في الآونة الأخيرة، غاب تقريباً أزيز المسيّرات الإسرائيلية عن أجواء بيروت؛ هذا الأزيز الذي يُحدِث إزعاجاً وتلوثاً صوتياً ويترك أثراً نفسياً شديداً، كون الصوت يمتد أفقياً في الأُفق، فيترك شعوراً بأن المسيّرة تلاحق الناس بأشخاصهم، وكأنها تتابع خطاهم في الشارع وأنفاسهم في المنازل.
لكن هذا الغياب لم يترك أثراً إيجابياً، ولا ارتياحاً صوتياً أو نفسياً، إنما ترك أثراً سلبياً تبعاً لما حل مكانه.
في الأيام الأخيرة، تباغت الصواريخ سكان بيروت من دون إشعار مسبق، بعدما كانوا يتابعون عن بُعد، أو عبر التلفزة، انفجارات الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية، التي باتت شبه مدمرة جرّاء القصف التدميري اليومي الذي تتعرض له، فباتوا يعاينون دماراً في شوارعهم وأحيائهم.
لكن بعكس الحال في الضاحية البيروتية، فإن القصف على بيروت لا تسبقه تحذيرات تأتي في أوقات كثيرة، ويطّلع عليها اللبنانيون عبر حساب الناطق بالعربية لجيش الاحتلال الإسرائيلي أفيخاي أدرعي على منصة "X"، أو عبر شاشات التلفزة، أو غالباً عبر مجموعات "الواتساب" المتكاثرة كالفطر في زمن الحرب هذه. طبعاً، تحذيرات أدرعي هذه ليست كرم أخلاق من جيش لا تحكمه أخلاق ولا قوانين حرب، في كيان لا يعترف بتلك القوانين أو القرارات الدولية، مدعوماً بحكومات غربية تبيح له خرق كل ما هو إنساني بزعم "الدفاع عن النفس"، الذي هو أي شيء عدواني ما عدا أن يكون دفاعاً أصلاً، إنما تلك التحذيرات هي خليط بين الحرب النفسية على اللبنانيين، ومحاولة للتعمية للقول إن جيشه يتفاعل مع القانون الدولي.
وقد حلّ زعيق الصواريخ مكان أزيز المسيّرات، وأُضيف إليه صوت انفجارها، ودخانها المزعج، ورائحة مكوناتها الكيميائية القاتلة، وحل قلقٌ أشد عنفاً محل القلق النفسي من أزيز الطائرات، ناتج من عدم اليقين من "أين" أو "متى" يمكن أن يُسمع زعيق الصواريخ ثم انفجارها ودخانها ورائحتها، أو إذا كانت ستسقط فوق رؤوس العباد قبل أن يُسمع زعيقها.
قيل في بداية الحرب إن بيروت بمنأى عن القصف بطلب أميركي – غربي، وإن المطار والميناء البحري ممنوعان من أن يُقفلا، لكن حتى وإن لم يُقصفا مباشرة بعد، فإن هذه المعادلة خُرقت منذ البداية تحت مسمى اغتيال قيادات من المقاومة، ومزاعم قصف غرف العمليات، وقد لامس أحدها جدار المطار من جهة محلة الأوزاعي. هكذا اختبرت بيروت أول خرق للمعادلة المحكي عنها، والقابلة للنقض، كما هو حال العدوانية الإسرائيلية المختبرة بإجرام موصوف في قطاع غزة.
بيروت، وإلى غاية الانتهاء من كتابة هذا النص في صباح الأربعاء 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، كانت قد تعرضت، تحت مسميات الذرائع السابقة، 7 مرات لضربات عديدة:
- الغارة الأولى على بيروت، شنتها طائرة مسيّرة على شقة في محلة الكولا في وسط بيروت فجر يوم الاثنين 30 أيلول/سبتمبر، وأسفرت عن سقوط 3 شهداء، وإحداث أضرار مادية جسيمة، وحالة هلع في صفوف المدنيين الآمنين، كون هذه المحلة مقتظة بالسكان.
- الغارة الثانية تلقّتها محلة الباشورة على بُعد بضع عشرات من الأمتار من بيت الأمم المتحدة ("الإسكوا") والسراي الحكومي ومقر البرلمان اللبنانيَين في وسط بيروت، واستهدفت مقراً للدفاع المدني التابع للهيئة الصحية، وكانت بمثابة مجزرة سقط نتيجتها 9 مسعفين شهداء و14 جريحاً، فضلاً عن دمار كلّي للشقة التي يقع فيها المقر، فضلاً عن أضرار كبيرة في مبانٍ مجاورة ومحلات تجارية.
- أمّا الغارتان الثالثة والرابعة، فهما اعتداء في الوقت نفسه مساء الخميس 10 تشرين الأول/أكتوبر، طال محلتَي النويري والبسطة، بزعم استهداف وفيق صفا، مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق التابعة لحزب الله، والمسؤول عن العلاقات بين الحزب والأحزاب والمجموعات والأجهزة الرسمية اللبنانية، وبعض مهامّ التواصل السياسي الخارجية. وقد تسببت الغارتان بدمار كلّي لمبانٍ في البسطة، وتضرُّر شديد في مبانٍ أُخرى، وبمجزرة كبيرة راح ضحيتها 22 شهيداً و117 جريحاً، بينهم عائلة كاملة نازحة من منطقة صور في جنوب لبنان.
- والغارة الخامسة استهدفت، بعد ظُهر الأحد 17 تشرين الثاني/نوفمبر، مبنى حزب البعث العربي الاشتراكي في محلة رأس النبع، على مقربة من السفارة الفرنسية وجامعة القديس يوسف وكنيسة سيدة النجاة ومركز للأمن العام اللبناني، وأسفرت عن ارتقاء 4 شهداء، بينهم مسؤول الإعلام في حزب الله الحاج محمد عفيف، و14 جريحاً، وتدمير المبنى، وتضرُر مبانٍ ومحلات مجاورة.
- الغارة السادسة، وهي إحدى غارتين كانتا بمثابة مفاجأة غير محسوبة أو متوقعة، شُنّت مساء الأحد 17 تشرين الثاني/نوفمبر، واستهدفت محلاً لبيع وصيانة الكمبيوترات في شارع مار الياس التجاري، والذي افتُتح فيه أخيراً فرع لبيع بطاريات الليثيوم. والمحل المستهدَف الذي يعرفه أهل بيروت ويترددون إليه كثيراً تملكه عائلة ماضي، وقد زعمت إسرائيل أنها استهدفت فيه مسؤول غرفة عمليات حزب الله في الجنوب محمود ماضي، الذي نفى شقيقه حسن أن يكون مسؤولاً أو حتى متعاطياً أساساً في السياسة، وأنه مع أشقائه يملك هذا المحل الذي تأسس قديماً في هذا الشارع. وقد أسفرت الغارة عن استشهاد 4 أشخاص، بينهم محمود ماضي، وإصابة 14 آخرين بجروح، واحتراق المحل بالكامل، وكذلك المحلات المجاورة في المبنى الذي يتضمن عيادات طبية. وثانيهما، وهي الغارة السابعة غير المتوقعة أيضاً، شُنت مساء الاثنين 18 تشرين الثاني/نوفمبر، واستهدفت مقر مختار محلة زقاق البلاط حسن شومان، ومقهى مجاوراً للمقر، وكلاهما يبعُدان عشرات الأمتار عن السراي والبرلمان و"الإسكوا"، ويقعان في مبنى قديم، ويتجمع فيهما شباب المحلة. وقد تسببت الغارة باستشهاد 5 أشخاص، بينهم المختار، فضلاً عن جَرْح أكثر من 30 شخصاً. والملفت في المكانَين المستهدفَين أنه ليس فيهما أي مظهر من مظاهر السلاح، بل أيضاً المحلة كلها محسوبة تماماً على حركة أمل التي يتزعمها رئيس مجلس النواب نبيه بري، كما أن الملفت تزامُن كلتَي الغارتَين - مار الياس وزقاق البلاط – مع عشية وصول المبعوث الأميركي عاموس هوكشتاين، المكلَف بالملف اللبناني – الإسرائيلي منذ الترسيم البحري، حتى الوساطة لإنهاء الحرب الإسرائيلية على لبنان. والمضحك المبكي زعْم إسرائيل أن الغارة استهدفت غرفة عمليات!!
بات الأمر شديد الخطورة مع هذا التطور، وانتقل سكان بيروت من التذمر والقلق النفسي من أزيز المسيّرات إلى خطر زعيق الصواريخ المميت وغير المتوقَع الحدوث؛ إذ في أي خطوة ربما يسقط صاروخ من دون إنذار مسبق، على مكان للتسوق أو قربه، أو في طريق الذهاب والعودة من العمل، أو في أي شارع رئيسي أو فرعي أو زاروب.
على المستوى الشخصي، فإن غارة الباشورة تبعُد عن مكان سكني نحو 50 متراً، والمكان المستهدف هو الطريق الذي أمر خلاله أنا وعائلتي لشراء الخضار بصورة خاصة. كما أن غارة زقاق البلاط يقع بالقرب من مكان حدوثها متجر معروف، ويتسوق فيه معظم سكان المنطقة، وأنا وعائلتي منهم. أمّا غارة مار الياس، فهي على طريق ذهابي وعودتي من وإلى العمل، كما أنني في ذلك المساء صادف أن أوصلتُ ابني إلى منزله في محلة الوتوات، بعد أن أصررتُ على أن أوصله، بينما كان يريد الذهاب مشياً، أي أنه كان سيمر حُكماً بقرب المكان المستهدَف. وفي طريق العودة، وقبل أقل من مئة متر من المكان المستهدَف، سمعتُ زعيق 3 صواريخ، فتمهلتُ وأوقفتُ السيارة لأسمع الانفجار – فشخص مثلي وبعمري عايش حروب لبنان منذ سبعينيات القرن الماضي، يعرف كيفية التصرف في حالات كهذه – وبعد الانفجار ومعرفتي بمكان وقوعه، غيرتُ طريقي إلى المنزل باستدارة كبيرة.
صباح اليوم، الأربعاء 20 تشرين الثاني/نوفمبر، وأنا أكمل كتابة هذا النص، مر الصديق والزميل الدمث يوسف النعنع، وبدلاً من إلقاء تحية الصباح التي اعتاد أن يلقيها على الزملاء كل صباح، باغتني بتحية غريبة: "الحمد لله على السلامة"، وطال الحديث عن هذه التحيّة لتوافق على أن التحية، حتى وإن افترق اثنان لدقائق والتقيا مجدداً، فهي "الحمد لله على السلامة"؛ هذا هو حال سكان بيروت مع الانتقال من الأزيز إلى الزعيق.