في منزل جميل وبسيط في مخيم الأمعري في مدينة البيرة، حيث تدور الحياة بين أزقة ضيقة، والعزيمة تبقى أقوى وتفرض وجودها، كان اللقاء مع الأسير المحرَر محمد براش. وداخل هذا المنزل الذي يعج بالذكريات والآلام، والذي تحمل جدرانه عبق الماضي، يجلس محمد براش الذي عانى طوال 22 عاماً في سجون الاحتلال، ويجد نفسه في لحظة غريبة، واقعاً بين آلام التجربة وبهجة الحرّية.
محمد، الذي تحرر في صفقة التبادل بين المقاومة والاحتلال، خرج من السجون في لحظة كان ينتظرها هو وكل أسير فلسطيني، لكن حتى بعد أعوام طويلة من المعاناة، ظل في قلبه الأمل لا ينطفئ، وظلت روحه المرحة ملهمة للأسرى الذين معه في الزنازين. لقد وُصف محمد بـ "صاحب الظلمات الثلاث":[1] ظلمة الليل، وظلمة السجن، وظلمة عينيه، لكنه كان يبصر بنور قلبه. فهل يمكن للظلمات أن تطفئ الشعلة التي تنبع من أعماق الروح؟
قصة النضال والمعاناة
في 17/2/2003، تم اعتقال محمد براش[2] بعد أن تعرض لإصابة بليغة خلال محاولة اغتيال استهدفته من جانب قوات الاحتلال في نيسان/أبريل 2002 بقذيفة أنيرجا، الأمر الذي أدى إلى بتر ساقه اليسرى وفقدانه بصرَه في عينه اليمنى. لكن على الرغم من الجروح الجسدية العميقة، فقد ظل محمد يحمل داخله أملاً أكبر من كل القيود.
داخل سجون الاحتلال، كانت الأيام تمر ثقيلة على محمد، لكن لم يستطع السجانون أن يسرقوا منه روحه المقاوِمة، فكان السجن بمثابة مدرسة أُخرى، تعلم فيها معاني الصبر والصلابة. وفي تلك الزنازين المعتمة، حيث كان كل يوم يشبه الذي قبله، كان محمد يحاول أن يوجِد لنفسه مساحة من الضوء، فكانت ضحكاته تتردد بين جدران السجن، مقاوِمة فكرة أن القيود يمكن أن تكبل الروح. هل يمكن أن تجد الروح عزاءها بين حوائط باردة؟ أمّا محمد، فقد فعلها.
لحظة الحرّية: النضال وراء القضبان
"كالعادة، كنت أستيقظ صباحاً وأمسك بالبرش، لكن في صباح اليوم التالي للحرّية، وكانت أمي إلى جانبي تطالبني بأن أنهض، فرفعَت يدها لتمسك بي. وعندما اكتشفت أنني في البيت، ضحكت بكل قوة. لم أصدق أنني في منزلي أخيراً بعد كل تلك الأعوام الطويلة. "
هذه كانت لحظات محمد الأولى بعد الإفراج عنه؛ لحظات عاطفية مملوءة بالفرح الذي طال انتظاره. لقد عاد براش إلى مكانه الطبيعي، حيث لا قيد يُفرض عليه، ولا جدران حديدية تكبل حرّيته. لكن لحظات الحرّية الأولى كانت مملوءة بالأمل، إذ انتقل من ظلام السجن إلى نور الحياة من جديد، وكان ذلك الانتقال بمثابة ولادة جديدة، ليس لجسده الذي تحرر فحسب، بل أيضاً للروح التي نمت بين الزنازين.
لحظة التحرر: معركة بين الحياة والموت
تحدّث محمد عن لحظة الإفراج عنه قائلاً: "في صباح يوم السبت، كنت قد استيقظت كالمعتاد، وجاءت لحظة التبادل بين الأسرى. كانت الأسئلة تدور في عقلي: مَن سيكون حراً اليوم؟ ومَن سيبقى؟ ماذا سيكون مصيرنا؟ بدأت التوترات تتصاعد مع اقتراب لحظة الحقيقة. "
ثم أضاف: "بينما كنت جالساً على البرش،[3] كانت السجانة تواصل صراخها في وجهنا بصوت مرتفع ومهين، محاوِلة إهانتنا كما جرت العادة، وكنت قد تعودت على إهانتهم، لكنني كنت أترقب وأنتظر لحظة الإفراج، وإذ بصوت السجانة يسأل: ’أين محمد؟‘، فعرفت حينها أن اللحظة قد حانت. "
في تلك اللحظات العصيبة، تم تقييد يديه بالأصفاد، لكن قلبه كان يرقص على أمل أن ينقضّ على الحرّية. وطلب محمد، الذي كان يعاني جرّاء إصابته، من السجان أن يرافقه أحد الأسرى لكي يساعده في السير، فكان الأسير عيسى البطاط،[4] الذي رافقه طوال الطريق إلى الحرّية. وذكر محمد كيف كانت تلك اللحظات بمثابة الخروج من القبر، إذ شعر وكأن حياتهم كانت محبوسة في سجن من الظلام حتى جاء نور الحرّية ليغمرهم.
الصفقة وانقسام الأسرى: لحظات الألم العميق
كانت لحظة الإفراج مملوءة بمشاعر مختلطة. وفي هذا الصدد، قال محمد: "في تلك اللحظات، بدأ الاحتلال في تقسيمنا، ولم يقسموا العدد فحسب، بل أيضاً قسموا الروح؛ فهناك من نال حرّيته، لكن هناك أيضاً من بقي في السجون. لا يمكن أن تشرح مشاعر الأسرى الذين لم يتم الإفراج عنهم، فالأمر كان أشبه بقسمة الروح بيننا. "
لقد كانت صفقة التبادل فرصة لكثير من الأسرى للعودة إلى أحضان أُسَرِهِمْ، لكن وراء هذه الفرحة كانت خيبات الأمل تتسلل إلى القلوب، لأنهم يعلمون أن العديد من رفاقهم لا يزالون يقبعون في الزنازين. هل يمكن للحرّية أن تكون كاملة حينما تبقى أجزاء من الروح حبيسة الجدران؟
الواقع الجديد بعد حرب 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023
تركت حرب 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، التي هزّت العالم بأَسْره، آثاراً عميقة في الفلسطينيين بصورة عامة، وفي الأَسْرى بصورة خاصة، فقد شهدنا تصاعداً في المعركة من أجل الحرّية، وأصبح صوت الأَسْرى أكثر إصراراً. وبعد الحرب، تبدل الواقع، وكان للأَسْرى الذين أُفرج عنهم دور مهم في التفاعل مع الأحداث المتسارعة في الساحة الفلسطينية.
وكان محمد براش بين أولئك الذين شهدوا هذا التغيير، فقال: "ما بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 2023 كان مختلفاً. شعرت بأنني عدت إلى حياتي، لكن مع مزيد من المسؤولية، ومزيد من الحذر. لم يكن الأمر كما كان سابقاً، فقد كانت قلوبنا مشغولة بتكريس الجهود نحو تعزيز وحدة شعبنا." وبينما يبدو هذا التحول في الحياة وكأنما هو مجرد ردة فعل على الأحداث، يشير محمد إلى حقيقة أعمق: "لقد أصبحنا أكثر إدراكاً للحرّية ومعناها، وكيف يمكن أن تكون مسؤولية."
رسالة من الأسير المحرر
في ختام حديثه، وجّه محمد رسالة إلى أبناء شعبه: "علينا أن نتكاتف جميعاً، ونكونَ يداً واحدة في مواجهة الاحتلال. أتمنى أن يعيش شعبنا في سعادة وأمان، وأن تكون فلسطين أرض السلام. أتمنى ألاّ أرى أُمّاً تسافر لزيارة ابنها في السجون، أو جريحاً في شوارع وطننا، أو شهيداً في منزلنا. "
وبينما كان محمد يروي قصته، كانت عيناه تحملان نظرة تنم عن إصرار وعزيمة لا حدود لهما، وعن حلم كبير بالحرّية والسلام. وعلى الرغم من الجروح التي حملها جسده، فإن روح الحرّية التي كان يحملها كانت أكبر وأقوى من أي ألم. في نهاية المطاف، تبقى الحرّية حلماً مشتركاً، وشعلة لا تنطفئ في قلوب هؤلاء الذين يعيشون على أمل أن تعود الأرض إلى أصحابها، وأن تتحرر الأرواح من قيود السجون، ليكون للأمل مكان في حياة جديدة.
[1] "صاحب الظلمات الثلاث حراً بعد 22 عاماً"، "يوتيوب"، 20/2/2025.
[2] الأسير المحرر محمد براش: تم اعتقاله في 17/2/2003، وحُكم عليه بالسجن المؤبد 3 مرات، وكان يتنقل داخل السجن على كرسي متحرك، إذ يعاني جرّاء بتر في قدمه اليسرى، بالإضافة إلى صعوبة في السمع في إثر مشكلات في الأذن، فضلاً عن فقدان عينه اليمنى البصر بالكامل في إثر إصابته خلال انتفاضة الأقصى، بالإضافة إلى صعوبات في الرؤية بالعين اليسرى.
[3] البرش: عبارة عن السرير الذي ينام عليه الأسير، وهو ليس كالأسرّة المعروفه، ويتكون من طبقتين.
[4] الأسير المحرَر عيسى البطاط: تم اعتقاله في شهر حزيران/يونيو 2003. تعرّض للمطاردة قبل اعتقاله لمدة عامين، ولاحقاً واجه تحقيقاً قاسياً وطويلاً، وحكم عليه الاحتلال بالسجن المؤبد 3 مرات و40 عاماً، وخلال أعوام أَسْرِه، حصل على شهادة الماجستير في الدراسات الإقليمية، وتحرر ضمن صفقة التبادل بين فصائل المقاومة والاحتلال في 8 شباط/فبراير 2025.