Roots Deep in the Land Facing the Storm
Date: 
March 20 2025
Author: 
blog Series: 

مع الحرب الوحشية التي عشناها في غزة، نشأت معاناة لا توصف، إذ اضطررنا إلى النزوح نحو أماكن يُفترض بها أن تكون إنسانية وآمنة، لكنها في الحقيقة تفتقر إلى كل مقومات الحياة الإنسانية، فهي امتداد أرض فقدت كل معالم الأمان، وغرقت في القهر اليومي. لكن الفلسطيني الذي يتعرض للقتل والتهجير والموت لا ينكسر، إنما يمارس حقه في الحياة تحت شبح الموت؛ فيفرح، ويحزن، ويتعلم، ويزرع الأمل في وقت تصادَر فيه الحياة. لكن بعيداً عن هذه اللحظات العابرة، ما يعيشه الفلسطيني هو معركة مستمرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى وجرح.

منذ وطأت أقدامنا هذه الأرض، تشكلت فكرة الأرض في الوعي الفلسطيني مقدسةً لا يمكن التفريط بها، فكتبنا لها قصائد بالدم، ولا يمكن أن يُجلى منها الفلسطيني مهما تكن تحديات البقاء، فكل ما مر به من تهجير ودمار هو جزء من معركة وجودية، وهذه هي الحقيقة التي يدركها الفلسطينيون جيداً.

ويعلّمنا التاريخ أنه لا يمكن فصل الفلسطيني عن أرضه، وهجرة البعض في فترات معيّنة ربما تكون نتيجة الأوضاع القاسية، لكنها لا تعني أن الفلسطيني سيتخلى عن جذوره العميقة، والعصية على الاقتلاع من الأرض التي زُرعنا فيها وعشنا تحت سمائها، ورسمنا عليها حكايات المقاومة والصمود. والناس الذين عادوا إلى بيوتهم في مناطق متعددة من قطاع غزة لم يعودوا ليعيشوا حياة عادية، إنما ليصمدوا ويقاوموا فوق ركام منازلهم، مع أنهم يعيشون تحت سقف ربما يسقط في أي لحظة. هؤلاء الناس لا يتركون الأرض ولا يرحلون، ويتمسكون بما تبقّى لهم من ذكريات وجذور، وها قد قبضوا عليها وكأنهم يقبضون على جمر من العذابات.

هل يمكن لهؤلاء أن يرحلوا؟! طبعاً لا. في أعماقهم يكمن إيمانهم العميق بأنهم أبناء هذه الأرض، وأن الحرب التي شُنت عليهم لن تنجح في اقتلاعهم منها. هكذا كان الفلسطينيون عبر العصور؛ يواجهون التهجير والموت أملاً منهم بالعودة والبقاء. فكيف يتوقع العالم منا أن نغادر ونحن نعلم جيداً أن هويتنا هي هذه الأرض؟!

أنا أحد شعراء الجذور، وحين أكتب، أمزج الأرض بالدم، فتصير السنابل شهوداً على الحكايات المنسية، وفي هذا السياق، تتجلى كلماتي، ويصبح الحصاد فعل تحدٍّ، وتتحول الأرض إلى نص مقدس يضيء درب الحرّية:

"يا وطني

دمي بعدَ السنابلِ يضيءُ الشمس

وطينُ البلادِ يفجرُ ينبوعاً حيثُ نمشي

نحن أنبياءُ السلام

قمحُ الأرضِ المقدس يحبُّنا ..

أغنياتُ الحصادِ تبتزُ أعداءَنا

وتجمعُ شملَ الزعترِ البلدي. "

لنعد إلى الحديث عن حربنا المسعورة؛ هذه الحرب التي جعلتنا نعيش في دائرة من الألم والدمار المستمرَين، وبين انتفاضة وأُخرى، وهجوم وحصار، ولعل ما يزيد من معاناتنا هو تلاعب الأطراف الدولية بمصيرنا، وعلى رأسهم الإدارة الأميركية الجديدة، بقيادة دونالد ترامب، والتي لم تخفِ انحيازها التام إلى إسرائيل، وقد حاولت فرض حلول لا تمتّ للعدالة بصلة؛ فتصريحات ترامب تدعو إلى تهجير الفلسطينيين إلى دول أُخرى، مُنكراً بذلك تاريخنا الطويل على هذه الأرض، وحقوقنا المشروعة في العيش بحرّية وكرامة.

لقد أصبح من الواضح أن ترامب لا يسعى لتحقيق السلام، إنما إلغاء وجودنا على هذه الأرض، فدعوته المتكررة إلى تهجير الفلسطينيين هي مثابة إعلان تخلّي الإدارة الأميركية عن خيار حل الدولتين، وهو الخيار الذي كان حتى وقت قريب يُعتبر مخرجاً للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لكن هذه الدعوات لم تجد صدى في الشعب الفلسطيني، الذي يعلم تماماً أن الأرض هي حقه الأبدي، وأنه لن يتنازل عن هذا الحق مهما تكن الأوضاع.

إن الحرب ليست معركة عسكرية على الأرض فقط، بل أيضاً هي حرب وجودية ضدَّ الوعي الفلسطيني، تُفرض على الفلسطينيين مواجهة كل أشكال القمع والتشريد والموت. لكن يظل البقاء هو الخيار الأوحد، ولن يرضخ الفلسطينيون للتهجير أو لفرض الحلول الجائرة عليهم.

إن الصراع من أجل البقاء هو أكبر معركة نخوضها، إذ يجعلنا نواجه تحديات عديدة على الصعيدين الداخلي والخارجي؛ فالوضع الداخلي في غزة، مع صعوبة الأوضاع، لا يزال يمثل أملاً في استعادة حقوقنا، على الرغم من التدمير، ومواجهة كثيرين المصاعب في الحصول على أبسط مقومات الحياة، لكن الوحدة الوطنية هي السبيل الوحيد لمواجهة هذا التحدي. وإذا كانت الحرب على الأرض إحدى أسوأ مآسينا، فإن التحدي الأكبر يكمن في التمكين السياسي والتنسيق العربي والضغط على المجتمع الدولي لدعم حقوق الفلسطينيين.

وتمثل منظمة التحرير الأمل الأخير في الحفاظ على الهوية الفلسطينية وتحقيق العدالة، لكننا في حاجة إلى الضغط على الجميع لتمكين مؤسساتها لتؤدي دورها الفعال في التفاوض والدفاع عن حقوقنا، وخصوصاً في ظل الأوضاع الحالية التي يسعى فيها البعض لإعادة رسم خريطة المنطقة على حساب حقوق الفلسطينيين.

وفي النهاية، لا بد من أن نعرف أن الحرب على فلسطين ليست حرباً على الأرض فقط، بل أيضاً على الذاكرة والهوية؛ فالفلسطيني الذي فقد بيته، فقد جزءاً من روحه، لكنه في الوقت نفسه يظل متمسكاً بالأمل.

لن يرضى شعبنا، على الرغم من كل ما مر به، بأن يترك أرضه، إنما سيبقى صامداً، حتى إذا كانت الأرض قد فقدت الكثير من ملامحها.

نحن هنا، لن نغادر، ولن نستسلم، والأرض الفلسطينية ستظل في الوعي الفلسطيني مقدسةً، ولا تقبل التأويل.

From the same blog series: Genocide In Gaza, Letters from Gaza

Read more