أكتب هذا المقال في اليوم الـ 67 لاجتياح مخيم جباليا وإعلانه منطقة عسكرية، وفرْض حصار مطبق عليه من جميع المناطق، وإغلاق كل المنافذ على المواطنين القاطنين فيه. أكتب كلماتي هذه وأنا أجلس على سرير لفتاة لا أعرفها، وقد أدركتُ أنها فتاة من اللون الزهري الذي يكسو غرفتها، ومن بعض مستحضرات التجميل القابعة على تسريحتها إلى الآن، والتي يهيمن على ألوانها وعلاماتها التجارية غبار الهَجْرِ والصواريخ وركام البيوت المجاورة. إنها غرفة جميلة وأنيقة، لكنها منطفئة لم تألفني بَعْد، على الرغم من أنني فتاة أيضاً، لكنني لستُ تلك الفتاة التي صُمِمَ كلُ ركن من أجلها بحسب ذوقها. يُحزنني أنها تركت وراءها هذا الجمال كله ونزحت إلى جنوب قطاع غزة تحت التهديد والقتل والأحزمة النارية والإعدام والتهجير القسري، وربما تعيش هي وعائلتها الآن في خيمة تتلاعب الرياح بأوتادها التي ربما لم تصمد أمام عنف الرياح الشديد، فانهالت بغتة على رأس العائلة وهم نائمون أو مستيقظون، وربما الآن يبكون أو يضحكون على حالهم. وليس هذا فحسب، بل أيضاً يمكن أن تداهمهم مجموعة من الفئران والقوارض وأنواع شتى من الحشرات، منها ما تعرفه ومنها ما عرفته في الحرب. أو ربما تنبح الكلاب على بابهم في منتصف الليل، فتوقظهم من حلم جميل كانوا قد استرقوه في زحمة الوقت المشحون بأخبار المجازر وأعداد الشهداء والجرحى، ونفاد الوقود والغاز والحطب، وإخراج المستشفيات عن الخدمة، وشح المياه، والطوابير المصطفة على دورات مياه المخيم الذي أنشأته الحرب. يبدو أن المخيمات وُلدت للفلسطينيين الذين يواجه كل جيل منهم نكبة جديدة أكثر دموية من التي سبقتها، فأينما يذهب هذا الجيل تلحقه الخيمة، إمّا في الواقع، وإمّا كَهَمٍّ يحمله بكل ثقله في مخيلته.
أمّا عن مستحضرات التجميل التي تملأ غرفتكِ يا فتاتي الجميلة، فلا تقلقي عليها، فهي تنتظرك إلى أن تعودي، ويعود إلينا الحق في الحياة، وحتى ذلك الحين، فستبقى هي الأُخرى عاجزة عن تجميل الوجوه الكالحة، والعيون الذائبة، فهي وإن كانت ستغطي التصبغات التي أحدثتها النار في وجوهنا وأيدينا، فلن تغطي الإرهاق والقهر والآلام والندوب التي بدّلت ملامحنا المشرقة إلى تجاعيد في الوجه والقلب والذاكرة. أمّا ملابسكِ الأنيقة، فهل ارتداؤها سيضفي رونقاً على أجساد بالية أوهنها الجوع والنزوح والتهجير والأعمال الشاقة؟ من أجلكِ يا فتاتي التي لا أعرفها، سأحافظ على حياتِك إلى أن تعودي إليها.
لقد مر عام وأكثر على نشوب هذه الحرب؛ عام أصبحت فيه النار جزءاً رئيسياً من حياتنا، كبديل للغاز الذي يمنع الاحتلال إدخاله إلى القطاع على الرغم من أنه غازنا المستخرَج من بحرنا. لكنه ليس المورد الوحيد الذي يسرقه الاحتلال، فلو استطاع أن يمنع عنا الهواء لمنعه، لكنه لا ينفك يلوثه بصواريخه وقنابله الدخانية والحارقة والمدمرة والقاتلة وطائراته التي تسير كسرب في السماء تستعرض في كل لحظة قوتها على شعب أعزل لا يعرف من الحياة إلاّ الاحتلال ووحشيته؛ الملوث الأكبر لهوائنا وحياتنا.
أنا نور من مخيم جباليا، وهذا هو النزوح الذي لا أعرف رقمه الترتيبي، إذ توقفتُ عن العد في اللحظة التي فقدنا فيها قدرتنا على الفرار من الموت إلى جحيم الحياة، ونزحنا إلى حي النصر غربي غزة في 6 تشرين الأول/أكتوبر2024، أي في اليوم المتمم لعام من الحرب، وبعد يوم من إعلان مخيم جباليا منطقة عسكرية للمرة الثالثة، فخرجنا رغماً عن إرادتنا كالعادة تحت وابل الصواريخ وعشوائية القتل، ونزحنا من أجل أرواح الأطفال، وخوفاً من همجية القتل، وخشية الإصابة من دون تقديم أي خدمة إسعافية، وخشية الأَسر والتنكيل. أمّا عن مشهد النزوح، فقد بات مألوفاً بالنسبة إلينا، فآلاف العائلات تسير وفق الخط الذي رسمه جيش الاحتلال لهم، والوجوه شاحبة، والخطى متعثرة، والأطفال يبكون من طول المسافة، واللعنات تخرج من أفواه الرجال، والنساء مثقلات بالحمل، والجيوب غالباً ما تكون فارغة، وأصحاب المركبات يستغلون حاجة الناس ويرفعون الأسعار إلى أعلى سقف، والوجهة مجهولة، والتيه واضح في عيون النازحين، وقد اعتادوا ذلك المشهد؛ مشهد قضاء ليلة كاملة على أرصفة الشوارع، والسير تحت أشعة الشمس الحارقة، والمبيت تحت زخات المطر يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، والنزوح تحت القذائف ونيران الصواريخ، والشظايا تحيط بهم من كل مكان، ومن النادر جداً أن ينجوا منها جميعاً.
وفي كل مرة تنزح، تتضاءل حقيبتك، وتتخلى عن كل شيء بالتدريج، لأنك ستفاضل دائماً بين أمرين مهمَين. فأيهما ستختار؟ ويحدث هذا بينما حقك في الاختيار بات مفقوداً في أول قرار تم اتخاذه بالنيابة عنك، كقرار إعلان الحرب على سبيل المثال، وقرار توقيف سير حياتك ثم انعدامها حتى فنائك. لا قرار للإنسان في الحرب، فيُمضي الفرد أيامه هارباً متشرداً، والموت أمامه ووراءه وعن يمينه وعن شماله، فأي وجهة ستختارها ستفقد فيها شيئاً منك؛ كابنك، أو أختك، أو أخيك، أو ابن أخيك. ستشيع أحداً من أحبائك لا محالة، فالفقد شيء حتمي وملازم لك طالما الحرب تلفظ أنفاسها، وما زالت تنادي "هل مزيد؟"
في كل مرة يدق النزوح بابنا أتساءل: كيف يمكن أن نختزل البيت في حقيبة؟ ألسنا في زمن التطور والتقدم؟ هل يمكن لأي ذكاء اصطناعي أن يحل لنا هذه المعضلة؟ لكن عن أي ذكاء أتحدث؟ لو كان هناك اهتمام قليل من العالم المتحضر، فهل كانت الإبادة ستستمر لأكثر من عام؟ أتساءل والواقع يجيب، إذ كشفت الحرب زيف التحضر، فالمصالح هي مَن يجمعنا، وليس الإنسانية كما كانوا يدّعون جزافاً. فحين يرتكب الاحتلال مجازر بشعة بحق عشرات الآلاف من الأطفال والنساء وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع ولا أحد يحرك ساكناً، فإن ذلك ينذر بفاجعة صادمة تثير حنقي وشفقتي على هذا العالم المتمسك بقوانين موازين القوى الخائبة التي يحكمها القوي، ويتمسك بها الخانع الضعيف. حين تغمَض الأعين عن أشلاء طفلة قتلتْها الطائرات الإسرائيلية وهي تصطف في طابور توزيع البسكويت على الأطفال لأن السياسة تقتضي ذلك، فتباً للسياسة واللعنة على المصلحة. فما تغاضيتَ عنه اليوم سيصيبكَ غداً، لأن المحتل متعطش جداً للدماء، ولن يكتفي بنا، فبنك أهدافه كبير، وقائمة القتل طويلة جداً.
ولأن المصيبة بالمصيبة تُذكَر، فإن مصيبة النزوح تعلّمكَ شيئاً واحداً؛ وهو أن كل شيء قابل للترك لتنجو أخيراً بنفسك؛ فالملابس التي عثرتَ عليها بصعوبة وتمكنتَ من شرائها أخيراً بأسعار خيالية، وفرحتَ بها ستكون عبئاً عليك في حال قررت اصطحابها، بعد أن فقدتَ كل ما لديك حين تم قصف بيتك، وإذا طالت المسافة، فستلقي بها بلا تردد كما فعل كثير من النازحين الذين ألقوا أمتعتهم المغبرة في الطريق الوعرة ومقتنياتهم وأطعمتهم التي حملوها وملابس أطفالهم، فقد أسقطتها أيديهم وبكتها عيونهم، لأن كل فرد ألقى حقيبة يعلم ما ينتظره من الشُح، والغلاء الفاحش، والإذلال، والإرهاق، والقهر. لكن الطريق مهلك، والركام يجرح، والأجساد خارت قوتها، والنجاة للروح فقط، وإن كانت خاوية مشوهة مهمشة، لكنها غريزة البقاء على الرغم من انعدام الحياة وتوفُر الموت.
عندما وصلنا إلى حي النصر بعد رحلة نزوح مريرة، توقعتُ أن نكون في ضيافة الحي المفعم بالحيوية، والذي يمثل واجهة الجمال في المدينة، والنابض بكل معالم الحياة والرقي، لكن خيبة المنظر سحقت توقعاتنا، ودُهشنا من هول ما رأينا، وكأن هذا الحي تعرّض لزلزال شديد العنف ابتلع الجمال وخلَّف الدمار. أبراج شاهقة صارت كومة ركام، فضلاً عن مناطق منسوفة، وأُخرى محروقة، وحارات مجرفة، والمركبات تحولت إلى هياكل من حديد على أبواب البيوت المدمرة، والمحلات والمراكز التجارية وكل مظاهر الحياة طالها الخراب. لقد تشوهت واجهة المدينة، وأضحت منطقة خاوية من سكانها الأصليين، ومتجردة من كل معالمها، ومفرغة من روحها. وقد أحيا هذا الإجرام الفظيع تساؤلاً دائماً ما كان يطرق أبواب المنطق في عقلي لأجد له إجابة معقولة ومقنعة: "ماذا زرعنا لنحصد هذا الخراب كله؟"
كم عاماً مر بنا ونحن نشيد ونبني، ونُعمر ونُجمل، ونصنع الذكريات، ونخلّد التواريخ؟
حين تسير في أحياء المدنية المنكوبة، تستذكر بهجتها الضائعة، وحين تُبصر مركباتها المحروقة، يجول في خاطرك عدد المركبات التي كانت تمر من هنا وهي تحمل على متنها عروسَين يحلمان بحياة وردية. على هذه الأرض قُرعت الطبول، ودُقت مزامير كثيرة، ووقعت الصدف، وبدأت الحكايات وطُويت، وذُرفت الدموع حزناً وفرحاً.
وفجأةً، وفي عام واحد، نجد أنفسنا محاطين بأحزمة عشوائية خلَّفت دماراً هائلاً؛ إذ قتلت طائرات الاحتلال العروسَين ودفنت أحلامهما الوردية، ودمرت المباني، وصدعت قلوب ساكنيها. إن منظر الدمار هذا ضار حتى بالبصر، فيجرح العينين بفجاجته، فتسأل نفسك: "كيف حدث هذا؟ ومن سمح به؟" عشرات الأسئلة تحوم في خاطرنا ولا نلقى لها أي إجابة، إذاً، علينا أن نغير شيئاً في صيغة السؤال في خضم هذه الكوارث، ونسأل عن طبيعة العالم الذي حولنا، والذي يسمح لذلك بالحدوث.