Al-Rimawi, Life Walking Under the Sky of Jericho: Aspects of a Biography/Objectivity
Reviewed Book
Full text: 

الريماوي، محمود. "الحياة مشياً تحت سماء أريحا: جوانب من سيرة ذاتية/موضوعية"

عمّان: دار فضاءات للنشر والتوزيع، 2023. 217 صفحة.

 

يحتفي القاصّ والروائي محمود الريماوي في سيرته الذاتية بملامح المكان: مناخاته؛ نباتاته؛ سكانه؛ تفصيلات الحياة اليومية فيه، مع الحرص على الاحتفاظ بهامش واسع من الموضوعية، والاستفادة من تجربته السردية لتأثيث صورة أريحا في خمسينيات القرن الماضي وستينياته.

اتخذ تحديد ملامح المكان أكثر من منحى في هذه السيرة، فقد كتب تحت عنوان "مكر الجغرافيا" أن أريحا مدينة لا ينقصها الماء، كما لا تعوزها الشمس والتربة الغنية، الأمر الذي يجعلها تزهو بالخضرة صيفاً وشتاء؛ وجاء في موضع آخر أن "من حنكة الطبيعة ومكر الجغرافيا أن تجتمع الحرارة العالية مع الماء الدافق والتربة الخصبة ما جعل المدينة ذات خضرة عارمة، وهو ما لا يستشعره أهلها إلّا حين يفارقونها" (ص 78)، فيستذكرون مدينتهم كما يستذكرون شجرة عظيمة وارفة الظلال كثيراً ما تمتعوا بالحركة والمكوث في أفيائها.

يعدد الريماوي مصادر المياه الوفيرة في المدينة الحارة، بدءاً من هطول الأمطار بمعدلات متفاوتة "ليهدر وادي القلط شتاء مثل نهر عريض، عكر، دافق، وبصوت ذي دوي" (ص 78)، وصولاً إلى نهر الأردن الذي يحفّ بالمدينة، ويبلغ البحر الميت الذي ظلت مياهه وفيرة. ويروي صاحب السيرة بعين المبدع ما رآه الطفل الذي كانه في القناة المحاذية للشارع، فمشهد الماء لديه لا يكتمل من دون الكائنات التي تعيش فيه من: الطحالب، وكلاب البحر، والضفادع. كما يستنفر الريماوي ذاكرته بحثاً عمّا استقر في المكان من أشجار الزنزلخت والسدر والبباي والليف التي رافقته في طفولته.

عندما يتوقف الكاتب عند ناس المدينة، فإنه يصفها بأنها فلسطين مصغرة، لأنها تضم سكاناً من "الخليل والقدس ورام الله وغزة ونابلس وبيت لحم وبيت ساحور وبيت جالا وجنين" وعشرات البلدات والقرى الأُخرى، بمَن في ذلك اللاجئون الذين استقروا في مخيمات عَقْبَة جَبِر وعين السلطان والنويعمة، وأخذت حياتهم تتحسن بفضل جِدهم ومكافحتهم ضد الأوضاع الصعبة، مشيراً إلى أنها كانت بمنزلة "ملحمة يومية من أجل البقاء، وفي سبيل الدفاع عن الكرامة الشخصية والعائلية والوطنية أمام تحدي الفاقة" (ص 200). وقد أدت الأونروا دوراً أساسياً في إعانتهم على تأمين الكفاف.

تلفت نظر الكاتب وجوهٌ تحولت إلى جزء من معالم المدينة، لارتباطها بحوادث معينة، ولغرابتها أو تميزها، مثل زيد الخمايسة، وأم أكرم، وأم العبد الحواش، وأم فيصل غنّام، وصالح عبده، والدكتورة زينب، وجروان، وسعدو، والأستاذ محيي الدين، ونجوم ثقافة وصحافة مروا بها أو تركوا أثراً فيها مثل فايز محمود، وأمين شنّار، ورشاد أبو شاور.

وللمقهى والسينما بعض مفاتيح أسرار المدينة التي تنَقّل صاحب السيرة بينها كعصفور يجد في كل غصن من أغصان الشجرة ما يستدعي الوقوف بحثاً عمّا يستحق الالتقاط.

غاب اسم المقهى الذي نافس "مقهى حمدان" عن ذاكرة الريماوي، وبقيت شخصية صاحبه "أبو زكية" المرحة التي أسست للتعلق بالمقاهي التي لا تقلّ في أهميتها عن المتاحف.

وترتبط سينما هشام التي تقع قبالة مدخل المستنبت بأفلام ذلك الزمن، مثل "جميلة بوحيرد"، و"خالد بن الوليد"، و"صراع في جرش"، وبطقوس الترويج للأفلام التي يحضر فيها الطبل لتصبح أقرب إلى الاحتفالية، وبالباعة الجوالين في العتمة الذين يُشعرون المتفرج بأنه في الشارع، لكنهم لا يفسدون الرابط الخفي الذي يجمع مرتادي السينما في ذلك الزمن، فهم يمتازون بالمزاج والذوق والأُلفة التي هي من بعض سمات التمدن والتهذيب لسكان المدينة، وما من شيء يوحي بتغيرها مع ظهور سينما ريفولي وأفلامها الرومانسية في بداية الستينيات.

ويشكل المكان ومناخاته وتركيبته السكانية تفصيلات الحياة في أريحا، فهذه العناصر تركت أثرها في سلوك سكان المدينة، بدءاً من النوم على أسطح البيوت ليلاً هرباً من حرارة الطقس في أشهر الصيف، وصولاً إلى إغراءات السير على الأقدام في مكان منبسط، وألعاب الـ "إكس"، و"المشي على الحافة" التي يمارسها الأطفال، واللقاءات غير المحرمة بين الشباب والصبايا.

وسيرة الريماوي تؤرخ لتطور الوعي لدى ناس المدينة، والذي يبدأ مع الراديو الكبير الذي مدّ الجسور إلى العالم بنشرات الأخبار والأغاني والبرامج المنوعة، إلى الترانزستور السهل الحمل، والتلفزيون الذي يلتقط بثّ محطتَي لبنان ومصر وتُنافس شاشته السينما، كما تحضر صحف فلسطين في ذلك الزمن: "الجهاد"؛ "المساء"؛ "الدفاع"؛ "الشعب"، وبدايات الكتابة في بعضها.

علقت في ذهن صاحب السيرة المؤسسة الأمنية التي كانت موجودة في أريحا في ذلك الزمن، إذ يقول: "إضافة إلى مخفر المدينة الذي يقع في قلب السوق وأمامه شارع معبّد عريض تعبره المركبات على قلة عددها، كانت هناك المقاطعة، وهي مركز أمني كبير ببناء متين وقديم وتقع في مدخل المدينة على الشارع الرئيسي الذي يؤدي إلى مخيم عَقْبَة جَبِر، وإلى البحر الميت ومدينة القدس، كما يؤدي في الاتجاه المعاكس إلى مدينة أريحا" (ص 15). أمّا المُخبر فارس فيجسد حضوره وممارساته وجود مركزين أمنيين في مدينة آمنة، فهو "يطوف متسللاً إلى البيوت التي يعرفها ويعرف أن أصحابها يؤيدون عبد الناصر، وما أكثر هؤلاء، إذ يمشي قريباً من النوافذ ويتصنت، ثم يكتب تقريره في اليوم التالي. وقد كان الناس يستمعون بأُذن لعبد الناصر، فيما يُرخون الأُذن الثانية لاستراق السمع لخطى فارس المفترضة" (ص 181).

يتناول الريماوي هويات مدينته بشيء من التأني، فهي تنتسب إلى هشام بن عبد الملك، آخر خلفاء بني أمية الأقوياء، والذي تحول قصره فيها إلى مزار للسياح، كما أن إحدى مدارسها وأحد فنادقها يحملان اسمه، وعلى ضفتها مغطس السيد المسيح، وفي شماليّها دير قرنطل، أمّا بحرها الميت فيُطلَق عليه اسم بحيرة لوط، ويُقْسم أهلها بالنبي شعيب، ويشاركون في موسم النبي موسى.

تراوح السيرة الذاتية للريماوي بين تجربة الكاتب المتمرس مع أقدم مدينة في التاريخ، وسيرة المكان مثلما رآه الطفل الذي كانه، لتأخذ ملامح شهادة على مرحلة تناولتها ليانة بدر في "نجوم أريحا"، ورشاد أبو شاور في "العشاق"، وظلت نائية في الذاكرة الفلسطينية تبحث عن مزيد من الضوء.

Author biography: 

جهاد الرنتيسي: كاتب وروائي من الأردن.