Culturicide: The Destruction of Gaza’s Cultural Heritage
Date: 
November 25 2024
Author: 
blog Series: 

جعلت مجازر الاحتلال الإسرائيلي غزة أكثر الأماكن غير الصالحة للسكن على وجه الأرض؛ فقد تضوّر شعبنا جوعاً، وتعرضوا للجفاف، وتُركوا ليتحملوا أقسى الأيام، ووصل التدمير إلى كل وسائل الحياة والبنية التحتية، كلياً وجزئياً؛ فدُمرت المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس والمنازل، وكل البنى التحتية من شمال القطاع إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه. حتى المباني التاريخية لم تسلم من الدمار؛ إذ عمد الاحتلال إلى توجُه ممنهج في الإبادة الثقافية واستهداف غزة التاريخية وتدميرها، وخصوصاً الإسلامية. وأشارت الوزارة - في بيان - إلى أن عدد المساجد التي تم تدميرها، كلياً أو جزئياً، بلغ ألف مسجد من مجموع 1200، بما في ذلك المساجد الأثرية، ومنها الجامع العمري الكبير في غزة التاريخية، وتحققت اليونسكو، حتى تاريخ 10 حزيران/يونيو 2024، من تضرُر 50 موقعاً منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023؛ إذ تضرر 11 موقعاً دينياً، و28 مبنى ذا أهمية تاريخية و/أو فنية، ومستودعان للأملاك الثقافية المنقولة، و4 صروح أثرية، ومتحف واحد، و4 مواقع أثرية. بينما أشارت الأرقام الأولية إلى عملية رصد الأضرار الميدانية وتقييمها ضمن مشروع وزارة السياحة والآثار بالتعاون مع مركز حفظ التراث وجامعة أكسفورد لأعداد أكبر من المباني التاريخية التي تعرضت بصورة مباشرة للتدمير والاستهداف. ووثّقت تقارير جمعية إيكوموس فلسطين تدمير معالم ومبانٍ تاريخية واستهدافها، ومن أبرزها: كنيسة القديس بيرفوريوس، ومستشفى المعمداني، وسوق القيسارية، وسوق الزاوية، ومبنى ترزي الأثري، وقصر الباشا، والجامع العمري الكبير، وسباط العلمي.

وقد بدأت مؤسسة رواق[1]  رحلتها في تسجيل المباني التاريخية وتوثيقها عبر سجلّ رواق للمباني التاريخية في الفترة 1994 – 2004، ونتج من ذلك تسجيل نحو 52,320 مبنى تاريخياً في أكثر من 422 بلدة وقرية ومدينة. وشمل سِجِل رواق قطاع غزة، وأشار التسجيل إلى أن مجموع المباني التقليدية التي لا تزال موجودة في قطاع غزة هو 446 مبنى تاريخياً، تتركز معظمها في مدينة غـزة القديمة (417 مبنى تاريخياً). ووفق السجلّ المحدّث للمباني التاريخية من جانب وزارة السياحة ومكتب يونسكو رام الله سنة 2017، فقد أظهرت النتائج وجود نحو 420 مبنى تاريخياً في قطاع غزة، وتقع معظمها في البلدة القديمة في غزة. والبعض الآخر في دير البلح وخان يونس. وكانت هذه المباني، التي تتراوح بين مبانٍ للخدمات العامة والمنازل السكنية، هي بمثابة شهادات على التاريخ الغني والتراث الثقافي لقطاع غزة وشعبه، ناهيك بالأرشيفات والموجودات الأثرية والمتاحف التي تم تدميرها واستهدافها. وصدر سنة 2007 كتاب "التراث المعماري في غزة" للدكتور نهاد المغني، والذي يصف تطور مدينة غزة كمركز حضري بوضع تفصيل للمكونات المعمارية في البلدة القديمة، ويشكّل مرجعاً مهماً، وخصوصاً في ظل التدمير لجزء كبير من المباني المذكورة. وضمن آخر إصداراته لسنة 2024، فقد شمل كتاب "فلسطين الحداثية: يا فرحة ما تمت!" للمحرر خلدون بشارة فصلاً عن دور السينما في غزة لأباهر السقا، والذي يسعى لقراءة التاريخ الاجتماعي الحضري لمدينة غزة باستعراض المعالم الحداثية، وتحديداً عبر دور السينما في الحيز الحضري الغزّي منذ أربعينيات القرن العشرين وحتى توقُف تشغيلها في التسعينيات.

إن سلسلة أعمال الترميم وإعادة الإحياء والتخطيط والتوثيق في غزة على مر الأعوام الماضية عبر تحدّي التشرذم الجغرافي وبناء القدرات والتواصل عن بُعد أسست لعلاقة متينة مع الشركاء في غزة، ووضعتنا أمام مسؤولية مباشرة لحماية الموروث الثقافي في القطاع، وبناء رؤية شمولية لتطويره وتعزيزه، وتباعاً قامت مؤسسة رواق بترميم عدد من المباني التاريخية لتخدم مقرات لمؤسسات مجتمعية قاعدية بالتعاون مع مركز إيوان والشركاء، ومنها دير الخضر الأثري في دير البلح، وبيت السقا التاريخي، وبيت الغصين ومبنى الوحيدي، وجلها تعرّض للاستهداف والتدمير الكلي أو الجزئي في حرب الإبادة الجارية.

لم يعد الحديث والتخطيط لإعادة إحياء غزة، أو كما على لسان أهلها؛ إعادة الاعتبار إلى غزة كما كان في السابق، فنحن في حاجة إلى إعادة النظر وتشكيل المفردات والمفاهيم الأساسية التي يمكن أن تؤدي إلى تغيير استراتيجياتنا وأولوياتنا. إن التوجه إلى الموروث الثقافي بروح الإنقاذ والحماية ليس كافياً لاستعادة روح المكان في ذاكرة أهله ومستقبلهم، ويُعتبر انخراط المجتمعات والخبراء من غزة في عملية إعادة الإعمار جزءاً أساسياً من رحلة التعافي والاستعادة. كيف لشخص العودة واستعادة مكان فَقَدَ فيه أحبته وجزءاً من روحه، وعاني جرّاء جوع وحاجة وخوف، ويراه كالسابق؟ تشكّل استعادة المدينة بأيدي أهلها جزءاً مهماً من رحلة تعافيهم النفسية والمادية والشعور بالجدوى والأمل.

وعلى الرغم من الشكل الظاهري لاستحالة ترميم ما تم تدميره وبنائه لهول الضربات المتتالية وكمّها على غزة، فإن مؤسسة رواق تستمر في العمل على تخيُّل رؤية وطنية وفرْضها لإعادة الإعمار، وتقوم هذه الرؤية أساساً على تكامُل الجهود وتجمُّع الكل الفلسطيني، والتنسيق لتوفير الموارد المادية والبشرية اللازمة. وتشكلت اللجنة الفنية لحصر أضرار قطاع التراث الثقافي المادي في غزة وفق القرار رقم 1 لسنة 2024 لوزارة السياحة والآثار في 21 أذار/مارس 2024، وتجتمع بصورة دورية لمرة أو مرتين شهرياً، وتشمل مؤسسات الموروث الثقافي في فلسطين، ووزارة السياحة، ومكتب اليونسكو، وإيكوموس فلسطين، وخبراء وجهات أكاديمية، وبلدية غزة. ولهذه اللجنة جدول مشاريع يتم فيه إدراج أي مبادرة أو مشروع أو تمويل حصلت عليه أي جهة لضمان تكامُل الأدوار وتكثيف الموارد، وتقوم رؤية إعادة الإعمار على ثلاث مراحل رئيسية، تسبقها مرحلة تعبئة الموارد والشراكات؛ وتبدأ بمرحلة التقييم والتوثيق ورصد الأضرار عبر الصور والوصول إلى الموقع إن أمكن، والصور الجوية والمخططات، والاستعانة بأي وثيقة تساعد في المقارنة وتحديد الأضرار، ولا تكتمل هذه العملية من دون بناء القدرات وتمكين الفريق العامل من غزة وخارجها من سبل التعامل مع المهام المطلوبة للعمل. أمّا المرحلة الثانية، فتركّز على تحديد أولويات لتدخلات طارئة تحول دون تدهوُر وضع المباني المستهدفة، وتسعى لحمايتها وتدعيمها الإنشائي عبر الترميم الوقائي، وهنا يتطلب الأمر أن تكون للبلدية والوزارة سلطة على المواقع المحددة، بحيث لا تتم سرقتها أو تدميرها عن قصد لأغراض تشتت الملكيات على سبيل المثال لا الحصر. أمّا المرحلة الثالثة، فتشمل الترميم وإعادة الإعمار والحياة عبر تشغيل المباني التاريخية لأغراض مجتمعية وفق أولويات أهلها.

 

تعزيز مفهوم حماية الموروث الثقافي على سلّم الأولويات

إن الاستهداف المقصود لكل ما هو تاريخي وأثري في غزة من جهة، والسياسات المتعمدة لاستهداف المواقع التاريخية والأثرية في الضفة الغربية من جهة أُخرى، يحمل رسالة واضحة وصريحة بمحاولات متكررة لطمس الهوية عبر موجوداتها المادية. ويأتي على رأس هذه السياسات مشروع القانون الذي وافق عليه الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) بالقراءة الأولى، والذي يسمح بعمل سلطة الآثار الإسرائيلية في الضفة الغربية، وهذا الاستهداف يوجه عملنا إلى تحدي أهداف الاحتلال بنزع التاريخ من سياقه وتدمير المباني والموجودات التاريخية والأثرية بصورة ممنهجة، بهدف زوال جزء من الشواهد على حق الفلسطيني وتجذّر وجوده في هذه الأرض.

وما ندعو إليه هو النظر إلى الموروث الثقافي كأولوية نضالية، وكجزء أساسي من القضية الفلسطينية عن طريق تعزيز الوعي بأهميته من جهة، وحشد الموارد المادية والبشرية اللازمة لحمايته وتطويره من جهة أُخرى. ولا يمكن القيام بهذا العمل من دون انخراط أهله، فيمكن لعملية الحماية وإعادة الإعمار والإحياء أن تشكّل جزءاً جوهرياً في عملية تعافي البشر والحجر، وكجزء من فعل مقاومة وتحرر جمعيَين؛ فتبدأ عملية الإعمار بانخراط المجتمع وتلقّيه تدريبات ودخوله نقاشَ ما هو قادم. إن حماية الفاعلين في الموروث الثقافي ودعمهم وانخراطهم في عملية التخطيط وإعادة الإعمار تأتي على سلّم أولوياتنا، إذ استطاعت مؤسسة رواق على مرّ الأعوام الماضية بناء شراكات متينة مع فاعلين ثقافيين ومختصين بحماية الموروث الثقافي من غزة.

السيادة على الموارد

أثبتت حالة الحصار المستمرة على غزة والاجتياحات والتضييق على المخيمات في الضفة الغربية خطورة سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على الموارد الأساسية، ومنها الكهرباء والماء والغذاء. وعلى الرغم من استحالة الصمود في وجه الإغلاق المستمر للحواجز، ومنع دخول الحاجات الأساسية، فقد كان من الأسهل للأماكن التي تحوي ألواح طاقة شمسية، ومزارع منزلية، وآبار مياه، أن تحوي فرصاً أعلى للنجاة والصمود، وهذا مبدأ عام يتوجب علينا تبنّيه كأفراد مؤسسات منخرطة في أعمال تنموية في الريف والمدن على حد سواء. ولِما سبق ذكره، فإن تعزيز القيمة الإنتاجية للفرد والأرض الفلسطينية وربْطها بالموروث الثقافي عبر استعادة أساليب وأنماط الزراعة والاكتفاء الذاتي والتدوير واستخدام الطاقة المتجددة أصبح مسؤولية حتمية يجب التعامل معها.

الأرشيفات والمعرفة المحلية والتكنولوجيا الحديثة

ضمن رؤية مركز رواق، نطمح إلى توجيه جهودنا نحو حماية أرشيف المؤسسة المهدَد كما الكل الفلسطيني، والتسريع في عملية التوثيق والأرشفة عبر استخدام التكنولوجيا الحديثة والتركيز على تسجيل المعرفة المحلية والمحافظة عليها. ومن جهة أُخرى، يجب إعادة تعريف تطويع الاستخدام والتصميم بما يتناسب مع سهولة الوصول والتحديات الحركية التي فرضها الاحتلال على الفلسطينيين عبر استهدافهم وإصاباتهم المتعددة. وأشار قطاع التأهيل إلى الارتفاع الكبير في عدد الإعاقات التي سببتها الحرب، والذي يقارب 10,000 حالة إعاقة، نصفها من الأطفال. ولا يمكن تجاوز هذه الحقائق بالتخطيط لمراكز ومقرات لمؤسسات قاعدية تعمل في المباني التي يتم ترميمها على تمكين وتأهيل والعمل مع المجتمعات والأطفال. ونحاول أيضاً تعزيز مفاهيم العمل والتخطيط المجتمعي والتطوعي الذي من شأنه رفْع قدرة المجتمعات على التصرف والالتمام وقيادة المجموعات بصورة عضوية أصيلة تنظر إلى الموارد والأولويات بحرص ووعي.

 

[1] رواق هي مؤسسة أهلية غير ربحية، هدفها الرئيس حماية الموروث الثقافي المعماري في فلسطين، انطلقت سنة 1991 عندما اجتمعت مجموعة من الناشطين في جهد منظم لإنقاذ المباني التاريخية في فلسطين، وتتمثل مهمتها في حماية واستعادة وتأهيل التراث المعماري والثقافي في فلسطين عبر برامجها الرئيسية: برنامج الترميم، وبرنامج إعادة إحياء أهم 50 مركزاً تاريخياً، والبرنامج المجتمعي والثقافي. وتساهم مؤسسة رواق في إنتاج المعرفة ونشْرها حول التراث عبر برنامج البحوث والمنشورات، بما في ذلك سجل المباني التاريخية في فلسطين، ويعمل بالتعاون مع الجهات الفاعلة الأُخرى على بناء بيئة مؤسسية وقانونية مواتية.

From the same blog series: Genocide In Gaza

Read more