استغلت إسرائيل عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركة "حماس" في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لشنّ حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة باستخدام أساليب القتل والتهجير والتضييق والحصار والتجويع، واستهداف وتدمير الممتلكات العامة والخاصة، بما فيها المؤسسات التابعة للأمم المتحدة والمنشآت الاقتصادية والصناعية والحقول الزراعية وغيرها. وقد تسببت هذه الأعمال بتهجير ونزوح معظم سكان القطاع، نزوحاً داخلياً بالتنقل جنوباً وشمالاً، مع بدء الأوامر الإسرائيلية بإخلاء شمال قطاع غزة، والتي بدأت في 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
تركزت المطالبات الإسرائيلية بنزوح السكان من محافظتي شمال غزة وغزة إلى وسط القطاع وجنوبه. وقد شهدت هاتان المنطقتان نزوحاً واسعاً لسكانها منذ الأسبوع الأول للعدوان الإسرائيلي. ومع تعمق العمليات البرية الإسرائيلية وانتشارها في مدن جنوب القطاع، تواصلت المطالبات بإخلاء ونزوح سكان محافظة خان يونس إلى محافظة رفح وإلى منطقتي المواصي غربي المحافظتين، ثم امتدت إلى مطالبة سكان رفح بإخلائها جهة خان يونس والوسطى، وذلك بعد إغلاق معبر رفح واحتلال المدينة احتلالاً كاملاً في مطلع أيار/ مايو 2024. وبالتزامن مع ذلك، شهدت المنطقة الشرقية لمحافظة الوسطى عمليات نزوح واسعة إلى خان يونس على وجه الخصوص.
تجدّدت أعمال الإبادة الجماعية في بلدات شمال غزة المحاصرة، وللمرة الرابعة، بعدما أعاد الجيش الإسرائيلي اجتياحها في 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، وبأساليب أكثر فتكاً وكثافة وتركيزاً هذه المرة. وكانت السمة الأكثر بروزاً، وبالتزامن مع عمليات الاجتياح الواسعة في بلدات بيت لاهيا وبيت حانون وجباليا، هي عمليات التهجير والتشريد المقصودة بتكثيف الأوامر العسكرية الإسرائيلية بإخلاء هذه البلدات، التي تقلّص عدد سكانها جراء عمليات الضغط والتضييق إلى أقل من 20% من السكان الذين كانوا يقيمون فيها.[1]
وكانت أدوات الضغط الإسرائيلية لإخلاء شمال القطاع، وإعلانه منطقة عسكرية مغلقة، والتعامل مع سكانه كإرهابيين، وتجويعهم بمنع توريد المساعدات الإنسانية إليهم، فضلاً عن عمليات التدمير الواسعة للبُنى التحتية وللأعيان المدنية؛ توطئة لتنفيذ الرؤى والتصورات الإسرائيلية تنفيذاً عملياً وميدانياً في شمال غزة عبر توسعة وبناء ممرات وبُنى تحتية عسكرية وغيرها من الإجراءات الإسرائيلية التي تزامنت مع الكشف عن "خطة الجنرالات" التي وافقت عليها الحكومة الإسرائيلية فيما بعد.
إن إجراءات تعزيز السيطرة العسكرية الإسرائيلية بإقامة بُنى تحتية وممرات دائمة عُرفت بممري "مفلسيم" و"نتساريم"، وهي ممرات مخصّصة للفصل بين شمال القطاع وجنوبه، والفصل بين مدن الشمال نفسها، تطرح تساؤلات حيوية ومهمة عن مستقبل قطاع غزة بصورة عامة، وشمال القطاع بصورة خاصة.
مخططات التهجير الإسرائيلية
لم تغادر قضية تهجير سكان قطاع غزة تفكير الدوائر الإسرائيلية منذ احتلال القطاع وخضوعه للسيطرة الإسرائيلية في عام 1967. فعلى امتداد سنوات الاحتلال الطويلة، تبنت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة مخططات واسعة للتهجير ضمن منظومة الاستعمار الاستيطاني، وأحالت رؤاها وتصوراتها إلى آليات عملية للتهجير القسري والطوعي داخلياً وخارجياً، وعبر سلسلة من الإجراءات، كإبعاد الفلسطينيين وترحيلهم إلى خارج الحدود، وتطبيق سياسة الحصار والتضييق والعقوبات الجماعية، والهجمات العسكرية المكثفة والمتتالية، والتجويع وأعمال الإبادة الجماعية، وصولاً إلى تحقيق تطلعاتها في تهجير الفلسطينيين تهجيراً "طوعياً".
فقد انشغلت القيادات الإسرائيلية منذ أواخر أربعينيات القرن الماضي بوضع الخطط لتهجير سكان القطاع وترحيلهم إلى سيناء، أو إلى دول أُخرى في المنطقة والعالم. وبعد أن احتلت إسرائيل قطاع غزة، ساد إجماع في الحكومة الإسرائيلية على أن إسرائيل لن تنسحب من القطاع في أي حلّ مع الدول العربية، وستضمه رسمياً إليها بعد أن تطرد سكانه، أو أغلبيتهم، منه. وتكشف الوثائق الإسرائيلية، وخصوصاً من محاضر اجتماعات الحكومة الإسرائيلية في 18 و19 حزيران/ يونيو 1967، التي كُشف النقاب عنها في السنوات الأخيرة، أن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة احتل الأولوية العليا؛ إذ ساد إجماع على ضرورة تهجيرهم إلى سيناء أو إلى الأردن. وقد شكّلت الحكومة الإسرائيلية العديد من اللجان، وخصصت لها الميزانيات لتحقيق هذا الهدف.[2]
ومنذ ذلك الوقت، بذلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة جهوداً إضافية لتهجير سكان القطاع إلى دول في أميركا الجنوبية بالاتفاق مع أكثر من دولة هناك لقبول هجرة السكان. وفي أيار/ مايو 1969، اتفق جهاز الموساد مع حكومة البارغواي على أن تقبل هجرة 60 ألف فلسطيني من قطاع غزة إليها خلال أربع سنوات، وأن تمنحهم تأشيرة دخول للعمل فيها، ما يمكّنهم من الحصول على المواطنة فيها خلال خمس سنوات. وقد تمكنت سلطات الاحتلال الإسرائيلي، بالترهيب والترغيب، من إرغام عدة مئات من سكان القطاع على الهجرة إلى البارغواي، وقدّمت لكل عائلة تذاكر سفر في اتجاه واحد ومبلغاً مالياً ووعوداً كثيرة.[3] ومن خطط التهجير الإسرائيلية ما طرحه الجنرال غيورا آيلاند، من مشروع لتوطين أكثر من مليون فلسطيني من قطاع غزة في سيناء في إطار اتفاق تبادل أراضٍ بين مصر وإسرائيل وفلسطين. وهذه فقط طائفة من التصورات الإسرائيلية التي لا تتوقف لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة.
التهجير القسري و"الطوعي" بعد السابع من أكتوبر 2023
مع العدوان الإسرائيلي على قطاع عزة، تجددت الدعوات إلى تهجير الفلسطينيين من أحزاب الائتلاف الحكومي، وأقطاب المعارضة السياسية، ووسائل الإعلام، وقادة الرأي العام، ومراكز الأبحاث، كسياسة عامة في إسرائيل. وكانت أولى تجليات مشاريع تهجير سكان القطاع في الأسبوع الأول للعدوان مع مطالبة الجيش الإسرائيلي سكان شمال القطاع للنزوح نحو الجنوب في اتجاه الحدود المصرية، في وثيقة أصدرتها وزارة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، وضمن الخيارات الثلاثة التي طرحتها للتعامل مع سكان القطاع، خيار إجلائهم إلى صحراء سيناء.[4]
وكان من نصيب شمال قطاع غزة من المخططات الإسرائيلية للتهجير "خطة الجنرالات"، وهي الخطة العسكرية التي اقترحها الجنرال السابق في الجيش الإسرائيلي غيورا آيلاند على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وتبناها عدد من جنرالات الجيش، بهدف تهجير سكان شمال القطاع قسراً، وباستخدام كل أدوات الترهيب، بما فيها فرض وتشديد الحصار الكامل على بلدات الشمال، ومنع دخول المساعدات الإنسانية إليها، والتعامل مع أي مدني يختار البقاء في الشمال على أنه مقاتل.[5] وبالفعل، لجأ الجيش الإسرائيلي، وميدانياً، إلى تنفيذ هذه الخطة وربما تطويرها باستخدام أساليب أكثر فتكاً ضد المدنيين الفلسطينيين من دون الإعلان عن تبني الخطة وتطبيقها رسمياً.
لقد كان من نتائج الضغط والتضييق والملاحقة الإسرائيلية نزوح أعداد تتراوح بين 100,000 إلى 131,000 شخص من شمال القطاع إلى مواقع مختلفة في غرب مدينة غزة وشمالها، ضمنهم 700 شخص تمكنوا من النزوح إلى جنوب القطاع، وذلك منذ 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2024. وتشير تقديرات الأمم المتحدة[6] إلى أنه لم يبقَ سوى 65,000 إلى 75,000 شخص في محافظة شمال غزة، أي أقل من 20% من السكان عشية 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، ومن المؤكد أن أعداد المقيمين في شمال غزة في انخفاض دائم مع تزايد أوامر الإخلاء الإسرائيلية التي تكثفت في كانون الأول/ ديسمبر 2024، والتي تتسبب في مزيد من عمليات النزوح.
وُوجهت مخططات تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة بردات فعل عربية ودولية من عواقب تهجير الفلسطينيين تهجيراً قسرياً، كان أبرزها رفض الدولة المصرية تهجير سكان القطاع إلى أراضيها في سيناء، ومعارضة الإدارة الأميركية لسياسات التهجير، وعدم استجابة الدول الأوروبية لاستقبال المهاجرين الفلسطينيين. وبفعل المواقف العربية والدولية، استدارت إسرائيل ناحية الهجرة "الطوعية"، من دون تخليها عن التفكير في إخلاء القطاع وتقليص سكانه بالتهجير القسري، وبما يخدم السياسات التوسعية والخطط الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، والتخلص من معضلة قطاع غزة عموماً.
و"الهجرة الطوعية" بهذا المعنى لا تتعدى كونها هجرة قسرية بآليات غير مباشرة، كإبقاء ظروف المعيشة في قطاع غزة متدنية، ورفع معدلات الفقر والبطالة، وهي الأساليب التي لجأت إليها إسرائيل طويلاً، وعزّزتها بأعمال الإبادة الجماعية، وتدمير الممتلكات العامة والحيز السكني، وتحويل القطاع، وخصوصاً شماله، إلى منطقة غير صالحة للعيش فيها بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي، لكن نتائج "الهجرة الطوعية" لم تُختبر بعد بحُكم العدوان والسيطرة العسكرية والحصار الإسرائيلي المشدد على القطاع.
شمال غزة يتوزع على مناطق عازلة وممرات عسكرية
لمنطقة شمال قطاع غزة أهميتها بالمعنيين الأمني والعسكري بالنسبة إلى إسرائيل، التي بدأت عملياتها وهجومها العسكري على القطاع انطلاقاً منها، ومارست قواتها الحربية أقصى قوتها لإخلائها من سكانها من دون أن يتحقق لها ذلك؛ فلم يزل بعض سكان بلدات الشمال الثلاث، بيت لاهيا وبيت حانون وجباليا، مقيمون فيها، ولم يغادروها على الرغم من كل إجراءات التضييق والملاحقة الإسرائيلية، وضمنها حشر السكان في أحياء معينة، ومنع وصولهم إلى مناطق مغلقة أقامتها القوات المحتلة. ولم يمنع ذلك إسرائيل من تنفيذ خطتها بهندسة مناطق الشمال عسكرياً وأمنياً، وتحويلها إلى مناطق مغلقة، وبالتزامن مع أعمال الإبادة الجماعية وتهجير السكان منها إلى الوسط والجنوب.
الشاهد أن التغيرات التي أدخلتها القوات الإسرائيلية المحتلة في شمال القطاع بتحويلها إلى منطقة عسكرية مغلقة، وتعزيز التواجد العسكري فيها، وبناء المناطق العازلة لتوسعة المناطق الإسرائيلية المحتلة والمحاذية لشمال القطاع في ناحية الشمال والشرق، مخصصة للفصل بين شمال غزة ومدينة غزة بحكم إقامة وبناء ممر "مفلسيم"، وضمن خطة الفصل بين مدن القطاع في الشمال والوسط والجنوب التي أقيمت فيها ثلاثة ممرات أُخرى: "نتساريم" و"كوسوفيم" و"فيلادلفيا". وقد كشفت الخرائط الجديدة أن ممر "مفلسيم"، وهو اسم لمستوطنة إسرائيلية تقع بالقرب من قطاع غزة، تم إنشاؤه كممر عسكري يمتد من هذه المستوطنة، إلى الشرق من جباليا، وصولاً إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط بالقرب من بيت لاهيا.[7]
لقد أدخلت القوات الإسرائيلية المحتلة تغيرات جديدة في مناطق شمال القطاع عموماً، منها شق طرق جديدة وحواجز عسكرية شرق وشمال وغرب مخيم جباليا، وتوسعة ممر "نتساريم" وصولاً إلى مشارف حي الزيتون في مدينة غزة، ليشمل نحو 47 كيلومتراً مربعاً من الأرض، وإقامة مواقع عسكرية. كما أقامت ما يشبه المنتجع السياحي بهدف تقديم وجبات ساخنة للجنود وأماكن مبيت وإقامة، وجلبت الكرفانات المخصصة لمبيت الجنود، وأبراج المراقبة من الباطون والخشب.[8] ويظهر تقرير وصور نشرتها صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" تعبيد طرق، وإقامة أبراج اتصالات، وإقامة نقاط مراقبة، ووضع غرف مبيت موقتة، وحاويات الشحن المحصنة للحماية من اصطدام الشظايا، وتثبيت هوائيين لخدمة الهاتف المحمول على أساسات خرسانية، وخطوط مياه وخطوط كهرباء من إسرائيل إلى قواعد الجيش الإسرائيلي، وغيرها من التجهيزات التي تشير إلى نية إسرائيل البقاء لفترة أطول في قطاع غزة.[9]
كما أن مؤشرات استمرار التواجد العسكري الإسرائيلي في مناطق شمال غزة لفترة أطول قد لا تدخل ضمن اتفاق وقف إطلاق النار الذي يعمل على إنجازه الوسطاء المصريون والقطريون، تتسق مع تصريحات أطلقها أخيراً وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس، من أن "السيطرة الأمنية على قطاع غزة ستظل بيد الجيش الإسرائيلي الذي سيكون قادراً على العمل بكل الطرق لإزالة التهديدات.. وسوف نقيم مناطق أمن في غزة، ومناطق عازلة ونقاط سيطرة لضمان أمن البلدات الإسرائيلية المحيطة للقطاع."[10]
بين الاستيطان وإعادة الاحتلال وحسابات الواقع
تكشف الترتيبات الجديدة في منطقة شمال غزة عن نيات إسرائيلية أوسع وأكثر عمقاً من مسألة طمأنة المستوطنين في مستوطنات "غلاف غزة" على مستقبلهم وأمنهم الشخصي، وتحصيل عودتهم إلى المناطق التي أُجبروا على تركها في أعقاب عملية طوفان الأقصى. وعلى الرغم من أهمية هذه الإجراءات إسرائيلياً، فإن ما تقوم به القوات الإسرائيلية ميدانياً في الشمال يتأسس على ترتيبات سياسية وعسكرية وأمنية لمستقبل قطاع غزة في اليوم التالي للعدوان الإسرائيلي.
وتؤشر التطورات الميدانية في شمال القطاع، بما فيها شق الطرق والممرات العسكرية ووصلها بالمستوطنات الإسرائيلية، وإقامة البُنى التحتية العسكرية، وإقامة المنطقة العازلة، على أن إسرائيل- وإلى جانب أهدافها بإسقاط حكم "حماس" واستعادة أسراها، وهي الأهداف التي ثبتتها مع عدوانها على القطاع- تتجه إلى إعادة الاستيطان وتكريسه في هذه المنطقة، كما أنها تعمل على إبقاء جزء من قواتها "احتلال وحكم عسكري" في شمال القطاع ولمدة طويلة حتى بعد الاتفاق مع حركة "حماس" على صفقة التهدئة وسريان وقف إطلاق النار، وبذلك تتحقق المطالب المستمرة للمستوطنين، الذين أُخرجوا من مستوطنات القطاع في إطار خطة "فك الارتباط" والانسحاب أحادي الجانب في عام 2005، بالعودة إلى القطاع وتعزيز الاستيطان فيه.
وتتأكد هذه الرؤى بالمواقف الرسمية والشعبية الإسرائيلية، وباستطلاعات الرأي، وبالنشاطات والفعاليات التي تنظمها الجماعات الاستيطانية المطالبة بإحياء الاستيطان داخل قطاع غزة. ففي تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، انتظمت عدّة منظمات يمينية لإقامة ائتلاف يهدف إلى العودة إلى المستوطنات التي جرى تفكيكها ضمن خطة فك الارتباط مع غزة، وقام رئيس أحد مجالس المستوطنات الإقليمية في الضفة الغربية، يوسي داغان، بتجميع المنظمات وتركيز نشاطاتها، بحيث تشمل، في مراحل متأخرة، نوى استيطانية، مع التركيز على الاستيطان في شمالي غزة كخطوة أولى، كما أن الجيش الإسرائيلي تقدّم بمشروعين يشيران إلى الاستعداد لـ"بقاء" قد يكون طويلاً في القطاع: الأول، إنشاء منطقة أمنية محاذية للسياج الحدودي، عرضها كيلومتر، وتمتد على 16% من أراضي القطاع؛ الثاني، إيجاد ممر للسيطرة يفصل بين شمال القطاع وجنوبه، ويسمح للجيش الإسرائيلي بالإشراف على التنقّل على "الطرقات الاستراتيجية".[11]
وفي 28 كانون الثاني/يناير 2024، التأم في مدينة القدس، مؤتمر "الاستيطان يحقق الأمن والنصر"، الذي ضم نحو 5000 إسرائيلي وإسرائيلية، وشارك فيه 11 وزيراً من حكومة بنيامين نتنياهو، يمثلون 4 أحزاب هي: حزب الصهيونية الدينية، وحزب قوة يهودية، وحزب الليكود، وحزب يهودات هاتوراه، فضلاً عن 15 نائباً في الكنيست، وعدد من الحاخامات من مؤيدي الاستيطان. وقد أكدت الكلمات التي أُلقيت في ذلك المؤتمر أن "الترانسفير" هو الذي يجلب "السلام" لإسرائيل، وأن إعادة بناء المستوطنات في قطاع غزة، التي جرى تفكيكها في سنة 2005، هو الذي سيضمن "أمنها".[12] وفي 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، دعا وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير الحكومة الإسرائيلية إلى تجديد الاستيطان في القطاع بعد انتهاء الحرب، في حين اعتبر وزير المالية بتسلئيل سموتريتش أنه "من الضروري إعادة احتلال القطاع.. دون إقامة مستوطنات في غزة لن يكون هناك أمن."[13] وهو الرأي الذي عكسته تصريحات رئيس لجنة الأمن القومي وعضو الكنيست تسفيكا فوغل، والتي أكد فيها أن الحرب على قطاع غزة يجب أن تنتهي بعودة "الاستيطان اليهودي" في جميع أنحاء القطاع.[14]
وتنسجم هذه المواقف تماماً مع نتائج استطلاع للرأي العام الإسرائيلي أجراه مستطلع الرأي المعروف مانو غيفع خلال الأسابيع الأولى للحرب، والتي تفيد بأن أغلبية الجمهور اليهودي تؤيد الاستيطان في قطاع غزة، وأظهر الاستطلاع أن هذه الأغلبية تعتقد بضرورة وصواب العودة والاستيطان في غزة، وبحسب الجماعات والانتماءات السياسية والحزبية، فإن بين 60% و70% من ناخبي كتلة اليمين والحكومة الحالية يؤيدون الاستيطان في القطاع، في المقابل، فإن بين 16% و22% من ناخبي اليسار أو كتلة المركز يؤيدون "التوطين اليهودي" في القطاع.[15]
تخضع مسألة الاستقرار على تصور لمستقبل شمال قطاع غزة لحسابات دقيقة في المستويين السياسي والعسكري الإسرائيليين، وبالتالي فإن الخيار الأخير سيتوقف على التصور الأقل تكلفة من الناحيتين الأمنية والاقتصادية؛ فالسيطرة العسكرية الجزئية ببقاء الجيش الإسرائيلي لفترة معلومة، والعودة إلى الاستيطان الجزئي أيضاً في الشمال، يمثل أقل الأضرار بالنسبة إلى إسرائيل، التي من غير المتوقع أن تُعيد احتلالها الكامل للقطاع لعدة اعتبارات، منها المواجهة المباشرة مع الفصائل الفلسطينية مستقبلاً، والموقف الدولي الرافض لاحتلال القطاع، وهذه المسائل تمثل صلب التحديات التي تواجه إسرائيل في قطاع غزة في اليوم التالي لعدوانها، بصرف النظر عن الجهة التي ستحكم قطاع غزة.
خاتمة
توفرت لإسرائيل، وبذريعة عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فرصة إعادة إحياء مشروعها وخططها في السيطرة الكاملة على قطاع غزة وطرد سكانه منه باستخدام أدوات التهجير القسري والطوعي معاً، لكن مع إخفاقها في تنفيذ هذا المخطط، وعدم تمكنها من تهجير فلسطينيي القطاع باتجاه سيناء المصرية لأسباب الفاعلية الفلسطينية والمواقف العربية والدولية في مواجهة التهجير، فعّلت إسرائيل سياسة السيطرة التامة على شمال قطاع غزة، بعد أن مارست أعمال التدمير والإبادة الجماعية والتجويع، وكرّست أبشع أصناف المعاناة الإنسانية في بلدات الشمال، بحصارها وحرمان سكانها من المساعدات الإنسانية والغذائية والدوائية، على امتداد 15 شهراً من العدوان الحربي المستمر على القطاع.
ويبدو أن قطاع غزة الذي ظلّ مستقبله غامضاً، بفعل استمرار أعمال الإبادة الجماعية الإسرائيلية، استقر على مشروع إسرائيلي بتغيير وجه شمال غزة، وتركيز الأعمال العسكرية فيه، من هدم وتدمير شامل، وعمليات توسعة وضم للمنطقة العازلة جهتي الشمال والشرق، وشق ممرات عسكرية، وتأسيس بنى تحتية، وإقامة ثكنات عسكرية، وذلك كله تمهيداً لعودة الاستيطان والإبقاء على جزء من القوات العسكرية الإسرائيلية في شمال القطاع ولمدة طويلة.
وختاماً، يمكن القول إن التصدي للمخططات الإسرائيلية بتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، والسيطرة الفعلية على شمال القطاع، وتعزيز الاستيطان فيه، واقتطاع مساحته بتوسيع المنطقة العازلة وضمها إلى مستوطنات "غلاف عزة"، يتطلب موقفاً فلسطينياً صلباً من حركتي "فتح" و"حماس" ومنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية ابتداءً، يقوم على تغليب المصلحة الوطنية على أي اعتبار حزبي أو فئوي، وذلك عبر التوافق على إدارة القطاع وتمكين السلطة الفلسطينية من مدّ ولايتها القانونية والإدارية وممارسة مهماتها في القطاع، تمهيداً لانتخابات فلسطينية لرئاسة السلطة والمجلس التشريعي، والتوافق مع الفصائل الفلسطينية في إطار منظمة التحرير على برنامج وطني لمواجهة سياسات الاحتلال الإسرائيلي ومخططاته التوسعية الاستيطانية، وصولاً إلى نيل الحرية والاستقلال الوطني وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
[1] "آخر مستجدات الحالة الإنسانية رقم 249- قطاع غزة"، مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة، 24/12/2024.
[2] محمود محارب، "الحرب وتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، تقييم حالة"، الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 19/3/2024.
[3] المصدر نفسه.
[4] "ورقة وزارة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية: الحل الأمثل هو إجلاء سكان غزة إلى سيناء"، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 31/10/2023.
[5] يوآف زيتون، "فرض حصار على جباليا وتقسيمها: نظرة على العملية البرية الطويلة في جباليا"، "يديعوت أحرونوت"، 3/11/2024 (بالعبرية).
[6] "آخر مستجدات الحالة الإنسانية رقم 249- قطاع غزة"، مصدر سبق ذكره.
[7] ماهر الشريف، "هل تنوي إسرائيل إدامة احتلالها لقطاع غزة؟"، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 9/12/2024.
[8] "إسرائيل ثبتت مواقع عسكرية شبه دائمة"، جريدة "الشرق الأوسط"، 1/1/2025.
[9] إيمانويل فابيان، "الجيش الإسرائيلي ينشئ قواعد عسكرية للبقاء لأجل غير مسمى في محور نتساريم في غزة"، "تايمز أوف إسرائيل"، 1/1/2025.
[10] "كاتس: إسرائيل ستضمن وجود ʾمناطق عازلةʿ والاحتفاظ بـ ʾمواقع عسكرية في القطاعʿ"، "عرب 48"، 25/12/2024.
[11] أنطوان شلحت، "عن ʾغزة الجديدةʿ إسرائيلياً"، "عرب "48، 16/11/2024:
[12] ماهر الشريف، "هل يمكن أن تضع النكبة الغزية الشعب الفلسطيني على سكة التحرر؟"، أوراق سياسات، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2024.
[13] "سنستوطن غزة بعد الحرب"، قناة "العربية"، 21/10/2024.
[14] "استيطان غزة الفكرة التي ستكلف إسرائيل ثمناً باهظاً"، "الجزيرة نت"، 25/3/2024.
[15] المصدر نفسه.