S for Silence
Date: 
January 08 2025
blog Series: 

ترجمة: رنا عناني

بين الحين والآخر، تموت اللغة
إنها تحتضر الآن
من بقي على قيد الحياة ليتحدث بها؟
فادي جودة، 2024

لقد انتظرت طويلاً قبل أن أكتب هذه الرسالة التي أُرْسِلُها اليوم إلى أحب الناس إليّ، وأتمنى فيها عاماً من التحرر الجماعي. قالوا قبل عام إنه "من المبكر جداً" كتابة رسالة كهذه، أمّا اليوم، فقد فات الأوان للتنديد بالصمت تجاه محو غزة، وكذلك للاستمرار في ادعاء أن فلسطين يمكن محوها من خرائط ذاكرتنا.

لن يمحو صمتنا العام الذي مضى، فكلمة "صمت" أصبحت مرادفة لسنة 2024. وسنة 2024 تُقرأ كصمت جزء من العالم الذي استطاع أن يغمض عينيه أمام إبادة جماعية يتم بثها مباشرة؛ تلك الإبادة الأكثر وحشية، والتي قُزمت، ومُولت، وحظيت بأكبر دعم من الحكومات الغربية وغيرها، والتي أدت إلى إدانة من حاولوا إيقافها بتطبيق القانون الدولي بصورة قاسية ودنيئة، بينما كان ولا يزال من انتهك القانون محمياً، ومدعوماً، وأفعاله مبررة.

سنتحدث عن هذا عاجلاً أم آجلاً، عندما تعود الكلمات إلى وظيفتها من جديد، وعندما يصبح الصمت غير محتمَل، حتى بالنسبة إلى أولئك الذين لا يزالون صامتين؛ سنتحدث عما رأيناه ولم نرغب في قوله، وعن حقيقة أن مساحة التعبير لم تكن محدودة فقط بسبب التهديدات التي تلاحق كل كلمة ننطقها، بل أيضاً لأن الكلمات أصبحت عاجزة عن التعبير عما يحدث. فكيف نكتب كلمة "رعب" عندما لم تعد الكلمة قادرة على هز أعماقنا بعد الآن؟ في الوقت الذي يتجمد فيه مولود جديد برداً حتى الموت في صمت عيد الميلاد، بينما لم تعد أخته تملك رجلين، وأخوه قد تمزّق إرباً بطائرة بلا طيار صُنعت في جامعاتنا، وأمه ماتت في أثناء الولادة، وقُتل أبوه منذ أشهر، فإنه لا حاجة إلى إضافة المزيد.

سنتحدث عن حقيقة أن التاريخ يوثق الصمت أيضاً، لأن الدعم المقدَم من أجل تدمير شعب سيترك أثراً لا يُمحى، وعن حقيقة أننا كنا مدركين جميعاً أننا نشهد حدثاً كارثياً في التاريخ المعاصر، وستكون تداعياته الأخلاقية وآثاره السياسية والاجتماعية كبيرة وباقية. لكن الكلمات ستخبرنا أخيراً كيف بدت اللغة التي يمكن أن تصف هذا الحدث وكأنها ميتة بسبب فرض مفردات وقواعد نحوية صارمة؛ ما يمكن قوله وما لا يمكن قوله، وهو حُكم يصدُر عن قمع حكومات متواطئة مع الموت لتأمين الأرباح، وكذلك حُكم يصدر عن أنفسنا أيضاً. وهكذا، ماتت اللغة انتحاراً، بسبب كل ما لم نقلْه ونحن نصرف أنظارنا بعيداً عن إبادة أرض، وتاريخها، ومنازلها، وبنيتها التحتية، وشوارعها، وسكانها.

ماذا قلنا للصحافيين عن الإبادة الأكثر وحشية في التاريخ، وعن شاحنات المساعدات المحمّلة بأكياس الرمل بعد تجويع مليونَي شخص؟ هل قلنا إنه لم يدخل غزة حتى الآن صحافي دولي مستقل؟ وماذا عن سيارات الإسعاف التي تفجَر كحبات الفشار؟ وماذا عن المدارس، والجامعات، والمراكز الثقافية؟ لم يبقَ شيء. هل قلنا هذا، أم تجنبنا قوله كي لا نخدش الجوانب الأكثر تناقضاً في حاضرنا؟

لقد وُسمنا بمعاداة السامية، وفُصلنا، ونُبذنا، وأُبعدنا من مناصبنا، وحُرمنا من دخلنا، وفقدنا صداقاتنا وعائلاتنا، وتعرضنا للضرب، وسُحبت منا جوائز أو مِنَح، واستُبعدنا من مؤتمرات، وخضعنا لتحقيقات الشرطة، وأحياناً استُدعينا إلى المحاكم، ومع ذلك، فقد ساهمنا نحن أيضاً في رسْم حدود لتفكيرنا، وصنعنا الصمت بلغتنا الخاصة، ورسمنا خطوطاً وهمية وحقيقية بين ما يُسمح بقوله، وما يفضَل الامتناع من قوله. سنتحدث عن ذلك أيضاً؛ عن الخوف، الذي هو شعور إنساني، وعن الجُبن، وعن كيفية تبنّينا قانون الصمت بينما نحاول محاربة قانون الأقوى.

إنها مراقبة للّغة، وللفكر أيضاً، يغذيها أولئك الذين أدانوا سمعة مَن تجاوزوا الصمت وشوهوها؛ أولئك الذين استمروا في المطالبة بنقاش بشأن الكلمات، واستخدام اللغة للدفاع عن اللغة نفسها، من الداخل إلى الخارج، ومن الخارج إلى الداخل، في محاولة لتحريك شفاههم في أثناء النطق بوضوح ليفهم العالم أكثر أن هناك حاجة إلى مشاركة الذاكرة لتجنُب الموت بالصمت.

وبينما أصبح انهيار اللغة الواضح يستدعي مراجعة جماعية، يسير الدكتور حسام أبو صفية بخطى واثقة ويدير ظهره إلـى المشهد، متشحاً بمعطفه الأبيض. وتنتهي سنة 2024 بهذه الصورة التي تنطق بكل الكلمات التي لم نجرؤ على النطق بها معاً، والصمت الذي سمح بشن هجوم إسرائيلي آخر على بنية تحتية صحية في قطاع غزة، وربما المستشفى الأخير المتبقي هناك، يتردد صداه بين البكسلات الحبيبية في هذه الصورة الرقمية.

يمضي الدكتور حسام أبو صفية عبر الأنقاض وظهره يواجهنا، كحنظلة الطفل، الشخصية المعروفة لرسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي، ويتجه نحو أفق لم نعد قادرين على تحديده بوضوح. هل يمكن أن يكون هذا الركام أنقاضنا نحن؟ بينما نستمر في زراعة الصمت باسم "الأخلاق"، وباسم حتمية "الأضرار الجانبية"، و"حق الدفاع عن النفس"، و"العشاءات الفاخرة"، و"آداب اللباقة الليبرالية"، و"الاعتدال الديمقراطي المزيف"، ونتشبث بالصمت المهذب، فإن هذا الصمت يمحو كل واحد منا بعناية، ويدفعنا إلى هامش غير مؤثر باسم "العقلانية". عاجلاً أم آجلاً، سنتحدث عن هذا، عندما تعود الكلمات إلى وظيفتها من جديد؛ سنتحدث عن كيف استسلمنا لأخلاقيات "الاعتدال" وإغراءات "الهدوء" المتواطئ، وعن بقايا الفكر في انهيار اللغة، وعما تبقّى من العالم عندما نقيد الكلمة.

يمضي الدكتور حسام أبو صفية وهو يواجه ركامنا، وهي الصورة الأخيرة لعام لن يُنسى؛ عام تحدى فيه شعب محاصَر لعقود العالم بشجاعة لا يمكن أن توقظها سوى الرغبة في التحرر، وهي نمط حياة نسيناه، لكن يمكننا أن نتعلمه مجدداً باستخدام الكلمات – كلماتنا - حتى لمجرد أن نقول إن القضية ليست "صعبة" ولا "معقدة". إن الإبادة الجماعية هي إبادة جماعية، والإبادة البيئية هي إبادة جماعية، والاحتلال الاستعماري هو إبادة جماعية، وتدمير البنى التحتية الاجتماعية هو إبادة جماعية، ومنْع مجموعة من الناس من التناسل هو إبادة جماعية، وإسكات أي نقد بتهمة "الإرهاب" هو إبادة جماعية، والإفلات من العقاب الذي تتمتع به إسرائيل منذ سنة 1948 هو إبادة جماعية أُخرى. كانت إبادة اليهود إبادة جماعية، وكذلك إبادة الهيريرو، والأكراد، والأرمن. ومن التيرتل آيلاند إلى رواندا ارتُكبت إبادات جماعية بلا توقف. ولا يمكن إلغاء إبادة جماعية بارتكاب أُخرى: فعند النطق بعبارة "إبادة جماعية"، يقرأ المرء الرعب في قوة الموت الذي يتسبب به جشع بعض البشر.

من يتخلَ عن اللغة، يُقتل ويموت، لأن الصمت سلاح صعب التعامل معه؛ فهو لا يحمينا، ولا يجعل حياتنا أقل خطورة أو اضطراباً. لذلك، فبعض الكلمات التي سننطقها في السنة الجديدة هي تلك التي تتحدى أوضاعنا أولاً وقبل كل شيء من أجل أن نعود إلى الحياة، ولنشعر بأننا أحياء معاً، ولنعود إلى طرْح الأسئلة التي تهمنا. أي نوع من الحياة تلك التي من دون لغة؟ ولِمَن ومِن أجل ماذا نعمل في صمت؟ هل يستحق الأمر أن نعبر مساحات وأزمنة يُمنع فيها الكلام؟ إن العودة إلى الحياة، لِمَن يمكنه ذلك، تعني التخلي عن "العقلانية". أمّا امتياز البقاء في صمت مهذب، فيعني النطق بهذه الكلمات بصوت عالٍ كضرورة، لنسمع أنفسنا من جديد، ولنجعل الآخرين يسمعوننا مجدداً.

 

* نُشر المقال الأصلي باللغة الإيطالية على موقع "Effimera".

Read more