في وسط الدمار الذي يغمر غزة، برزت محاسن الخطيب كفنانة فلسطينية تحمل في قلبها شغفاً يمزج المقاومة بالإبداع، وعيناً ترصد التفاصيل التي تعكس معاناة أهلها وصمودهم. لم تكن محاسن فنانةً بالمعنى التقليدي، إنما اختارت تحويل قصص شعبها إلى أعمال كرتونية مبتكرة تجسّد ملامح الحياة اليومية في ظل الحصار والقصف، وبلمسات فنية، استطاعت أن تحوّل اللحظات المؤلمة التي عاشها الناس إلى صور نابضة بالواقع، وتوثق المأساة وتعكس الأمل.
عن طريق فنّها، لم تكتفِ محاسن بنقل مشاهد الحرب، بل أيضاً نقلت معها مشاعر الألم والأمل، وعمّقت فهمنا للتفاصيل الإنسانية التي غالباً ما تغيب عن الأخبار. وفي كل لوحة، تركت رسالة للعالم بأَسره، وصوتاً للوجوه المنسية، وصرخة لكل من فقد أحباءه أو اختبر قسوة الحياة تحت النار، كما قدّمت أعمالاً تروي قصصاً خالدة، وصنعت لنفسها إرثاً يصعب نسيانه.
من معسكر جباليا إلى العالم الرقمي
في أزقة معسكر جباليا، حيث تختلط البراءة برائحة الركام، نشأت محاسن الخطيب في شمال غزة، شاهدةً على عمليات عسكرية متكررة اجتاحت المخيم عبر الأعوام، ولم تكن حرب الإبادة الجماعية الأخيرة سوى فصل آخر من معاناة طويلة عايشتها جباليا؛ إذ توالت الاجتياحات البرّية للاحتلال، وأجبرت الكثيرين على النزوح مراراً.
نزحت محاسن أكثر من مرة منذ بداية الحرب، متنقلة بين بيت جدها في حي الفالوجا، وبيت أقاربها في حي الشيخ رضوان، لتجد نفسها في نهاية المطاف تعود إلى ديارها في معسكر جباليا. وعلى الرغم من تهديدات الاحتلال ونشْره المنشورات التي تأمر السكان بالرحيل إلى الجنوب، فقد كانت محاسن إحدى أولئك الذين اختاروا البقاء في الشمال، مصرّة على حقها في الحياة داخل مدينتها.
وعلى الرغم من أنها درست الرياضيات، فإن شغفها بالفن دفعها إلى السعي لتحقيق طموحها في الرسم، فطورت مهاراتها حتى أصبحت محترفة في الرسم الكرتوني الذي اتخذتْه وسيلة للتعبير عن معاناة شعبها وصموده. ولم تكتفِ بذلك، بل أيضاً بدأت تقديم دورات تدريبية في الرسم الرقمي، مشارِكةً خبرتها مع الآخرين، ومؤمنةً بأن الفن يمكن أن يكون رسالة ووسيلة للتغيير.
ووسط هذه الأوضاع، بدأت مسيرتها الفنية مبكراً بتقليد شخصيات الرسوم المتحركة الشهيرة، محاولةً الهروب من واقع الحرب إلى عالم مليء بالألوان، لكن سريعاً قادها إحساسها العميق بمعاناة شعبها إلى تحويل الرسم الكرتوني إلى سلاح فني يوثّق الواقع الغزّي الفلسطيني. لم تكن رسوماتها مجرد أعمال فنية، بل أيضاً كانت تسرد قصص من بقوا، وصور من غابوا.
العطاء الفني: تعليم الرسم الرقمي عن بُعد
لم تكن محاسن الخطيب ترى في الفن مجرد موهبة شخصية تسعى لتطويرها، بل أيضاً اعتبرته رسالة يجب أن تشاركها مع الآخرين. وفي الأيام التي سبقت حرب الإبادة، كانت محاسن تقدّم دورات تدريبية في الرسم الكرتوني والرقمي كعمل أساسي لها، إذ كانت تعلّم الشباب من مختلف الأعمار كيفية التعبير عن قضاياهم بالفن.
ومع اندلاع الحرب وصعوبة الوصول إلى التعليم بسبب القصف المستمر، قررت محاسن مواصلة دوراتها عن بُعد، لكنها كانت تواجه تحدياً كبيراً في الحصول على الإنترنت، فكانت تعتمد على مساعدة جارهم الذي يخاطر بالصعود إلى سطح منزله في ظل القصف المستمر، محاولاً وصل الشبكة بصعوبة. وفي لحظة اعتراف بجميله، رسمت محاسن صورة كرتونية له وهو على السطح، في مشهد يجمع الشجاعة بالبساطة، وكأنها تخلّد عبر فنها شجاعته التي كانت سبباً في استمرار دورتها.
وقررت محاسن أن تجعل إحدى الدورات التدريبية لإتقان فنون الرسم عبر الإنترنت التي قدّمتها سابقاً بمثابة "صدقة جارية" عنها، مقدّمةً إياها مجاناً على الرغم من الأوضاع الصعبة. كانت تقول دوماً في منشوراتها: "إذا قُتلت، سيكون هذا إرثي"، مؤكدةً أن رسالتها الفنية ستبقى شاهدةً على وجودها.
وعلى الرغم من التحديات، فقد استطاعت محاسن أن تزرع شغف الفن وروح الإبداع في قلوب طلبتها داخل غزة وخارجها، وأثبتت أن العطاء الحقيقي لا يتوقف عند حدود الحصار أو الخطر، بل أيضاً يمتد ليصل إلى كل من يحتاج إليه، ويصنع فارقاً حتى في أحلك الأوضاع.
رسْم الطبيب المغربي: رسالة شكر عبر الفن
في إحدى رسوماتها البارزة، كرّمت محاسن الخطيب الطبيب المغربي الذي التقته في أثناء زيارتها لمستشفى كمال عدوان شمالي مدينة غزة، وفي لمسة فنية تمزج التقدير بالهوية الفلسطينية؛ فاستبدلت طاقية العمليات التقليدية بطاقية مزينة بالكوفية الفلسطينية، في إشارة إلى التضامن العميق بين المغرب وغزة.
وكتبت في منشورها عن هذا اللقاء: "الدكتور المغربي الحسن الخُلُق، والطيب القلب، والعامر بالذِكر والتقوى، صادفتُه للحظة فبُهرت بتعامله الطيب النبيل. تساءلتُ: ’لماذا يترك بلده المستقر والهادئ ليأتي إلى الشمال بين الجوع والقلة والقصف والخوف؟‘ فردّ قائلاً: ’غزة منا وعلينا، والمغرب وغزة إخوة.‘ إنسان رائع! ربنا يحفظك ويردك إلى بلدك وأهلك سالماً. شكراً لدعمك الرائع لأطفالنا."
كانت هذه اللوحة بمثابة رسالة شكر وتقدير لموقفه الإنساني النبيل، وتجسيداً للفن كوسيلة لتعزيز الروابط الأخوية بين الشعوب في مواجهة الألم والمعاناة.
"نحن نحترق"، اللوحة الأخيرة التي تروي مأساة محرقة الخيام
في إحدى أحلك لحظات الحرب، أبدعت محاسن الخطيب في لوحتها الأخيرة "نحن نحترق"، التي جسّدت فيها طفلاً يقف وسط ألسنة اللهب، ويحاول بيدَيه الصغيرتَين صد النيران المشتعلة حوله. واللوحة استُلهمت من مأساة محرقة الخيام في مستشفى شهداء الأقصى، والتي تسبب بها الاحتلال الإسرائيلي، إذ احترقت أجساد الأطفال وهم أحياء، وبعضهم لم يستيقظ من نومه أبداً.
وعندما نشرت اللوحة في 18 تشرين الأول/أكتوبر، أرفقتها بعبارة مؤلمة: "قل لي ما شعورك عندما ترى شخصاً ما يحترق؟"، تاركة القارئ أمام تساؤل يعكس فظاعة ما حدث في تلك الليلة المروعة.
كانت هذه اللوحة آخر ما نشرت قبل استشهادها في 19 تشرين الأول/أكتوبر 2024، بعد إصابتها بشظايا قصف المنزل المجاور لمنزلها. وفي منشور سابق، كانت قد شاركت صورة كتبتْ عليها: "عشان بس أموت تلاقوا صورة إلي"، وهي كلمات حملت إحساساً مروعاً بالتوقع والوداع، لكنها بقيت شاهدة على إرثها الإبداعي الذي لن يُنسى.