Daily Life in Gaza
Date: 
February 25 2025
blog Series: 

لا يمكن وصف المعاناة التي يتعرض لها المواطن الفلسطيني في قطاع غزة بعد حرب الإبادة التي مضت، إذ تعطل كل شيء وبات السبيل إلى شرب الماء أو تناول كسرة خبز يأتي بشق الأنفس، مع تدمير كل مقومات الحياة، ومنع إدخال رافعات الركام من المعدات الثقيلة، والتلكؤ في تنفيذ البروتوكول الإنساني المتفق عليه، إلى درجة صار فيها الواحد منا يبكي عجزاً وقهراً.

في شمال غزة، حيث صارت ملامح الحياة تشبه العدم، يحاصرك الدمار من اتجاهات الأرض الأربعة؛ إذ باتت هناك عمائر تشبه قطع البسكويت وقد سقطت الشقق فوق بعضها الآخر، والشوارع ملأى بالركام من الجانبين، وبين كل هذا يبحث بعض الرجال في جوار البيت عن "غاطِس" لبئر ماء، كان ثمنه قبل المقتلة أقل من 250 دولاراً، وبات اليوم يساوي ألفَي دولار على الأقل، ويحاولون الانبعاث من الرماد، وهناك يحمل شبان بعض ألواح الطاقة الشمسية المتكسرة من أجل تشغيلها واستثمار كل واط منها في شحن هاتف أو لابتوب. وهناك يصعد رجل تجاوز الخمسين من عمره أعلى مبنى كبير، يحمل باباً ضخماً من الحديد برفقة ابنه، ويحاولان النزول به من فوق تلك الحجارة المتناثرة، في الوقت الذي تجلس فيه فتاة في مقتبل العمر برفقة أمها تبحثان عن ملابس وأغطية بين ثقوب داخل كومة أُخرى من الركام، وبين كل هذا يصعد أطفال ورجال يبحثون داخل العمائر عن قطع خشب تصلح لإغلاق شبابيك أو أبواب لأشباه البيوت. حالة السعي غير مسبوقة بين كومات من الحجارة، وفي البعيد، يتراءى لك مشهد مقدس، يعمل فيه الجميع بجد، وبلا كلل، في الدفاع عن الأسرة ببناء غرفة أو إغلاق أُخرى بشادر تم استلامه من المساعدات التي جاءت من الأمم المتحدة، أو حتى نصب خيمة.

أوقات يتم استثمارها في أشياء ما كان لها أن تحدث لولا هذا الدمار الذي أحدثته آلة الحرب الإسرائيلية بأسلحة أميركية وألمانية وبريطانية بحق البنيان والإنسان الفلسطيني المطالب بحقه في العيش بكرامة وفي دولة له عليها كامل السيادة.

أمّا بين الشمال ومدينة غزة، في منطقة أرض الغول "المشتل"، تلك الأرض الواقعة بين أبراج الاستخبارات وأبراج الفيروز، حيث سقط صوت فيروز وانتشر الموت، وصار المشهد يشبه لوحة رعب، فنستيقظ كل صباح وقد تكلست العظام، وصار من الصعب تحريك اليد أو القدم، فالألم يأخذ منك مبلغاً عظيماً لعدم توفر الأغطية والفراش الصحي الذي اعتدته، فتحاول عمل براد الشاي على موقد النار خوفاً من انتهاء جرة الغاز التي حصلت عليها بشق الأنفس، في الوقت الذي يذهب فيه أطفالك إلى مخبز "عجور" في مخيم الشاطئ، حيث يقطع المواطن مسافة تزيد على 3 كيلومترات ليصل إلى المخبز، وهناك يصطف في طابور طويل لا ينتهي لمدة ساعتين على الأقل، والمضحك أن رجال أمن المخبز يمكن أن يفسدوا يومك بطرد ابنك لأنه صغير، ويطلبون حضور من هو أكبر، فتناوُل الإفطار يستهلك وقتاً وجهداً وكأنك في حلبة مصارعة.

وحالما تنتهي، فإنه منوط بك أن تذهب لإحضار المياه الحلوة التي لا تتوفر كل يوم، وتصطف في طابور آخر مشترك بين الرجال والنساء والأطفال، بثقافات متعددة؛ فهذه تصرخ، وتلك يغمى عليها لإتقان المشهد من أجل أن تقوم بتعبئة غالون تنك خاص بها، وهذا يتهدد، وآخر يحضر سطلاً للمياه من دون أن يأبه بالميكروبات التي يمكن أن تنتهك جسد أطفاله. وما أن ينتهي هذا الموسم من الذل والبهدلة، حتى يبدأ موسم جديد لرفع المياه التي يستخدمها سكان تلك المنطقة لتنظيف الأواني والحمامات وغسل الأيدي. وفي هذا الفصل من العناء ما لا يمكن وصفه، فلا بد من أن تتجيش أنت وأطفالك جميعاً لحمل تلك البراميل معاً، لأن معضلة الطقس وعدم توفر كهرباء لتشغيل الغواطس بسبب تعطل عمل الألواح الكهربائية بسبب الأوضاع الجوية، وفي ظل ارتفاع سعر الوقود الذي ينافس الأسعار في أغلى مكان في العالم، وطبعاً سيكون سعره لدينا مضاعفاً، فإن سكان المنطقة يستخدمون محركات بجهد كبير لتشغيل بئر الماء لمدة ساعة، وعلينا أن ندخل صراعاً جديداً من أجل الحصول على 400 لتر كحد أقصى، وبعد ذلك نرفع سطول الماء والغالونات من الشوارع إلى البيوت، وللقارئ أن يتخيل كيف يحمل الأطفال غالون الماء الذي يتسع لـ 20 لتراً كل هذه المسافة، والركام حوله وأسفله، فلا يستطيع الاتزان، فقط من أجل أن يغسل وجهه ويحافظ على نظافة بيته، لأن الخطوط الرسمية التي تنقل مياه البلدية في غزة قد دُمرت بالكامل، والطفل الذي كان يتعين عليه الذهاب إلى المدرسة بات يومه يشبه الدوامة التي ترفض الانتهاء، بين التنقل من هذه المصلحة إلى تلك، في سباق المسافات الطويلة، إلى درجة تسأل فيها نفسك عن القوانين والأعراف الدولية التي أتخمنا بها العالم بشأن حقوق الطفل وحقوق المرأة أيضاً، فتظهر المشاهد كل يوم في وسائل التواصل الاجتماعي ومحطات التلفزة، لكن العالم مع الأسف يعاني جرّاء ازدواجية المعايير، وستأتي لحظة فارقة يدفع فيها هذا العالم الظالم ثمن الصمت والقبول بشريعة الغابة.

حين ننتهي من كل هذا العبث، سنضطر مرة أُخرى إلى الذهاب إلى البيوت من أجل رفع الركام، حيث ظل الكثير مما يجب رفعه كي تمر الحياة، وكم من مرة وقعت فيه أنت أو زوجتك بسبب التعثر بمدخل الشارع الذي لم تعد له ملامح، وإنما حجارة من كل بيت صنعت وحدة النهاية.

يأتي المساء وقد صار الواحد منا يرغب في النوم، قهراً وعجزاً عن عدم قدرته على التفكير في ممارسة حقه الإنساني مع رفيقة دربه، لأن كل الحواس متعطلة أو منهكة، ولم تبقَ مساحة داخل العقل والوجدان للتفكير في إقامة علاقة جسدية أو حتى علاقة عاطفية تنتهي بحضن أو قبلة، وفي أحسن الأحوال يمكن للواحد أن يطبع قبلة على جبين الزوجة التي تنام داخل خيمة برفقة الأبناء، أو داخل غرفة بلا باب، في ظل انعدام الخصوصية التي صارت علامة فارقة في تاريخ هذه الحرب.

لا يمكن لك أن تطفئ الأنوار، لأن العتمة هي من يحاصر نهارك وليلك، إنما فقط يمكنك أن تطفئ شمعة أو كشافاً وتنام، وتغلق وراءك أبواب الأحلام، بينما هو يظل مشرعاً للكوابيس.

Read more