In Gaza, "How Difficult Life Would Be Without Hope"
Date: 
February 28 2025
Author: 
blog Series: 

في غزة، لا يمكن التفكير في المستقبل بالمنطق نفسه الذي يفكر فيه بقية العالم، فالزمن هناك ليس خطاً مستقيماً تملؤه الطموحات والخطط، إنما هو سلسلة من اللحظات التي نتربصها وتتربصنا، ربما يُنتزع بعضها فجأة في ظل حرب الإبادة المستمرة "بوسائل أُخرى" بعد أن هدأت نيران المدافع والطائرات. فالحرب لم تترك مساحة لتوقُّع الغد، ولم تُبقِ للناس رفاه التفكير البعيد المدى.

كيف يفكر المرء في مستقبل لم يعد ملكاً له؟ وكيف يعيد البناء في مكان يمكن أن يدمَّر مجدداً، فيعود إلى الصفر الذي طالما بدأ وعاد إليه؟ وحتى لو عاد البناء، فربما يهدَم من جديد، وفي هذه الدائرة المفرغة يجد الناس أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مرّ: إمّا أن يسعوا جاهدين للتأقلم مع هذا الواقع ويحاولوا النهوض من جديد، وإمّا أن يموت الأمل في قلوبهم ويستسلموا للفناء أو مخططات التهجير.

وبين هذا وذاك، نَمت لدى الناس نزعة صوفية تتجلى في استيعابهم للواقع وتصوراتهم للحياة. فهناك تجد الكثيرين يبحثون عن ملاذ يحميهم من الانهيار النفسي، متسلحين بإيمانهم بالقضاء والقدر، ومقتنعين بأن الله قد كتب وقدّر كل ما مرّ عليهم وما سيمر، ويرَون أن ما يجري خارج نطاق سيطرتهم ليس إلاّ تجلياً لمشيئة إلهية يمكن أن تخبئ في طياتها خيراً على الرغم من قسوة الواقع، فما السبيل لعيش هذا الواقع وسط هذا الكم الهائل من الفقد والتحديات؟ وهي حالة بشرية طبيعية في مواجهة الخذلان، فبعد مرور 15 شهراً من الإبادة الجماعية للبشر والشجر والحجر التي جرت على مرأى العالم من دون أن يحرك ساكناً، من الطبيعي أن يفقد الناس أي أمل في الأمور المادية أو أن يعوّلوا على قوة بشرية لإنقاذهم من هذا "الجنون".

المستقبل بعيد ومجهول..

في منزل يعج بالنازحين، حيث يبحث كل منهم عن زاوية يعتقد أنها ستمنحه الشعور بأنه في عالمه الخاص، نجت شروق العيلة، الصحافية وزوجة الشهيد الصحافي رشدي السراج الذي استشهد خلال الحرب، هي وطفلتها من موت محقق بجروح طفيفة، وتتحدث عن المستقبل بنبرة تحمل الحيرة والدهشة وكأنما سُئلت عن أمر غريب نسِيه الجميع في غزة، إذ قالت بصوت متعجب: "المستقبل؟!" وكأنها تسمعها للمرة الأولى: "أنا الآن في عملي، وعندما أُطرف عيني إلى جدول الأسبوع المقبل أشعر بتوتر عميق، فالمستقبل بالنسبة إليّ بعيد ومجهول، إذ إن الحرب جعلتنا نعيش كل يوم وكأنه آخر لحظة، فلا نضمن لليوم التالي وجهاً مألوفاً. أنا لا أزال تحت تأثير هذا الهاجس، ولا أستطيع التفكير في المستقبل. أصبحت كلمة المستقبل بمنزلة الصفر؛ غموض بكل ما تعنيه الكلمة، وفكرة غدٍ أفضل هي مجرد خرافة. ليس الأمر تشاؤماً بقدر ما هو واقع صعب يُفرض علينا، فكل شيء يتغير في لحظة، والأمل الذي كان يرافقنا اختفى وسط التقلبات. وعندما يسألني أحدهم عن خططي للمستقبل أو الغد، فإنني لا أستطيع الإجابة، بل أيضاً لا أستطيع تخيل وجود غدٍ أصلاً." وتشارك المهندسة إسراء فروانة، مسؤولة فريق "سنابل" الإغاثي، والإنسانة التي كرست نفسها وفريقها من أجل إغاثة مدينتها، الرأي ذاته مع شروق، ولم يكن صوتها يختلف كثيراً؛ فإسراء التي نجت من الموت بأعجوبة جرّاء قصف استهدف منزلها وأدى إلى استشهاد إخوتها وجرحها هي ووالديها تصف بواقعية شديدة كيف تغيرت الدنيا حولها: "قبل الحرب، كنا نفكر في كيفية تطوير أنفسنا، وكيفية تحقيق النجاح، أمّا اليوم، فقد بدأنا من الصفر، ونُعيد التفكير في أبسط الأمور؛ كيف نؤمّن طعاماً وماءً، وكيف نجد مأوى لنحمي أنفسنا من البرد والموت؟ لقد فقدنا رفاه التفكير في المستقبل كما تعوّدنا من قبل."

أيضاً، فإن الصحافية والباحثة هداية التتر تشاطرهما الرأي نفسه، فقد فقدت منزلها ونزحت أكثر من 24 مرة لتعيش فيما تبقّى من بيت العائلة وتكمله بخيمة تستوعب مَن بقي من أفراد الأسرة: "المستقبل صار متغيراً، فقد كنا نحلم بأشياء كثيرة على الصعيد الشخصي وبأمل تحقيق إنجازات علمية، لكن الآن أصبح تحقيق تلك الأحلام صعباً في ظل انقطاع الكهرباء والإنترنت والأوضاع المعيشية القاسية." فهي على المستوى الشخصي فقدت الكثير من الفرص لتحقيق طموحها وأحلامها جرّاء حرب الإبادة وما فرضته من واقع مأساوي على الجميع، ولذلك فقدرتها على التفكير في المستقبل باتت ضرباً من الترف.

أمّا أمير الوادية، مدير الإنتاج في شركة إسكمو الأمير التي تعدّ من أكبر شركات صناعة المثلجات في القطاع، فيصف الواقع من تجربة شركتهم العائلية التي دُمرت خلال الحرب، قائلاً: "نحن نعيش في واقع مختلف عن أي مكان آخر في العالم. فالتفكير في المستقبل لم يعد رفاهاً، إنما بات ترفاً لا نملكه، لأنهم لم يتركوا لنا حتى الحاضر لنتشبث به."

الحرب أعادت الجميع إلى نقطة الصفر

وفقاً لتقارير الأمم المتحدة، فإن فكرة الحياة كما كانت تُعرف سابقاً باتت صعبة التخيل في قطاع دُمِّر فيه أكثر من 150,000 وحدة سكنية بالكامل، وتضررت 200,000 وحدة أُخرى، إلى جانب تدمير كل مقومات الحياة وبناه التحتية، وخسر الناس كل مصادر رزقهم ومشاريعهم وما بنوه على مدار عشرات الأعوام، إلى جانب الخسائر الأكثر فداحة والتي يستحال تعويضها، وهي الخسائر البشرية، إذ إن فقدان كل شيء لا يُعد مجرد خسارة مادية، بل أيضاً هو انفصال عن الجذور التي تُشكّل الهوية والانتماء والذكريات.

تختصر شروق العيلة بصوت يغلبه الإرهاق، قائلةً: "الواقع قاسٍ. مجرد الخروج إلى الشارع معاناة، والطرقات مدمرة، والركام في كل مكان، حتى البحر لم يعد ملاذاً." أمّا أحمد أبو رتيمة، الكاتب الفلسطيني الذي فقد ابنه في قصف مباشر على منزله ونجا من الموت بأعجوبة، فقد علّق قائلاً: "كان لديّ منزل، وطفل، وحياة مستقرة. أمّا الآن، فلا شيء من ذلك موجود."

ومن جهته، يرثي أمير الوادية مصنعه ومحلاته التي كانت تعجّ بالزبائن، ويقول: "لم يعد لدينا مستقبل لنتحدث عنه. في الحروب السابقة، كانت الخسائر جزئية، وكنا ننهض مجدداً. أمّا اليوم، فقد خسرنا كل شيء: المصنع، والمحلات، والمعدات، كما ضاعت خمسون عاماً من العمل في لحظة."

وعلى الرغم من أن منزل العائلة لم يُدمر بالكامل، فإن خسارتهم الكبرى لم تكن مجرد سقف وجدران، بل أيضاً المشروع الذي حمل اسمهم لعقود: "خسرنا مصنعنا، ومحلاتنا، ومعدّاتنا، وسياراتنا، وكل شيء. هذه ليست مجرد أملاك، بل هي أيضاً حياة بنيت لبنةً لبنةً، ثم اختفت فجأة." ووسط هذا الدمار، لم تعد تحديات الحياة تتعلق بالحرب فحسب، بل أيضاً بالحصار، وانقطاع الكهرباء، وصعوبة التصدير، وشح المواد الخام، وبعالم لا يفكر في غزة إلاّ حين تشتعل فيها النيران.

إن أعادوا إليك المقاهي القديمة، مَن يعيد إليك الرفاق؟

إن الخسارة لا تُقاس بما يمكن أن يُعاد بناؤه فحسب، بل أيضاً بما لا يمكن تعويضه واسترجاعه. وفي هذا السياق، تصف شروق العيلة هذه الخسارة، قائلةً: "حتى لو أعادوا إليّ بيتاً أجمل من بيتي، فلن يكون كبيتي الأول، فقد نقشت تفاصيله مع رفيقي رشدي الذي تشكِّل خسارته خسارةً لا تُعوَّض، ففي نظري، لا يمكن أن تنجب امرأة زوجاً كرشدي، ولا يمكن لأحد تعويضي عن أجمل أيام عمري التي أبادتها الحرب وقتلت معها صاحب تلك الأيام وروحها وحرقت حتى ما تبقّى من ذكريات تجمعنا." وتشاطرها إسراء فروانة الألم قائلةً: "إن إعادة البناء ربما تُصلح بعض الجدران، لكنها لن تُعيد مَن رحلوا. ويمكننا أن نبني، وأن نحاول، لكننا نعرف أن هذا البناء سيكون دائماً ناقصاً، لأن تفاصيل الحياة التي سُرقت منا لا تُشترى ولا تُعاد."

كما يرى أحمد أبو رتيمة أن: "خسارة المنزل لا تعني فقط فقدان قيمة مادية، بل أيضاً فقدان السكينة والاستقرار. وعندما يفقد الإنسان بيته، يشعر وكأنه بات يطفو على الماء بعد أن كان يستند إلى أرض صلبة. فهذه التجربة تضع الإنسان في مواجهة مباشرة مع هشاشة الحياة، وتجعله يعيد تعريف معنى الأمان والاستقرار."

أمّا أمير الوادية، فيرى أنه كان يمكن تعويض الخسائر في حالة حرب كالحروب السابقة، والبناء مجدداً، وقد حدث ذلك فعلاً، لكن حجم الدمار هذه المرة ليس مجرد حجر يسقط، بل أيضاً حياة بأكملها تُمحى، إذ يقول بصوت متعب: "حين يفقد الإنسان منزله أو عمله، فهو لا يخسر مجرد أملاك مادية، بل أيضاً يخسر أعواماً من الجهد، والسهر والتعب، ومن الأمل الذي كان يكبر معه في كل لبنة يضعها. فالجميع يرى النتيجة، لكن لا أحد يرى الصعوبات التي سبقتها. وقد أسقطت هذه الحرب كل المعادلات، وجعلت حتى الأمل أكثر صعوبة." ويتابع أمير، قائلاً: "العيش هنا له ضريبة ندفعها من استقرارنا، ومن كل ما اعتقدنا أنه سيدوم. فالإنسان بطبيعته متعلق بما يبنيه، ويصنعه بيديه، وعلى الرغم من ذلك، فنحن لا نكفّ عن حب الحياة، ونحاول التمسك بها قدر استطاعتنا. لكن لا يمكن اعتبار الخسارة شيئاً عابراً، لأننا نعيشها بكل تفاصيلها القاسية."

إن إعادة الإعمار ليست مجرد إعادة بناء منازل، بل هي أيضاً استعادة للأمان، والحياة، والهوية. وتقول شروق العيلة: "صحيح أن المنزل لن يعوّض بأي شكل من الأشكال، لكنني أريد على الأقل أن أعيش في مكان يمنحني إحساس الحياة، لا أن أبقى في خيمة. إذ أفضّل أن أبكي على أطلال منزلي بينما أعيش في بيت آمن، على أن أبكي عليه وأنا في خيمة. أؤمن بأن التغيير ربما يأتي فجأةً، وبمجرد بدء إعادة الإعمار، ستتغير الحياة كلها. فالأمل الوحيد هو في وجه الله، وكل ما هو قادم في يده وحده."

أمّا شروق العيلة، فلا تعتبر بقاءها في غزة تأقلُماً مع الخسارة، إنما إيماناً يمنحها القوة. وتتابع: "لو كنت ناقمة على غزة، لما بقيت لحظة، لكنني أؤمن بأن الله كتب لنا هذا القدر، وهو وحده مَن يخفف مصابنا. أدعو الله أن يستخدمنا في إعمارها، فهذا شرف لا يُعطى إلى الجميع." وتستكمل: "ربما يرى البعض كلامي بعيداً عن الواقع، لكنني مؤمنة بأن ما يجعل الإنسان ثابتاً وسط العواصف هو الإيمان." وتضيف: "ربما لست متدينة كما يجب، لكنني مؤمنة بأن الله اختار لنا هذا الطريق بحكمته، وأنه سيجعلنا أهلاً له."

الأمل الذي لا يفارق الناس

على الرغم من كل شيء، فإن غزة لا تتوقف. فتعود وسط الدمار بعض المحلات إلى العمل، ويُعاد فتح الأسواق، ويُحاول الناس التمسك بما تبقّى من الحياة. يقول محمود العامودي الصحافي والناشط الذي بقي في شمال غزة على الرغم من الدمار: "الناس هنا لا يُكسرون، وعلى الرغم من كل شيء، فسوف تجد مَن يُعيد فتح متجره، ومَن يُعيد طلاء جدار منزله المُدمّر، ومَن يُصلح نافذته على الرغم من أنه ربما يفقدها مجدداً. نحن لا نعيش لأننا اعتدنا الحرب، إنما لأننا نؤمن بأن الحرب لن تأخذ كل شيء." 

وتقول شروق العيلة: "كثرة الخسارات جعلتنا نعيد التفكير في قيمة الأشياء. لو كنت سأبقى في غزة، فعليّ أن أهيئ نفسي لإعادة البناء، مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل شيء يمكن أن يضيع مجدداً. وعلى الرغم من ذلك، فأنا لا أفكر في الخروج منها، فأنا أحبها، إنما أنا متجذرة فيها. قبل الحرب بأيام قليلة، كنت مع زوجي الشهيد رشدي في رحلة عمل خارج غزة، وكان من المفترض أن تستمر لشهرين، وعندما اندلعت الحرب، في 7 تشرين الأول/أكتوبر، قررنا أنا ورشدي العودة فوراً ومن دون تردد للحظة، لكي لا نكون خارج الوطن في لحظات كهذه، وعلى الرغم من أنه عرض عليّ، حرصاً منه على حياتي، أن أبقى أنا وطفلتنا، فإنني لم أستطع أن أترك غزة في هذا الوضع وحدها، ولا أن أترك زوجي يعود وحده. فكان قرارنا مشتركاً."

ويؤكد محمود العامودي أن الأمر لا يتعلق بالخسائر المادية فحسب: "لا يمكنك أن تعيش في غزة من دون أن تؤمن بأنك في أرضٍ تحتاج إليك، تماماً كما يتأقلم اليابانيون مع فكرة أن بلدهم أرض زلازل وكوارث. نحن نؤمن بأننا في رباط، وهذا يجعلنا نفكر دائماً في البناء، والغرس من جديد، حتى لو بدا ذلك مستحيلاً."

ويضيف أحمد أبو رتيمة: "حين تخسر كل شيء، يصبح لديك إدراك مختلف للحياة. فكيف يمكن أن تخاف من الخسارة بعد أن خسرت أعظم ما لديك؟ لهذا، تجد أن الناس هنا لا يتراجعون عن البناء، وعن إعادة المحاولة، لأن البديل الوحيد هو الفناء."

الأمل ليس فكرة رومانسية، إنما وسيلة للبقاء. وتقول إسراء فروانة: "ربما يبدو الأمل ساذجاً في مكان كهذا، لكننا لا نملك بديلاً. فالأمل عندنا ليس في وعود دولية، ولا في خطط إعمار، إنما في أن نرى الحياة تعود، ولو ببطء، في عيون مَن تبقّى."

ويؤكد أمير الوادية: "ربما لا نعرف كيف سيكون الغد، لكننا نعرف شيئاً واحداً؛ لن نبقى تحت الركام." ويتفق معه أحمد أبو رتيمة في قوله: "الحياة لا تعود كما كانت، لكننا نحن مَن يقرر كيف نعيش ما تبقّى منها. فالألم يعلّمنا، والخسارة تحررنا، والصمود يجعلنا أكثر إدراكاً لقيمة الأيام التي بقيت لنا. ربما فقدنا الكثير، لكننا كسبنا شيئاً لا يُقدَّر بثمن؛ القوة الحقيقية في مواجهة الحياة." إسراء فروانة بدورها لا ترى الحياة في غزة خسارة، فتقول: "الوضع الراهن أجبرنا أن نعاند، وأن نجبِر أنفسنا على البقاء. قد يكون العناد هو الوجه الآخر للأمل." وهو ما أكده أبو رتيمة حين قال: "لقد رأينا أشخاصاً عاشوا في بيوت فارهة، ثم وجدوا أنفسهم يسكنون في خيام، ولم يكن أمامهم خيار سوى التكيف والصمود، لأن البديل هو الموت."

تقول شروق العيلة: "نحن لا ننتظر الحياة، نحن نصنعها." هذا هو ملخص الحياة في غزة اليوم؛ إن الناس لا يُخططون لغد مجهول، إنما يعيشون يومهم بكل تفاصيله، لأن الغد يمكن ألاّ يأتي كما يريدون.

From the same blog series: Genocide In Gaza

Read more