فكتب عن إعادة الإعمار في مواجهة الحروب الإسرائيلية المتكررة على لبنان، وخصوصاً على الجنوب اللبناني. وفي الملف أيضاً ثلاثة مقالات لمعماريين شباب هم: ندي أبو سعادة، وسالم القدوة، وفائق مرعي، تطرقوا فيها إلى موضوع إعادة الإعمار من منظور أخلاقي ونقدي معتمدين على مقارنات مع مدن دُمّرت خلال الحرب العالمية الثانية.

وإلى جانب هؤلاء، تناول خلدون بشارة مشروع ترامب لتحويل قطاع غزة إلى واجهة بحرية تستقبل الناس من كل حدب وصوب، بينما شرط خطته هو إجلاء سكان القطاع وتهجيرهم.