The Journey of Searching for My Wife
Date: 
January 17 2025
blog Series: 

رفضتْ زوجتي فكرة العودة إلى مخيم الشاطئ، لأن الأمور هناك صعبة للغاية، وحالتها النفسية غير مهيأة لترْك عائلتها في مخيم جباليا، وخصوصاً بعد استشهاد أخيها حسام عطوة عبد النبي. لكنني كنت أبصر مآلات الأمور، مستشرفاً القادم بعد متابعة الإعلام العبري، موضحاً لها ما سيجري معنا إذا بقينا هناك، ثم قمت بمطالبتها مجدداً بالتحرك معي نحو المخيم، فالعملية العسكرية ستكون أقل حدّة هناك، لأنهم استوطنوا منطقة مخيم الشاطئ شهرين كاملَين، لكنها رفضت وقررت البقاء، وخصوصاً بعدما فشلنا قبل ذلك بيومَين في اجتياز المسافة الفاصلة بين شرق شارع الجلاء وغربه، إذ قمنا بتوديع كل من حولنا ثم خرجنا نحمل أمتعتنا متجهين نحو مخيم الشاطئ سيراً على الأقدام، ولم يكن معنا ما يكفي من المال إلاّ بضع عشرات من الشواكل، وثمن ركوب أي عربة يجرها حمار أغلى من استئجار سيارة فارهة في أي بلد آخر.

كان الطريق طويلاً، بدءاً من جباليا البلد، وصولاً إلى شارع يافا ثم المشاهرة، ومن هناك إلى منطقة الصحابة التي تفرّقنا فيها نتيجة التزاحم، وعدنا لنلتقي بعد عناء، ثم واصلنا السير بين الباعة الذين احتكروا البضائع، ونسي كثير منهم أن الموت أقرب إليه من حبل الوريد. وأمام ذلك كله، فقد كانت المقابر تتناثر في بعض الأراضي التي تم حفرها قبيل الحرب بقليل لإنشاء عمارات جديدة، وكانت زوجتي قد طلبت مني تأمُل المشهد الذي كان فارغاً ثم فجأة مُلئ بالمقابر، حتى جاءت في خاطري جملة كتبتُها على مذكرات هاتفي المحمول: "أينما وجدت تراباً ازرع شهيداً"، وذلك لأن المقابر اكتظت بالشهداء، وكذلك المساحات القليلة الفارغة أيضاً، ولم أكن أعلم أن الشوارع ستُملأ بالقبور، ليحاصِر المدينة مئات الآلاف من المدفونين.

وعند نهاية الشارع، لم يتوقف إطلاق النار، لذلك، فقد هربنا كغيرنا في أزقة وردهات لا نعرفها، والحقائب التي نحملها ترقص، وكنا نمشي في اتجاه الجنوب، وعند مفترق ضبيط فراغ شاسع، والقناص الذي يتسلى باصطياد الأطفال لا يتوقف عن إطلاق الرصاص، لذلك، قررنا المشي مرة أُخرى في اتجاه الجنوب نحو مفترق السرايا عبر أزقة وشوارع أُخرى. وعند مفترق السرايا، حاولنا قطْع شارع الجلاء، لكن الهرج كان كثيراً، وصوت الدبابات المجنزرة كان مرعب، والرصاص يعزف سيمفونية عذاب لمن يرغب في ترك الشمال ليذهب نحو مدينة غزة، إلى أن قالت زوجتي بغضب وخوف: إيش نعمل يا يُسري؟!

وكنتُ عاجزاً عن اتخاذ أي قرار، وفكرتُ في قطْع الطريق بسرعة، لكن المَشاهد أمامنا أحجمتنا عن المجازفة، فعدنا أدراجنا خائبين ومنهكين، إذ ما إن وصلنا إلى منطقة شارع يافا حتى دفعتُ كل ما أملك من أجل ركوب عربة متهالكة كي نصل إلى حي الجرن الذي نزحتُ إليه برفقة أسرتي.

ومجدداً، خرجتُ لكن هذه المرة برفقة أبنائي الذكور، وتركتُ ورائي زوجتي وابنتي مجد، التي قررت البقاء مع أمها، ولم تكن لدي القدرة على إقناعها بالعدول عن قرارها والعودة معي، لأن القرار في ذلك الوقت حاسم ومصيري، ولا أتحمل تكلفة أي مكروه يمكن أن يصيبهم في حال اتخاذي قراراً يرغمهم على العودة معي، لذلك، تركتُ للجميع ترف الاختيار.

حملتُ حقيبتي وقنينة الماء، وورائي أبنائي أنس وأسامة ورؤوف يسيرون في خط سير متفرق، ويحاذي الجدران، وَعُدْنَا يومها في يُسر إلى مخيم الشاطئ، ولم يكن هناك أي إطلاق للرصاص أو انفجارات كما حدث قبل يومين، وتركتُ ورائي زوجتي وابنتي اللتين تعرضتا لرعب شديد نتيجة استهداف منطقة الجرن.

وقد عشتُ أكثر من 25 يوماً في قلق بسبب التفكير في مصيرهما، وخصوصاً بعدما أعلنت المواقع الإخبارية والفضائيات اجتياح منطقة الجرن، ونزوح الناس من المكان في اتجاه العديد من المناطق المحاذية، إذ بعد عرض الأخبار صور الحي الذي عشتُ فيه شهرين كاملين، حفظت خلالهما تضاريسه وأوضاعه وهيئة أصحابه، جاءت صورة مفاجئة على شاشة "الجزيرة" يتحدث خلالها المراسل الصحافي ووراءه تظهر زوجتي، لكن من دون وجود ابنتي، بينما كان الجيران يحملون جثة شخص على نقالة الموتى، وقد دب الفضول والقلق في روحي: من تكون؟ وكيف حالهم الآن وهم محاصرون؟ وهل بقي أحد منهم هناك أم نزحوا إلى مدينة غزة؟

حاولتُ الوصول إلى طرف خيط يدلني على زوجتي بعد خبر لاحق يفيد بتنفيذ حزام ناري على تلك المنطقة مجدداً، ووجود عشرات الشهداء مساء ذلك اليوم، لذلك، خرجتُ لأهتدي إلى سبيل، فذهبتُ نحو مستشفى الشفاء لأنظر في حال النازحين الذين جاء كثير منهم من مخيم جباليا، لكنني لم أجد أياً ممن أعرف أو مَن يمكنه أن يفيدني بمعلومة.

وفي اليوم التالي خرجتُ برفقة ابني أنس، وتوجهتُ إلى حي الرمال، ومنه إلى منطقة السرايا، وهناك اصطدمتُ بشخص يقطن في البيت الملاصق لمكان نزوحنا، فاستوقفتُه وسألته عن عائلة زوجتي، فردّ بأنهم بخير، لكنهم نزحوا إلى منطقة الدرج أو التفاح، لذلك حثثتُ الخطى متوجهاً إلى تلك المدارس، لكن ما هي إلاّ خطوات حتى سقط صاروخ ضخم من طائرة F16 في مكان قريب جداً منا، فهربنا نبحث عن مكان نختبئ فيه، ولا شيء يسترنا غير السماء، ووصل فينا الخوف إلى درجة صرخ فيها أنس مطالباً إياي بالعودة إلى مخيم الشاطئ، لأن الوضع جدُّ خطِرٍ، وأمه تعرف الطريق إلى البيت.

فعدتُ أجر أذيال الخيبة ولم أنم، وظللتُ مستيقظاً حتى الفجر، ثم خرجتُ بعد ساعات برفقة ابني أسامة على الرغم من أن أبي أوصاني بالبقاء في محيط مستشفى الشفاء، وألاّ أجازف بالبحث في مناطق أُخرى خطِرة لأنهم بالتأكيد بخير، لكنني خالفتُ أوامره، وذهبتُ نحو مجموعة مدارس قريبة من منطقة اليرموك، ثم بدأتُ أتأمل الوجوه الشاحبة، لعلي أصطدم بأيٍّ مِمَن أعرف، حتى وجدتُ أحد أقاربها الذي يشبه أبناء عائلته، وهناك سألتُه عن عائلة زوجتي، فقال إنه لا يعرف عنهم أي شيء، لكنه متأكد من أنهم هربوا إلى مدينة غزة، بعدما تم استهداف منطقة الجرن، إذ لم يبقَ أحد.

فبدأتُ أفكر بيني وبين نفسي: لماذا لم تعد زوجتي إلى مخيم الشاطئ؟ هل أعجزها الطريق؟ أم إنها لا تريد مفارقة أمها وأخواتها؟ وهل هان عليها الابتعاد عن أطفالها؟ لكن على الرغم من تلك الأسئلة المتأججة داخلي، فقد قررتُ مواصلة البحث، متنقلاً من مدرسة إلى أُخرى، ومن مركز إيواء إلى آخر، حتى وصلتُ إلى أطراف منطقة حي التفاح، وهناك تعرضنا لإطلاق نار من القناصة، لكني نجوت بأعجوبة، وهربتُ برفقة صغيري أسامة إلى مخيم الشاطئ مجدداً.

وفي اليوم التالي، صادفني أحد الذين أعرفهم وكان الوقت قُبيل المغرب بقليل، وقال لي إن زوجتي وعائلتها نازحون في مدارس قريبة من الجامعة الإسلامية، وإنه متأكد من أنها وابنتي بخير، فهرولتُ في اتجاه تلك المدارس، وبين مدرسة وأُخرى وجامعة وأُخرى، كنتُ أطالع الوجوه، وأتأمل النازحين الهاربين من الموت. كثيرون منهم على غرار حالي يبحثون في وجوه الناس عن عائلاتهم وأطفالهم وأقاربهم، وكان المشهد يبعث على الخوف، وكأن الناس سكارى وعذاب الله واقع بهم، وقد كانت الجامعات التي كنا نحاضر فيها مدمرة، وتكتظ بالنازحين، وهناك لم أتبين أياً مِمَن أريد، فعدتُ بخفَي حنين، وظل ناقوس القلق يدب في جسدي حتى جاء يوم خرجتُ فيه عند التاسعة صباحاً، وقد علمتُ أن جيش الاحتلال الإسرائيلي انسحب من منطقة النفق والمشاهرة وشارع يافا، أي المسافة الفاصلة بين مدينة غزة ومنطقة جباليا البلد، حيث يمكن الوصول إلى مخيم جباليا، فقررتُ السير في الفراغ، ورافقني شاب ثلاثيني ورجل يكبرنا بعشرة أعوام للوصول إلى مخيم جباليا، ومشيتُ متأملاً الدمار الذي لاح لي مع أول الطريق نحو تلك المناطق التي لا تزال غارقة في خوفها، وتوغلتُ داخل منطقة المشاهرة ووجدت آثار المجنزرات والجرافات التي اعتدتْ على المكان وانتهكتْ حرمته، ثم قريباً من أطراف حي الجرن، وجدتُ أحد أقارب زوجتي، فسألته عنها، فأخبرني بأنها نزحت في اتجاه الشمال، وليس في اتجاه مدينة غزة، وأنها موجودة في مركز التأهيل المجتمعي داخل مخيم جباليا، فمضيتُ لأصل إلى جباليا، بشحمها ولحمها، وكأنني انتصرت على العالم، وهناك دخلتُ مركز التأهيل ألهث وأتفحص الوجوه والعيون، وهناك أخبروني بنزوحها طوال مدة الاجتياح في بيت قريب منهم لأن الجمعية عاشت الخطر الشديد، فأطلقتُ لساقي الريح، وحين وصلتُ، سمعت صوتها في الداخل. إنها بخير، فناديتها بصوت مرتفع، فخرجتْ وقد أصابتْها الدهشة، ولم تصدق عينيها؛ إنه أنا بشحمي ولحمي.. فضمتْني بعنف، وقبّلْتُها وبكيتُ.

وجاءت ابنتي مجد، التي علمتُ لاحقاً أنها أُصيبت جرّاء سقوط قذيفة مدفعية على غرفة جار لهم، فوقعتْ حجارة الجدار عليها وهي نائمة، لكنها تعافت مع الوقت، وأضحت بصحة جيدة، وأنها كانت تتجهز للعودة إلى مدينة غزة برفقة أمها حين علمتْ أن الشوارع شبه آمنة، وأنه يمكن العودة إلى مخيم الشاطئ.

خرجنا من هناك بسرعة خوفاً من عودة القنص والتفجير، في مشهد وداع قصير للعائلة هناك، وفي الطريق، استوقفْنا صاحب عربة يجرها حمار، ودفعنا إليه عشرين دولاراً كي نصل إلى مستشفى الشفاء، ومن هناك، عدنا إلى مخيم الشاطئ سيراً على الأقدام، بعد رحلة عذاب استمرت طويلاً، وقد راودني سؤال عظيم: كيف حالهم أولئك الذين نزحت زوجاتهم إلى الجنوب وبقي كثير منهم عالقاً في الشمال؟ كيف هي أحوالهم النفسية عند أي قصف لمواصي خان يونس أو مدينة النصيرات أو دير البلح؟ ماذا لو علموا بإصابتهن أو استشهادهن؟ كيف يمكن لهن أو لهم التعافي بعيداً عن العائلة؟ وغزة ما زالت تتوق إلى حضن عميق، ومختلط بالبكاء، حين تجتمع العائلات مجدداً.

Read more