"حسيت نفسي مهزوم" إنها كلمات تفطر القلب، قالها حمادة محمد موسي شبير في خضم حديثه، وهو يصف لعنة الفقد التي عاشها مرتين؛ الأولى بفقدان والدته، والثانية باستشهاد شقيقته، والنزوح لأكثر من مرة، واصفاً المشهد بأقسى مراحل الحزن والقهر.
لم يكن أمام لاعب منتخب فلسطين لكرة القدم سابقاً، والمدرب الحالي للنادي الأهلي الفلسطيني المولود في 9/3/1980 أي حلول خلال هذه الحرب سوى النزوح والمحافظة على عائلته من الإصابة أو الموت.
يقول: "بدأت فكرة النزوح حين تم قصف بيتي في 15/10/2023 في مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة بلا سابق إنذار. سمعتُ دوي انفجار ضخم هز أركان البيت وكأن هناك من رفعه من مكانه وأعاده مرة أُخرى ليرتطم بالأرض، الأمر الذي أحدث بلبلة وتوتراً وخوفاً في أطفالي، ولم يكن أمامي أي خيار أو مجال للتفكير ثانيةً، فاحتضنتهم وخرجت أنا زوجتي."
ويوضح حمادة بنبرة انتصار بعد نجاحه في الخروج هو وعائلته وأطفاله بأعجوبة خلال قصف البيت، وهيهات بين الانتصار الحقيقي وانتصار النجاة من الموت: "لم آخذ معي أي شيء من الحاجات المهمة. هربنا بأعجوبة خلال القصف، وخرجتُ بملابسي التي كنت ارتديها في ذلك الوقت، وأطفالي كذلك. أمّا زوجتي، فخرجت بملابس الصلاة، وتركنا كل شيء للمحافظة على العائلة. المال يعوَّض، لكن الأهم كان خروجنا من تحت القصف بلا خسائر في الأرواح."
ثم صمت برهة من الوقت وهو يسرد تفاصيل مؤلمة عاشها كما غيره من أهالي قطاع غزة، وتابع: "توجهت إلى بيت أنسابي، أهل زوجتي، إلاّ إن القصف كان ينتظرنا مرة أُخرى، فتم قصف البيت الملاصق، وتضررَت الغرفة التي كنتُ أتواجد فيها، وفي إثرها، أُصبت برضوض في كل أنحاء جسمي."
كانت الأوضاع تزداد صعوبة، وحدّة الغارات تشتد، فاتخذ قراراً آخر مؤلماً كالمرات السابقة بالنزوح مرة أُخرى وهو مصاب: "كانت وجهتي مستشفى الشفاء غربي مدينة غزة، ومكثت في المستشفى هرباً من الموت لمدة شهر ونصف الشهر أنا وعائلتي، إلى أن تم تبليغنا بضرورة إخلاء المستشفى والتوجه إلى جنوب قطاع غزة، لأنه لم يعد آمناً تحت التهديد المستمر من الاحتلال الإسرائيلي."
كان المدرب حمادة شبير قد بدأ مشوار الدوري الممتاز لكرة القدم موسم 2023 - 2024 مع فريقه الأهلي الفلسطيني الصاعد إلى الدرجة الممتازة بوتيرة عالية ونتائج جيدة، إلى أن توقف في الأسبوع السابع من البطولة، مع إعلان الاحتلال الحرب على غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وقد سبق لشبير أن صعد مع الفريق إلى الدرجة الممتازة، وكان يضع جل اهتمامه وتركيزه في تحقيق نتائج مميزة مع الفريق، لكن آلة الحرب كانت لها كلمتها.
عودة إلى دوامة النزوح؛ نزح شبير في 20/11/2023 من مستشفى الشفاء في غزة متوجهاً إلى منطقة الجنوب، لتتوسع دائرة الحزن والألم. ويقول: "تعرضت والدتي لوعكة صحية شديدة دخلت في إثرها مستشفى شهداء الأقصى لأكثر من أسبوعين، وكانت في حالة صعبة." وبصوت حزين، يستذكر كيف كانت تتألم وهو عاجز عن توفير الدواء والعلاج المناسب، ويحاول تهدئتها ويعدها بمحاولة البحث عن العلاج، فيقول: "الأمر يفوق أي شعور ولا يمكن وصفه، فليس من السهل أن تكون أمامك والدتك وأنت عاجز عن توفير العلاج لها، وبسبب الوضع الصعب الذي يمر به الوضع الصحي في المستشفى ونقص الأدوية، كانت للقدر كلمته، فقد توفيت في 6/12/2023، وتم دفنها في مقبرة دير البلح وسط قطاع غزة."
منذ الصغر نشأ المدرب في نادي خدمات الشاطئ، ولعب ضمن فرق جميع الفئات العمرية، حتى صعد إلى الفريق الأول، وكان قائداً لفريق النادي لأكثر من عشر سنوات، إلى أن اعتزل اللعب.
ولعب ما يقارب مئة مباراة دولية لمنتخب فلسطين للشباب والمنتخب الأولمبي والفريق القومي الأول لمنتخب فلسطين، ومثّل فلسطين في جميع المحافل الدولية وتصفيات كأس العالم، منها تصفيات آسيا، وغرب آسيا، والبطولة العربية في الأولمبياد الآسيوي.
ويستمر في الحديث قائلاً: "بعد وفاة أمي، نزحتُ إلى مدرسة صناعة الوكالة (الأونروا) في خان يونس جنوبي قطاع غزة برفقة عائلتي وأشقائي وشقيقاتي، ومكثنا أكثر من ثلاثة أشهر في المدرسة، حتى محاصرة الاحتلال لنا في نهاية شهر كانون الثاني/يناير من السنة الحالية، وقصْفه المتواصل للمنطقة المجاورة للمدرسة، ليحدث ما لم يكن في الحسبان؛ إذ سقطت شقيقتي شهيدة برفقة شهداء آخرين، بعد اختناقها من آثار الدخان خلال القصف للمدرسة، وتم دفْنها برفقة الشهداء داخل المدرسة."
وتوالت المواقف الأصعب على شبير، ولم تنته، ويقول في هذا الصدد: "كان الجو العام مؤلماً للغاية؛ ألم وجروح ونزوح وفقدان، لكن المفاجأة التي كانت من العيار الثقيل أن تطلب مني إدارة مستشفى ناصر في خان يونس انتشال جثمان شقيقتي التي دفنّاها في مدرسة صناعة الوكالة قبل ستة أشهر، ونقْلها إلى مقبرة دير البلح بجوار قبر والدتي. وكيف كان لي حينها أن أقوم بذلك؟ جرح الفراق عاد لينزف مرة أُخرى."
حاول كبْت انفعاله وعدم إظهار مشاعره، على الرغم من أن الألم والقهر الذي يعيشه الرجال في غزة يتساوى تماماً مع قهر النساء والأطفال، فالجميع يعيش الحالة نفسها. يقول: "أُجبرنا على الخروج إلى رفح جنوبي قطاع غزة، وتم اعتقال اثنين من أشقائي، وحتى اللحظة، لم نعرف عنهما أي خبر"، ويتساءل بألم: "أيوجد قهر أكثر من هذا القهر الذي نعيشه؟"
ويتابع: "نزحت أنا وجميع أفراد العائلة إلى رفح، ومكثنا فيها لأكثر من ثلاثة أشهر، لنفاجَأ بإلقاء الاحتلال مناشير على محافظة رفح مطالبين فيها السكان والنازحين بالخروج منها وإخلائها تمهيداً لاجتياحها، حينها لم نفكر، وقررتُ أنا وعائلتي على الفور التوجه إلى دير البلح المحافظة الوسطى، ولم نكن نعلم إلى أين نذهب. لقد شُل تفكيري؛ فماذا بعد دير البلح؟ لقد خارت قوانا وما في اليد حيلة، واستقر بي الأمر الآن في مخيم يجمع الرياضيين في دير البلح."
بعدما أنهى مسيرته كلاعب كرة قدم، دخل حمادة شبير عالم التدريب، وكانت بدايته في التدريب في ناديه الأم، نادي خدمات الشاطئ، مساعداً للمدرب بشير عطا اللّٰه في الفريق الأول. ودرب نادي الشاطئ كمدرب أساسي بعدها، وحصل على وصيف الدرجة الممتازة، ثم درب نادي الصداقة وحصل على بطل بطولة النخبة النسخة الأولى، ودرب فريق النادي الأهلي الفلسطيني، وحصل على بطل الدرجة الأولى لكرة القدم، وصعد إلى الدرجة الممتازة.