السيدات والسادة
الحضور الكريم،
احتفت غزة وكل مَن تعاطف مع أهلها وناصرهم في العالم أجمع بوقف إطلاق النار بعد مفاوضات تطلبت صموداً أسطورياً، لأن أداة التفاوض الإسرائيلية الرئيسية خلالها كانت الأسلحة الفتاكة. ولعل عدد أسباب الارتياح للهدنة يساوي عدد الجرائم التي ارتُكبت طوال ما يُقارب عاماً وخمسة أشهر.
استماتت حكومة إسرائيل لمواصلة الحرب، وعندما استنفدت جميع خدع التملّص من الهدنة وأُسقط في يدها، استغلت كل لحظة منذ الاتفاق، حتى موعد وقف إطلاق النار، من أجل مزيد من القتل والتدمير العبثيَّين. فمنذ لحظة إعلان اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة من الدوحة، مساء يوم الأربعاء الموافق فيه 15 كانون الثاني / يناير 2025، حتى بدء سريان وقف إطلاق النار يوم الأحد الموافق فيه 19 كانون الثاني / يناير 2025، زادت وتيرة الضربات الإسرائيلية على قطاع غزة بحصيلة 247 شهيداً و638 جريحاً.
لا يوجد تفسير عقلاني للرغبة في ممارسة القتل لمجرد أن الفرصة سانحة. وها هي الضفة الغربية الآن تدفع ثمن القبول الاضطراري لليمين المتطرف بالصفقة.
وأصرّ البعض على مواصلة السجال بعد الهدنة بشأن المنتصر والمنهزم في هذه الحرب، والذي لا يمكن أن يخاض إلّا إذا أعاد الجميع تعريف الانتصار والهزيمة على هواه، الأمر الذي لا يتيح سوى حوار طرشان في فضاء افتراضي.
من نافلة القول أن نذكّر أن الأوضاع في غزة لم تعد مثلما كانت قبل 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، وجلاء الفرق بين النجاة والانتصار يُغني عن الشرح.
لقد فشلت إسرائيل في تحرير الرهائن بالقوة، وفشلت في القضاء على حركة "حماس" فضلاً عن المقاومة بصورة عامة. هذه حقيقة. وكان ظهور مقاتلي المقاومة المفاجىء من بين الركام يوم تسليم أول دفعة من الرهائن مدهشاً، مثلما كان صمودهم خلال أطول حرب خاضتها إسرائيل. وظلت المقاومة هي القوة الأكثر تنظيماً في قطاع غزة، إذ لم تنجح إسرائيل حتى الآن في العثور على تنظيم موالٍ لها سوى عصابات إجرامية تُغِير على شاحنات الإغاثة.
لقد اضطر الاحتلال إلى قبول ما كان مطروحاً ليس منذ أيار / مايو 2024 فحسب، بل أيضاً منذ بداية سنة 2024؛ أي وقف الحرب، وإجراء عملية تبادل أسرى، والانسحاب المتدرج، لكنه اختار مواصلة الحرب. وكان هذا القرار مدفوعاً بعوامل سياسية حزبية داخلية، وانفلات موجة الانتقام والثأر من الفلسطينيين عامة. واستندت مواصلة الحرب أيضاً إلى إجماع إسرائيلي على عدم جواز عودة الأوضاع في غزة إلى ما كانت عليه قبل 7 تشرين الأول / أكتوبر، وهو ما تحقق، لكن هذا لم يكن ليحدث من دون حرب إبادة شاملة. وإسرائيل لم توقف عدوانها بعد أن حققته، لأنها لم تمتلك تصوراً قابلاً للتحقيق لإدارة غزة بعد الإبادة الجماعية (الجينوسايد)، غير أن اضطرارها إلى التوقف من دون ذلك لا يعني أنها تنازلت عن هدف تشكيل إدارة محلية بمشاركة عربية وإشراف إسرائيلي.
ثمة عوامل أُخرى دفعت إلى مواصلة بركان الشر الإسرائيلي الذي نفث حممه على الرغم من تحقيق هذا الهدف. فصنّاع القرار في دولة الاحتلال شعروا بالحصانة في ظل الالتزام الأميركي المطلق بدعم إسرائيل، والإدانات اللفظية والتظاهر العربي الرسمي بالعجز، وبالتالي باتوا قادرين على اختبار تأثير المثابرة في استخدام آلات الدمار من دون وازع، ومن دون الأخذ في الاعتبار تداعياتها الممكنة على فلسطين والمنطقة. فقررت تجويع غزة، واتّباع سياسة الأرض المحروقة فيها، ونسف منجزات الحركة الأسيرة في السجون، وتكثيف الاستيطان، وقمع السكان في الضفة الغربية وإرهابهم.
لقد كانت الولايات المتحدة وإسرائيل ضالعتين في ترتيب إقليمي استراتيجي واسع النطاق يشمل دولاً عربية، فأفسدته المقاومة، ومن هنا جاء حجم الائتلاف الذي واجهها.
واتّضحت خلال هذه المواجهة صحة فرضيتين سبق أن تطرقتُ إليهما في بداية هذه الحرب، هما: أولاً، توقّع أسوأ السيناريوهات بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر؛ ثانياً، أن ما بعد هذا التاريخ لن يكون كما قبله، لا على المستوى الفلسطيني فحسب، بل على المستوى الإقليمي أيضاً. ولا عجب، فالرد الإسرائيلي كان الحرب الشاملة، إلى جانب الدعم الأميركي المطلق، حتى إن البعض في النظام الرسمي العربي انتظر أن تؤدي ردة الفعل الإسرائيلية إلى القضاء على المقاومة الإسلامية.
والمقصود بتوقّع أسوأ السيناريوهات هو قرار إسرائيل تحويل حرب ثأرية انتقامية معنونة بـ "الدفاع عن النفس" إلى حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. وقد هبطت الحرب درجات أدنى من الانحطاط حال اختبار ردات الفعل الدولية والعربية بعد كل جولة من جولاتها، وصولاً إلى الشعور الإسرائيلي بمطلق الحرية لناحية استخدام وسائل القتل والتدمير بمثابرة جعلت "العالم" يعتاد حتى على الهوس الإسرائيلي في قصف المدارس والمستشفيات ومظاهر السادية، والإمعان المقصود في تجاوز المحظورات.
وفي موضوع الدفاع عن النفس، اسمحوا لي باقتباس فقرات من مقدمة كتبتُها لكتاب سيصدر قريباً، إن شاء الله، ويتضمن ترجمة كاملة لمجريات محاكمة إسرائيل بتهمة ارتكاب إبادة جماعية، وتناولتُ فيها إشكالية وجوب إثبات النية، أو القصد كي يثبت ارتكاب "الجينوسايد":
إن أي تحديد للنية في عمليات الإبادة الجماعية التي يشنّها الاحتلال ضد السكان الأصليين لا يمكنه البقاء حبيس الفقه القانوني، علاوة على تجاهل التاريخ والثقافة. وثمة ثلاثة عناصر رئيسية لا يجوز تجاهل تأثيرها في تشكل نية الإبادة الجماعية في الحالة الإسرائيلية، بل يمكن بسهولة فحص العلاقة بينها وبين تصريحات المسؤولين الإسرائيليين الداعية إلى الإبادة، والتصرفات والجرائم الواسعة النطاق خلال الحرب: 1- العنصرية والنظرة الفوقية إلى السكان الأصليين كمجموع (ازدراء ثقافتهم؛ الاستخفاف بهم؛ إنكار وجودهم بصفتهم شعباً، وكذلك بصفتهم شخصيات فردية)، بما يمكِّن من التعايش مع الحلول محلهم بعد طردهم، وتقبّل واقعَ تجميعهم في منعزلات محاصرة مثل غزة؛ 2- تبرير الانتقام الجماعي منهم لأنهم ليسوا أفراداً أو تنظيمات، ولا شعباً، بل هم جماعات متخلفة يجب معاقبتها جماعياً؛ 3- الشعور الإسرائيلي الدائم بعدم الأمان، وهو شعور كامن في الوعي واللاوعي، وناجم عن الجمع بين القناعة الدفينة باستحالة تقبّل السكان الأصليين للمستوطنين وكيانهم السياسي من جهة، والآراء المسبقة عنهم من جهة أُخرى، إذ يصعب قيادة الناس إلى تنفيذ جرائم واسعة النطاق أو التواطؤ معها والسكوت عنها من دون شيطنة الآخر و/ أو نزع صفة الإنسانية عنه جماعةً.
وحين تُقرع طبول الحرب وتدفع السلطة الحاكمة جنودها إلى الرد على عملية بحجم 7 تشرين الأول / أكتوبر ضد قطاع صغير ومحاصر ومكتظ بالسكان، ويصدر عن مسؤوليها تصريحات بأن الحرب لن تُميّز بين المقاتلين والمدنيين، فإن توفر العناصر الثلاثة أعلاه في الثقافة السائدة تكفي للدلالة على أن تصريحات القادة الإسرائيليين ليست مجرد فلتات غضب، بل تُفهم شعبياً بصفتها نيّة بالإبادة أيضاً.
قد تكون الإبادات الجماعية مدفوعة بحالات مَرَضية من الدفاع عن النفس. والباعث في هذه الحالة هو مسخٌ لفكرة الدفاع عن النفس ضد خطر وهمي أو حقيقي. وزاوية النظر هذه قد تضيء على زوايا مظلمة في دوافع مرتكبي المجازر وعنصريتهم المتواشجة مع الخوف من الآخر. ويمكن أن تحل محل ذلك أيضاً الحسابات الباردة لدى عديمي المشاعر الإنسانية، من جهة، وجنون الدم، من جهة أُخرى؛ أي الانجراف في القتل إلى درجة تجاوز الذات التي تتضمن الضمير والمحاذير الأخلاقية والانفصام عنها.
يهيمن على الثقافة السياسية الشعبية في إسرائيل هوس الأمن العصابي، الأمر الذي يسهّل تقبّل فكرة الخطر الوجودي التي تبثّها السلطات الحاكمة. ولعدة أسباب، فإن مصدر هذا الهوس قائم في تاريخ الاستعمار الاستيطاني، وفي إنكار الجريمة وتجريم الضحية، وتغذية الخوف بأفكار نمطية عنصرية عن العرب والمسلمين تصل إلى حد النفور الجسدي الذي يسهّل تقبّل قتل العرب والمشاركة فيه.
ولا تُلحظ دائماً لحظة الانتقال من الخوف والانتقام إلى الغطرسة والتعبير عن السرور طرداً للخوف عند القيام بعمليات التدمير، والاغتباط بالقوة واسترداد الرجولة التي، وفقاً للإيثوس الصهيوني، لم تتوفر لدى يهود المنفى الذين سيقوا إلى المحرقة. ومن هنا أيضاً تأتي ضرورة التركيز على المحرقة؛ ليس لابتزاز التعاطف العالمي وتحويل الجاني إلى ضحية فقط، بل كذلك لإثارة الخوف من الخوف، وضرورة تجاوزه بسحق الآخر. وقد وصل باحثون غربيون إلى نتيجة أن مصطلح "جينوسايد" لا يشمل ظواهر مثل الزَّهو في أثناء ممارسة حرب الإبادة، وتباهي جنود إسرائيليين أمام كاميراتهم الخاصة، واستمتاعهم المنحرف بالقتل والتدمير.
ومع الأهمية المعنوية والسياسية للدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل لإدانتها بالإبادة الجماعية بموجب "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها" المُلزِمة، فإن القانونيين مضطرون إلى الانشغال بتعريف الجرائم بدلاً من مكافحة الجرائم نفسها، بحيث تدور المرافعات حول تعريف الجرائم التي ترتكبها إسرائيل؛ أهي جرائم إبادة جماعية، أم "مجرد" جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية؟ مع أن "مسؤولية الحماية" (responsibility to protect) (المشار إليها عادة بالمختصر "R2P")، التي أقرّتها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في مؤتمر القمة العالمي لسنة 2005، مُلزمة لجميع رؤساء الدول والحكومات، ليس بحماية الشعوب من الإبادة الجماعية فقط، بل تشمل الحماية من جرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية أيضاً.
غير أن هذه ليست مُلزمة فعلاً، ولا قرارات المحكمة الدولية التي يُفترض نظرياً أنها مُلزمة في حالة الإبادة الجماعية. فالفرق بين الاستشاري والمُلزم في القانون الدولي المفتقر إلى السيادة في غياب دول قادرة على تنفيذه وراغبة في ذلك هو فرق معنوي لا غير. والدليل هو أن إسرائيل لم تنفذ التدابير التحفظية التي أمرت محكمة العدل الدولية في 26 كانون الثاني / يناير 2024 إسرائيل باتخاذها، وهو ما اضطر حكومة جنوب أفريقيا إلى العودة إلى المحكمة عدة مرات، وذلك في 16 شباط / فبراير 2024، وفي 6 آذار / مارس، وفي 10 أيار / مايو، لأمر إسرائيل بتنفيذها. كما توجهت في 29 أيار / مايو من السنة نفسها إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لأنه ليس في حيازة المحكمة أدوات تنفيذية. وعلى الرغم من احتفائنا بقبول المحكمة الدولية وجود أساس معقول لبحث تهمة الإبادة الجماعية ووضع إسرائيل في قفص الاتهام بجريمة الإبادة تحديداً، فإن التدابير الاحترازية المطلوبة ريثما تقرر المحكمة أكانت الحرب الإسرائيلية إبادة جماعية أم لا، لم تطبَّق، وإنما واصلت إسرائيل اقتراف جرائمها في قطاع غزة حتى يوم وقف إطلاق النار.
على المستوى الفلسطيني
كان الشعب الفلسطيني موحداً خلال الحرب، وصمد الشرخ بين الفصائل الفلسطينية بلا حرج أو وازع من ضمير حتى في ظل حرب إبادة تُشنّ على الشعب الفلسطيني. وما دامت المعاناة الفلسطينية خلال هذه الحرب عاجزة عن الإقناع بالوحدة، فهذا يعني أن الأمر ميؤوس منه تماماً. فهذه القيادات الفلسطينية ليست قادرة على تحقيق الوحدة الفلسطينية، وذلك بسبب تضارب المصالح المنفصلة عن المصلحة الوطنية، ولا يوجد سقف يظلّل التعددية السياسية الفلسطينية، ولا قاعدة مشتركة تقف عليها. لقد جرت عملية تصفية ممنهجة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهي مستمرة منذ أكثر من عقدين، وثمة معارضة رسمية شرسة لإحيائها.
وفي ظل فوضى المعايير وبلبلة المفاهيم ينفسح المجال لأن يوجِّه مَن يهمّش منظمة التحرير ويفككها ويحولها إلى مجرد تسمية بلا مسمى أصبعَ الاتهام إلى كل مَن يدعو إلى تفعيل المنظمة، بأنه يريد خلق بديل منها. وفي غياب كيان وطني جامع، أكان ذلك دولة أم منظمة، فإن الخلافات ليست تعددية يجمعها إطار أو تظللها قضية، بل هي حالة تشظٍّ، وتضارب مصالح، وصدعٌ مزمن لا يرأبه تبادل القبلات والكلام المعسول، ولا تعمّقه الهجائيات المتبادلة. لقد وصلنا إلى وضع ينتظر فيه طرف أن يقضي الاحتلال على الطرف الآخر، فلا تزَعُهُ أواصر الانتماء الوطني.
لا يمكن التوسع بما يكفي في سرد تفصيلات الكارثة التي حلّت بقطاع غزة والضفة الغربية أيضاً. وحين يجرب التفنّن في الأوصاف تصويرها، ينقلب ركاكة وابتذالاً مكانه البحث عن الإعجاب في وسائل التواصل. المهمة الآن هي العمل على استدامة وقف إطلاق النار، فهذه مشيئة الشعب الفلسطيني كله، والانتقال إلى الإعمار؛ لأن هذا هو الطريق الوحيد لتعزير الصمود والحيلولة دون نزوح واسع من القطاع إذا فُتح المجال إلى ذلك، وهو ما تريده الإدارة الأميركية الجديدة. والمهمة الثانية هي منع إسرائيل من التخلص من وصمة الإبادة والحؤول دون قبولها إقليمياً بصفتها دولة إقليمية مقررة في رسم خرائط المنطقة.
لا نتعب من التذكير بنتائج ترتبت على فعل المقاومة الفلسطينية، وحرب الإبادة الإسرائيلية، وهي إعادة جدولة القضية الفلسطينية على الأجندة الدولية والإقليمية بعد تهميشها طويلاً، والإلحاح على ضرورة الاستفادة من هذه العودة. فالحرب في حالة فلسطين ليست مجدية، إذ لن ينتهي الصراع إلّا بإبادة كاملة للشعب الفلسطيني، أو بحلٍ عادل. وإسرائيل لا يمكنها شنّ حرب أكثر همجية من الحرب الأخيرة التي بانت حدودها، فلا بدّ إذاً من طرح قضية فلسطين مجدداً.
لقد واجه المستعمرون في التاريخ الحديث مراراً، مأزقَ "إمّا... وإمّا"، حين تجلّى تفوقهم العسكري، وظهرت حدوده في الوقت ذاته.
إن توصيفنا لمواجهة إسرائيل هذا المأزق هو عبارة عن استنتاج منطقي من التجربة التاريخية، وليس حتمية تاريخية. فعهدُنا بالنظام الرسمي العربي هو التغلب على أي منطق، ونأمل ألّا تجد الولايات المتحدة من العرب والفلسطينيين مَن يعينون إسرائيل على إيجاد مخارج من مأزقها من دون حل لقضية فلسطين.
لا أريد أن أصف مأزق إسرائيل هذا بالإنجاز، فهو نتيجة مترتبة على جدلية الصراع الدائم بين حقّ القوة وقوة الحقّ. وهي لا تخرج بنفسها من نطاق الممكن إلى الواقع من دون إرادات سياسية واعية تعيد إدراج قضية فلسطين على جدول الأعمال الدولي، ولا تمنح إسرائيل، والولايات المتحدة من خلفها، مهرباً من مواجهة المأزق التاريخي للاستعمار.
ثمة حاجة ملحة إلى موقف فلسطيني موحد يُصرّ على مواجهة العالم بالخيارات: "إمّا التوجه إلى حل عادل وإمّا استمرار المأزق"، وهذا الموقف الموحد غير قائم حالياً، الأمر الذي يفسح المجال أمام إسرائيل للمناورة دولياً وإقليمياً وفلسطينياً لاستبدال حرجها بحرج فلسطيني: فإمّا إدارة محلية بمشاركة عربية موثوق بها إسرائيلياً تحت إشراف أمني إسرائيلي، وإمّا أن تتواصل الكارثة في غزة مع منع إعادة الإعمار للحثّ على الهجرة، كأن الاختيار بين السيىء والأسوأ قَدَر مقدور للفلسطينيين. وكل مَن يستعجل إصدار البيانات برفض لجنة الإسناد الفلسطينية، ثم يُعرب عن الاستعداد لإدارة قطاع غزة فور وقف إطلاق النار من خارج أي توافق فلسطيني، يساهم في تحويل المأزق الإسرائيلي إلى مأزق فلسطيني.
ويمكن أن تعود السلطة الفلسطينية إلى إدارة غزة رغماً عن إسرائيل، وبرضا المقاومة التي لن تدير غزة، والتي أعربت عن قبولها بإدارة متوافق عليها تتبع السلطة الفلسطينية، وعدم رغبتها في الانضمام إلى مجلس وزراء. ويكفي هذا لتحقيق نوع من التوافق بدلاً من أن تكون العودة رغماً عن المقاومة كأنها استثمار للحرب الإسرائيلية.
على المستوى الدولي
أول ما يلفت الانتباه على المستوى الدولي هو تميّز الموقف الأميركي وبروز عناصره الأيديولوجية التي تتجاوز مجرد انعكاس المصالح الاقتصادية أو الجيو-استراتيجية. لقد بالغت الولايات المتحدة في تبنّي الرواية الإسرائيلية لما جرى في 7 تشرين الأول / أكتوبر، وكانت مستعدة لتبنّي استخدام إسرائيل المحرقة النازية أداتياً، ولتبنّي تعريفات باطلة لمعاداة السامية وزجّها في الحملة السياسية ضد كل مَن عارض الحرب العدوانية والدعم المطلق الذي حظيت به إسرائيل. وارتسمت صورة مزرية للإدارة الأميركية السابقة بسبب استعدادها غير المحدود لترديد الأكاذيب الإسرائيلية وتبرير الجرائم والتنكّر لخطاب حقوق الإنسان وتقزيمه في مقابل عملقة "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها" (مع أن حروب الاحتلال لا تُعدّ دفاعاً عن النفس) كأن الصراع بدأ يوم 7 تشرين الأول / أكتوبر، وكأن الدفاع عن النفس يبرر الدوس على جميع القيم وارتكاب إبادة جماعية.
كما ظهر انحدار مستوى الكونغرس، وتدنّي سوية أغلبية أعضائه في استقبالهم أكاذيب نتنياهو بحماسة منقطعة النظير، وانتشائهم الهستيري بادعاءاته تمثيل أبناء النور في وجه أبناء الظلام. لقد تعرّت السياسة من الأخلاق تماماً من دون أن يرفّ جفن للمسؤولين والناطقين. وانطبق هذا بدرجات متفاوتة على عدة دول غربية أصبحت مستعدة لقمع حرية التعبير في ديمقراطياتها لإرضاء دولة تمارس الجينوسايد، وتقيم نظام أبارتهايد في القرن الحادي والعشرين.
هل استنزفت دولة الاحتلال في هذه الحرب استعداد الدول الغربية للنفاق والتنكّر لمفاهيمها نفسها حين تعلّق الأمر بالشعب الفلسطيني؟ ربما استنزفت إسرائيل مصطلحات مثل "الهولوكوست" و"المعاداة للسامية" إلى درجة الابتذال، وخاطرت باستخدام إحدى حالات الإبادة الجماعية لتبرير أُخرى. وفي المستقبل، حين تستخدم السياسة الإسرائيلية الرسمية المحرقة النازية، سيتذكر الناس الإبادة في قطاع غزة، ولا يمكن تجنّب تداعيات من هذا النوع.
غير أن الولايات المتحدة والدول الغربية التي تضامنت مع إسرائيل لن تراجع سياساتها بدافع من تأنيب الضمير، بل ثمة خطر حقيقي في أن يحدث العكس، وهذا ما ينصح به اللوبي الإسرائيلي القوي في واشنطن. وحجّته هي أن النهج الإسرائيلي أثبت نفسه، وأن إسرائيل أحسنت صنعاً في صمّ أذنيها عن النصائح الأميركية خلف الأبواب المغلقة بشأن طريقة خوضها الحرب في قطاع غزة. أمّا في لبنان، فقد اقتنعت الولايات المتحدة بالمنطق الإسرائيلي في تحويل قواعد الاشتباك إلى حرب شاملة، وبنهجها في الإصرار على إخراج لبنان من دائرة النفوذ الإيراني بعد غزة. والمقصود (بحسب اللوبي الإسرائيلي وحلفائه) هو أن عدم الانصياع الإسرائيلي للتردد الأميركي الناجم عن أخذ مصالح أُخرى في المنطقة غير مصلحة إسرائيل في الاعتبار كان عين الصواب، وأن ثمة نظماً عربية أميَل إلى هذا الحزم الاستعماري، أكان أميركياً في العراق في سنة 2003، أم إسرائيلياً في فلسطين ولبنان. فاللوبي الإسرائيلي وحلفاؤه اليمينيون في واشنطن يدّعون أنهم أعرف بالميول الحقيقية للدول العربية، وأنهم أقرب إليها من الليبراليين.
وفي المقابل، كسبت قضية فلسطين أصدقاء جدداً في الغرب، وتحديداً على المستوى الشعبي، إذ أصبح بعض الحكومات أكثر جذرية في نقد إسرائيل. غير أن هذا المكسب على أهميته لا يتحول إلى عامل سياسي مؤثر من دون استراتيجيا فلسطينية للاستثمار فيه، وخطاب سياسي فلسطيني وطني ديمقراطي قادر على ذلك.
ستحكم الولايات المتحدة في الأعوام الأربعة المقبلة إدارة أميركية يمينية متطرفة تحيط برئيس معتدّ بنفسه بشدة، وتساير نزواته كي تستغلها. والموقف الثيولوجي الإنجيلي الأصولي اللاعقلاني من إسرائيل هو في صلب هذه العملية، وهو أكثر تطرفاً من اليمين الإسرائيلي، كما أنه متصالح مع نفوذ أوليغارشيا رجال الأعمال الذين لم يعد نموذج ترامب يثير سخريتهم، بل أصبح يغريهم، ومن هؤلاء مَن يعاني اختلال شخصية نرجسي (narcissistic personality disorder).
إن الاعتقاد أن ما يتحكم في الرئيس الأميركي الحالي هو نزوات فقط، وأن سلوكه غير متوقع، والتأثير فيه سهل، هو عبارة عن أماني وأوهام تعوّض عن العجز، فهذا الرئيس سيبتزّ العاجزين على صعد متعددة ليس هنا سياق تفصيلها. صحيح أن لديه نزواته، وأنه يشغل الإعلام بكلام مرسل عارٍ عن الصحة، وأنه مهووس بالاعتراف بشخصه وزعامته وقدراته وغير ذلك، إلّا إن هذا ضمن إطار محدد هو مصالح الولايات المتحدة مثلما يراها اليمين المتطرف الذي أوصله إلى الحكم، وبصيغة شعبوية تخاطب قواعده. إنها مرحلة خطرة في الداخل والخارج.
لن يراجع ترامب رئاسته السابقة نقدياً، بل سيتعصّب لها، وسيحاول أن ينفذ ما لم يسعفه الوقت ووباء "كوفيد" في تنفيذه، وسيصرّ على تنفيذ كل ما اتهم آخرين بعرقلته وإفشاله. سيحاول أن يثبت أنه كان على حق في كل ما فعل، وما لم يتمكن من فعله، وهذا يعني في المنطقة العربية وفلسطين العودة إلى ما يسمى اتفاقيات أبراهام بصفتها الحل للصراع.
لقد أصرّ ترامب على إعلام نتنياهو مَن هو الرئيس (who is the boss) ومَن هو المرؤوس في العلاقة بينهما، لأنه أراد النجاح شخصياً في عقد هدنة توقف الحرب في غزة. لكنه سيعمل على ضم دول عربية إضافية للتطبيع مع إسرائيل في إطار اتفاقيات أبراهام من دون حل قضية فلسطين، وسيعترف بالمستعمرات والسيادة الإسرائيلية عليها، ولن يفيد تملقه سوى في كف الشر عن المتملِّق شخصياً، بحيث ينجو، وربما يُسمح له بأن يؤدي دوراً ضمن المخطط الأميركي، من دون تغيير قواعد هذا المخطط. هذه حدود النزوات الشخصية. كما أن ترامب يرى أن إعادة إعمار قطاع غزة يفترض أن يجري من منظور التطوير العقاري في منطقة شاطئية، الأمر الذي ربما يتطلب التشجيع على تقليل الكثافة السكانية. والمعنى واضح.
غير أن الرئيس الأميركي ليس قدراً ولا ظاهرة طبيعية. ولا يجوز التحدث عنه كأـنه كلي القدرة، إذ يكفي أن نتذكر أنه يتطرف لفظياً ويختبر ردات الأفعال ليقيس أفعاله، ويحسب ويتراجع أمام الصمود، ويتقدم ويطلب أكثر عند تراجع الطرف المقابل، وأن نتذكر أن لا مكان للأخلاق والاستعطاف الأخلاقي في عالمه، فهو يعتبر أن السلطة والثروة هما القيمة العليا والنجاح، وأن الضعف والعجز هما الفشل، إذ لا مكان للضعف عنده. وستظهر معارضات في الولايات المتحدة وفي كل مكان في هذا العالم، غير أن المجال هنا لا يتسع لتفصيل عناصر القوة في منطقتنا، والتذكير بأن العجز عن استغلالها في مواجهة الابتزاز ناجم عن طبيعة الأنظمة والصراعات فيما بينها، وأن تسوية هذه الصراعات تقلل من فرص الضغط والابتزاز.
الموقف الإقليمي
لقد أحرجت هذه الحرب النظام الرسمي العربي؛ أولاً، بسبب مشاعر التضامن الواسعة مع الشعب الفلسطيني على مستوى الرأي العام في جميع الدول العربية، وانتشار الإحباط من المواقف الرسمية العربية، والغضب على الحلفاء الدوليين لهذه الأنظمة، ولا سيما الولايات المتحدة التي دعمت الحرب الإسرائيلية على نحو مطلق؛ ثانياً، بسبب استمرار الحرب طوال هذه المدة من دون أن تتمكن إسرائيل من القضاء على المقاومة الفلسطينية، أو أن تحرر الرهائن بالقوة. صحيح أن الرأي العام العربي أيضاً عاجز وغير فاعل ومتسمّر أمام الشاشات الكبيرة والصغيرة، وتستهلكه وتستنزف مشاعره وسائل التواصل الاجتماعي وترهاتها التي تمحو الفرق بين عرض القضية واستعراض النرجسية الشخصية، إلّا إن حالة الغضب والاحتقان الشعبي غير قابلة للتجاهل، ولذلك عُقدت مؤتمرات على المستوى الرسمي أُلقيت فيها خطابات واتُّخذت قرارات جيدة ليست للتنفيذ.
وعلى الرغم من الحرج، فإن النظام الرسمي العربي استشعر باعثَين دفعاه إلى "الصمود" في وجه الغضب الشعبي، هما: أولاً، الحزم الإسرائيلي والإصرار على مواصلة الحرب حتى النهاية، بما في ذلك في لبنان؛ ثانياً، عدم تزعزع الدعم الأميركي لإسرائيل.
ولم يكن في وسع أولئك المحتارين الذين تتنازعهم الرغبة في القضاء على حركة المقاومة الفلسطينية، والتخلص من تحالفاتها الإقليمية، وإحراجاتها الموسمية من حرب إلى أُخرى من جهة، والرغبة في تخفيف وطأة حرب الإبادة الإسرائيلية تجنباً لاستغاثة النساء والأطفال من جهة أُخرى، إلّا الاعتماد على الولايات المتحدة في إيجاد تسوية لهذه المعضلات، والجَسر بين مختلف الإحراجات.
ثمة صيرورة جرت وشقت طريقها بعناد عبر هذه الفوضى، وهي الاندفاع الإسرائيلي غير الآبه بالنصائح الودية الأميركية، ولهاث الإدارة الأميركية خلفه. وبالنسبة إلى السياسي الذي يخلط بين البراغماتية والتحلل من القيم، فإنه ثبت في هذه الحرب أن إسرائيل فاعل سياسي إقليمي. وهناك احتمال في أن تقود هذه الصيرورة إلى التحول "البراغماتي" من الاعتماد على الولايات المتحدة إلى الاعتماد على إسرائيل في الصراعات الإقليمية، جزئياً على الأقل.
وتعمّقت هذه الصيرورة بإصرار إسرائيل على تحويل حرب الاستنزاف أو الإسناد التي شنّها حزب الله إلى حرب شاملة على المقاومة اللبنانية كانت تَعدُّ لها منذ سنة 2006. لقد أعاق خطاب "الانتصار الإلهي" استفادةَ حزب الله وغيره من دروس حرب تلك السنة، ومن ردات الفعل الإسرائيلية واستخلاص الدروس والعبر، والاستعداد لما هو آتٍ. لقد قادت سلسلة التفاعلات التي أطلقتها الحرب الأخيرة منذ 7 تشرين الأول / أكتوبر إلى انهيار محور المقاومة عملياً، وسقوط نظام الفساد والاستبداد في سورية، والذي كان على شفا الانهيار.
ومن المتوقع أن تتباهى إسرائيل أمام الأنظمة العربية بتخليصها من محور المقاومة، وبإيصال طموح "حماس" إلى ما هو أقل من العودة إلى ما قبل 7 تشرين الأول / أكتوبر، وبأنها جعلت إيران منشغلة بالدفاع عن نفسها في مواجهة تحريض إسرائيلي علني للولايات المتحدة بتوجيه ضربة عسكرية إلى إيران فتُكمل ما بدأته إسرائيل التي نهجت لها السبيل. هكذا تعرض إسرائيل الأمور.
وليس ضرورياً أن تستجيب الولايات المتحدة للوسواس الإسرائيلي في حالة إيران، لكن حتى لو رجَّحنا تفضيل إدارة ترامب التوصل إلى صفقة في ظل ظروف الضعف الإيراني، فإنها لن تكون صفقة تعيد إلى إيران دورها في قيادة محور إقليمي.
وفي انتظار تفاعل ردة الفعل العربية الشعبية على شرعنة دور إسرائيل الإقليمي، فإن العامل الأول في التصدي لهذه الصيرورة هو العامل الفلسطيني انطلاقاً من إعادة النظر في استراتيجيا المقاومة، من دون التخلي عن مقاومة الاحتلال ونظام الفصل العنصري، وابتداع أدوات نضالية جديدة وخطاب سياسي جديد ديمقراطي يواكب التطور داخل المجتمع الفلسطيني وأجياله الجديدة الصاعدة، وينسجم مع الأوساط الدولية المتعاطفة مع قضية فلسطين، ويتمسك بالعدالة المتمثلة في التحرر من الاحتلال. فمن دون ذلك لا أرى حالياً نفقاً، ولا حتى الضوء في نهايته؛ وعلينا، عرباً وفلسطينيين، أن نضيء طريقنا نحو المخرج بأنفسنا.
* هذه المحاضرة هي المحاضرة الافتتاحية لـ "المنتدى السنوي لفلسطين 2025 (الدورة الثالثة)"، والذي أقيم في الدوحة – قطر في 25 كانون الثاني / يناير 2025، واستمر ثلاثة أيام.