"لم تعد سورية هي سورية نفسها، ولم يعد لبنان هو لبنان نفسه، ولم تعد غزة هي غزة نفسها، وحتى إيران شعرت بقوة ذراعنا"، هذا ما صرّح به رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو مؤخراً، الطامح إلى تغيير موازين القوى في الشرق الأوسط ورسم خريطة سياسية جديدة للمنطقة، والذي قد يرغب في الاستمرار في الحرب التي يشنها جيشه على جبهات عدة، لأنها توفر له "فرصة سياسية مواتية للتمسك بالسلطة"، والتهرب "من المحاكمة بتهم الفساد والاحتيال وخيانة الأمانة"، التي يتم تأجيلها باستمرار بسبب استمرار الحرب[1].
"السلام الإسرائيلي" بوابة "الشرق الأوسط الجديد"
في 23 أيلول/سبتمبر 2023، أي قبل نحو أسبوعين من هجوم حركة "حماس" على مستوطنات "غلاف غزة"، ألقى بنيامين نتنياهو خطاباً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، تحدث فيه عن آفاق تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وعن تحوّل تاريخي محتمل بالنسبة لإسرائيل فيما يتعلق بعلاقاتها الإقليمية وأمنها، مردداً تنبؤات شمعون بيريز، في سنة 1992، بشأن قيام "شرق أوسط جديد"، ومقدّراً أن جهود السلام الشامل لم تتكلل بالنجاح في الماضي لأنها "كانت تستند إلى فكرة خاطئة، وهي أنه ما لم نتوصل أولاً إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين، فلن تقوم أي دولة عربية أخرى بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل"، وبالتالي "يجب علينا عدم منح الفلسطينيين حق النقض ضد معاهدات السلام الجديدة مع الدول العربية"، بل "عندما يرى الفلسطينيون أن معظم العالم العربي قد تصالح مع الدولة اليهودية، فمن المرجح أيضاً أن يتخلوا عن وهم تدمير إسرائيل وأن يتبنوا أخيراً طريق سلام حقيقي معها". وبعد أن أشار إلى معاهدات السلام مع أربع دول عربية في سنة 2020، التي "بشرت ببزوغ فجر عصر جديد من السلام"، عبّر عن اعتقاده بأن إسرائيل "على أعتاب اختراق أكثر دراماتيكية يتمثل في إحلال سلام تاريخي مع المملكة العربية السعودية، ومثل هذا السلام سيساهم كثيراً في إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وسوف يشجع الدول العربية الأخرى على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وسيعزز آفاق السلام مع الفلسطينيين، وسيشجع على تحقيق مصالحة أوسع بين اليهودية والإسلام"، وأضاف: "قبل أسبوعين، رأينا نعمة أخرى باتت بالفعل في مرمى البصر، إذ أعلن الرئيس بايدن ورئيس الوزراء [الهندي] مودي والقادة الأوروبيون والعرب، في مؤتمر مجموعة العشرين، عن خطط لإنشاء ممر ملهم يمتد عبر شبه الجزيرة العربية وإسرائيل، ويربط الهند بأوروبا بالوصلات البحرية وخطوط السكك الحديدية وخطوط أنابيب الطاقة وكابلات الألياف الضوئي". وتوقع بنيامين نتنياهو أن السلام بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية "سيخلق حقاً شرقاً أوسطياً جديداً"، بما يهدم "جدران العداوة" ويجلب "إمكانية السلام إلى هذه المنطقة"، ثم عرض خريطة شملت مناطق باللون الأخضر الداكن للدول التي تربطها اتفاقات سلام مع إسرائيل، أو يمكن أن تجري مفاوضات لإبرام اتفاقات سلام معها، وهي مصر والسودان والإمارات والبحرين والأردن والسعودية، بينما غطى اللون الأزرق إسرائيل، التي شملت الضفة الغربية المحتلة، وقطاع غزة. وختم خطابه بالتحذير من أن "المتعصبين الذين يحكمون إيران سيفعلون من دون أدنى شك كل ما في وسعهم لإحباط هذا السلام التاريخي"، الأمر الذي يتطلب "إعادة فرض العقوبات عليها، وقبل كل شيء، يجب أن تواجه إيران تهديداً عسكرياً عالي المصداقية"[2].
الحرب الإسرائيلية الممر إلى "الشرق الأوسط الجديد"
بعد عام من تنبؤه بقرب قيام "شرق أوسط جديد" على قاعدة "السلام الإسرائيلي"، أي سلام تحت الهيمنة الإسرائيلية، عاد بنيامين نتنياهو إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، بصفته رئيس وزراء حكومة الحرب الإسرائيلية هذه المرة، وألقى في 27 أيلول/سبتمبر 2024، خطاباً أمام قاعة فارغة إلى حد ما، بعد أن انسحب منها مندوبو العديد من الدول، وخصوصاً العربية والإسلامية، طغت عليه لغة التهديد والوعيد، إذ أعلن "أنه في الوقت الذي بدا اتفاق التطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل أقرب من أي وقت مضى، جاءت لعنة السابع من تشرين الأول/أكتوبر"، لتوقف هذا المسار، ثم "اضطرت إسرائيل للدفاع عن نفسها ضد إيران، وتخوض الحرب على ست جبهات نظمتها إيران". ثم عرض، في خطوة بدا وكأنها صارت محببة لديه، خريطتين، وصف الأولى بأنها "خريطة النعمة"، وشملت مصر والسودان والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والبحرين والأردن وإسرائيل، التي ضمت الضفة الغربية وقطاع غزة بصفتهما جزءاً منها، ووصف الثانية بأنها "خريطة اللعنة"، وشملت إيران وحلفاءها في المنطقة: سورية ولبنان والعراق واليمن، مضيفاً أن الخريطة الثانية لا تنطوي على "لعنة" على إسرائيل وحدها، بل على العالم "لأن عدوان إيران، إذا لم يتم إيقافه، سوف يعرض كل دولة في الشرق الأوسط والعديد من الدول في بقية العالم للخطر"، وهو ما يفرض "على الجميع بذل كل ما في وسعهم لضمان عدم حصول إيران على أسلحة نووية، وأن إسرائيل ستبذل كل ما في وسعها لضمان عدم حدوث ذلك". وبعد أن حذر بنيامين نتنياهو من أن "الذراع الطويلة لإسرائيل يمكن أن تصل إلى أي مكان في إيران، وهذا ينطبق على الشرق الأوسط بأكمله"، وأكد أن بلاده "ستنتصر" في حربها على الجبهات كافة، وهي "سترفض أي حكم لحماس في غزة بعد الحرب"، وستسعى إلى أن تكون غزة "منزوعة السلاح وخالية من التطرف"، كما ستعمل على "هزيمة" حزب الله في لبنان، بصفته "المنظمة الإرهابية النموذجية في العالم اليوم، فهو يمتلك مخالب تمتد في كل القارات"، أوضح أن إسرائيل "ملتزمة أيضاً بتحقيق نعمة الشرق الأوسط الجديد"، وهو ما يعني "أنه ينبغي مواصلة السير الذي تمّ تمهيده عبر الاتفاقيات الإبراهيمية قبل أربعة أعوام، من خلال التوصل لاتفاقية سلام تاريخية بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية"، مقدّراً أن السلام بينهما "من شأنه أن يشكل نعمة للأمن والاقتصاد في البلدين، وأن يعزز التجارة والسياحة في مختلف أنحاء المنطقة، وأن يساعد في تحويل الشرق الأوسط إلى قوة عالمية هائلة"، ومشدداً على أن إسرائيل "اتخذت خيارها بالمضي قدماً نحو عصر مشرق من الرخاء والسلام". وفي نهاية خطابه، هاجم رئيس حكومة الحرب الإسرائيلية الأمم المتحدة، التي وصفها بأنها أصبحت "بيت الظلام"، بعد أن تشكلت فيها "أغلبية تلقائية على استعداد لشيطنة الدولة اليهودية"، وأنه "نظراً لمعاداة السامية في الأمم المتحدة، فلا ينبغي لأحد أن يتفاجأ بأن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية يفكر في إصدار مذكرة اعتقال ضدي"[3].
وتعليقاً على خطاب بنيامين نتنياهو قال يزيد صايغ، الباحث الرئيسي في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت: "إن الشرق الأوسط الجديد الذي يحاول نتنياهو فرضه في الوقت الحالي مصمم للسماح لإسرائيل باستعمار بقية الأراضي الفلسطينية"، ذلك إن إسرائيل "لم تُخفِ عزمها على توسيع مشروعها الاستيطاني، لا سيما في الضفة الغربية، وأعلنت صراحة نيتها زيادة عدد المستوطنات، على الرغم من الانتقادات العربية والدولية". بينما قال ديفيد شينكر، وهو زميل بارز في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى: "يبدو أننا اليوم أبعد ما نكون عن الدولة الفلسطينية منذ اتفاقيات أوسلو سنة 1993، ولكنني لا أعتقد أن الولايات المتحدة ستوافق على هذه الخرائط الإسرائيلية التي لا تشمل الأراضي الفلسطينية"، مضيفاً أن "رؤية إسرائيل للشرق الأوسط الجديد هي منطقة خالية من التهديدات الإيرانية"، وأنها "ربما تكون قد أحرزت تقدماً في شل "وكلاء إيران" في المنطقة، لكنها لا تستطيع إنشاء نظام جديد في الشرق الأوسط من دون دعم الدول العربية"[4].
هل أصبح هدف بنيامين نتنياهو أقرب إلى الواقع؟
لا يُشك في أن بنيامين نتنياهو حقق، في الأشهر الأخيرة، "مكاسب" جيو-سياسية معتبرة على من يسميهم بـ "وكلاء إيران" في المنطقة، وهو ما جعل البعض في إسرائيل يعتقد أن "هدف إقامة "شرق أوسط جديد"، بات اليوم "أقرب للتحقق من أي وقت مضى". وبحسب ألوف بن، رئيس تحرير صحيفة "هآرتس"، فإن نتنياهو "يريد أن يذكره التاريخ كمن حقّق فكرة "إسرائيل الكبرى"، لذلك، فإنه سيحاول الحفاظ على سيطرة إسرائيل على شمال غزة، ولن يسارع في الانسحاب من المناطق الجديدة التي تم احتلالها في الجولان، والتي يمكن أن تتوسّع بسيناريوهات معيّنة"، وهو يعتقد بأن "الإدارة الجديدة في واشنطن ستكون متساهلة مع طموحات إسرائيل التوسعية"[5]. بينما رأى الباحثان في شؤون الأمن القومي عاموس يادلين وأودي أفينتال أن هناك إشارة إلى تغيّر الشرق الأوسط بأسره، "نتيجة الضربة القاسية التي تعرضت لها حركة "حماس" في غزة، والضربة التي تلقاها حزب الله في لبنان، ومعرفة إيران بالثمن الباهظ الذي قد تدفعه إذا ما عادت إلى مهاجمة إسرائيل"، وهما قدّرا أنه "مع ازدياد ضُعف المحور الذي تقوده إيران، بعد خسارتها سورية، تراجعت حركة "حماس" إلى أسفل القائمة، بعد انقطاع الصلة بين غزة ولبنان، وأظهرت مزيداً من الإشارات إلى الاهتمام بصفقة تبادُل"، وأن على إسرائيل "استغلال ضُعف "حماس" وازدياد عزلتها لتحقيق أولويتها العليا التي تتصدر الأجندة الوطنية، وهي استعادة جميع المختطفين في أسرع وقت ممكن، عبر صفقة"، معتبرين أن "إنهاء الحرب في غزة، بعد فترة طويلة من انتهاء العمليات العسكرية الرئيسية هناك، يصبّ في مصلحة إسرائيل الاستراتيجية الأوسع في المنطقة، وهذا سيمكّن إسرائيل من "تنظيف الطاولة"، استعداداً لدخول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، وتركيز الحوار معه على مواجهة التهديد الأكثر أهمية بالنسبة إلينا، وهو برنامج إيران النووي"[6].
لعله يركض وراء سراب!
يحلم بنيامين نتنياهو بـ "شرق أوسط جديد"، ويتبنى خطاباً يعود تاريخه إلى سنوات الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، ووزيرة خارجيته كوندليزا رايس، ويشكّل جزءاً من نهج المحافظين الجدد الأميركيين الذين كانوا يتمسكون لبعض الوقت بالأمل في إعادة تشكيل الشرق الأوسط. لكن رئيس حكومة الحرب الإسرائيلية يتجاهل حقيقة أن الولايات المتحدة كانت آنذاك في أوج قوتها، وهي فشلت، مع ذلك، في هذا المسعى، وأدركت إدارة الرئيس بوش، بعد تجربتها الكارثية في المنطقة، أن محاولة تغيير الواقع السياسي بالاعتماد على القوة العسكرية لا تنفع. ويعتقد محللون كثيرون، ومنهم أوليفييه باسوت، الباحث المشارك في معهد البحوث الاستراتيجية التابع للمدرسة العسكرية في باريس، أن الولايات المتحدة، في عهد دونالد ترامب، ستكون "حذرة إلى حد ما بشأن فكرة الانخراط في مثل هذا المشروع"، ذلك إن الرئيس الأميركي القادم، وإن كان "مؤيداً كبيراً لنتنياهو، لكنه من حيث المبدأ لا يؤيد التدخلات الأميركية في الخارج"ـ وهو قد يعتبر أن هذا المشروع "لن يؤدي إلا إلى صرف انتباه واشنطن عن اهتمامها الاستراتيجي الرئيسي، وهو الصين"[7].من جهة أخرى، وعلى الرغم من الضعف الذي أصاب قوى المقاومة للاحتلال والتوسع الإسرائيليين، فإن هذا لا يعني القضاء على هذه القوى، وخصوصاً عندما تظل الشروط التي تحكم وجودها قائمة، ناهيك عن أن التجربة التاريخية دلّت على أن المنطقة قد تشهد مفاجآت غير واردة في الحسبان حالياً، قد تكون لها عواقب استراتيجية كبيرة، وهو ما حذر منه عدد من المراقبين الإسرائيليين، إذ حذر الجنرال في الاحتياط إسحاق بريك مواطنيه من نشوء "محور شر" آخر، غير "محور الشر" الإيراني، مشكّل "من الأتراك والجهاديين المتطرفين"، داعياً إلى عدم العيش في الأوهام وتجاهل "المخاطر المتوقعة في المستقبل، بالنسبة إلى إسرائيل، ويمكن أن تكون أكثر خطورة"، ومؤكداً أنه "إذا لم نستغل الوقت الآن، ونجهّز الجيش للحرب الإقليمية الكبرى الشاملة، بطريقة تسمح لإسرائيل بالدفاع والهجوم في عدة جبهات في الوقت نفسه، فيمكن أن نضيّع الفرصة"[8]. كما أن المملكة العربية السعودية، التي تسعى إسرائيل إلى تطبيع العلاقات معها كخطوة رئيسية على طريق إقامة "شرق أوسط جديد"، لم يعد موقفها كما كان عشية السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، بل صارت تؤكد أنها لن تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل قبل إقامة دولة فلسطينية، وقامت بتشكيل تحالف دولي للدفع قدماً في هذا الاتجاه.
وهكذا، قد يكون بنيامين نتنياهو يركض فعلاً وراء سراب، في منطقة يضرب المثل في عدم القدرة على التنبؤ بالأحداث التي قد تقع فيها؛ أما رفضه التوصل إلى تسوية شاملة للصراع تلبي الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، واعتماده على استراتيجية عسكرية بحتة، فهما قد يهددان بإطالة أمد الفوضى وتفاقم عدم الاستقرار الإقليمي، وتحويل المكاسب العسكرية التي حققها جيشه إلى خسائر سياسية طويلة الأجل.
[1] https://www.rfi.fr/fr/podcasts/le-monde-en-questions/20250110-2025-isra%C3%ABl-et-les-fronts-multiples
[2] https://fr.timesofisrael.com/netanyahu-predit-un-nouveau-moyen-orient-mais-se-tait-sur-les-ravages-en-israel;
https://www.gov.il/ar/pages/event-un220923
[3] https://news.un.org/ar/story/2024/09/1135086
[4] https://www.bbc.com/afrique/articles/c8dj0zn0gydo
[5] ألوف بن، "من "نتساريم إلى قمة جبل الشيخ: نتنياهو يحقق رؤية "إسرائيل الكبرى""، نشرة "مختارات من الصحف العبرية"، العدد 4510، 12 كانون الأول/ديسمبر 2024.
https://mukhtaraat.palestine-studies.org/ar/node/35903
[6] عاموس يادلين وأودي أفينتال، "هذه إشارة إلى تغيُّر الشرق الأوسط بأسره. حزب الله عالقٌ من دون الأسد"، نشرة "مختارات من الصحف العبرية"، العدد 4508، 10 كانون الأول/ديسمبر 2024.
[7] https://theconversation.com/israel-reve-dun-nouveau-moyen-orient-mais-a-quelle-realite-se-heurtera-t-il-241809
[8] إسحاق بريك، "المحور الإيراني انهار، و "محور شر" آخر جديد، وخطر يتشكّل ضد إسرائيل"، نشرة "مختارات من الصحف العبرية"، العدد 4513، 16 كانون الأول/ديسمبر 2024.